الوصف
طبعة متميزة محققة على عدة نسخ خطية لكتاب «أعلام السنة المنشورة في اعتقاد الطائفة المنصورة (200 سؤال وجواب في العقيدة)» للشيخ حافظ الحكمي رحمه الله، وهو مختصر جليل، اشتمل على قواعد الدين، وأصول التوحيد على هيئة سؤال وجواب.
الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي
أعلام السنة المنشورة
لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى التابعين لهم بإحسان، الذين لا ينحرفون عن السنة ولا يعدلون، بل إياها يقتفون وبها يتمسكون وعليها يوالون ويعادون، وعندها يقفون، وعنها يذبون ويناضلون، وعلى جميع من سلك سبيلهم وقفا أثرهم إلى يوم يبعثون.
أما بعد:
فهذا مختصر جليل نافع، عظيم الفائدة جم المنافع، يشتمل على قواعد الدين، ويتضمن أصول التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزلت به الكتب، ولا نجاة لمن بغيره يدين، ويدل ويرشد إلى سلوك المحجة
(1/3)
________________________________________
البيضاء ومنهج الحق المستبين، شرحت فيه أمور الإيمان وخصاله، وما يزيل جميعه أو ينافي كماله، وذكرت فيه كل مسألة مصحوبة بدليلها، ليتضح أمرها وتتجلى حقيقتها ويبين سبيلها، واقتصرت فيه على مذهب أهل السنة والإتباع، وأهملت أقوال أهل الأهواء والابتداع؛ إذ هي لا تذكر إلا للرد عليها، وإرسال سهام السنة عليها، وقد تصدى لكشف عوارها الأئمة الأجلة، وصنفوا في ردها وإبعادها المصنفات المستقلة، مع أن الضد يعرف بضده ويخرج بتعريف ضابطه وحده، فإذا طلعت الشمس لم يفتقر النهار إلى استدلال، وإذا استبان الحق واتضح فما بعده إلا الضلال، ورتبته على طريقة السؤال ليستيقظ الطالب وينتبه، ثم أردفه بالجواب الذي يتضح الأمر به ولا يشتبه، وسميته (أعلام السنة المنشورة، لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة) والله أسأل أن يجعله ابتغاء وجهه الأعلى، وأن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، نعمة منه وفضلا، إنه على كل شيء قدير وبعباده لطيف خبير، وإليه المرجع والمصير، وهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
(1/4)
________________________________________
[أول ما يجب على العباد]
جـ: أول ما يجب على العباد معرفة الأمر الذي خلقهم الله له، وأخذ عليهم الميثاق به، وأرسل به رسله إليهم وأنزل به كتبه عليهم، ولأجله خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة، وفي شأنه تنصب الموازين وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسبه تقسم الأنوار، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
[الأمر الذي خلق الله الخلق لأجله]
جـ: قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 - 39] وقال تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] وقال تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22] وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الآيات.
[معنى العبد]
جـ: العبد إن أريد به المعبد أي المذلل المسخر، فهو بهذا المعنى شامل لجميع المخلوقات من العوالم العلوية والسفلية: من عاقل وغيره، ورطب ويابس، ومتحرك وساكن، وظاهر وكامن، ومؤمن وكافر، وبر وفاجر، وغير ذلك. الكل مخلوق لله عز وجل، مربوب له، مسخر بتسخيره، مدبر بتدبيره، ولكل منها رسم يقف عليه، وحد ينتهي إليه، كل يجري لأجل مسمى لا يتجاوزه مثقال ذرة {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]
(1/5)
________________________________________
وتدبير العدل الحكيم. وإن أريد به العابد المحب المتذلل خص ذلك بالمؤمنين الذي هم عباده المكرمون وأولياؤه المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[تعريف العبادة]
جـ: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة والبراءة مما ينافي ذلك ويضاده.
[متى يكون العمل عبادة]
جـ: إذا أكمل فيه شيئان وهما كمال الحب مع كمال الذل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] وقد جمع الله تعالى بين ذلك في قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .
[علامة محبة العبد ربه عز وجل]
جـ: علامة ذلك، أن يحب ما يحبه الله تعالى ويبغض ما يسخطه، فيمتثل أوامره ويجتنب مناهيه، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، ولذا كان أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه.
[بماذا عرف العباد ما يحبه الله ويرضاه]
جـ: عرفوه بإرسال الله تعالى الرسل وإنزاله الكتب، آمرا بما يحبه الله ويرضاه، ناهيا عما يكرهه ويأباه، وبذلك قامت عليهم حجته الدامغة، وظهرت حكمته البالغة، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] .
(1/6)
________________________________________
[شروط العبادة]
جـ: ثلاثة: الأول صدق العزيمة وهو شرط في وجودها، والثاني إخلاص النية، والثالث موافقة الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يدان إلا به، وهما شرطان في قبولها.
[صدق العزيمة]
جـ: هو ترك التكاسل والتواني وبذل الجهد في أن يصدق قوله بفعله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] .
[معنى إخلاص النية]
جـ: هو أن يكون مراد العبد بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى - إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 19 - 20] وقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وغيرها من الآيات.
[الشرع الذي أمر الله تعالى أن لا يدان إلا به]
جـ: هي الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]
(1/7)
________________________________________
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] وغيرها من الآيات.
[مراتب دين الإسلام]
جـ: هو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل واحد منها إذا أطلق شمل الدين كله.
[معنى الإسلام]
جـ: معناه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125] وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] .
[الدليل على شموله الدين كله عند الإطلاق]
جـ: قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الإسلام إيمان بالله» (2) . وغير ذلك كثير.
[الدليل على تعريف الدين بالأركان الخمسة عند التفصيل]
جـ: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل إياه عن الدين: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة،
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 232) ، والترمذي (2629) ، وابن ماجه (3986، 3987) ، وغيرهم.
(2) رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. . ". (الإيمان 135) ، ورواه أحمد (4 / 114) ، وعبد الرزاق (11 / 127) من حديث عمرو بن عتبة.
(1/8)
________________________________________
وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس» (2) فذكر هذه غير أنه قدم الحج على صوم رمضان وكلاهما في الصحيحين.
[محل الشهادتين من الدين]
جـ: لا يدخل العبد في الدين إلا بهما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: 62] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» " (3) . الحديث، وغير ذلك كثير.
[دليل شهادة أن لا إله إلا الله]
جـ: قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 62] وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] الآيات، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] الآيات، وغيرها.
[معنى شهادة أن لا إله إلا الله]
جـ: معناها نفي استحقاق العبادة عن كل ما سوى الله تعالى وإثباتها لله عز وجل وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]
_________
(1) رواه البخاري (50، 4777) ، ومسلم (الإيمان / 1، 5) ، وغيرهما.
(2) رواه البخاري (4514) ، ومسلم (الإيمان / 19) ، وغيرهما.
(3) رواه البخاري (25، 1399) ، ومسلم (الإيمان / 32، 33، 34، 35، 37) ، وغيرهما.
(1/9)
________________________________________
[شروط شهادة أن لا إله إلا الله]
جـ: شروطها سبعة: الأول: العلم بمعناها نفيا وإثباتا. الثاني: استيقان القلب بها، الثالث: الانقياد لها ظاهرا وباطنا. الرابع: القبول لها فلا يرد شيئا من لوازمها ومقتضياتها. الخامس: الإخلاص فيها. السادس: الصدق من صميم القلب لا باللسان فقط. السابع: المحبة لها ولأهلها، والموالاة والمعاداة لأجلها.
[دليل اشتراط العلم من الكتاب والسنة]
جـ: قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] أي بلا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] بقلوبهم معنى ما نطقوا به بألسنتهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة (1) » .
[دليل اشتراط اليقين من الكتاب والسنة]
جـ: قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» (2) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: «من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة» (3) . كلاهما في الصحيح.
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 43) .
(2) رواه مسلم (الإيمان / 44، 45) .
(3) رواه مسلم (الإيمان / 52) .
(1/10)
________________________________________
[دليل اشتراط الانقياد من الكتاب والسنة]
جـ: قال الله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (1) .
[دليل اشتراط القبول من الكتاب والسنة]
جـ: قال الله تعالى في شأن من لم يقبلها: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35 - 36] الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت
_________
(1) (إسناده حسن إن شاء الله) ، رواه الحسن بن سفيان في الأربعين له، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة (1 / 213) ، وتاريخ بغداد (4 / 369) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد، وقال ابن عساكر: وهو حديث غريب، قال الألباني: يعني ضعيف، اهـ. (تعليقه على السنة لابن أبي عاصم 15) وقد صحح إسناده الإمام النووي (ونعيم بن حماد يخطى كثيرا، فقيه عارف بالفرائض) ، قال الحافظ: وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه وقال: باقي حديثه مستقيم. وانظر ترجمة نعيم بن حماد في كتاب التنكيل جـ 1 ص 507، وقال الحافظ أيضا: وقال أبو أحمد الحاكم: ربما يخالف في بعض حديثه، وقد مضى أن ابن عدي يتتبع ما وهم فيه فهذا أفضل القول فيه. وقد ذكر الذهبي في الميزان ثمانية أحاديث وكأنها أشد ما انتقد على نعيم، وليس هذا الحديث منها.
(1/11)
________________________________________
به» (1) .
جـ: قال الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» (3) .
[دليل الصدق من الكتاب والسنة]
جـ: قال الله تعالى: {الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] إلى آخر الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار» (4) وقال للإعرابي الذي علمه شرائع الإسلام إلى أن قال: «والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح إن صدق» (5) .
[دليل اشتراط المحبة من الكتاب والسنة]
جـ: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]
_________
(1) رواه البخاري (79) ، ومسلم (الفضائل / 15) ، وأحمد (4 / 399) .
(2) رواه البخاري (99) ، وأحمد (2 / 373) .
(3) رواه البخاري (425) ، ومسلم (مساجد / 263) .
(4) رواه البخاري (128) ، ومسلم (الإيمان / 53) .
(5) رواه البخاري (46، 1891) ، ومسلم (الإيمان / 8، 9) ، وأحمد (1 / 162) ، وأبو داود (391) .
(1/12)
________________________________________
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (1) .
[دليل الموالاة لله والمعاداة لأجله]
جـ: قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] إلى قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] إلى آخر الآيات، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23] الآيتين، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] إلى آخر السورة، وغير ذلك من الآيات.
[دليل شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
جـ: قول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] الآية، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] وغيرها من الآيات.
_________
(1) رواه البخاري (16، 21، 6941) ، ومسلم (الإيمان / 67، 68) .
(1/13)
________________________________________
[معنى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
جـ: هو التصديق الجازم من صميم القلب المواطئ لقول اللسان بأن محمدا عبده ورسوله إلى كافة الناس إنسهم وجنهم {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] فيجب تصديقه في جميع ما أخبر به من أنباء ما قد سبق وأخبار ما سيأتي، وفيما أحل من حلال وحرم من حرام، والامتثال والانقياد لما أمر به، والكف والانتهاء عما نهى عنه، واتباع شريعته والتزام سنته في السر والجهر مع الرضا بما قضاه والتسليم له، وأن طاعته هي طاعة الله ومعصيته معصية الله؛ لأنه مبلغ عن الله رسالته ولم يتوفه الله حتى أكمل به الدين وبلغ البلاغ المبين وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، وفي هذا الباب مسائل ستأتي إن شاء الله.
[شروط شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم]
جـ: قد قدمنا لك أن العبد لا يدخل في الدين إلا بهاتين الشهادتين وأنهما متلازمتان، فشروط الشهادة الأولى هي شروط في الثانية، كما أنها هي شروط في الأولى.
[دليل الصلاة والزكاة]
جـ: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] الآية، وغيرهما.
(1/14)
________________________________________
[دليل الصوم]
جـ: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الآيات، وفي حديث الأعرابي: أخبرني ما فرض الله عليّ من الصيام. فقال: «شهر رمضان إلا أن تطوع شيئا» . الحديث.
[دليل الحج]
جـ: قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب عليكم الحج» (1) . الحديث في الصحيحين، وتقدم حديث جبريل وحديث: «بني الإسلام على خمس» (2) وغيرها كثير.
[حكم من جحد واحدا من قواعد الإسلام الخمس أو أقر به واستكبر عنه]
جـ: يقتل كفرا كغيره من المكذبين والمستكبرين مثل إبليس وفرعون.
[حكم من أقر بها ثم تركها لنوع تكاسل أو تأويل]
جـ: أما الصلاة فمن أخرها عن وقتها بهذه الصفة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل حدا لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] وحديث: «أمرت أن أقاتل الناس» (3) . الحديث وغيره، وأما الزكاة فإن كان مانعها ممن لا شوكة له أخذها الإمام منه قهرا ونكله بأخذ شيء من ماله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله
_________
(1) رواه مسلم (الحج / 412) ، وأحمد (1 / 371، 2 / 508) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) رواه البخاري (25، 1399) ، ومسلم (الإيمان / 32، 37) .
(1/15)
________________________________________
معها» (1) . الحديث، وإن كانوا جماعة ولهم شوكة وجب على الإمام قتالهم حتى يؤدوها للآيات والأحاديث السابقة وغيرها، وفعله أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وأما الصوم فلم يرد فيه شيء ولكن يؤدبه الإمام أو نائبه بما يكون زجرا له ولأمثاله. وأما الحج فكل عمر العبد وقت له لا يفوت إلا بالموت، والواجب فيه المبادرة، وقد جاء الوعيد الأخروي في التهاون فيه، ولم ترد فيه عقوبة خاصة في الدنيا.
[تعريف الإيمان]
جـ: الإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان
_________
(1) (حسن) رواه أبو داود (1575) ، والنسائي (2292) أ، (2297) أ، وابن الجارود (174) ، والحاكم (1 / 398) ، والبيهقي (4 / 105) ، وأحمد (4 / 2، 4) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وقد قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وقد حسن الحديث الشيخ الألباني للخلاف المعروف على بهز بن حكيم، وقال الشافعي: ليس بحجة، وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به، وكان الشافعي قد قال به في مذهبه القديم ثم رجع عن ذلك في الجديد، أما عن شرح مسألة " أخذ نصف ماله معه " فقد تقرر عن كثير من علماء الأمة أن الغلول في الصدقة والغنيمة لا يوجب غرامة في المال. ولذلك فإنهم اتجهوا إلى تأويل هذا الحديث بما يلي:
(1) أن الحديث منسوخ، ورد ذلك بأن دعوى النسخ غير مقبولة إلا مع وجود الدليل على ذلك مع العلم بتاريخ الأسبق، وهذا غير محقق في مسألتنا.
(2) أن الحديث فيه وهم قد وقع في سياق متنه وأن الصحيح " فإنا آخذوها من شطر ماله " أي يجعل ماله شطرين فيتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا.
(3) أن الحديث صحيح ويجب أن يؤخذ به على ظاهره، وأنه قد ثبت عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شرعية العقوبات المالية لم ثبت نسخها بحجة.
(4) أن الحديث ضعيف باعتبار أن بهزا لا يحتج به، وقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء وخالفهم آخرون، والقول الثاني هو الأقرب عندنا، والله تعالى أعلم.
(1/16)
________________________________________
والجوارح، ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويتفاضل أهله فيه.
[الدليل على أن الإيمان قول وعمل]
جـ: قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] الآية، وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158] وهذا معنى الشهادتين اللتين لا يدخل العبد في الدين إلا بهما، وهي من عمل القلب اعتقادا ومن عمل اللسان نطقا لا تنفع إلا بتواطئهما، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، سمى الصلاة كلها إيمانا، وهي جامعة لعمل القلب واللسان والجوارح، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهاد وقيام ليلة القدر وصيام رمضان وقيامه وأداء الخمس وغيرها من الإيمان، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم «أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله ورسوله» (1) .
[الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه]
جـ: قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]- {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]- {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]- {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]- {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]- {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124]- {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173]- {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] وغير ذلك من الآيات، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تكونون في كل حالة كحالتكم عندي لصافحتكم الملائكة» (2) أو كما قال.
_________
(1) رواه البخاري (26، 1519) ، ومسلم (الإيمان / 135) .
(2) رواه مسلم (التوبة / 12) وابن ماجه (4239) واللفظ له.
(1/17)
________________________________________
[الدليل على تفاضل أهل الإيمان فيه]
جـ: قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10 - 11]- إلى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27] وقال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ - فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ - وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 88 - 91] وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32] الآيات، وفي حديث الشفاعة: «أن الله يخرج من النار من كان في قلبه وزن دينار من إيمان، ثم من كان في قلبه نصف دينار من إيمان» . وفي رواية: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» (1) .
[الدليل على أن الإيمان يشمل الدين كله عند الإطلاق]
جـ: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وفد عبد القيس: «آمركم بالإيمان بالله وحده "، قال: " أتدرون ما الإيمان بالله وحده ". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا من المغنم الخمس» (2) .
[الدليل على تعريف الإيمان بالأركان الستة عند التفصيل من السنة والكتاب]
جـ: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له جبريل عليه السلام: «أخبرني عن الإيمان
_________
(1) رواه البخاري (44، 7410) ، ومسلم (الإيمان / 325) .
(2) رواه البخاري (53، 87، 523) ، ومسلم (الإيمان / 23) .
(1/18)
________________________________________
قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (1) .
جـ: قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وسنذكر إن شاء الله دليل كل على انفراده.
[معنى الإيمان بالله عز وجل]
جـ: هو التصديق الجازم من صميم القلب بوجود ذاته تعالى الذي لم يسبق بضد ولم يعقب به، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، حي قيوم، أحد صمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4] وتوحيده بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.
[توحيد الإلهية]
جـ: هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولا وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وقال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وغير ذلك من الآيات، وهذا قد وفت به شهادة أن لا إله إلا الله.
[ما يضاد توحيد الإلهية]
_________
(1) رواه البخاري (50 / 4777) ، ومسلم (الإيمان / 1، 5) .
(1/19)
________________________________________
جـ: ضده الشرك، وهو نوعان: شرك أكبر ينافيه بالكلية، وشرك أصغر ينافي كماله.
[الشرك الأكبر]
جـ: هو اتخاذ العبد من دون الله ندا يسويه برب العالمين يحبه كحب الله ويخشاه كخشية الله ويلتجئ إليه ويدعوه ويخافه ويرجوه ويرغب إليه ويتوكل عليه، أو يطيعه في معصية الله، أو يتبعه على غير مرضاة الله، وغير ذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] وغير ذلك من الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا» (1) وهو في الصحيحين. ويستوي في الخروج بهذا الشرك عن الدين المجاهر به ككفار قريش وغيرهم، والمبطن له كالمنافقين المخادعين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 145 - 146] وغير ذلك من الآيات.
_________
(1) رواه البخاري (2856، 5967، 6267، 6500) ، ومسلم (الإيمان / 48، 51) ، وأحمد (3 / 260، 261) ، والترمذي (2643) ، وابن ماجه (4269) .
(1/20)
________________________________________
[الشرك الأصغر]
جـ: هو يسير الرياء الداخل في تحسين العمل المراد به الله تعالى، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» (1) فسئل عنه فقال: (الرياء) ، ثم فسره بقوله صلى الله عليه وسلم: «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه» (2) . ومن ذلك الحلف بغير الله كالحلف بالآباء والأنداد والكعبة والأمانة وغيرها، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد» (3) وقال
_________
(1) (صحيح) ، رواه أحمد (5 / 428، 429) ، والبغوي في شرح السنة (14 / 324) عن عمرو بن أبي عمرو، وعن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين غير محمود بن لبيد فإنه من رجال مسلم وحده.
قال الحافظ: وهو صحابي صغير وجُلّ روايته عن الصحابة (أفاده الشيخ الألباني في الصحيحة 951) .
(2) (حديث حسن. والجزء الذي احتج به الحافظ الحكمي " صحيح لغيره " أو نقول صحيح المتن) ، رواه ابن ماجه (4204) بسند حسن على الراجح، وقد قال الإمام البوصيري عن سند ابن ماجه: " هذا إسناد حسن. كثير بن زيد وربيع بن عبد الرحمن مختلف فيهما "، رواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد أيضا والبيهقي، ورواه أحمد بن منيع ثنا كثير، فذكره بزيادة في أوله كما أوردته في زوائد المسانيد العشرة. اهـ.
قلت: وكثير بن زيد صدوق يخطئ، وربيع مقبول كما قال الحافظ، يعني عند المتابعة، وقد توبع خاصة في الجزء المحتج به في الحديث لما رواه ابن خزيمة (937) ، وصححه بإيراده أيضا محتجا به، وقد احتج به أيضا الحافظ المنذري في الترغيب بتصديره بـ " عن "، وهو من حديث محمود بن لبيد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس، إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر ".
(3) (صحيح) ، رواه أبو داود (3248) ، والنسائي (7 / 5) ، وسكت عنه الإمام أبو داود، وصححه الألباني.
(1/21)
________________________________________
صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا والكعبة، ولكن قولوا ورب الكعبة» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: " «لا تحلفوا إلا بالله» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة فليس منا» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (4) وفي رواية: (وأشرك) . ومنه قوله: ما شاء الله وشئت. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال ذلك: «أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده» (5) . ومنه قول: لولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، وأنا داخل على الله وعليك، ونحو ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء
_________
(1) (صحيح) ، رواه النسائي (3773) ، قال الحافظ في الإصابة (4 / 329) : أخرجه النسائي وسنده صحيح، وقد رواه النسائي في الكبرى (3 / 329) . أخرجه النسائي وسنده صحيح، وقد رواه النسائي في الكبرى (3 / 124) وفيه ". . فأمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة. . ". ولم نره واللفظ الذي أورده المؤلف.
(2) تقدم رقم (3) .
(3) (صحيح) ، رواه أبو داود (3253) حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا الوليد بن بن ثعلبة الطائي، عن أبي بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. وقد قال الشيخ الألباني: وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات اهـ.
(4) (صحيح) رواه أحمد (2 / 34، 67، 69، 86، 125) ، ورواه أبو داود (3251) ، والترمذي (1535) ، والحاكم (4 / 297) ، والبيهقي (10 / 29) ، وقد سكت عنه الإمام أبو داود، وقال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقد صححه أيضا الألباني.
(5) (سنده حسن وهو صحيح لغيره) ، رواه أحمد (1 / 214، 224، 283، 347) ، وابن ماجه (2117) ، والنسائي (في الكبرى) ، والطحاوي (1 / 90) ، وأبو نعيم (4 / 99) ، ورواه أيضا البخاري في الأدب (783) ، قال الحافظ العراقي: رواه النسائي في الكبرى وابن ماجه بإسناد حسن، اهـ. (إتحاف 7 / 574) وقد جاء الحديث عن طرق عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس إلا أن ابن عساكر قال: " الأعمش " بدل " الأجلح "، والأجلح هذا هو ابن عبد الله أبو حجية الكنزي، وهو صدوق شيعي كما في التقريب، وبقية رجاله ثقات، رجال الشيخين، فالإسناد حسن وله شواهد تصححه.
(1/22)
________________________________________
فلان» (1) . قال أهل العلم: ويجوز لولا الله ثم فلان، ولا يجوز لولا الله وفلان.
[الفرق بين الواو وثم]
جـ: لأن العطف بالواو يقتضي المقارنة والتسوية، فيكون من قال: ما شاء الله وشئت، قارنًا مشيئة العبد بمشيئة الله مسويا بها، بخلاف العطف بثم المقتضية للتبعية، فمن قال: ما شاء الله ثم شئت، فقد أقر بأن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، لا تكون إلا بعدها، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] وكذلك البقية.
[توحيد الربوبية]
جـ: هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له ولا مماثل، ولا سمي له ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته، ومقتضيات أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] الآيات، بل السورة كلها، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]
_________
(1) (صحيح) من حديث حذيفة. رواه أحمد (5 / 384، 394، 398) ، وأبو داود (4980) ، والبيهقي (3 / 216) ، والطحاوي (1 / 90) من طرق عن شعبة عن منصور بن المعتمر سمعت عبد الله بن يسار عن حذيفة به، وهذا سنده صحيح، رجاله كلهم ثقات، رجال الشيخين، غير عبد الله بن يسار وهو الجهني وهو ثقة، وثقه النسائي وابن حبان.
(1/23)
________________________________________
الآيات، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ - أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36] الآيات، وقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ - وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 22 - 23] .
[ما يضاد توحيد الربوبية]
جـ: هو اعتقاد متصرف مع الله عز وجل في أي شيء من تدبير الكون من إيجاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك من معاني الربوبية، أو اعتقاد منازع له في شيء من مقتضيات أسمائه وصفاته كعلم الغيب والعظمة والكبرياء ونحو ذلك، وقال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 2 - 3] الآيات، وقال تعالى:
(1/24)
________________________________________
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] الآية، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] وقال تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] الآيات، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: " العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري» (1) . وهو في الصحيح.
[توحيد الأسماء والصفات]
جـ: هو الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه ووصف به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإمرارها كما جاءت بلا كيف، كما جمع الله تعالى بين إثباتها ونفي التكييف عنها في كتابه في غير موضع كقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] وغير ذلك، وفي الترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه «أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى لما ذكر آلهتهم - أنسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى:
_________
(1) (صحيح) ، رواه أحمد (2 / 248، 376، 414، 427، 442) ، وأبو داود (4090) ، وابن ماجه (4174) ، الحديث صححه الألباني وسكت عنه أبو داود، ورواه مسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (البر 2620) .
(1/25)
________________________________________
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2] » والصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله تعالى لا يموت ولا يورث {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] قال: لم يكن له شبيه ولا عديل، وليس كمثله شيء (1) .
[دليل الأسماء الحسنى من الكتاب والسنة]
جـ: قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقال عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8]- وغيرها من الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» (2) . وهو في الصحيح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي» (3) . الحديث.
_________
(1) (حسن) ، رواه أحمد (5 / 134) ، والترمذي (3364) ، ورواه عن أبي العالية مرسلا (3365) ، والحاكم (2 / 540) ، والبيهقي (في الأسماء والصفات / 354) ، وابن أبي عاصم (1 / 298) ، وفي سنده أبو بكر الرازي، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ، وقد نوه الترمذي إلى أن المرسل أصح، قال الحافظ في الفتح (8 / 739) : وصحح الموصول ابن خزيمة والحاكم، وله شاهد من حديث جابر عن أبي يعلى والطبري والطبراني في الأوسط، اهـ. وقد حسن إسناده السيوطي في الدر المنثور (6 / 410) من حديث جابر، اهـ. قال الهيثمي (7 / 146) : رواه الطبراني في الأوسط، اهـ.
(2) رواه البخاري (2736، 7392) .
(3) (صحيح) ، رواه أحمد (1 / 391، 452) ، وابن حبان (968) ، والحاكم (1 / 509) ، وأبو يعلى (5297) ، وقد عدد الشيخ الألباني طرقه في الصحيحة (199) وناقش ما دار حولها من خلاف ثم قال: وجملة القول أن الحديث صحيح من رواية.
(1/26)
________________________________________
[مثال الأسماء الحسنى من القرآن]
جـ: مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34]- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34]- {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 23]- {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]- {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]- {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]- {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]- {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]- {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]- {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]- {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85]- {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]- {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]- وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وقال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ - هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 22 - 24] وغيرها من الآيات.
[مثال الأسماء الحسنى من السنة]
جـ: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام
_________
(1) رواه البخاري (7431، 7426) ، ومسلم (الذكر / 83) .
(1/27)
________________________________________
يا بديع السماوات والأرض» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، رب كل شيء ومليكه» (3) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، أنت الباطن فليس دونك شيء» (4) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات
_________
(1) (صحيح) من حديث أنس ولفظه: ". . بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. . " رواه أحمد (3 / 120، 158، 245) ، وأبو داود (1495) ، والنسائي (3 / 52) ، وسكت عنه الإمام أبو داود، وقد صححه الشيخ الألباني ورواه الحاكم (1 / 504) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) (صحيح) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، رواه أحمد (1 / 62، 66، 72) ، وأبو داود (5088) ، والترمذي (3388) ، وابن ماجه (3869) ، قال الإمام الترمذي: حسن صحيح غريب وسكت عنه الإمام أبو داود، وقال الحافظ العراقي: رواه أصحاب السنن وابن حبان والحاكم وصححه من حديث عثمان، اهـ. قال الزبيدي: وكذلك رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن السني وأبو نعيم في الحلية والضياء في المختارة، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف بلفظ: " من قال ذلك إذا أصبح وإذا أمسى ثلاث مرات. . " (إتحاف 5 / 131، 132) ، وقد صححه الشيخ الألباني.
(3) (صحيح) من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو. رواه أحمد (1 / 9، 10، 14، 2 / 196، 297) ، وأبو داود [5067] ، والترمذي [3529] ، والدارمي [6292] ، والحاكم [1 / 513] ، وقد صححه الألباني وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، قال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(4) رواه مسلم (الذكر 61، 62، 63) ، وأحمد (2 / 381، 404، 536) .
(1/28)
________________________________________
والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن» (1) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب» (3) . الحديث، وغير ذلك كثير.
[دلالة الأسماء الحسنى وأمثلتها]
جـ: هي على ثلاثة أنواع، دلالتها على الذات مطابقة، ودلالتها على الصفات المشتقة منها تضمنا، ودلالتها على الصفات التي ما اشتقت منها التزاما.
جـ: مثال ذلك اسمه تعالى الرحمن الرحيم يدل على ذات المسمى، وهو الله عز وجل مطابقة، وعلى الصفة المشتق منها وهي الرحمة
_________
(1) رواه البخاري (1120، 6317) ، ومسلم (مسافرين / 199) .
(2) (صحيح) رواه ابن ماجه (3857) ، والترمذي (3475) ، وأحمد (5 / 349، 350، 360) من حديث بريدة الأسلمي، ورواه الحاكم (1 / 267) ، والنسائي (1301) من حديث محجن بن الأدرع، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقد صححه الألباني.
(3) (صحيح) ، رواه الترمذي (3522) ، وأحمد (6 / 294، 315) من حديث أم سلمة، ورواه أحمد (4 / 182) من حديث نواس بن سمعان، ورواه الحاكم (2 / 288) من حديث جابر بن عبد الله، ورواه أحمد أيضا (6 / 91، 251) من حديث عائشة رضي الله عنها، ورواه الترمذي أيضا (2140) من حديث أنس بن مالك، قال الإمام الترمذي: (هذا حديث حسن) قلت: قال ذلك الترمذي على حديث أم سلمة وحديث أنس، لكنه عقب على حديث أنس بقوله: وحديث أبي سفيان عن أنس أصح. قال الألباني معقبا على تحسين الترمذي: قلت: وهو على شرط مسلم (مشكاة 102) ، وقد صححه في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم (1 / ح 225) .
(1/29)
________________________________________
تضمنا، وعلى غيرها من الصفات التي لم تشتق منها كالحياة والقدرة التزاما، وهكذا سائر أسمائه، وذلك بخلاف المخلوق، فقد يسمى حكيما وهو جاهل، وحكما وهو ظالم، وعزيزا وهو ذليل، وشريفا وهو وضيع وكريما وهو لئيم، وصالحا وهو طالح، وسعيدا وهو شقي، وأسدا وحنظلة وعلقمة وليس كذلك، فسبحان الله وبحمده هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.
[أقسام دلالة الأسماء الحسنى من جهة التضمن]
جـ: هي على أربعة أقسام، الأول: الاسم العلم المتضمن لجميع معاني الأسماء الحسنى وهو الله، ولهذا تأتي الأسماء جميعها صفات له كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] ونحو ذلك، ولم يأت هو قط تابعا لغيره من الأسماء. الثاني: ما يتضمن صفة ذات الله عز وجل كاسمه تعالى السميع المتضمن سمعه، الواسع جميع الأصوات، سواء عنده سرها وعلانيتها، واسمه البصير المتضمن بصره النافذ في جميع المبصرات سواء دقيقها وجليلها، واسمه العليم المتضمن علمه المحيط الذي {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3] واسمه القدير المتضمن قدرته على كل شيء إيجادا وإعداما، وغير ذلك. الثالث: ما يتضمن صفة فعل الله كالخالق الرازق البارئ المصور وغير ذلك. الرابع: ما يتضمن تنزهه تعالى وتقدسه عن جميع النقائص كالقدوس السلام.
[أقسام الأسماء الحسنى من جهة إطلاقها على الله عز وجل]
جـ: منها ما يطلق على الله مفردا أو مع غيره، وهو ما تضمن صفة الكمال
(1/30)
________________________________________
بأي إطلاق، كالحي القيوم الأحد الصمد ونحو ذلك، ومنها ما لا يطلق على الله إلا مع مقابله، وهو ما إذا أفرد أوهم نقصا كالضار النافع، والخافض الرافع، والمعطي المانع، والمعز المذل، ونحو ذلك، فلا يجوز إطلاق الضار ولا الخافض ولا المانع ولا المذل على انفراده، ولم يطلق قط شيء منها في الوحي كذلك لا في الكتاب ولا في السنة، ومن ذلك اسمه تعالى المنتقم، لم يطلق في القرآن إلا مع متعلقه كقوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] أو بإضافة ذو إلى الصفة المشتق منها كقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] .
[مثال لصفات الذات من الكتاب]
جـ: مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] وغير ذلك.
[مثال لصفات الذات من السنة]
جـ: كقوله صلى الله عليه وسلم: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه» (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «يمين الله ملأى لا تغيضها
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 293) .
(1/31)
________________________________________
نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض أو القبض، يرفع ويخفض» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: «إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور» (2) وأشار بيده إلى عينه. الحديث، وفي حديث الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب» (3) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، تدعون سميعا بصيرا قريبا» (4) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي» (5) . الحديث، وفي حديث البعث: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك» (6) . الحديث، وأحاديث كلام الله لعباده في الموقف، وكلامه لأهل الجنة وغير ذلك ما لا يحصى.
[مثال لصفات الأفعال من الكتاب]
جـ: مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] الآية، وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]
_________
(1) رواه البخاري (4684، 7411) ، ومسلم (الزكاة / 993) .
(2) رواه البخاري (3057، 3337) ، ومسلم (الفتن / 95، 100) .
(3) رواه البخاري (1162) ، وأبو داود (1538) ، والترمذي (480) .
(4) رواه البخاري (2992، 4205) ، ومسلم (الذكر / 44، 45) .
(5) (إسناده فيه ضعف) ، رواه ابن أبي عاصم في السنة (515) ، والآجري في الشريعة (126) ، وفي سنده نعيم بن حماد، وقد مضى القول فيه قريبا، وفي سند الحديث الوليد بن مسلم وهو يدلس تدليس تسوية، وقد عنعن الحديث عن شيخ شيخه.
(6) رواه البخاري (4741) ، ومسلم (الإيمان / 379) .
(1/32)
________________________________________
وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وغيرها من الآيات.
[مثال لصفات الأفعال من السنة]
جـ: مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» (1) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا» (2) . الحديث، ونعني بصفة الفعل هنا الإتيان لا الصورة فافهم، وقوله صلى الله عليه وسلم: " «إن الله يقبض يوم القيامة الأرض، وتكون السماوات بيمينه، ثم يقول أنا الملك» (3) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي» (4) وفي حديث احتجاج آدم وموسى: «فقال آدم: يا موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده» (5) فكلامه تعالى ويده صفتا ذات، وتكلمه صفة ذات وفعل معا، وخطه التوراة صفة فعل. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» (6) .
_________
(1) رواه البخاري (1145، 6321) ، ومسلم (مسافرين / 168، 169، 170) .
(2) رواه البخاري (6573، 7437) ، ومسلم (الإيمان / 299) .
(3) رواه البخاري (4812، 6519، 7382) ، ومسلم (صفة الجنة والنار / 23) .
(4) رواه البخاري (3194، 7422) ، ومسلم (التوبة / 14، 15، 16) .
(5) رواه البخاري (6614، 3409، 4736) ، ومسلم (القدر / 13) .
(6) رواه مسلم (التوبة / 31) .
(1/33)
________________________________________
الحديث، وغيرها كثير.
[أسماء الله تعالى كلها توقيفية]
جـ: لا بل أسماء الله تعالى كلها توقيفية، لا يسمى إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو أطلقه عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل فعل أطلقه الله تعالى على نفسه فهو فيما أطلق فيه مدح وكمال، ولكن ليس كلها وصف الله به نفسه مطلقا ولا كلها يشتق منها أسماء، بل منها ما وصف به نفسه مطلقا كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40] وسمى نفسه الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، ومنها أفعال أطلقها الله تعالى على نفسه على سبيل الجزاء والمقابلة، وهي فيما سيقت له مدح وكمال كقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ولكن لا يجوز إطلاقها على الله في غير ما سيقت فيه من الآيات، فلا يقال أنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزئ ونحو ذلك، وكذلك لا يقال ماكر مخادع مستهزئ، ولا يقوله مسلم ولا عاقل، فإن الله عز وجل لم يصف نفسه بالمكر والكيد والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك بالعدل حسنة من المخلوق، فكيف من الخلاق العليم العدل الحكيم.
[ما يتضمنه اسمه العلي الأعلى وما في معناه]
جـ: يتضمن اسمه الأعلى الصفة المشتق منها، وهو ثبوت العلو له عز وجل بجميع معانيه، علو فوقيته تعالى على عرشه عال على جميع
(1/34)
________________________________________
خلقه، بائن منهم، رقيب عليهم، يعلم ما هم عليه، قد أحاط بكل شيء علما، لا تخفى عليه منهم خافية. وعلو قهره فلا مغالب له ولا منازع ولا مضاد ولا ممانع، بل كل شيء خاضع لعظمته، ذليل لعزته، مستكين لكبريائه، تحت تصرفه وقهره، لا خروج له من قبضته. وعلو شأنه، فجميع صفات الكمال له ثابتة، وجميع النقائص عنه منتفية، عز وجل وتبارك وتعالى، وجميع هذه المعاني للعلو متلازمة لا ينفك معنى منها عن الآخر.
[دليل علو الفوقية من الكتاب]
جـ: الأدلة الصريحة عليه لا تعد ولا تحصى، فمنها هذه الأسماء وما في معناها، ومنها قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] في سبعة مواضع من القرآن، ومنها قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] ومنها قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ومنها قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5] وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] وغير ذلك كثير.
[دليل علو الفوقية من السنة]
جـ: أدلته من السنة كثيرة لا تحصى، منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: «والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه» (1) وقوله لسعد في قصة قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة» ، وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله "؟ قالت في السماء. قال:
_________
(1) (ضعيف جدا) ، رواه ابن أبي عاصم في السنة (577) ، وأبو داود (2724) ، والترمذي (3320) ، وابن خزيمة في التوحيد (68) من طرق عن عبد الرحمن بن عبد الله الرازي، ثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس عن العباس مرفوعا. .) ، وفيه عبد الله بن عميرة، قال الذهبي: فيه جهالة، وقال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس. والحديث أخرجه أبو داود أيضا وابن ماجه (193) ، والآجري في الشريعة ص (292) من طريق أخرى عن عمرو بن أبي محسن، وعمرو هذا صدوق له أوهام وله بعض المتابعات الأخرى وهي واهية، ومنها ما أخرجه أحمد (1 / 206، 207) في سنده يحيى بن العلاء متهم بالوضع.
(1/35)
________________________________________
" اعتقها فإنها مؤمنة» (1) وأحاديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث تعاقب الملائكة: «ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم» (2) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» (3) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الوحي: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» (4) . الحديث، وغير ذلك كثير، وقد أقر بذلك جميع المخلوقات إلا الجهمية.
[أقوال أئمة السلف الصالح في مسألة الاستواء]
جـ: قولهم بأجمعهم رحمهم الله تعالى: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق والتسليم، وهكذا قولهم في جميع آيات الأسماء والصفات وأحاديثها: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] .
_________
(1) رواه مسلم (مساجد 33) .
(2) رواه البخاري (555، 3223) ، ومسلم (مساجد / 210) .
(3) رواه البخاري (7430، 1410) ، ومسلم (الزكاة / 63) .
(4) رواه البخاري (4701، 4800) .
(1/36)
________________________________________
[دليل علو القهر من الكتاب]
جـ: أدلته كثيرة، منها قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وهو متضمن لعلو القهر والفوقية، وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4] وقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] وقوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] وغير ذلك من الآيات.
[دليل علو القهر من السنة]
جـ: أدلته من السنة كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك» (2) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذلّ من واليت ولا يعز من عاديت» (3) وغير ذلك كثير.
_________
(1) رواه مسلم (الذكر / 61، 62، 63) .
(2) رواه أحمد (1 / 391، 452) ، تقدم هامش 3 س 52.
(3) (صحيح) ، رواه أحمد (1 / 199، 200) ، وأبو داود (1425، 1426) ، والترمذي (464) ، وابن ماجه (1178) ، والحاكم (3 / 172) ، والنسائي (1746، 1178) ، قال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وسكت عنه الإمام أبو داود مشيرا إلى قبوله، وقال الشيخ شاكر رحمه الله: إسناده صحيح. قال الشيخ الألباني: زاد النسائي في آخر القنوت (وصلى الله على النبي الأمي) وإسنادها ضعيف، وقد ضعفها الحافظ بن حجر العسقلاني والزرقاني وغيرهم، اهـ. (صفة صلاة النبي 160) ، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين إلا أن محمد بن جعفر بن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده، وقد صححه ابن خزيمة (1095) والألباني.
(1/37)
________________________________________
[دليل علو الشأن]
جـ: اعلم أن علو الشأن هو ما تضمنه اسمه القدوس السلام الكبير المتعال وما في معناها، واستلزمته جميع صفات كماله ونعوت جلاله، فتعالى في أحديته أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا له، أو ظهيرا أو شفيعا عنده بدون إذنه أو عليه يجير، وتعالى في عظمته وكبريائه وملكوته وجبروته عن أن يكون له منازع أو مغالب أو ولي من الذل أو نصير، وتعالى في صمديته عن الصاحبة والولد والوالد والكفؤ والنظير، وتعالى في كمال حياته وقيوميته وقدرته عن الموت والسنة والنوم والتعب والإعياء، وتعالى في كمال علمه عن الغفلة والنسيان وعن عزوب مثقال ذرة عن علمه في الأرض أو في السماء، وتعالى في كمال حكمته وحمده عن خلق شيء عبثا وعن ترك الخلق سدى بلا أمر ولا نهي ولا بعث ولا جزاء، وتعالى في كمال عدله عن أن يظلم أحدا مثقال ذرة أو أن يهضمه شيئا من حسناته، وتعالى في كمال غناه عن أن يطعم أو يرزق أو يفتقر إلى غيره في شيء، وتعالى في جميع ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله عن التعطيل والتمثيل، وسبحانه وبحمده وعز وجل وتبارك وتعالى وتنزه وتقدس عن كل ما ينافي إلهيته وربوبيته وأسماءه الحسنى وصفاته العلى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] ونصوص الوحي من الكتاب والسنة في هذا الباب معلومة مفهومة مع كثرتها وشهرتها.
[معنى قوله عليه السلام في الأسماء الحسنى من أحصاها دخل الجنة]
جـ: قد فسر ذلك بمعاني منها: حفظها ودعاء الله بها والثناء عليه
(1/38)
________________________________________
بجميعها، ومنها أن ما كان يسوغ الاقتداء به كالرحيم والكريم فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها فيما يليق به وما كان يختص به نفسه تعالى كالجبار والعظيم والمتكبر، فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد كالغفور الشكور العفو الرؤوف الحليم الجواد الكريم، فليقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد كعزيز ذي انتقام شديد العقاب سريع الحساب، فليقف منه عند الخشية والرهبة. ومنها شهود العبد إياها وإعطاؤها حقها معرفة وعبودية، مثاله من شهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته عليهم واستواءه على عرشه بائنا من خلقه مع إحاطته بهم علما وقدرة وغير ذلك، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمدا يعرج إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه وعمله ما يخزيه ويفضحه هنالك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والإعزاز والإذلال، والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] فمن وفى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية فقد استغنى بربه وكفاه، وكذلك من شهد علمه المحيط وسمعه وبصره وحياته وقيوميته وغيرها ولا يرزق هذا
(1/39)
________________________________________
المشهد إلا السابقون المقربون.
[ما يضاد توحيد الأسماء والصفات]
جـ: ضده الإلحاد في أسماء الله وصفاته وآياته، وهو ثلاثة أنواع: الأول: إلحاد المشركين الذين عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه وسموا بها أوثانهم، فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان.
الثاني: إلحاد المشبهة الذين يكيفون صفات الله تعالى، ويشبهونها بصفات خلقه وهو مقابل لإلحاد المشركين، فأولئك سووا المخلوق برب العالمين، وهؤلاء جعلوه بمنزلة الأجسام المخلوقة وشبهوه بها تعالى وتقدس.
الثالث: إلحاد النفاة المعطلة، وهم قسمان: قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه تعالى ونفوا عنه ما تضمنته من صفات الكمال فقالوا: رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، وأطردوا بقيتها كذلك. وقسم صرحوا بنفي الأسماء ومتضمناتها بالكلية، ووصفوه بالعدم المحض الذي لا اسم له ولا صفة، سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون الجاحدون الملحدون علوا كبيرا {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]
[جميع أنواع التوحيد متلازمة]
جـ: نعم هي متلازمة، فمن أشرك في نوع منها فهو مشرك في البقية، مثال ذلك دعاء غير الله وسؤاله ما لا يقدر عليه إلا الله، فدعاؤه إياه عبادة بل
(1/40)
________________________________________
مخ العبادة، صرفها لغير الله من دون الله، فهذا شرك في الإلهية، وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع شر معتقدا أنه قادر على قضاء ذلك، هذا شرك في الربوبية حيث اعتقد أنه متصرف مع الله في ملكوته، ثم إنه لم يدعه هذا الدعاء من دون الله إلا مع اعتقاده أنه يسمعه على البعد والقرب في أي وقت كان وفي أي مكان ويصرحون بذلك، وهو شرك في الأسماء والصفات حيث أثبت له سمعا محيطا بجميع المسموعات، لا يحجبه قرب ولا بعد، فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات.
[الدليل على الإيمان بالملائكة من الكتاب والسنة]
جـ: أدلة ذلك من الكتاب كثيرة، منها قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وتقدم الإيمان بهم من السنة في حديث جبريل وغيره، وفي صحيح مسلم أن الله تعالى خلقهم من نور (1) والأحاديث في شأنهم كثيرة.
[معنى الإيمان بالملائكة]
جـ: هو الإقرار الجازم بوجودهم وأنهم خلق من خلق الله مربوبون مسخرون و {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27] {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
_________
(1) رواه مسلم (الزهد / 60) ، وأحمد (6 / 153، 168) .
(1/41)
________________________________________
{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ - يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20] ولا يسأمون ولا يستحسرون.
[بعض أنواع الملائكة]
جـ: هم باعتبار ذلك أقسام كثيرة، فمنهم الموكل بأداء الوحي إلى الرسل وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، ومنهم الموكل بالقطر وهو ميكائيل عليه السلام، ومنهم الموكل بالصور وهو إسرافيل عليه السلام، ومنهم الموكل بقبض الأرواح وهو ملك الموت وأعوانه، ومنهم الموكل بأعمال العباد وهم الكرام الكاتبون، ومنهم الموكل بحفظ العبد من بين يديه ومن خلفه وهم المعقبات، ومنهم الموكل بالجنة ونعيمها وهم رضوان ومن معه، ومنهم الموكل بالنار وعذابها وهم مالك ومن معه من الزبانية، ورؤساؤهم تسعة عشر، ومنهم الموكل بفتنة القبر وهم منكر ونكير، ومنهم حملة العرش، ومنهم الكروبيون، ومنهم الموكل بالنطف في الأرحام من تخليقها وكتابة ما يراد بها، ومنهم الملائكة يدخلون البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم، ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر، ومنهم صفوف قيام لا يفترون، منهم ركع سجد لا يرفعون، ومنهم غير من ذكر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] ونصوص هذه الأقسام من الكتاب والسنة لا تخفى.
[دليل الإيمان بالكتب]
جـ: أدلته كثيرة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] وقوله
(1/42)
________________________________________
تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] الآيات، وغيرها كثير، ويكفي في ذلك قوله تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15]
[تسمية الكتب في القرآن]
جـ: سمى الله منها في القرآن: هو، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وذكر الباقي جملة فقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ - مِنْ قَبْلُ} [آل عمران: 2 - 4] وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36 - 37] وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فما ذكر الله منها تفصيلا وجب علينا الإيمان به تفصيلا، وما ذكر منها إجمالا وجب علينا الإيمان به إجمالا، فنقول فيه ما أمر الله به رسوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15]
[معنى الإيمان بكتب الله عز وجل]
جـ: معناه التصديق الجازم بأن جميعها منزل من عند الله عز وجل، وأن الله تكلم بها حقيقة، فمنها المسموع منه تعالى من وراء حجاب بدون واسطة الرسول الملكي، ومنها ما بلغه الرسول الملكي إلى الرسول البشري، ومنها ما كتبه الله تعالى بيده كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] وقال تعالى لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقال تعالى في شأن
(1/43)
________________________________________
التوراة: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] وقال في عيسى: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} [المائدة: 46] وقال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] وتقدم ذكرها بلفظ التنزيل، وقال تعالى في شأن القرآن: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] وقال تعالى فيه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ - بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195] الآيات، وقال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] الآيات، وغيرها كثير.
[منزلة القرآن من الكتب المتقدمة]
جـ: قال الله تعالى فيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37] وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] قال أهل التفسير: مهيمنا مؤتمنا وشاهدا على ما قبله من الكتب ومصدقا لها، يعني يصدق: ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه، كما قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ - وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52 - 53]
(1/44)
________________________________________
وغير ذلك.
[ما يجب التزامه في حق القرآن على جميع الأمة]
جـ: هو اتباعه ظاهرا وباطنا والتمسك به والقيام بحقه، قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} [الأنعام: 155] وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170] وهي عامة في كل كتاب والآيات في ذلك كثيرة، وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله فقال: «فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به» (1) وفي حديث علي مرفوعا: «إنها ستكون فتن» (2) . «قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: " كتاب الله» . وذكر الحديث.
[معنى التمسك بالكتاب والقيام بحقه]
جـ: حفظه وتلاوته والقيام به آناء الليل والنهار وتدبر آياته وإحلال حلاله وتحريم حرامه والانقياد لأوامره، والانزجار بزواجره والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والوقوف عند حدوده، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، والنصيحة له بكل معانيها والدعوة إلى ذلك على بصيرة.
[حكم من قال بخلق القرآن]
جـ: القرآن كلام الله عز وجل حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف
_________
(1) رواه مسلم (فضائل الصحابة / 36) ، وأحمد (4 / 366، 367) .
(2) (ضعيف) ، رواه أحمد (1 / 91) ، والترمذي (2906) ، والدارمي (3334) ، قال الإمام الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال. وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف جدا من أجل الحارث الأعور.
(1/45)
________________________________________
دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، تكلم الله به قولا وأنزله على نبيه وحيا، وآمن به المؤمنون حقا، فهو وإن خط بالبنان وتلي باللسان وحفظ بالجنان وسمع بالآذان وأبصرته العينان لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق والألسن والأصوات مخلوقة، والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة والمسموع غير مخلوق، قال الله تعالى:
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ - فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] وقال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27] وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " أديموا النظر في المصحف ". والنصوص في ذلك لا تحصى، ومن قال القرآن أو شيء من القرآن مخلوق فهو كافر كفرا أكبر يخرجه من الإسلام بالكلية؛ لأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود، وكلامه صفته، ومن قال شيء من صفات الله مخلوق فهو كافر مرتد يعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فإن رجع وإلا قتل كفرا ليس له شيء من أحكام المسلمين.
[صفة الكلام ذاتية أو فعلية]
جـ: أما باعتبار تعلق صفة الكلام بذات الله عز وجل واتصافه تعالى بها، فمن صفات ذاته كعلمه تعالى بل هو من علمه، وأنزله بعلمه، وهو أعلم بما ينزل، وأما باعتبار تكلمه بمشيئته وإرادته فصفة فعل، كما قال
(1/46)
________________________________________
النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي» (1) . الحديث - ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله في صفة الكلام: إنها صفة ذات وفعل معا، فالله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال متصفا بالكلام أزلا وأبدا وتكلمه وتكليمه بمشيئته وإرادته، فيتكلم إذا شاء متى شاء وكيف شاء بكلام يسمعه من يشاء وكلامه صفته لا غاية له ولا انتهاء {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]
[التعريف بالواقفة وبيان حكمهم]
جـ: الواقفة هم الذين يقولون في القرآن: لا نقول هو كلام الله ولا نقول مخلوق. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي، ومن كان لا يحسنه بل كان جاهلا جهلا بسيطا فهو تقام عليه الحجة بالبيان والبرهان، فإن تاب وآمن بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق، وإلا فهو شر من الجهمية) (2) .
[حكم من قال لفظي بالقرآن مخلوق]
جـ: هذه العبارة لا يجوز إطلاقها نفيا ولا إثباتا؛ لأن اللفظ معنى مشترك بين التلفظ الذي هو فعل العبد، وبين الملفوظ به الذي هو القرآن، فإذا أطلق القول بخلقه شمل المعنى الثاني، ورجع إلى قول الجهمية، وإذا
_________
(1) تقدم ص 27 س 60 هامش (6) وهو ضعيف.
(2) انظر كتاب السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله (1 / 179) .
(1/47)
________________________________________
قيل: غير مخلوق شمل المعنى الأول الذي هو فعل العبد، وهذا من بدع الاتحادية، ولهذا قال السلف الصالح رحمهم الله تعالى: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع (1) .
[دليل الإيمان بالرسل]
جـ: أدلته كثيرة من الكتاب والسنة، منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا - وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء: 150 - 152] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «آمنت بالله ورسله» (2) .
[معنى الإيمان بالرسل]
جـ: هو التصديق الجازم بأن الله تعالى بعث في كل أمة رسولا منهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده والكفر بما يعبد من دونه، وأن جميعهم صادقون مصدقون بارون راشدون كرام بررة أتقياء أمناء هداة مهتدون، وبالبراهين الظاهرة والآيات الباهرة من ربهم مؤيدون، وأنهم بلغوا جميع ما أرسلهم الله به، لم يكتموا، ولم يغيروا، ولم يزيدوا فيه من عند أنفسهم حرفا ولم ينقصوه، {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] وأنهم كلهم على الحق المبين، وأن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمدا صلى الله عليه وسلم خليلا وكلم موسى تكليما، ورفع
_________
(1) انظر كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل (1 / 164، 165) .
(2) رواه البخاري (1354، 6173) ، ومسلم (الفتن95) .
(1/48)
________________________________________
إدريس مكانا عليا، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الله فضل بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات.
[اتفقت دعوة الرسل على أصل العبادة وأساسها]
جـ: اتفقت دعوتهم من أولهم إلى آخرهم على أصل العبادة وأساسها، وهو التوحيد بأن يفرد الله تعالى بجميع أنواع العبادة اعتقادا وقولا وعملا، ويكفر بكل ما يعبد من دونه، وأما الفروض المتعبد بها فقد يفرض على هؤلاء من الصلاة والصوم ونحوها مالا يفرض على الآخرين، ويحرم على هؤلاء ما يحل للآخرين، امتحانا من الله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]
[الدليل على اتفاق الرسل في أصل العبادة]
جـ: الدليل على ذلك من الكتاب على نوعين مجمل ومفصل. أما المجمل فمثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] الآيات، وأما المفصل فمثل قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ} [الأعراف: 73] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 - 27] وقال موسى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]
(1/49)
________________________________________
{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] وغيرها من الآيات.
[الدليل على اختلاف شرائع الرسل في الفروع]
جـ: قول الله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (شرعة ومنهاجا) : سبيلا وسنة. ومثله قال مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبو إسحاق السبيعي، وفي صحيح البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد» (1) . يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي والحلال والحرام {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]
[هل قص الله جميع الرسل في القرآن]
جـ: قد قص الله علينا من أنبائهم ما فيه كفاية وموعظة وعبرة، ثم قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] فنؤمن بجميعهم تفصيلا فيما فصل، وإجمالا فيما أجمل.
[جملة الرسل الذين سماهم الله في القرآن]
جـ: سمى منهم فيه آدم ونوح وإدريس وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وشعيب ويونس وموسى وهارون
_________
(1) رواه البخاري (3443) ، ومسلم (الفضائل / 143، 144، 145) .
(1/50)
________________________________________
وإلياس وزكريا ويحيى واليسع وذا الكفل وداود وسليمان وأيوب، وذكر الأسباط جملة، وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
[أولو العزم من الرسل]
جـ: هم خمسة ذكرهم الله عز وجل على انفرادهم في موضعين من كتابه: الموضع الأول: في سورة الأحزاب - وهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] الآية، الموضع الثاني: في سورة الشورى وهو قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] الآية.
[أول الرسل]
جـ: أولهم بعد الاختلاف نوح عليه السلام، كما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 5]
[متى كان الاختلاف]
جـ: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " (1) .
[خاتم النبيين والدليل على ذلك]
جـ: خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) (صحيح) ، رواه الحاكم (2 / 546، 547) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والألباني في كتابه " تحذير الساجد ".
(1/51)
________________________________________
جـ: قال الله تعالي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون بعدي كذابون ثلاثون كلهم يدعي أنه نبي وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي» (1) . وفي الصحيح قوله لعلي رضي الله عنه: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: «وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي» (3) . وغير ذلك كثير.
[خصائص النبي صلى الله عليه وسلم]
جـ: له صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة قد أفردت بالتصنيف منها: كونه خاتم النبيين كما ذكرنا، ومنها: كونه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كما فسر به قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (4) ومنها: بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة جنهم وإنسهم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] الآية، وقال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] .
_________
(1) (صحيح) ، رواه أحمد (5 / 278) ، وأبو داود (4252) ، والترمذي (2219) قال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد صححه الألباني وسكت عنه الإمام أبو داود، وفي مسلم: " لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله) . (الفتن / 84) .
(2) رواه البخاري (3706، 4416) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 31) ، وأحمد (1 / 182، 184، 3 / 32) ، والترمذي (3724، 3731) .
(3) رواه البخاري (3535) ، ومسلم (الفضائل / 22) ، وأحمد (2 / 398) .
(4) (صحيح) ، رواه أحمد (1 / 281، 282، 295) ، والترمذي (3615) ، وابن ماجه (4308) ، وأبو يعلى (7 / 4305) ، وابن حبان (2127) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد صححه الشيخ الألباني، وفي مسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة " (الفضائل / 2278) .
(1/52)
________________________________________
وقال صلى الله عليه وسلم: " «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (2) . وله صلى الله عليه وسلم من الخصائص غير ما ذكرنا فتتبعها من النصوص.
[معجزات الأنبياء]
جـ: المعجزات هي أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة، وهي إما حسية تشاهد بالبصر أو تسمع كخروج الناقة من الصخرة، وانقلاب العصا حية، وكلام الجمادات، ونحو ذلك، وإما معنوية تشاهد بالبصيرة كمعجزة القرآن، وقد أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم من (كل ذلك) ، فما من معجزة كانت لنبي إلا وله صلى الله عليه وسلم أعظم منها في بابها، فمن المحسوسات: انشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وكلام الذراع، وتسبيح الطعام، وغير ذلك مما تواترت به الأخبار الصحيحة ولكنها كغيرها من معجزات الأنبياء التي انقرضت بانقراض أعصارهم ولم يبق إلا ذكرها، وإنما المعجزة الباقية الخالدة هي هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه و {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]
_________
(1) رواه البخاري (438، 3122) ، ومسلم (مساجد / 3) .
(2) رواه مسلم (الإيمان / 240) .
(1/53)
________________________________________
[دليل إعجاز القرآن الكريم]
جـ: الدليل على ذلك نزوله في أكثر من عشرين سنة متحديا به أفصح الخلق وأقدرها على الكلام وأبلغها منطقا وأعلاها بيانا قائلا: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] فلم يفعلوا ولم يروموا ذلك مع شدة حرصهم على رده بكل ممكن مع كون حروفه وكلماته من جنس كلامهم الذي به يتحاورون، وفي مجاله يتسابقون ويتفاخرون، ثم نادى عليهم ببيان عجزهم وظهور إعجازه {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (1) وقد صنف الناس في وجوه إعجاز القرآن من جهة الألفاظ والمعاني والأخبار الماضية والآتية من المغيبات وما بلغوا من ذلك إلا كما يأخذ العصفور بمنقاره من البحر.
[دليل الإيمان باليوم الآخر]
جـ: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ - أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8] وقال الله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ - وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5 - 6] وقال الله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الحج: 7] إلى غير
_________
(1) رواه البخاري (4981، 7274) ، ومسلم (الإيمان / 239) .
(1/54)
________________________________________
ذلك من الآيات.
[معنى الإيمان باليوم الآخر]
جـ: معناه التصديق الجازم بإتيانه لا محالة، والعمل بموجب ذلك. ويدخل في ذلك الإيمان بأشراط الساعة وأماراتها التي تكون قبلها لا محالة. وبالموت وما بعده من فتنة القبر وعذابه ونعيمه وبالنفخ في الصور وخروج الخلائق من القبور وما في موقف القيامة من الأهوال والأفزاع وتفاصيل المحشر: نشر الصحف، ووضع الموازين، وبالصراط والحوض، والشفاعة وغيرها، وبالجنة ونعيمها الذي أعلاه النظر إلى وجه الله عز وجل، وبالنار وعذابها الذي أشده حجبهم عن ربهم عز وجل.
[متى تكون الساعة]
جـ: مجيء الساعة من مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] الآية، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا - فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا - إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 42 - 44] الآيات، ولما «قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الساعة. قال: " ما المسئول عنها بأعلم من السائل» (1) وذكر أماراتها وزاد في رواية: «في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى» ، وتلا الآية السابقة.
_________
(1) رواه البخاري (50، 4777) ، ومسلم (الإيمان / 1، 5) .
(1/55)
________________________________________
[مثال أمارات الساعة من الكتاب]
جـ: مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] الآية، وقوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96 - 97] الآيات، وقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الآيات، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] الآيات وغيرها.
[مثال أمارات الساعة من السنة]
جـ: مثل أحاديث طلوع الشمس من مغربها، وأحاديث الدابة، وأحاديث الفتن كالدجال والملاحم، وأحاديث نزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، وأحاديث الدخان، وأحاديث الريح التي تقبض كل نفس مؤمنة، وأحاديث النار التي تظهر، وأحاديث الخسوف وغيرها.
[دليل الإيمان بالموت]
جـ: قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27] وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قال
(1/56)
________________________________________
تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] وغير ذلك من الآيات، وفيه من الأحاديث ما لا يحصى، والأمر مشاهد لا يجهله أحد وليس فيه شك ولا تردد، ولكن عناد واستكبار ولا يعمل على موجب إيمانه به وبما بعده إلا عباد الله المخلصون، ونؤمن أن كل من مات أو قتل أو بأي سبب كان إن ذلك بأجله لم ينقص منه شيئا، قال الله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2] وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]
[دليل فتنة القبر ونعيمه أو عذابه من الكتاب]
س: ما دليل فتنة القبر ونعيمه أو عذابه من الكتاب؟ جـ: قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وقال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46] وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] الآية، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] وغير ذلك من الآيات.
[دليل فتنة القبر ونعيمه أو عذابه من السنة]
جـ: الأحاديث الصحيحة في ذلك بلغت مبلغ التواتر، فمنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد
(1/57)
________________________________________
الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة. فيراهما جميعا» - قال قتادة: وذُكر لنا أنه يفسح في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس - قال: «وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت. ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» (1) . وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» (2) . وحديث القبرين وفيه: «إنهما ليعذبان» (3) . وحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا فقال: " يهود تعذب في قبورها» (4) . وحديث أسماء: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة» (5) وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر» (6) . «وفي قصة الكسوف وأمرهم صلى الله عليه وسلم " أن يتعوذوا من عذاب القبر» (7) . وكل هذه الأحاديث في الصحيح،
_________
(1) رواه البخاري (1338، 1374) ، ومسلم (الجنة / 3231) .
(2) رواه البخاري (1379، 3240) ، ومسلم (الجنة / 65، 66) .
(3) رواه البخاري (216، 218) ، ومسلم (الطهارة / 111) .
(4) رواه البخاري (1375) ، ومسلم (الجنة / 69) .
(5) رواه البخاري (1373) .
(6) رواه البخاري (1372) ، ومسلم (مساجد / 125، 126) .
(7) رواه البخاري (1050) ، ومسلم (الكسوف / 8) .
(1/58)
________________________________________
وقد سقنا منها نحو ستين حديثا من طرق ثابتة عن الجماعة من الصحابة يرفعونها في شرحنا على (السلَّم) فليراجع.
[دليل البعث من القبور]
جـ: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 5] إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6 - 7] وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67] الآيات، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ - وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 77 - 79] إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33] إلى آخر السورة، وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] وغيرها من الآيات، وكثيرا ما يضرب الله تعالى لذلك مثلا بإحيائه الأرض بالماء فتصبح تهتز مخضرة بالنبات بعد موتها بالجدب إذ كانت قبل هامدة، بذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في حديث العقيلي الطويل حيث قال: «ولعمر إلهك ما يدع على ظهرها من مصرع قتيل
(1/59)
________________________________________
ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تجعله من عند رأسه فيستوى جالسا، فيقول: ربك (مهيم) ؟ لما كان فيه. يقول: رب، أمس اليوم. ولعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله. فقلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعدما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها وهي مدرة بالية فقلت: لا تحيا أبدا. ثم أرسل ربك عز وجل عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي بشرية واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فيخرجون من الأصواء من مصارعهم» (1) . الحديث، وغيره كثير.
[حكم من كذب البعث]
جـ: هو كافر بالله عز وجل وبكتبه ورسله قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5]
_________
(1) (ضعيف) رواه أحمد (4 / 13، 14) في زوائده، قال الهيثمي في المجمع (10 / 338) : رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط: أن لقيطا. اهـ. قال الشيخ البنا في الفتح الرباني (24 / 107) : وأورده الحاكم في المستدرك عن طريق يعقوب بن عيسى بنحوه، وقال: هذا حديث جامع في الباب، صحيح الإسناد، كلهم مدنيون ولم يخرجاه. وقال الذهبي يعقوب بن عيسى بن عيسى الزهري: ضعيف. اهـ. وفي سند أحمد دلهم بن الأسود وعبد الرحمن بن عياش، قال الذهبي عن دلهم: لا يعرف. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وقال أيضا عن عبد الرحمن: مقبول. قال الألباني عن أبي دلهم وجده: إنهما مجهولان. وضعف إسناد الحديث بذلك. (ظلال الجنة 1 / 231) .
(1/60)
________________________________________
وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] وغيرها من الآيات، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» (1) .
[دليل النفخ في الصور وكم نفخات ينفخ فيه]
ج: قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] ففي هذه الآية ذكر نفختين الأولى للصعق والثانية للبعث، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] الآية، فمن فسر الفزع في هذه الآية بالصعق فهي النفخة الأولى المذكورة في آية الزمر، ويؤيده حديث مسلم وفيه: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا (2) - قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال - فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله، أو قال: ينزل الله مطرا كأنه الطل، أو قال: الظل، شعبة الشاك فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فإذا هم قيام ينظرون» . الحديث، ومن فسر الفزع بدون الصعق فهي نفخة ثالثة متقدمة على النفختين، ويؤيده ما في حديث
_________
(1) رواه البخاري (4974، 3193) ، وأحمد (2 / 317، 350، 350) .
(2) رواه مسلم (الفتن / 116) .
(1/61)
________________________________________
الصور الطويل، فإن فيه ذكر ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين.
[صفة الحشر من الكتاب]
جـ: في صفته آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] الآية، وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] الآيات، وقوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 85 - 86] الآيات، وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً - فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ - وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ - وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 7 - 10] الآيات، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108] وهو نقل الأقدام إلى المحشر. كأخفاف الإبل، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97] وغير ذلك من الآيات كثير.
[صفة الحشر من السنة]
جـ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسى معهم حيث أمسوا» (1) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: " أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم
_________
(1) رواه البخاري (6522) ، ومسلم (الجنة / 59) .
(1/62)
________________________________________
القيامة» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] الآية، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم» (2) . الحديث، «وقالت عائشة رضي الله عنها في ذلك: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض. فقال: " الأمر أشد من أن يهمهم ذلك» (3) .
[صفة الموقف من الكتاب]
جـ: قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 42 - 43] الآيات، وقال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] الآيات، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] الآيات، وقال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] الآيات، وقال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] الآيات، وغير ذلك كثير.
[صفة الموقف من السنة]
جـ: فيها أحاديث كثيرة منها: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: « {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» (4) . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) رواه البخاري (6523) ، ومسلم (المنافقين / 54) .
(2) رواه البخاري (6524، 6525، 6526) ، ومسلم (الجنة / 57، 58) .
(3) رواه البخاري (6527) ، ومسلم (الجنة / 56) .
(4) رواه البخاري (6531، 4939) ، ومسلم (الجنة / 60) .
(1/63)
________________________________________
قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم» (1) . وهذه في الصحيح، وغيرها كثير.
[صفة العرض والحساب من الكتاب]
جـ: قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] الآيات، وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] الآيات، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 83 - 85] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8] وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] وقال تعالى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] الآيات، وغيرها كثيرة.
[صفة العرض والحساب من السنة]
جـ: فيه أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» . «قالت عائشة رضي الله عنها: أليس يقول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] ؟ قال: " ذلك العرض» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال: قد سئلت ما هو أيسر من ذلك» - وفي رواية: «فقد
_________
(1) رواه البخاري (6532) ، ومسلم (الجنة / 61) .
(2) رواه البخاري (6536، 6537) ، ومسلم (الجنة / 79، 80) .
(1/64)
________________________________________
سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: " «وما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «يدنو أحدكم - يعني المؤمنين - من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» (2) وغير ذلك من الأحاديث.
[صفة نشر الصحف من الكتاب]
جـ: قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا - اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13 - 14] وقال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] إلى قوله: {الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] وفي آية الانشقاق: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 7] وقال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] فهذا يدل على أن من يؤتى كتابه بيمينه يؤتاه من أمامه، ومن يؤتى كتابه بشماله
_________
(1) رواه البخاري (1413، 1417) ، ومسلم (الزكاة / 67) .
(2) رواه البخاري (2441، 4685) ، ومسلم (التوبة / 52) .
(1/65)
________________________________________
يؤتاه من وراء ظهره، والعياذ بالله عز وجل.
[دليل نشر الصحف من السنة]
جـ: فيه أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول: رب أعرف مرتين، فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الآخرون أو الكفار فينادى عليهم على رؤوس الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: " يا عائشة أما عند ثلاث فلا، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا، وحين يخرج عنق من النار» (1) . الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود، وغير ذلك من الأحاديث.
[دليل الميزان من الكتاب وبيان صفة الوزن]
جـ: قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]
_________
(1) (حسن) رواه أحمد (6 / 110) ، واللفظ له، وفي سنده ابن لهيعة، وقال الهيثمي في المجمع: قلت عند أبي داود طرف منه - رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال الزبيدي بعد سرد الحديث: إسناده ثقات سوى ابن لهيعة. اهـ (إتحاف 10 / 473) ، ورواه أبو داود (4755) ، والحاكم (4 / 578) ، قال العراقي: رواه أبو داود من رواية الحسن عنها، ثم قال: وإسناده جيد. اهـ (إتحاف 10 / 473) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله عنها وأم سلمة، ووافقه على ما قال الذهبي. وقد سكت عنه الإمام أبو داود، وضعفه الألباني، وسكت عنه المزي.
(1/66)
________________________________________
وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] وقال تعالى في الكافرين: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] وغير ذلك من الآيات.
[دليل الميزان من السنة وبيان صفة الوزن]
جـ: فيه أحاديث كثيرة، منها حديث البطاقة التي فيها الشهادتان، وأنها ترجح بتسعين سجلا (1) من السيئات، كل سجل منها مدى البصر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في ابن مسعود رضي الله عنه: «أتعجبون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " - وقال -: " اقرءوا ": {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] » (3) وغير ذلك من الأحاديث.
_________
(1) (صحيح) رواه أحمد (2 / 213) ، والترمذي (2639) ، وابن ماجه (4300) ، والحاكم (1 / 6) ، والبغوي في شرح السنة (15 / 133، 134) ، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد صححه الألباني وقال: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي: ما احتج مسلم بمحمد بن عمرو منفردا بل بانضمامه إلى غيره. اهـ.
(2) (حسن) رواه أحمد (1 / 420، 421) ، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، ورواه أبو يعلى (9 / 5310) ، وإسناده حسن من أجل عاصم بن بهدلة، قال الهيثمي في المجمع (9 / 289) : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق (وذكر بعض ألفاظه) وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبو يعلى رجال الصحيح. اهـ.
(3) رواه البخاري (4729) ، ومسلم (الجنة والنار / 18) .
(1/67)
________________________________________
[دليل الصراط من الكتاب]
جـ: قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72] وقال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] الآيات.
[دليل الصراط من السنة]
جـ: فيه أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: «يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم "، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: " مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عُقيفاء تكون بنجد، يقال لها السعدان، يمر المؤمن عليها كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبا» (1) . الحديث في الصحيح، وقال أبو سعيد رضي الله عنه: بلغني أن الجسر أدق من الشّعرة وأحد من السيف " (2) .
[دليل القصاص من الكتاب]
جـ: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [غافر: 20] الآيات، وقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69] الآيات.
[دليل القصاص وصفته من السنة]
_________
(1) رواه البخاري (7439) ، ومسلم (الإيمان / 302) .
(2) رواه مسلم (الإيمان / 302) ، وأحمد (6 / 110) عن عائشة.
(1/68)
________________________________________
جـ: فيه أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منه اليوم فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه» (2) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقص لبعضهم من بعض» (3) مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. كلها في الصحيح، وغيرها كثير.
[دليل الحوض من الكتاب]
جـ: قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] السورة.
[دليل الحوض وصفته من السنة]
جـ: فيه أحاديث كثيرة بلغت مبلغ التواتر منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» (4) وقوله صلى الله عليه وسلم: «إني فرط لكم وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن» (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدا» (6) وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا
_________
(1) رواه البخاري (6864) ، ومسلم (القسامة / 28) .
(2) رواه البخاري (6534، 2449) .
(3) رواه البخاري (6535) .
(4) رواه البخاري (6575، 6576، 6573) ، ومسلم (الفضائل / 25، 26، 32) .
(5) رواه البخاري (1344، 4085) .
(6) رواه البخاري (6579) ، ومسلم (الفضائل / 27) .
(1/69)
________________________________________
الكوثر» (1) . وغير ذلك من الأحاديث فيه كثيرة.
[دليل الإيمان بالجنة والنار]
جـ: قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ - وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 24 - 25] الآية، وغيرها ما لا يحصى. وفي الصحيح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل: «ولك الحمد، أنت الحق ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، النبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق» (2) . الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (3) . أخرجاه، وفي رواية: «من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء» .
[معنى الإيمان بالجنة والنار]
جـ: معناه التصديق الجازم بوجودهما وأنهما مخلوقتان الآن، وأنهما باقيتان بإبقاء الله لهما لا تفنيان أبدا، ويدخل في ذلك كل ما احتوت عليه هذه من النعيم وتلك من العذاب.
[الدليل على وجود الجنة والنار الآن]
جـ: أخبرنا الله عز وجل أنهما معدتان، فقال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وقال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] وأخبرنا أنه تعالى
_________
(1) رواه البخاري (4964، 6581) .
(2) رواه البخاري (1120) ، ومسلم (مسافرين / 199) .
(3) رواه البخاري (3435) ، ومسلم (الإيمان / 46) .
(1/70)
________________________________________
أسكن آدم وزوجه الجنة قبل أكلهما من الشجرة، وأخبرنا تعالى بأن الكفار يعرضون على النار غدوا وعشيا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء» (1) . الحديث، وتقدم في فتنة وعذاب القبر: «إذا مات أحدكم يعرض عليه مقعده» (2) الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها عز وجل فقالت: ربي أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: اذهب فانظر إليها» (6) . الحديث، وقد عرضتا عليه صلى الله عليه وسلم في مقامه يوم كسفت الشمس وعرضت عليه ليلة الإسراء، وفي ذلك من الأحاديث الصحيحة ما لا يحصى.
[الدليل على بقاء الجنة والنار وأنهما لا يفنيان]
_________
(1) رواه البخاري (3241) ، 5198) .
(2) رواه البخاري (1379) ، ومسلم (الجنة / 65، 66) .
(3) رواه البخاري (533، 534، 535) ، ومسلم (مساجد / 180، 184، 186) .
(4) رواه البخاري (537، 3260) ، ومسلم (مساجد 185، 186) .
(5) رواه البخاري (3261، 3262، 3263) ، ومسلم (السلام / 78، 79، 80) .
(6) (إسناده حسن، وهو صحيح لغيره) رواه النسائي (3763) ، وأحمد (2 / 332، 334، 354) ، وأبو داود (4744) وسكت عنه، والترمذي (2560) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم (1 / 27) ، وقال الألباني: حسن صحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(1/71)
________________________________________
جـ: قال الله تعالى في الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] وقال تعالى فيها: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وقال تعالى: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] إلى قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] وغيرها من الآيات، فأخبر تعالى بأبديتها وأبدية حياة أهلها، وعدم انقطاعها عنهم وعدم خروجهم منها، وكذلك النار قال تعالى فيها: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 169] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64 - 65] وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23] وقال تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] وقال تعالى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] وقال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [طه: 74] وغير ذلك من الآيات، فأخبرنا تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن أهل النار الذين هم أهلها خلقت لهم وخلقوا لها، أنهم خالدون فيها أبدا، فنفى تعالى خروجهم منها بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] ونفى انقطاعها عنهم بقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] ونفى فناءهم فيها بقوله: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الأعلى: 13] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون» (1) . الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 306) .
(1/72)
________________________________________
صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» (1) وفي لفظ: كل خالد فيما هو فيه، وفي رواية: «ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] » ، وهي في الصحيح، وفي ذلك أحاديث غير ما ذكرنا.
[الدليل على أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى في الدار الآخرة]
جـ: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ - إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وقال تعالى في الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فإذا حجب أعداءه لم يحجب أولياءه، وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: " إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا» (2) وقوله: كما ترون هذا، أي كرؤيتكم هذا القمر، تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، كما أن قوله في حديث تكلم الله عز وجل بالوحي: " ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان " (3) . وهذا تشبيه للسماع بالسماع، لا للمسموع بالمسموع، تعالى الله أن يشبهه في ذاته أو صفاته شيء من خلقه، وتنزه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل شيء من
_________
(1) رواه البخاري (4730، 6548) ، ومسلم (الجنة / 40، 43) .
(2) رواه البخاري (554، 573، 4851) ومسلم (مساجد / 211) .
(3) رواه البخاري (4701) .
(1/73)
________________________________________
كلامه على التشبيه، وهو أعلم الخلق بالله عز وجل، وفي حديث صهيب عند مسلم: «فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل» (1) ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وفي الباب أحاديث كثيرة صحيحة صريحة ذكرنا منها في شرح (سلم الوصول) خمسة وأربعين حديثا عن أكثر من ثلاثين صحابيا. ومن رد ذلك فقد كذب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، وكان من الذين قال الله تعالى فيهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] نسأل الله تعالى العفو والعافية، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه آمين.
[دليل الإيمان بالشفاعة وممن تكون ولمن تكون]
جـ: قد أثبت الله عز وجل الشفاعة في كتابه في مواضع كثيرة بقيود ثقيلة، وأخبرنا تعالى أنها ملك له ليس لأحد فيها شيء، فقال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] فأما متى تكون؟ فأخبرنا عز وجل أنها لا تكون إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وأما ممن تكون؟ فكما أخبرنا تعالى أنه لا تكون إلا من بعد إذنه، أخبرنا أيضا أنه لا يأذن إلا لأوليائه المرتضين الأخيار كما قال تعالى: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] وقال: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] وأما لمن تكون؟ فأخبرنا أنه لا يأذن أن يشفع إلا لمن ارتضى كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 297، 298) .
(1/74)
________________________________________
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] وهو سبحانه لا يرتضي إلا أهل التوحيد والإخلاص، وأما غيرهم فقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] وقال تعالى عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ - وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] وقال تعالى فيهم: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقد «أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوتي الشفاعة، ثم أخبر أنه يأتي فيسجد تحت العرش ويحمد ربه بمحامد يعلمه إياها، لا يبدأ بالشفاعة أولا حتى يقال له: " ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع» (1) . الحديث، ثم أخبر أنه لا يشفع في جميع العصاة من أهل التوحيد دفعة واحدة، بل قال: «فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة» ، ثم يرجع فيسجد كذلك فيحد له حدا إلى آخر حديث الشفاعة، وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: «من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه» (2) .
[أنواع الشفاعة الست وأعظمها]
جـ: أعظمها الشفاعة العظمى في موقف القيامة في أن يأتي الله تعالى لفصل القضاء بين عباده وهي خاصة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل كما قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] وذلك أن الناس إذا ضاق بهم الموقف وطال المقام واشتد القلق وألجمهم العرق التمسوا الشفاعة في أن يفصل الله بينهم فيأتون آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى بن مريم
_________
(1) رواه البخاري (3340، 4476، 4712) ، ومسلم (الإيمان / 322، 326) .
(2) رواه البخاري (99، 6570) .
(1/75)
________________________________________
وكلهم يقول نفسي نفسي إلى أن ينتهوا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها» (1) كما جاء مفصلا في الصحيحين وغيرهما.
الثانية: الشفاعة في استفتاح باب الجنة، وأول من يستفتح بابها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخلها من الأمم أمته.
الثالثة: الشفاعة في أقوام قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها.
الرابعة: في من دخلها من أهل التوحيد أن يخرجوا منها فيخرجون قد امتحشوا وصاروا فحما، فيطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل.
الخامسة: الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة وهذه الثلاث ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم ولكنه هو المقدم فيها ثم بعده الأنبياء والملائكة والأولياء والأفراط يشفعون ثم يخرج الله تعالى برحمته من النار أقواما بدون شفاعة لا يحصيهم إلا الله فيدخلهم الجنة.
السادسة: الشفاعة في تخفيف عذاب بعض الكفار، وهذه خاصة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب كما في مسلم وغيره: «ولا تزاد جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وعزتك، ويبقى في الجنة» (2) فضل عمّن دخلها فينشئ الله تعالى أقواما فيدخلهم، وفي ذلك من النصوص ما لا يحصى فمن شاءها وجدها من الكتاب والسنة.
_________
(1) رواه البخاري (3340) ، ومسلم (الإيمان / 322، 326) .
(2) رواه البخاري (4848، 4849، 4850) ، ومسلم (الجنة / 37، 38، 39) .
(1/76)
________________________________________
[معنى حديث لن يدخل الجنة أحد عمله والجمع بينه وبين آية وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]
جـ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله - قالوا: يا رسول الله ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أني يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . وفي رواية: «سددوا وقاربوا وأبشروا فأنه لن يدخل الجنة أحد عمله - قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل» (1) .
س: ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
جـ: لا منافاة بينهما بحمد الله فإن الباء المثبتة في الآية هي باء السببية لأن الأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة، لا يحصل إلا بها إذ المسبب وجوده بوجود سببه، والمنفي في الحديث هي باء الثمنية، فإن العبد لو عمر عمر الدنيا وهو يصوم النهار ويقوم الليل ويجتنب المعاصي كلها لم يقابل كل عمله عشر معشار أصغر نعم الله عليه الظاهرة والباطنة، فكيف تكون ثمنا لدخول الجنة، " {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118]
[دليل الإيمان بالقدر جملة]
جـ: قال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] وقال تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] الآية.
_________
(1) رواه البخاري (5673) ، ومسلم (المنافقين / 71- 78) .
(1/77)
________________________________________
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] وقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156 - 157] وغير ذلك من الآيات، وتقدم في حديث جبريل: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: " «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (4) وغير ذلك من الأحاديث.
[مراتب الإيمان بالقدر]
جـ: الإيمان بالقدر على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه تعالى قد علم جميع خلقه قبل أن يخلقهم، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأقوالهم وأعمالهم وجميع حركاتهم وسكناتهم وأسرارهم وعلانيتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار. المرتبة الثانية: الإيمان بكتابة ذلك، وأنه تعالى قد كتب جميع ما سبق به علمه أنه كائن، وفي ضمن ذلك الإيمان باللوح
_________
(1) رواه البخاري (50، 4777) ، ومسلم (الإيمان / 1، 5) .
(2) (صحيح رواه أحمد (5 / 182، 183، 185، 189) ، وأبو داود (4699) ، وابن ماجه (77) ، وسكت عنه الإمام أبو داود وقد صححه الألباني.
(3) رواه مسلم (القدر / 34) ، وابن ماجه (79) .
(4) رواه مسلم (القدر / 18) .
(1/78)
________________________________________
والقلم. المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهما متلازمتان من جهة ما كان وما سيكون ولا ملازمة بينهما من جهة ما لم يكن ولا هو كائن؛ فما شاء الله تعالى فهو كائن بقدرته لا محالة وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله إياه لا لعدم قدرة الله عليه، تعالى الله عن ذلك وعز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] المرتبة الرابعة: الإيمان بأن الله تعالى خالق كل شيء، وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا فيما بينهما إلا والله خالقها وخالق حركاتها وسكناتها سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه.
[دليل المرتبة الأولى الإيمان بالعلم]
جـ: قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ} [سبأ: 3] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] الآيات، وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
(1/79)
________________________________________
وفي الصحيح قال رجل: «يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: " نعم ". قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: " كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له» (1) «وفيه: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين؟ فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين» (2) وفي مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» (3) وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» (4) وفيه: وقال صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من نفس إلا وقد علم الله منزلها من الجنة والنار» قالوا: يا رسول الله، فلم نعمل أفلا نتكل، قال: «لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (5) ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5 - 6]- إلى قوله - {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] وغير ذلك من الأحاديث.
[دليل المرتبة الثانية الإيمان بكتابة المقادير وما يدخلها من التقادير]
جـ: قال الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] وقال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70] وقال تعالى في محاجة موسى وفرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52]
_________
(1) رواه البخاري (6596، 7551) ، ومسلم (القدر / 9) .
(2) رواه البخاري (1383) ، ومسلم (القدر / 27، 28) .
(3) رواه مسلم (القدر / 31) .
(4) رواه البخاري (2898، 4202، 4207) ، ومسلم (الإيمان / 179) .
(5) رواه البخاري (1362، 4945، 4946) ، ومسلم (القدر / 6، 7) .
(1/80)
________________________________________
وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] وغير ذلك من الآيات. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» (1) . رواه مسلم، وفيه قال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: «لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» ، قال: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر» - وفي رواية - «كل عامل ميسر لعمله» (2) وغير ذلك من الأحاديث.
جـ: يدخل في ذلك خمسة من التقادير كلها ترجع إلى العلم، التقدير الأول: كتابة ذلك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، عندما خلق الله القلم وهو التقدير الأزلي. الثاني: التقدير العمري، حين أخذ الميثاق يوم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الثالث: التقدير العمري أيضا عند تخليق النطفة في الرحم. الرابع: التقدير الحولي في ليلة القدر. الخامس: التقدير اليومي، وهو تنفيذ كل ذلك إلى مواضعه.
[دليل التقدير الأزلي]
جـ: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] الآيات، وفي الصحيح: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) هو رواية في الحديث السابق.
(2) رواه مسلم (القدر / 8) .
(1/81)
________________________________________
«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعرشه على الماء» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» (2) . الحديث في السنن، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة جف القلم بما هو كائن» (3) . الحديث في البخاري، وغير ذلك كثير.
[دليل التقدير العمري يوم الميثاق]
جـ: قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] الآيات، وروى إسحاق بن راهويه «أن رجلا قال: يا رسول الله، أتبتدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال: " إن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار» (4) . وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية
_________
(1) رواه مسلم (القدر / 16) ، وأحمد (2 / 169) ، والترمذي (2156) .
(2) صحيح رواه أحمد (5 / 317) ، وأبو داود (4700) ، والترمذي (2155) ، وابن أبي عاصم (102، 103، 104، 105) قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وسكت عنه أبو داود، وقد صححه الشيخ الألباني.
(3) رواه البخاري (5076) .
(4) (ضعيف) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (326) ، ورواه أيضا الطبري في تفسيره (9 / 80، 81) قال الحافظ في المطالب: حديث غريب، وعلق عليه الأعظمي بقوله: أخرجه البزار أيضا، قال البوصيري: رواه إسحاق والبزار بسند ضعيف (1 / 89) .
(1/82)
________________________________________
: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» (1) . الحديث بطوله، وفي الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان» ؟ فقلنا، لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: «هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيه ولا ينقص منهم أبدا» (2) فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟! فقال: «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فنبذهما ثم
_________
(1) (صحيح) رواه أحمد (1 / 44، 45) ، وأبو داود (4703، 4704) ، والترمذي (3075) ، والحاكم (2 / 324، 325) ، والسنة لابن أبي عاصم (196، 201) ، وقد سكت عنه الإمام أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني بعد أن ساق طرقه في الصحيحة (1623) : وجملة القول أن الحديث صحيح بل متواتر المعنى كما سبق، اهـ.
(2) (حسن) رواه أحمد (2 / 167) ، والترمذي (2141) وقال: هذا حديث حسن صحح غريب، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وقد حسن إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (848) .
(1/83)
________________________________________
قال: «فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[دليل التقدير العمري الذي عند أول تخليق النطفة]
جـ: قال الله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (1) . وفيه روايات غير هذه، عن جماعة من الصحابة بألفاظ أخر والمعنى واحد.
[دليل التقدير الحولي في ليلة القدر]
جـ: قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 4 - 5] الآيات. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت أو حياة ورزق ومطر، حتى الحجاج يقال: يحج فلان، ويحج فلان، وكذا قال الحسن وسعيد بن جبير ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم.
_________
(1) رواه البخاري (3208، 3332) ، ومسلم (القدر / 1) .
(1/84)
________________________________________
[دليل التقدير اليومي]
جـ: قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وفي صحيح الحاكم: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن مما خلق الله تعالى لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة أو مرة، ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، فذلك قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] (1) . وكل هذه التقادير كالتفصيل من القدر السابق، وهو الأزلي الذي أمر الله تعالى القلم عندما خلقه أن يكتبه في اللوح المحفوظ، وبذلك فسر ابن عمر وابن عباس رضي الله عنْهما قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] (2) . وكل ذلك صادر عن علم الله، الذي هو صفته تبارك وتعالى.
[ما يقتضيه سبق المقادير بالشقاوة والسعادة]
جـ: اتفقت جميع الكتب السماوية والسنن النبوية على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد والحرص على العمل الصالح، ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبق المقادير وجريانها وجفوف القلم بها قال بعضهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال: «لا، اعملوا فكل ميسر» ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآية، فالله سبحانه وتعالى قدر المقادير وهيأ لها
_________
(1) (ضعيف) رواه الحاكم (2 / 474) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: اسم أبي حمزة ثابت وهو واه بمرة.
(2) (صحيح) رواه الحاكم (2 / 454) ، وابن جرير (25 / 94، 95) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(1/85)
________________________________________
أسبابا، وهو الحكيم بما نصبه من الأسباب في المعاش والمعاد، وقد يسر كلا من خلقه لما خلقه له في الدنيا والآخرة، فهو مهيأ له ميسر له، فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشدّ اجتهادا في فعلها والقيام بها وأعظم منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه، وقد فقه هذا كل الفقه من قال من الصحابة لما سمع أحاديث القدر: ما كنت أشدّ اجتهادا مني الآن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: «أرأيت دواء نتداوى به ورقى نسترقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: " هي من قدر الله» (2) . يعني أن الله تعالى قدر الخير والشر وأسباب كل منهما.
[دليل المرتبة الثالثة وهي الإيمان بالمشيئة]
ج: قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] وقال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4] وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
_________
(1) رواه مسلم (القدر / 34) ، وابن ماجه (79) .
(2) (حسن) رواه أحمد (3 / 421) ، والترمذي (2065) ، وابن ماجه (3437) قال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم (4 / 199) من حديث حكيم بن حزام وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ورواه أيضا ابن حبان بإسناد حسن من حديث كعب بن مالك، وقد ساق الشيخ الألباني عدة طرق ومرويات للحديث، ثم قال: وبالجملة فأرجو أن يصل الحديث إلى مرتبة الحسن، اهـ. (مشكلة الفقر ح 11) .
(1/86)
________________________________________
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وغير ذلك من الآيات ما لا يحصى. وقال صلى الله عليه وسلم: «قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء» (1) وقال صلى الله عليه وسلم في نومهم في الوادي: «إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء» (2) وقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» (3) «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله وحده» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله تعالى به خيرا يفقهه في الدين» (4) «وإذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها، وإذا أراد الله هلكة أمة عذبها ونبيها حي» (5) . وغير ذلك من الأحاديث في ذكر المشيئة والإرادة ما لا يحصى.
[الإرادة في النصوص جاءت على معنيين]
_________
(1) رواه مسلم (القدر / 17) .
(2) رواه البخاري (595، 1471) .
(3) رواه البخاري (1432) ، ومسلم (البر والصلة / 145) .
(4) رواه البخاري (71، 3116، 7321) ، ومسلم (الأمارة / 175) .
(5) رواه مسلم (الفضائل / 24) .
(1/87)
________________________________________
جـ: اعلم أن الإرادة في النصوص جاءت على معنيين: إرادة كونية قدرية وهي المشيئة ولا ملازمة بينها وبين المحبة والرضا بل يدخل فيها الكفر والإيمان والطاعات والعصيان والمرضيّ والمحبوب والمكروه وضده، وهذه الإرادة ليس لأحد خروج منها ولا محيص عنها كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] الآيات، وغيرها. وإرادة دينية شرعية مختصة بمراضي الله ومحابه، وعلى مقتضاها أمر عباده ونهاهم كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] وغيرها من الآيات، وهذه الإرادة لا يحصل اتباعها إلا لمن سبقت له بذلك الإرادة الكونية، فتجتمع الإرادة الكونية والشرعية في حق المؤمن الطائع وتنفرد الكونية في حق الفاجر العاصي، فالله سبحانه دعا عباده عامة إلى مرضاته، وهدى لإجابته من شاء منهم كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فعمم سبحانه الدعوة وخص الهداية بمن شاء {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 30]
[دليل المرتبة الرابعة من الإيمان بالقدر وهي مرتبة الخلق]
جـ: قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3] وقال
(1/88)
________________________________________
تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40] وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] وقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] وغير ذلك من الآيات، وللبخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة مرفوعا: «أن الله يصنع كل صانع وصنعته» (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها إنك وليها ومولاها» (2) وغير ذلك من الأحاديث.
[معنى قول النبي عليه السلام والخير كله في يديك والشر ليس إليك]
جـ: معنى ذلك أن أفعال الله عز وجل كلها خير محض من حيث اتصافه بها وصدورها عنه ليس فيها شر بوجه، فإنه تعالى حكم عدل وجميع أفعاله حكمة وعدل يضع الأشياء مواضعها اللائقة بها كما هي معلومة عنده سبحانه وتعالى، وما كان في نفس المقدور من شر فمن جهة إضافته إلى العبد لما يلحقه من المهالك، وذلك بما كسبت يداه جزاءا وفاقا، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
_________
(1) رواه البخاري (73) .
(2) رواه مسلم (الذكر / 73) .
(3) رواه مسلم (مسافرين / 201) .
(1/89)
________________________________________
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]
[للعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة وإرادة]
جـ: نعم للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة وإرادة، وأفعالهم تضاف إليهم حقيقة وبحسبها كلفوا وعليها يثابون ويعاقبون، ولم يكلفهم الله إلا وسعهم، وقد أثبت لهم ذلك في الكتاب والسنة ووصفهم به، ولكنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، ولا يشاءون إلا أن يشاء الله، ولا يفعلون إلا بجعله إياهم فاعلين، كما تقدم في نصوص المشيئة والإرادة والخلق، فكما لم يوجدوا أنفسهم لم يوجدوا أفعالهم، فقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم تابعة لقدرته ومشيئته وإرادته وفعله، إذ هو خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم، وليس مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله وإرادته وقدرته وأفعاله، كما ليس هم إياه، تعالى الله عن ذلك، بل أفعالهم المخلوقة لله قائمة بهم لائقة بهم مضافة إليهم حقيقة، وهي من آثار أفعال الله القائمة به اللائقة المضافة إليه حقيقة، فالله فاعل حقيقة، والعبد منفعل حقيقة، والله هاد حقيقة، والعبد مهتد حقيقة، ولهذا أضاف كلا من الفعلين إلى من قام به، فقال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} [الأعراف: 178] فإضافة الهداية إلى الله حقيقة وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة، فكما ليس الهادي هو عين المهتدي، فكذلك ليس الهداية هي عين الاهتداء، وكذلك يضل الله من يشاء حقيقة وذلك العبد يكون ضالا حقيقة، وهكذا جميع
(1/90)
________________________________________
تصرف الله في عباده، فمن أضاف الفعل والانفعال إلى العبد كفر، ومن أضافه إلى الله كفر، ومن أضاف الفعل إلى الخالق والانفعال إلى المخلوق كلاهما حقيقة، فهو المؤمن حقيقة.
[أليس ممكنا في قدرة الله أن يجعل كل عباده مؤمنين]
جـ: بلى هو قادر على ذلك كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] الآية، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] وغيرها من الآيات، ولكن هذا الذي فعله بهم هو مقتضى حكمته وموجب ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته؛ فقول القائل: لم كان من عباده الطائع والعاصي كقول من قال: لم كان من أسمائه الضار النافع، والمعطي والمانع، والخافض الرافع، والمنعم والمنتقم. ونحو ذلك؛ إذ أفعاله تعالى هي مقتضى أسمائه وآثار صفاته، فالاعتراض عليه في أفعاله اعتراض عليه في أسمائه وصفاته، بل وعلى إلهيته وربَوبيته: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ - لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 22 - 23]
[منزلة الإيمان بالقدر من الدين]
جـ: الإيمان بالقدر نظام التوحيد كما أن الإيمان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره هي نظام الشرع، ولا ينتظم أمر الدين ويستقيم إلا لمن آمن بالقدر وامتثل الشرع، كما قرر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالقدر ثم قال لمن قال له: «أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ، فمن نفى القدر زاعما منافاته للشرع فقد عطل الله تعالى عن علمه وقدرته وجعل العبد مستقلا بأفعاله
(1/91)
________________________________________
خالقا لها، فأثبت مع الله تعالى خالقا، بل أثبت أن (جميع المخلوقين خالقون) ، ومن أثبته محتجا به على الشرع محاربا له به نافيا عن العبد قدرته واختياره التي منحه الله تعالى إياها وكلفه بحسبها زاعما أن الله كلف عباده ما لا يطاق، كتكليف الأعمى بنقط المصحف، فقد نسب الله تعالى إلى الظلم وكان إمامه في ذلك إبليس لعنه الله تعالى إذ يقول: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] وأما المؤمنون حقا فيؤمنون بالقدر خيره وشره وأن الله خالق ذلك كله، وينقادون للشرع أمره ونهيه ويحكمونه في أنفسهم سرا وجهرا، والهداية والإضلال بيد الله يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله، وهو أعلم بمواقع فضله وعدله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 30] وله في ذلك الحكمة البالغة والحجة الدامغة، وأن الثواب والعقاب مترتب على الشرع فعلا وتركا على القدر، وإنما يعزون أنفسهم بالقدر عند المصائب، فإذا وفقوا لحسنه عرفوا الحق لأهله فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] ولم يقولوا كما قال الفاجر: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] وإذا اقترفوا سيئة قالوا كما قال الأبوان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ولم يقولوا كقول الشيطان الرجيم: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] وإذا أصابتهم مصيبة قالوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ولم يقولوا كما قال الذين كفروا: {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]
(1/92)
________________________________________
[شعب الإيمان]
جـ: قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون» ، وفي رواية: «بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» " (1) .
جـ: قد عدها جماعة من شراح الحديث وصنفوا فيها التصانيف فأجادوا وأفادوا، ولكن ليس معرفة تعدادها شرطا في الإيمان بل يكفي الإيمان بها جملة، وهي لا تخرج عن الكتاب والسنة، فعلى العبد امتثال أوامرهما واجتناب زواجرهما وتصديق أخبارهما، وقد استكمل شعب الإيمان والذي عددوه حق كله من (أمور الإيمان) ، ولكن القطع بأنه هو مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث يحتاج إلى توقيف.
س: أذكر خلاصة ما عدوه؟
جـ: قد لخص الحافظ في الفتح ما أورده ابن حبان بقوله: إن هذه الشعب تتفرع من أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن، فأعمال القلب المعتقدات والنيات على أربع وعشرين خصلة،
_________
(1) رواه البخاري (9) ، ومسلم (الإيمان / 57، 58) .
(1/93)
________________________________________
الإيمان بالله، ويدخل فيها الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] واعتقاد حدوث ما دونه والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومحبة الله والحب والبغض فيه ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واتباع سنته والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق والتوبة والخوف والرجاء والشكر والوفاء والصبر والرضا بالقضاء والتوكل والرحمة والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير وترك التكبر والعجب وترك الحسد وترك الحقد وترك الغضب، وأعمال اللسان، وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد وتلاوة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، والدعاء والذكر ويدخل فيه الاستغفار واجتناب اللغو وأعمال البدن، وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة منها ما يتعلق بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهر حسا وحكما ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضا ونفلا والاعتكاف والتماس ليلة القدر والحج والعمرة والطواف كذلك، والفرار بالدين ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك والوفاء بالنذر والتحري في الإيمان وأداء الكفارات، ومنها ما يتعلق بالاتباع وهي ست خصال: التعفف بالنكاح والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين ويدخل فيه اجتناب العقوق وتربية الأولاد وصلة الرحم وطاعة السادة والرفق بالعبيد، ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمارة مع العدل ومتابعة الجماعة وطاعة أولي الأمر
(1/94)
________________________________________
والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والجهاد، ومنه المرابطة وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس والقرض مع وفائه وإكرام الجار وحسن المعاملة، ويدخل فيه جمع المال من حله وإنفاقه في حقه، ويدخل فيه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام وتشميت العاطس وكف الضرر عن الناس واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها سبعا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضها إلى بعض مما ذكر، والله أعلم.
[دليل الإحسان من الكتاب والسنة]
جـ: أدلته كثيرة منها قوِله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " «نعما للعبد أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعما له» (2) .
س: ما هو الإحسان في العبادة؟
جـ: فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل لما قال له: «فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (3)
_________
(1) رواه مسلم (الصيد / 57) .
(2) رواه البخاري (2549) ، ومسلم (46) .
(3) رواه البخاري (50، 4777) .
(1/95)
________________________________________
فبين صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين، أعلاهما عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه وهو أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، وهذا هو حقيقة مقام الإحسان. الثاني: مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله تعالى وإرادته بالعمل، ويتفاوت أهل هذين المقامين بحسب نفوذ البصائر.
[ما يضاد الإيمان]
جـ: ضد الإيمان الكفر، وهو أصل له شعب، كما أن الإيمان أصل له شعب، وقد عرفت مما تقدم أن أصل الإيمان هو التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد بالطاعة، فالكفر أصله الجحود والعناد المستلزم للاستكبار والعصيان، فالطاعات كلها من شعب الإيمان وقد سمى في النصوص كثير منها إيمانا كما قدمنا، والمعاصي كلها من شعب الكفر وقد سمى في النصوص كثير منها كفرا كما سيأتي، فإذا عرفت هذا عرفت أن الكفر كفران، كفر أكبر يخرج من الإيمان بالكلية وهو الكفر الاعتقادي المنافي لقول القلب وعمله أو لأحدهما، وكفر أصغر ينافي كمال الإيمان ولا ينافي مطلقه وهو الكفر العملي، الذي لا يناقض قول القلب ولا عمله ولا يستلزم ذلك.
[كيفية منافاة الكفر الاعتقادي للإيمان بالكلية]
(1/96)
________________________________________
جـ: قد قدمنا لك أن الإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، فقول القلب هو: التصديق، وقول اللسان هو: التكلم بكلمة الإسلام، وعمل القلب هو: النية والإخلاص، وعمل الجوارح هو الانقياد بجميع الطاعات، فإذا زالت جميع هذه الأربعة قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح زال الإيمان بالكلية، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع البقية، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وذلك كمن كذب بأسماء الله وصفاته أو بأي شيء مما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وإنزال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان كله بزواله وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.
[أقسام الكفر الأكبر المخرج من الملة]
جـ: علم مما قدمناه أنه أربعة أقسام: كفر الجهل والتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق.
[كفر الجهل والتكذيب]
جـ: هو ما كان ظاهرا وباطنا كغالب الكفار من قريش ومن قبلهم من الأمم الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 70] وقال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 83 - 84] الآيات
(1/97)
________________________________________
وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] الآيات، وغيرها.
جـ: هو ما كان بكتمان الحق وعدم الانقياد له ظاهرا مع العلم به ومعرفته باطنا ككفر فرعون وقومه بموسى، وكفر اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى في كفر فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وقال تعالى في اليهود: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]
جـ: هو ما كان بعدم الانقياد للحق مع الإقرار به ككفر إبليس؛ إذ يقول الله تعالى فيه: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 74] وهو لم يمكنه جحود أمر الله بالسجود ولا إنكاره، وإنما اعترض عليه وطعن في حكمه الآمر به وعدله وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61] وقال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33] وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]
[كفر النفاق]
جـ: هو ما كان بعدم تصديق القلب وعمله مع الانقياد ظاهرا رئاء الناس، ككفر ابن سلول وحزبه الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 - 10] إلى قوله تعالى:
(1/98)
________________________________________
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وغيرها من الآيات.
[الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة]
جـ: هو كل معصية أطلق عليها الشارع اسم الكفر مع بقاء اسم الإيمان على عامله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» " (2) فأطلق صلى الله عليه وسلم على قتال المسلمين بعضهم بعضا أنه كفر، وسمى من يفعل ذلك كفارا، مع قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فأثبت الله تعالى لهم الإيمان وأخوة الإيمان ولم ينف عنهم شيئا من ذلك. وقال تعالى في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] فأثبت تعالى له أخوة الإسلام ولم ينفها عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد» . زاد في رواية: «ولا يقتل وهو مؤمن - وفي رواية - ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم» (3) . الحديث في الصحيحين مع حديث أبي ذر فيهما أيضا، قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق ثلاثا، ثم قال في الرابعة: " على رغم أنف أبي
_________
(1) رواه البخاري (121) ، ومسلم (الإيمان / 118، 120) .
(2) رواه البخاري (48، 6044) ، ومسلم (الإيمان / 116) .
(3) رواه البخاري (2475، 5578) ، ومسلم (الإيمان / 100، 105) .
(1/99)
________________________________________
ذر» (1) . فهذا يدل على أنه لم ينف عن الزاني والسارق والشارب والقاتل مطلق الإيمان بالكلية مع التوحيد فإنه لو أراد ذلك لم يخبر بأن من مات على لا إله إلا الله دخل الجنة وإن فعل تلك المعاصي، فلن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإنما أراد بذلك نقص الإيمان ونفي كماله، وإنما يكفر العبد بتلك المعاصي مع استحلاله إياها المستلزم لتكذيب الكتاب والرسول في تحريمها بل يكفر باعتقاد حلها وإن لم يفعلها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[السجود للصنم والاستهانة بالكتاب وسب الرسول والهزل بالدين]
جـ: اعلم أن هذه الأربعة وما شاكلها ليس هي من الكفر العملي إلا من جهة كونها واقعة بعمل الجوارح فيما يظهر للناس ولكنها لا تقع إلا مع ذهاب عمل القلب من نيته وإخلاصه ومحبته وانقياده، لا يبقى معها شيء من ذلك، فهي وإن كانت عملية في الظاهر فإنها مستلزمة للكفر الاعتقادي ولا بد، ولم تكن هذه لتقع إلا من منافق مارق أو معاند مارد، وهل حمل المنافقين في غزوة تبوك على أن {قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] إلا ذلك مع قولهم لما سئلوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] ونحن لم نعرف الكفر الأصغر بالعملي مطلقا، بل
_________
(1) رواه البخاري (5827) ، ومسلم (الإيمان / 154) .
(1/100)
________________________________________
بالعملي المحض الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب ولا عمله.
[أقسام الظلم والفسوق والنفاق]
جـ: ينقسم كل منهما إلى قسمين: أكبر هو الكفر، وأصغر دون ذلك.
[مثال كل من الظلم الأكبر والأصغر]
جـ: مثال الظلم الأكبر ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] وقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ومثال الظلم الذي دون ذلك ما ذكر الله تعالى بقوله في الطلاق: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]
[مثال الفسوق الأكبر والأصغر]
جـ: مثال الفسوق ما ذكره الله تعالى بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74] ومثال الفسوق الذي دون ذلك قوله تعالى في القذفة: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] روي أنها
(1/101)
________________________________________
نزلت في الوليد بن عقبة.
[مثال النفاق الأكبر والأصغر]
جـ: مثال النفاق الأكبر ما قدمنا ذكره في الآيات من صدر البقرة، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] إلى قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] الآيات، وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] وغير ذلك من الآيات، ومثال النفاق الذي دون ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» (1) . وحديث: «أربع من كن فيه كان منافقا» (2) الحديث.
[حكم السحر والساحر]
جـ: السحر متحقق وجوده وتأثيره مع مصادفة القدر الكوني، كما قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ} [البقرة: 102] وتأثيره ثابت في الأحاديث الصحيحة، وأما الساحر فإن كان سحره مما يتلقى عن الشياطين، كما نصت عليه آية البقرة فهو كافر، لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] إلى قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] الآيات.
_________
(1) رواه البخاري (2682، 2749) ، ومسلم (الإيمان / 107، 108) .
(2) رواه البخاري (2459، 3178) ، ومسلم (الإيمان / 106) .
(1/102)
________________________________________
[حد الساحر]
جـ: روى الترمذي عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حد الساحر ضربه بالسيف» (1) وصحح وقفه وقال العمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر فأما إذا عمل دون الكفر فلم ير عليه قتلا، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر وابنه عبد الله وابنته حفصة، وعثمان بن عفان، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد، وأبي حنيفة وغيرهم رحمهم الله.
[تعريف النشرة وبيان حكمها]
جـ: النشرة هي حل السحر عن المسحور فإن كان ذلك بسحر مثله فهي من عمل الشيطان، وإن كانت بالرقى والتعاويذ المشروعة فلا بأس بذلك.
[الرقى المشروعة]
جـ: هي ما كانت من الكتاب والسنة خالصة وكانت باللسان العربي،
_________
(1) (ضعيف مرفوعا، صحيح موقوفا) رواه الترمذي (1460) ، والدارقطني (3 / 114) ، والحاكم (4 / 360) ، والبيهقي (8 / 136) ، والطبراني في الكبير (1665) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الآبادي تعليقا على الدارقطني: الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي والترمذي، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي، اهـ. قال الحافظ في التقريب: وكان فقيها ضعيف الحديث. وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة ويروي عن الحسن أيضا، والصحيح عن جندب موقوف، اهـ. قال البيهقي: إسماعيل بن مسلم ضعيف، وقد ضعف الحديث أيضا الحافظ بن حجر، والشيخ الألباني.
(1/103)
________________________________________
واعتقد كل من الراقي والمرتقي أن تأثيرها لا يكون إلا بإذن الله عز وجل، «فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد رقاه جبريل عليه السلام» (1) ورقى هو كثيرا من الصحابة وأقرهم على فعلها بل وأمرهم بها وأحل لهم أخذ الأجرة عليها، كل ذلك في الصحيحين وغيرهما.
[الرقى الممنوعة]
جـ: هي ما لم تكن من الكتاب ولا السنة، ولا كانت بالعربية، بل هي من عمل الشيطان واستخدامه والتقرب إليه بما يحبه، كما يفعله كثير من الدجاجلة والمشعوذين والمخرفين وكثير ممن ينظر في كتب الهياكل والطلاسم كشمس المعارف، وشموس الأنوار وغيرهما مما أدخله أعداء الإسلام عليه وليست منه في شيء، ولا من علومه في ظل ولا فيء، كما بيناه في شرح السلم وغيره.
[حكم التعاليق من التمائم والأوتار والحلق والخيوط والودع ونحوها]
جـ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من علق شيئا وكل إليه» (2) . «وأرسل صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (4) وقال صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) رواه مسلم (السلام / 39، 40) .
(2) (حسن) رواه أحمد (4 / 130، 311) ، والترمذي (2072) ، والحاكم (4 / 216) ، وعبد الرزاق (11 / 17 / 1972) عن الحسن مرسلا، وقد حسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي (1691) قال الشيخ البنا في الفتح الرباني (17 / 188) : هذا الحديث لا تقل درجته عن الحسن، لا سيما وله شواهد تؤيده والله أعلم، اهـ.
(3) رواه البخاري (3005) ، ومسلم (اللباس / 105) ، وأحمد (5 / 216) ، وأبو داود (2552) .
(4) (صحيح) رواه أحمد (1 / 381) ، وأبو داود (3883) ، وابن ماجه (3530) ، والبغوي في شرح السنة (12 / 156، 157) وقد سكت عنه الإمام أبو داود، وصححه الألباني وحسن إسناده الشيخ أحمد شاكر ورواه الحاكم (4 / 217، 218) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(1/104)
________________________________________
«من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له» (1) وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك» (2) «وقال صلى الله عليه وسلم للذي رأى في يده حلقة من صفر: " ما هذا "؟ فقال: من الواهنة. قال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا» (3) وقطع حذيفة رضي الله عنه خيطا من يد رجل، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) (4) وهذا في حكم المرفوع.
_________
(1) (حسن) رواه أحمد (4 / 154) ، والحاكم (4 / 216) وصححه ووافقه الذهبي. قال الهيثمي في المجمع (5 / 103) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجالهم ثقات اهـ. وفي سنده خالد بن عبيد المعافري، قال الحافظ في التعجيل عنه: ورجال حديثه موثوقون (262) ، وقال المنذري: إسناده جيد.
(2) (صحيح) رواه أحمد (4 / 156) ، والحاكم (4 / 219) قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات (5 / 103) وقال المنذري في الترغيب: ورواة أحمد ثقات (4 / 307) وصححه الشيخ الألباني، وصحح له الحاكم اهـ. (صحيحه 492) .
(3) (حسن على الراجح) رواه أحمد (4 / 445) ، وابن ماجه (3531) ، وابن حبان (1410) ، قلت: وقد حسن إسناد ابن ماجه البوصيري، وصحح الحديث الحاكم، ووافقه الذهبي، وقد ضعفه الشيخ الألباني في الضعيفة (1029) والراجح أنه حسن فانظر ما قال.
(4) (ضعيف) رواه ابن أبي شيبة (7 / 375) حديث رقم (3524) وفي سنده الليث بن أبي سليم بن زنيم، قال الحافظ في التقريب: صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه فترك اهـ. ويؤيده ما حكاه ابن أبي شيبة عن جرير قوله في الليث: كان أكثر تخليطا، وقال ابن حبان: اختلط آخر عمره، قلت: ثم إن رواية مسلم عنه مقرونة بأبي إسحاق الشيباني.
(1/105)
________________________________________
[حكم التعاليق من القرآن]
جـ: يروى جوازه عن بعض السلف، وأكثرهم على منعه كعبد الله بن عكيم، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود وأصحابه رضي الله عنهم وهو الأولى، لعموم النهي عن التعليق، ولعدم شيء من المرفوع يخصص ذلك، ولصون القرآن عن إهانته إذ قد يحملونه غالبا على غير طهارة، ولئلا يتوصل بذلك إلى تعليق غيره، ولسد الذريعة عن اعتقاد المحظور والتفات القلوب إلى غير الله عز وجل، لا سيما في هذا الزمان.
[حكم الكهان]
جـ: الكهان من الطواغيت وهم أولياء الشياطين الذين يوحون إليهم كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] الآية، ويتنزلون عليهم ويلقون إليهم الكلمة من السمع فيكذبون معها مائة كذبة كما قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الوحي: " «فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة» (1) . الحديث في الصحيح بكماله، ومن ذلك الخط بالأرض الذي يسمونه ضرب الرمل، وكذا الطرق بالحصى ونحوه.
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة سبأ (4800) .
(1/106)
________________________________________
[حكم من صدق كاهنا]
جـ: قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] الآية، وقال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41] وقال تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35] وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما» (2) .
[حكم التنجيم]
جـ: قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] وقال تعالى: {وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» (3) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة» (4) وقال ابن عباس رضي الله عنهما
_________
(1) (صحيح) رواه أحمد (2 / 429) ، والبيهقي (8 / 135) ، والحاكم (1 / 8) وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه، وصححه الألباني (صحيح الجامع 5815) ، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
(2) رواه مسلم (السلام / 125) ، وأحمد (4 / 68، 5 / 380) .
(3) (صحيح) رواه أحمد (1 / 227، 311) ، وأبو داود (3905) ، وابن ماجه (3726) ، والبيهقي (8 / 138) وقد سكت عنه الإمام أبو داود وصححه الألباني، وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(4) (ضعيف قد يحسن) وقد روي بمثله وبنحوه عن عدد من الصحابة، وكلها لا يخلو من ضعف، وقد بين ذلك الشيخ الألباني في الصحيحة (1127) وسبقه إلى ذلك الحافظ الهيثمي في المجمع (7 / 203) وقال: عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم وتكذيب بالقدر وحيف السلطان ". رواه الطبراني وفيه ليث بن أبي سليم وهو لين وبقية رجاله وثقوا اهـ.
وذكر الألباني أن للحديث شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة، اهـ.
(1/107)
________________________________________
في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم: " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق " (1) وقال قتادة رحمه الله تعالى: خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به (2) .
[حكم الاستسقاء بالأنواء]
جـ: قال الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «وقال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» (4) .
[حكم الطيرة وما يذهبها]
جـ: قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
_________
(1) (صحيح) رواه البيهقي (8 / 139) ، وعبد الرزاق (11 / 19805) ، وابن أبي شيبة (8 / 414) ، والدر المنثور (3 / 35) وسنده صحيح، رجاله ثقات.
(2) أورده الإمام السيوطي في كتابه الدر المنثور (3 / 43) .
(3) رواه مسلم (الجنائز / 29) .
(4) رواه البخاري (846، 1038) ، ومسلم (الإيمان / 125) .
(1/108)
________________________________________
عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك، الطيرة شرك» . قال ابن مسعود وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك» (3) ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: " أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك» (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدقها الفأل ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات
_________
(1) رواه البخاري (5707) ، ومسلم (السلام / 101، 102، 103) .
(2) (صحيح) رواه أحمد (1 / 389، 438، 440) ، والبخاري في الأدب (909) ، وأبو داود (3910) ، والترمذي (1614) ، وابن ماجه (3538) ، والحاكم (1 / 17 / 18) ، والبيهقي (8 / 139) ، والبغوي في شرح السنة (12 / 177، 178) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وسكت عنه أبو داود وصححه الحافظ العراقي وقال الحاكم: صحيح سنده. ثقات رواته، وأقره الذهبي، قال الألباني: وهو كما قال. قلت: وهو عندهم جميعا مرفوع ولكن قال الإمام الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول: هذا الحديث (وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل) قال: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود اهـ.
(3) (ضعيف) رواه أحمد (1 / 213) قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف لانقطاعه اهـ. وذكر أن ابن علاثة هو محمد بن عبد الله بن علاثة القاضي، قال البخاري في الكبير: وهو ثقة يخطئ، وثقه ابن معين وأفرط الأزدي وغيره في تضعيفه ورميه بالكذب، ورجح الشيخ شاكر أن ما قاله البخاري: في حفظه نظر، هو الحق، ومسلمة الجهني فيه جهالة، ترجمه البخاري ولم يخرجه وهو متأخر عن أن يدرك الفضل بن عباس.
(4) (صحيح) رواه أحمد (2 / 220) ، وابن السني (293) قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، قال الهيثمي (5 / 105) : رواه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات، وقد صححه الألباني في الصحيحة (1065) وقال: قلت والضعف الذي في حديث ابن لهيعة إنما هو في غير رواية العبادلة عنه، وإلا فحديثهم عنه صحيح كما حققه أهل العلم في ترجمته، ومنهم عبد الله بن وهب، وقد رواه عنه كما رأيت اهـ. قلت: وهو في مسند ابن السني.
(1/109)
________________________________________
إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» (1) .
[حكم العين]
جـ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العين حق» (2) «ورأى صلى الله عليه وسلم جارية في وجهها سفعة فقال: " استرقوا لها فإن بها النظرة» (3) وقالت عائشة رضي الله عنها: «أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين» (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حمة» (5) . وكلها في الصحيح، وفيها أحاديث غير ما ذكرنا كثيرة، ولا تأثير لها إلا بإذن الله، وقد فسر بها قوله عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] عن كثير من السلف رضي الله عنهم.
[أقسام المعاصي وبماذا تكفر السيئات]
جـ: تنقسم إلى صغائر هي السيئات، وكبائر هي الموبقات.
جـ: قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فأخبرنا الله تعالى أن السيئات تكفر
_________
(1) (ضعيف) رواه أبو داود (3919) ، والبيهقي (8 / 139) ، وابن السني (294) وسكت عنه أبو داود. وضعفه الألباني والاختلاف على عروة بن عامر له صحبة أم لا، قال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة له تصح، وذكر البخاري وغيره: أنه سمع من ابن عباس، فعلى هذا يكون الحديث مرسلا.
(2) رواه البخاري (5740، 5944) ، ومسلم (السلام / 41، 42) .
(3) رواه البخاري (5739) ، ومسلم (السلام / 59) .
(4) رواه البخاري (5738) ، ومسلم (السلام / 55، 56) .
(5) رواه البخاري (5705) ، ومسلم (الإيمان / 374) .
(1/110)
________________________________________
باجتناب الكبائر وبفعل الحسنات، وكذلك جاء في الحديث: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» (1) وكذلك جاء في الأحاديث الصحيحة أن إسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الخطا إلى المساجد والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان وقيام ليلة القدر وصيام عاشوراء وغيرها من الطاعات أنها كفارات للسيئات والخطايا، وأكثر تلك الأحاديث فيها تقييد ذلك باجتناب الكبائر، وعليه يحمل المطلق منها فيكون اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر بالحسنات وبدونها.
[تعريف الكبائر]
جـ: في ضابطها أقوال للصحابة والتابعين وغيرهم فقيل: هي كل ذنب ترتب عليه حد، وقيل: هي كل ذنب أتبع بلعنة أو غضب أو نار أو أي عقوبة، وقيل: هي كل ذنب يشعر فعله بعدم اكتراث فاعله بالدين وعدم مبالاته به وقلة خشيته من الله، وقيل غير ذلك، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسمية كثير من الذنوب كبائر على تفاوت درجاتها فمنها كفر أكبر كالشرك بالله والسحر، ومنها عظيم من كبائر الإثم والفواحش وهو دون ذلك كقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والتولي يوم الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم وقول الزور، ومنه قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وشرب الخمر وعقوق
_________
(1) (حسن) رواه أحمد (5 / 153، 158، 177، 228) ، والترمذي (1987) ، والحاكم (1 / 54) من حديث أبي ذر، وقال الإمام الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد (5 / 236) من حديث معاذ بن جبل، وقد حسنه الألباني.
(1/111)
________________________________________
الوالدين وغير ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: " هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع) (1) اهـ. ومن تتبع الذنوب التي أطلق عليها أنها كبائر وجدها أكثر من السبعين، فكيف إذا تتبع جميع ما جاء عليه الوعيد الشديد في الكتاب والسنة من إتباعه بلعنة أو غضب أو عذاب أو محاربة أو غير ذلك من ألفاظ الوعيد، فإنه يجدها كثيرة جدا.
[ما تكفر به جميع الصغائر والكبائر]
جـ: تكفر جميعها بالتوبة النصوح، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8] وعسى من الله محققة، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] الآيات، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 135 - 136] الآيات وغيرها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «التوبة تجب ما قبلها» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني فنام نومة ثم رفع رأسه، فإذا
_________
(1) (صحيح) رواه عبد الرزاق (10 / 19702) ، والطبري في تفسيره (5 / 27) ، وقد ذكره الحافظ في الفتح مستشهدا به، وسكت عنه (فتح الباري 12 / 183) وسنده صحيح.
(1/112)
________________________________________
راحلته عنده» (1) .
[التوبة النصوح]
جـ: هي الصادقة التي اجتمع فيها ثلاثة أشياء: الإقلاع عن الذنب والندم على ارتكابه، والعزم على أن لا يعود أبدا، وإن كان فيه مظلمة لمسلم تحللها منه إن أمكن، فإنه سيطالب بها يوم القيامة، إن لم يتحللها من اليوم ويقتص منه لا محالة، وهو من الظلم الذي لا يترك الله منه شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له حسنات أخذ من حسناته وإلا أخذ سيئات أخيه فطرحت عليه» (2) .
[وقت انقطاع التوبة في حق كل فرد من أفراد الناس]
جـ: قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17] أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة سواء كان عمدا أو غيره وأن كل ما كان قبل الموت فهو قريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (3) . ثبت ذلك في أحاديث كثيرة، فأما إذا عاين الملك، وحشرجت الروح في الصدر وبلغت الحلقوم وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم فلا
_________
(1) رواه البخاري (6308) ، ومسلم (التوبة / 3) .
(2) تقدم ص 37.
(3) (حسن) رواه أحمد (2 / 132، 153) ، والترمذي (3537) ، وابن ماجه (4253) ، والحاكم (4 / 257) ، وابن حبان (2 / 628) بإسناد حسن، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني.
(1/113)
________________________________________
توبة مقبولة حينئذ ولا فكاك ولا خلاص {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] وذلك قوله عز وجل عقب هذه الآية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] الآية.
[انقطاع التوبة من عمر الدنيا]
جـ: قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] الآية، وفي صحيح البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين، وذلك من حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] » (1) ثم قرأ الآية وقد وردت في معناها أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمهات وغيرها، وقال صفوان بن عسال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله فتح بابا قبل المغرب عرضه سبعون عاما للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» (2) . رواه الترمذي، وصححه النسائي، وابن ماجه في حديث طويل.
[حكم من مات من الموحدين مصرا على كبيرة]
جـ: قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] .
_________
(1) رواه البخاري (4636) ، ومسلم (الإيمان / 248) .
(2) (حسن) رواه أحمد (4 / 240) ، والترمذي (3536) ، وابن ماجه (4070) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد حسنه الألباني.
(1/114)
________________________________________
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30] الآية، وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8] وغير ذلك من الآيات، «وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من نوقش الحساب عذب " (1) فقالت له عائشة رضي الله عنها: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قال: " بلى وإنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب عذب» . وقد قدمنا من النصوص في الحشر وأحوال الموقف والميزان ونشر الصحف والعرض والحساب والصراط والشفاعات وغيرها ما يعلم به تفاوت مراتب الناس وتباين أحوالهم في الآخرة بحسب تفاوتهم في الدار الدنيا في طاعة ربهم وضدها من سابق ومقتصد وظالم لنفسه، إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي أثبتته الآيات القرآنية والسنن النبوية ودرج عليه السلف الصالح والصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة التفسير والحديث والسنة أن العصاة من أهل التوحيد على ثلاث طبقات:
الأولى: قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم، فأولئك يدخلون الجنة ولا تمسهم النار أبدا.
_________
(1) تقدم ص 35.
(1/115)
________________________________________
الثانية: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يقفوا ثم يؤذن لهم في دخول الجنة كما قال الله تعالى بعد أن أخبر بدخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وتناديهم فيها، قال: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]- إلى قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49]
الطبقة الثالثة: قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش ومعهم أصل التوحيد والإيمان، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم، ومنهم من تأخذه إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، حتى أن منهم من لم يحرم الله منه على النار إلا أثر السجود، وهذه الطبقة هم الذين يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره من بعده من الأنبياء والأولياء والملائكة ومن شاء الله أن يكرمه، فيحد لهم حدا فيخرجونهم، ثم يحد لهم حدا فيخرجونهم وهكذا فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار من خير، ثم من كان في قلبه وزن برة من خير، إلى أن يخرجوا منها من في قلبه وزن ذرة من خير، إلى أدنى من مثقال ذرة إلى أن يقول الشفعاء: ربنا لم نذر فيها خيرا. ولن يخلد في النار أحد ممن مات على التوحيد ولو عمل أي عمل، ولكن كل من كان منهم أعظم إيمانا وأخف ذنبا كان أخف عذابا في النار وأقل مكثا فيها وأسرع خروجا منها، وكل من كان أعظم ذنبا وأضعف إيمانا كان
(1/116)
________________________________________
بضد ذلك، والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من قال: لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر يصيبه قبل ذلك ما أصابه» (1) . وهذا مقام ضلت فيه الأفهام وزلت فيه الأقدام واختلفوا فيه اختلافا كثيرا: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]
[هل الحدود كفارات لأهلها]
جـ: قال النبي صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» ، يعني غير الشرك، قال عبادة: فبايعناه على ذلك (2) .
[الجمع بين قوله عليه السلام فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه وبين أن من رجحت سيئاته بحسناته دخل النار]
س: ما الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» (3) وبين ما تقدم من أن من رجحت سيئاته بحسناته دخل النار؟
جـ: لا منافاة بينهما، فإن ما يشاء الله أن يعفو عنه يحاسبه الحساب
_________
(1) (صحيح) رواه البيهقي في شعب الإيمان (1 / 56) ، وأبو نعيم (5 / 46) ، وقد صححه الشيخ الألباني في الصحيحة (1932) فلينظر.
(2) رواه البخاري (4894، 6784) ، ومسلم (الحدود / 41) .
(3) تقدم ص 35.
(1/117)
________________________________________
اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض، وقال في صفته: «يدنو أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم. فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم» (1) . وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم فهم ممن يناقش الحساب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب» ".
[المراد بالصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه]
جـ: هو دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه ولم يقبل من أحد سواه ولا ينجو إلا من سلكه، ومن سلك غيره تشعبت عليه الطرق وتفرقت به السبل، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وخط النبي صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» (2) وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه سبل ليس منها سبيل إلا عليه الشيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقال صلى الله عليه وسلم: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا
_________
(1) تقدم ص 36.
(2) (حسن) رواه أحمد (1 / 435، 465) ، والحاكم (2 / 318) ، وابن حبان (1741، 1742) ، والبغوي في شرح السنة (1 / 196، 197) ، وابن أبي عاصم (17) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقد حسنه الشيخ الألباني، وإسناده حسن عند ابن حبان.
(1/118)
________________________________________
الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» (1) .
[الصراط المستقيم كيفية سلوكه والسلامة من الانحراف عنه]
جـ: لا يحصل ذلك إلا بالتمسك بالكتاب والسنة والسير بسيرهما والوقوف عند حدودهما وبذلك يحصل تجريد التوحيد لله، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وهؤلاء المنعم عليهم المذكورون هاهنا تفصيلا هم الذين أضاف الصراط إليهم في فاتحة اِلكتاب بقوله تعاليِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] ولا أعظم نعمة على العبد من هدايته إلى هذا الصراط المستقيم، وتجنيبه السبل المضلة، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا
_________
(1) (صحيح) رواه أحمد (4 / 182، 183) ، والترمذي (2859) ، والحاكم (1 / 37) ، والطحاوي في مشكل الآثار (3 / 53، 36) ، وابن أبي عاصم (18، 19) من حديث النواس بن سمعان، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني.
(1/119)
________________________________________
هالك» (1) .
[ما يضاد السنة]
جـ: ضدها البدع المحدثة وهي شرع ما لم يأذن به الله، وهي: التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: " «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة ضلالة» (3) وأشار صلى الله عليه وسلم إلى وقوعها بقوله: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (4) وعينها بقوله صلى الله عليه وسلم: «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» . وقد برأه الله تعالى من أهل البدع بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] الآية.
_________
(1) (صحيح) رواه أحمد (4 / 126) ، وابن ماجه (43) ، والحاكم (1 / 96) ، وابن أبي عاصم (48، 49) وقد صححه الألباني.
(2) رواه البخاري (2697) ، ومسلم (الأقضية / 17) .
(3) (صحيح) رواه أحمد (4 / 126، 127) ، والترمذي (2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأبو داود (4607) ، وابن ماجه (42) ، والحاكم (1 / 95، 96، 97) ، وابن أبي عاصم (31، 54) وقال البزار: حديث ثابت صحيح، وقال ابن عبد البر: حديث ثابت، وقال الحاكم: صحيح ليس له علة. ووافقه الذهبي وصححه الضياء المقدسي، وقد صححه الألباني في صحيح ابن ماجه.
(4) (إسناده حسن وهو صحيح لغيره) رواه الترمذي (2641) ، والحاكم (1 / 128، 129) من حديث عبد الله بن عمرو، قال الإمام الترمذي: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وقد حسنه الألباني ورواه أبو داود (4596) ، والترمذي (2640) ، وابن ماجه (3991) من حديث أبي هريرة حتى قوله (فرقة) وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح.
(1/120)
________________________________________
[أقسام البدعة باعتبار إخلالها بالدين]
[البدع المكفرة]
جـ: هي كثيرة وضابطها من أنكر أمرا مجمعا عليه متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة؛ لأن ذلك تكذيب بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، والقول بخلق القرآن أو خلق أي صفة من صفات الله عز وجل، وإنكار أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم موسى تكليما وغير ذلك، وكبدعة القدرية في إنكار علم الله وأفعاله وقضائه وقدره، وكبدعة المجسمة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه وغير ذلك من الأهواء، ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه فهذا مقطوع بكفره بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له، وآخرون مغرورون ملبس عليهم فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم، وإلزامهم بها.
[البدع الغير مكفرة]
جـ: هي ما لم تكن كذلك مما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب ولا بشيء بما أرسل الله به رسله، كبدعة المروانية التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة ولم يقروهم عليها، ولم يكفروهم بشيء منها ولم ينزعوا يدا من بيعتهم لأجلها كتأخيرهم بعض الصلوات إلى أواخر أوقاتها، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد، والجلوس في نفس الخطبة في الجمعة وغيرها، وسبهم بعض كبار الصحابة على المنابر، ونحو ذلك مما لم يكن منهم عن اعتقاد شرعية بل بنوع تأويل وشهوات
(1/121)
________________________________________
نفسانية وأغراض دنيوية.
[أقسام البدع بحسب ما تقع فيه]
جـ: تنقسم إلى: بدع في العبادات، وبدع في المعاملات.
[أقسام البدع في العبادات]
جـ: إلى قسمين: الأول: التعبد بما لم يأذن الله أن يعبد به البتة، كتعبد جهلة المتصوفة بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء وأنواع المعازف وغيرهما مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
الثاني: التعبد بما أصله مشروع، ولكن وضع في غير موضعه ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم أو في الصلاة أو غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما تشرع فيه كالصلوات النفل في أوقات النهي، وكصيام يوم الشك، وصيام العيدين، ونحو ذلك.
[حالات البدعة مع العبادة التي تقع فيها]
جـ: لها حالتان:
الأولى: أن تبطلها جميعا كمن زاد في صلاة الفجر ركعة ثالثة، أو في المغرب رابعة، أو في الرباعية خامسة متعمدا، وكذلك إن نقص مثل ذلك.
الحالة الثانية: أن تبطل البدعة وحدها كما هي باطلة ويسلم العمل الذي وقعت فيه كمن زاد في الوضوء على ثلاث غسلات فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ببطلانه بل قال: «فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدى
(1/122)
________________________________________
وظلم» (1) . ونحو ذلك.
[البدع في المعاملات]
جـ: هي اشتراط ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، كاشتراط الولاء لغير المعتق كما في قصة بريرة لما اشترط أهلها الولاء قام النبي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ما بال رجال منكم يقول أحدهم: اعتق يا فلان ولي الولاء إنما الولاء لمن أعتق» (2) . وكذلك كل شرط أحل حراما، أو حرم حلالا.
[الواجب التزامه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته]
جـ: الواجب لهم علينا سلامة قلوبنا وألسنتنا لهم، ونشر فضائلهم والكف عن مساويهم وما شجر بينهم، والتنويه بشأنهم كما نوه تعالى بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، وثبتت الأحاديث الصحيحة في الكتب المشهورة من الأمهات، وغيرها في فضائلهم، قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]
_________
(1) (حسن) رواه النسائي (1 / 88) ، وابن ماجه (422) ، والبيهقي (1 / 79) قال الحافظ الزيلعي في نصب الراية: قال الشيخ تقي الدين في " الإمام ": وهذا الحديث عند من يصحح حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لصحة الإسناد إلى عمرو اهـ. (1 / 29) وذكر الحافظ ابن حجر في التلخيص (1 / 83) صحة طرق الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي وابن خزيمة وابن ماجه وأبي داود. وذكر الألباني أن إسناده عند النسائي وابن ماجه وأبي داود حسن إلا في زيادة لفظ (أو نقص) فهي زيادة منكرة.
(2) رواه البخاري (456، 1493، 2155) ، ومسلم (العتق / 5، 14) .
(1/123)
________________________________________
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] الآية، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 8 - 9] الآية، وغيرها كثير. ونعلم ونعتقد أن الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: " «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (1) وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وبأنه «لا يدخل النار ممن بايع تحت الشجرة» (2) بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا ألفا وأربعمائة وقيل: خمسمائة، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] الآية، ونشهد بأنهم أفضل
_________
(1) رواه البخاري (3007، 3081، 3983) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 161) .
(2) رواه مسلم (فضائل الصحابة / 163) ، وأبو داود (4653) ، والترمذي (3860) .
(1/124)
________________________________________
القرون من هذه الأمة التي هي أفضل الأمم، وأن من أنفق مثل أحد ذهبا ممن بعدهم لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، مع الاعتقاد أنهم لم يكونوا معصومين، بل يجوز عليهم الخطأ، ولكنهم مجتهدون للمصيب منهم أجران ولمن أخطأ أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور، ولهم من الفضائل والصالحات والسوابق ما يذهب سيئ ما وقع منهم إن وقع، وهل يغير يسير النجاسة البحر إذا وقعت فيه، رضي الله عنهم وأرضاهم، وكذلك القول في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ونبرأ من كل من وقع في صدره أو لسانه سوء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، أو على أحد منهم، ونشهد الله تعالى على حبهم وموالاتهم والذب عنهم ما استطعنا حفظا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته إذ يقول: «لا تسبوا أصحابي» (1) . وقال: «الله الله في أصحابي» (2) وقال: «إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به» (3) ثم قال:
_________
(1) رواه البخاري (3673) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 221، 222) ، وأحمد (3 / 11، 54) ، وأبو داود (4658) ، والترمذي (3861) ، وابن ماجه (161) .
(2) (إسناده ضعيف) رواه أحمد (5 / 54، 57) ، والترمذي (3862) ، وابن حبان (16 / 7256) ، وابن أبي عاصم (992) ، وأبو نعيم (8 / 287) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي بعض النسخ له: حديث حسن غريب. وفي سنده: عبد الرحمن بن زياد ويقال: عبد الله بن عبد الرحمن ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله. لم يوثقه غير ابن حبان ولم يرو عنه غير عبيد الله بن رائطة ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا، وقال الذهبي: لا يعرف. وقال يحيى بن معين: لا أعرفه. وقال عنه الحافظ في التقريب: مقبول اهـ. قلت: يعني عند المتابعة، ولا توجد هنا.
(3) رواه مسلم (فضائل الصحابة / 36) .
(1/125)
________________________________________
«وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» . الحديث في الصحيحين وغيرهما.
[أفضل الصحابة إجمالا]
جـ: أفضلهم السابقون الأولون من المهاجرين، ثم منِ الأنصار، ثم أهل بدر، فأحد، فبيعة الرضوان، فمن بعدهم، ثم {مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .
[أفضل الصحابة تفصيلا]
جـ: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم» (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الغار: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي» (4) مرتين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك» (5) وقال صلى الله عليه وسلم: " «لقد كان فيما قبلكم
_________
(1) رواه البخاري (3655، 3697) .
(2) رواه البخاري (3653، 3922) .
(3) رواه البخاري (3656) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 3) .
(4) رواه البخاري (3661، 4640) .
(5) رواه البخاري (3294) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 22) .
(1/126)
________________________________________
محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر» (1) وقال صلى الله عليه وسلم في تكلم الذئب والبقرة: «فإني أومن به وأبو بكر وعمر» (2) وما هما ثَمَّ، ولما ذهب عثمان إلى مكة في بيعة الرضوان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان " فضرب بها على يده فقال: " هذه لعثمان» (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «من يحفر بئر رومة فله الجنة» (4) . فحفرها عثمان، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة فله الجنة» (5) . فجهزه عثمان، وقال صلى الله عليه وسلم فيه: «ألا أستحي ممن استحيت منه الملائكة» (6) . وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «أنت مني وأنا منك» (7) . وأخبر صلى الله عليه وسلم عنه «أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (8) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (9) . وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة
_________
(1) رواه البخاري (3669، 3689) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 23) .
(2) رواه البخاري (2324، 3471) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 13) ، وأحمد (2 / 245، 246) ، والترمذي (3677، 3695) .
(3) رواه البخاري (3698، 4066) .
(4) رواه البخاري (2778) .
(5) رواه البخاري (2778) .
(6) رواه مسلم (فضائل الصحابة / 26) .
(7) رواه البخاري (2699، 4251) .
(8) رواه البخاري (2975، 3009) ، ومسلم (الجهاد / 132) وفي (فضائل الصحابة / 32، 33، 34) .
(9) (صحيح) رواه أحمد (4 / 368، 370، 372) ، والترمذي (3731) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم (3 / 109، 110) ، وابن أبي عاصم في السنة (1365، 1367) ، وابن حبان (2205 / موارد) ، والطبراني (3968) قال الهيثمي في المجمع (9 / 104) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي. وقد ذكر الألباني أن الحديث ورد من طرق كثيرة عن عشرة من الصحابة، كلها بين صحيح وحسن ثم قال في آخر بحثه: أن حديث الترجمة حديث صحيح بشرطيه بل الأول منه متواتر عنه صلى الله عليه وسلم (صحيحه / 1750) .
(1/127)
________________________________________
هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: «عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، قال سعيد بن زيد: ولو شئت لسميت العاشر يعني نفسه» (2) رضي الله عنهم أجمعين، وقال صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبيّ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (3) . وقال صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين: " «إنهما سيدا شباب أهل
_________
(1) رواه البخاري (3706، 4416) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 30، 31) .
(2) (صحيح) رواه أبو داود (4649) ، والترمذي (3757) ، وابن ماجه (134) ، وابن أبي عاصم (1428) من حديث سعيد بن زيد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني ورواه أحمد (1 / 193) ، والترمذي (3747) من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(3) (صحيح) رواه أحمد (3 / 184، 281) ، والترمذي (3790، 3791) ، وابن ماجه (154) ، والحاكم (3 / 422) ، ومشكل الآثار (1 / 351) ، وأبو نعيم (3 / 122) قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. في الأول وقال في الرواية الثانية: حسن صحيح.
(1/128)
________________________________________
الجنة» (1) «وأنهما ريحانتاه» (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أحبهما فأحبهما» (3) وقال في الحسن: " «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (4) فكان الأمر كما قال، وقال في أمهما: «إنها سيدة نساء أهل الجنة» (5) وقد ثبت لكثير من الصحابة فضائل على العموم والانفراد كثيرة لا تحصى، ولا يلزم من إثبات فضيلة لأحدهم في شيء أن يكون أفضل من الآخرين من كل وجه إلا الخلفاء الأربعة، أما الثلاثة فلحديث ابن عمر السابق، وأما علي فبإجماع أهل السنة أنه كان بعدهم أفضل من على وجه الأرض.
[مدة الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]
جـ: روى أبو داود وغيره عن سعيد بن جُمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» (6) . الحديث، فكان ذلك مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
_________
(1) (صحيح) رواه الترمذي (3768) ، وأحمد (3 / 3، 62، 64، 80) ، والحاكم (3 / 167) عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة، وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بقوله قلت: الحكم فيه لين. قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ. قلت: قد ورد الحديث عن عشرة من الصحابة منهم أبو سعيد، قد ذكرها بطرقها الألباني في الصحيحة (796) ، ثم قال: فالحديث صحيح بلا ريب، بل هو متواتر كما نقله المناوي اهـ.
(2) رواه البخاري (3753، 5994) .
(3) رواه البخاري (3747) .
(4) رواه البخاري (2774) .
(5) رواه البخاري (3624، 6286) .
(6) (صحيح) رواه أحمد (5 / 220، 221) ، وأبو داود (4646، 4647) ، والترمذي (2226) ، والحاكم (3 / 71، 145) ، والطحاوي (4 / 363) ، وابن حبان (6904) ، وابن أبي عاصم (1181) قال الترمذي: وهذا حديث حسن. وقد قال الألباني بعد سرد الحديث وطرقه وشواهده: وجملة القول أن الحديث حسن من طريق سعيد بن جمهان صحيح بهذين الشاهدين لا سيما وقد قواه من سبق ذكرهم وهاك أسماءهم: الإمام أحمد والترمذي وابن جرير الطبري وابن أبي عاصم وابن حبان والحاكم وابن تيمية والذهبي والعسقلاني. اهـ (صحيحه / 460) .
(1/129)
________________________________________
وعلي رضي الله عنهم، فأبو بكر سنتان وثلاثة أشهر، وعمر عشر سنين وستة أشهر، وعثمان اثنتا عشرة سنة، وعلي أربع سنين وتسعة أشهر ويكملهما ثلاثين بيعة الحسن بن علي ستة أشهر، وأول ملوك الإسلام معاوية رضي الله عنه، وهو خيرهم وأفضلهم ثم كان بعده ملكا عضوضا إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فعده أهل السنة خليفة خامسا لسيره بسيرة الخلفاء الراشدين.
[الدليل على خلافة الأربعة جملة]
جـ: الأدلة عليها كثيرة لا تحصى، فمنها حصر مدتها في ثلاثين سنة فكانت مدة ولايتهم، ومنها ما تقدم من تفضيلهم على غيرهم وتفاضلهم على ترتيب خلافتهم، ومنها ما روى أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: «يا رسول الله إني رأيت كأن دلوا أُدلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء» (1) ومنها وهو أقواها إجماعًا من يعتد بإجماعهم على
_________
(1) (إسناده فيه ضعف) رواه أحمد (5 / 21) ، وأبو داود (4637) ، والطبراني (6965) ، وابن أبي عاصم (1141) وفي سنده عبد الرحمن الجرمي ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: مقبول، وقال الذهبي: ما حدث عنه سوى ولده أشعث. وقال الألباني: فيه جهالة، وضعف إسناده.
(1/130)
________________________________________
خلافة هؤلاء الأربعة، ولا يطعن في خلافة أحد منهم إلا ضال مبتدع.
[الدليل على خلافة الثلاثة إجمالا]
جـ: الأدلة على ذلك كثيرة منها ما تقدم، ومنها حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «من رأى منكم رؤيا "؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان» (1) وقال صلى الله عليه وسلم: «أرى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» (2) . وكلا الحديثين في السنن.
[الدليل على خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إجمالا]
جـ: على ذلك أدلة كثيرة، منها ما في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم
_________
(1) (صحيح) رواه أبو داود (4634) ، والترمذي (2278) ، والحاكم (3 / 70، 71) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وسكت عنه الإمام أبو داود، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: أشعث هذا ثقة لكن ما احتجا به، وصححه الألباني.
(2) (إسناده ضعيف) رواه أحمد (3 / 355) ، وأبو داود (4636) ، وابن أبي عاصم (1134) ، والحاكم (3 / 71، 72) وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده عمرو بن أبان قال عنه الحافظ: مقبول ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في التهذيب: قال ابن حبان: روى عن جابر ولا أدري أسمع منه أم لا وقال المنذري: فعلى هذا فالإسناد منقطع، لأن الزهري لم يسمع من جابر، وضعفه الألباني.
(1/131)
________________________________________
رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله ثم، أخذه ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن.» (1) .
[الدليل على خلافة أبي بكر وتقديمه فيها]
جـ: الأدلة على ذلك لا تحصى، منها ما تقدم، ومنها ما في صحيح البخاري ومسلم «أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت - قال صلى الله عليه وسلم: " إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (2) . ومنها ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (3) . وهكذا قال صلى الله عليه وسلم في تقديمه في الصلاة في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وأجمع على بيعته جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فمن بعدهم.
[الدليل على تقديم عمر في الخلافة بعد أبي بكر]
جـ: أدلته كثيرة منها ما تقدم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي» (4) وأشار إلى أبي بكر وعمر
_________
(1) رواه البخاري (3633، 3676، 3682) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 17، 19) .
(2) رواه البخاري (3659، 7220، 7360) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 10) .
(3) رواه البخاري (5666، 7317) ، ومسلم (فضائل الصحابة / 11) .
(4) (صحيح) رواه أحمد (5 / 382) ، والترمذي (3662، 3663) ، وابن ماجه (97) ، وابن أبي عاصم (1148، 1149) ، والحاكم (3 / 75) ، والطحاوي (2 / 83، 84) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الألباني.
(1/132)
________________________________________
رضي الله عنهما، ومنها ما في حديث الفتنة التي تموج كموج البحر، قال حذيفة رضي الله عنه لعمر: «إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال أيفتح أم يكسر؟ قال: بل يكسر، قال عمر: إذا لا يغلق، فكان الباب عمر وكسره قتله، فلم يرفع بعده سيف بين الأمة» (1) وقد أجمعت الأمة على تقديمه في الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنهما.
[الدليل على تقديم عثمان بعدهما في الخلافة]
جـ: الأدلة على ذلك كثيرة منها ما تقدم، ومنها حديث كعب بن عجرة قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا يومئذ على الهدى " فوثبت فأخذت بضبعي عثمان ثم استقبلت رسول الله، فقلت: هذا. قال: " هذا» . رواه ابن ماجه، ورواه الترمذي عن مرة بن كعب وقال: هذا حديث حسن صحيح (2) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه " يقول ذلك ثلاث مرات» (3) .
_________
(1) رواه البخاري (525، 1435، 1895) ، ومسلم (الإيمان / 231) ، وأحمد (5 / 386، 401) .
(2) (صحيح) رواه أحمد (4 / 235، 236، 242) ، والترمذي (3705) ، وابن أبي عاصم (1294) ، وابن ماجه (111) وصححه الألباني.
(3) (صحيح) رواه أحمد (6 / 75، 86، 87) ، والترمذي (3705) ، وابن ماجه (112) وقال الحاكم: صحيح عالي الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: أنى له الصحة ومداره على فرج بن فضالة. وصححه الألباني وتعقب قول الذهبي بقوله: قد توبع، وبين متابعاته التي صححه بها، انظر ظلال الجنة في تخريج السنة (1172) .
(1/133)
________________________________________
رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، والترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه، وأجمع على بيعته أهل الشورى ثم سائر الصحابة، وأول من بايعه علي رضي الله عنه بعد عبد الرحمن بن عوف ثم الناس بعده.
[الدليل على خلافة علي وأولويته بالحق بعدهم]
جـ: أدلة ذلك كثيرة، منها ما تقدم، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار» (1) . فكان مع علي رضي الله عنه فقتله أهل الشام، وهو يدعوهم إلى السنة والجماعة وطاعة الإمام الحق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحديث في الصحيح، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة على حين فرقة من الناس يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (2) . فمرقت الخوارج فقتلهم علي رضي الله عنه يوم النهروان، وهو الأولى بالحق بإجماع أهل السنة قاطبة، رحمهم الله تعالى.
[الواجب لولاة الأمور والدليل على ذلك]
جـ: الواجب لهم النصيحة بموالاتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق، والصلاة خلفهم والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج بالسيف عليهم، ما لم يظهروا كفرا بواحا، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق.
_________
(1) رواه البخاري (447، 2812) ، ومسلم (الفتن / 70، 72، 73) .
(2) رواه مسلم (الزكاة / 149، 150، 151) .
(1/134)
________________________________________
جـ: الأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» (2) . وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان» (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» (4) . وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (5) . وقال: «إنما الطاعة في المعروف» (6) . وقال صلى الله عليه وسلم: «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع» (7) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من خلع يدا
_________
(1) رواه البخاري (693، 696، 7142) .
(2) رواه البخاري (7053، 7054، 7143) ، ومسلم (الفتن / 55، 56) .
(3) رواه البخاري (7052) ، ومسلم (الإمارة / 41، 42) .
(4) رواه مسلم (الإمارة / 37) ، وأحمد (4 / 70) .
(5) رواه البخاري (1724، 2955) ، ومسلم (الإمارة / 38) .
(6) رواه البخاري (4340، 7257) ، ومسلم (الإمارة / 39، 40) .
(7) رواه مسلم (الإمارة / 52) .
(1/135)
________________________________________
من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» (1) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهو جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان» (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع " قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما صلوا» (3) وغير ذلك من الأحاديث، وهذه كلها في الصحيح.
[على من يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما مراتبه]
جـ: قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (4) . رواه مسلم. وفي هذا الباب من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ما لا يحصى، وكلها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من رآه لا يسقط عنه إلا أن يقوم به غيره كل بحسبه، وكل ما كان العبد على ذلك أقدر وبه أعلم كان عليه أوجب وله ألزم، ولم ينج عند نزول العذاب بأهل المعاصي إلا الناهون عنها، وقد أفردنا هذه المسألة برسالة بها وافية ولطالبي الحق كافية، ولله الحمد والمنة.
_________
(1) رواه مسلم (الإمارة / 58) .
(2) رواه مسلم (الإمارة / 59، 60) .
(3) رواه مسلم (الإمارة / 62، 63، 64) .
(4) رواه مسلم (الإيمان / 78، 79) .
(1/136)
________________________________________
[حكم كرامات الأولياء]
جـ: كرامات الأولياء حق، وهو ظهور الأمر الخارق على أيديهم الذي لا صنع لهم فيه، ولم يكن بطريق التحدي، بل يجريه الله على أيديهم، وإن لم يعلموا به كقصة أصحاب الكهف، وأصحاب الصخرة (1) وجريج الراهب (2) وكلها معجزات لأنبيائهم، ولهذا كانت في هذه الأمة أكثر وأعظم لعظم معجزات نبيها، وكرامته على الله عز وجل، كما وقع لأبي بكر في أيام الردة (3) وكنداء عمر لسارية وهو على المنبر فأبلغه وهو بالشام (4) وككتابته إلى نيل مصر فجرى (5) وكخيل العلاء بن الحضرمي إذ خاض بها البحر في غزو الروم، وكصلاة أبي مسلم الخولاني في النار التي أوقدها له الأسود العنسي، وغير ذلك مما وقع لكثير منهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن بعدهم إلى الآن، وإلى يوم القيامة، وكلها في الحقيقة معجزات لنبينا صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما نالوا ذلك بمتابعته، فإن اتفق شيء من الخوارق لغير متبع النبي فهي فتنة
_________
(1) رواه مسلم (الذكر / 100) ، والبخاري في الأدب (5974) .
(2) رواه البخاري (3436، 2482) ، ومسلم (البر / 7، 8) .
(3) راجع تاريخ الإسلام للذهبي (3 / 20، 25) .
(4) (حسن) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة (2 / 740) ، وابن كثير في البداية (7 / 131) ، وابن حجر في الإصابة (3 / 52، 53) وقد حسن إسناده الحافظ ابن حجر، نقله عنه السخاوي في المقاصد (1333) .
(5) (إسناده فيه ضعف) ابن كثير في التفسير (3 / 464) وفي سنده ابن لهيعة، وهو مختلف فيه، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه اهـ.
(1/137)
________________________________________
وشعوذة لا كرامة، وليس من اتفقت له من أولياء الرحمن بل من أولياء الشيطان، والعياذ بالله.
[صفة أولياء الله]
جـ: هم كل من آمن بالله واتقاه واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] ثم بينهم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] الآيات، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] الآية، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون» (1) . وقال الحسن رحمه الله تعالى: ادعى قوم محبة الله، فامتحنهم الله بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] الآية، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: " إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تصدقوه ولا تغتروا به حتى تعلموا متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم ".
[الطائفة التي عناها النبي عليه السلام بقوله لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة]
_________
(1) رواه مسلم (الإيمان / 366) كلهم بهذا المعنى.
(2) رواه البخاري (3116، 3640، 3641) ، ومسلم (الإيمان / 247) .
(1/138)
________________________________________
جـ: هذه الطائفة هي الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين فرقة، كما استثناها النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الفرق بقوله: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» . وفي رواية قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ - وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] .
يقول جامعه غفر الله تعالى له ولوالديه: فرغت من تسويده نهار الاثنين أول يوم من شهر شعبان عام خمسة وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
وفرغت من تبيضه نهار الأحد رابع عشر من الشهر المذكور، جعل الله سعينا خالصا لوجهه آمين.
(1/139)
________________________________________