الوصف
الإسلام والإلحاد وجها لوجه : يُقدم هذا الكتاب بيانًا لـ"طبيعة الإلحاد" وإشكالاته، وكيف يتناقض الإلحاد مع بديهيات العقل والفطرة، ويعرض بعض براهين إثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، ثم يناقش الكتيب بعد ذلك شبهات الملحدين، ومحاولاتهم سفسطة براهين وجود الخالق العقلية والفطرية، ثم يعرض بعض الأدلة العقلية على ضرورة وجود الدين، ومعنى الدين وضرورة الاستسلام لرب العالمين والانقياد له سبحانه، فالاستسلام لله والانقياد له بالطاعة هو: حقيقة الدين، ثم يُختم الكتيب ببيان كيف يصبح الإنسان مسلمًا ومعنى الإسلام وضرورة الإسلام.
ترجمات أخرى 29
المحاور
تأليف
د/ هيثم طلعت
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد:
فهذا كتيب: " الإسلام والإلحاد وجهًا لوجه".
يُقدم الكتيب بيانًا لـ"طبيعة الإلحاد" وإشكالاته، وكيف يتناقض الإلحاد مع بديهيات العقل والفطرة.
ويعرض الكتيب بعض براهين إثبات وجود الخالق سبحانه.
فنحن نعرف الله عز وجل بالعقل، قال الله تعالى ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [٣٥] سورة الطور.
بالعقل هناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها:
• الأول: أن نكون خُلقنا من غير خالق (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) وهذا مستحيل، إذ كيف نُخلق من غير خالق؟
• الثاني: أن نكون خَلقنا أنفسنا (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) وهذا محال أيضًا، إذ كيف أَخلق نفسي قبل أن أُخلق؟
إذن بالعقل يبقى الاحتمال الثالث وهو الذي سكتت عنه الآية الكريمة لأنه هو البديهة، وهو أنّ لنا خالقًا خلقنا.
فنحن نعرف الله بالعقل.
وكذلك نحن نعرف الله بالفطرة.
ونعرف بفطرتنا أنَّ الأوثان والطبيعة لا تملك القدرة على خلق الكون ولا على إيجاد الباكتريا والإنسان، ولا على ضبط وظائف جسم الإنسان بهذه الصورة ولا على إتقان الخلق من الذرة إلى المجرة.
فالأوثان التي يعبدها الكفار، والطبيعة التي يؤمن بها الملحد كلاهما مفتقرٌ لخالقه.
فلا تملك الأوثان ولا الطبيعة من أمرهما شيئًا، وليس لديهما القدرة على ضبط الهرمونات بداخلك بهذا المقدار المدهش، ولا لديهما القدرة على وضع الشفرة الوراثية والتي هي ملايين المعلومات داخل كل خلية حية، ولا لديهما القدرة على إيجاد أي شيء ولا حتى على إيجاد أنفسهما.
فخالق هذا العالم بهذه العجائب هو خالق عظيم عليم قدير حكيم سبحانه.
ثم يناقش الكتيب بعد ذلك شبهات الملحدين، ومحاولاتهم سفسطة براهين وجود الخالق العقلية والفطرية.
ومن أشهر سفسطاتهم القول بـ"صدفة ظهور الكون"، وهذا لعدم فهمهم أو لتجاهلهم أصول الاحتمالات؛ لأن الصدفة لها شرطان لا ينفكان عنها.
وهما: الزمان والمكان.
فالصدفة تشترط زمان تقوم فيه بإحداث أثرها.
وتشترط وجود مادي مكاني تقوم فيه بإنتاج مفعولها.
فكيف نقول بدورٍ للصدفة في إيجاد الكون، مع أن كوننا جاء من اللازمان واللامكان، وبالتالي من اللاصدفة!
ثم يعرض الكتيب لبعض الأدلة العقلية على ضرورة وجود الدين، ومعنى الدين وضرورة الاستسلام لرب العالمين والانقياد له سبحانه، فالاستسلام لله والانقياد له بالطاعة هو: حقيقة الدين.
فأنت تخضع لله، وتتعبد لخالقك ورازقك والممتن عليك بكل مِنةٍ ونعمةٍ وهدايةٍ.
فالعبادة هي حقُ الله على عباده، لأنه سبحانه الذي فطرنا وأحيانا ورزقنا وهدانا وأرسل إلينا رسله ليختبرنا وليبلونا مَن مِنّا أحسن عملاً، فالعبادة هي حق الله علينا ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [٢] سورة الملك.
ثم في مرحلة تالية يقدم الكتيب بعض الأدلة على صحة الإسلام، وبيان حقيقة أنَّ الله لا يقبل من البشر دينًا سوى الإسلام، قال الله تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [٨٥] سورة آل عمران.
فالإسلام هو الدين الذي أرسل الله به جميع الأنبياء والرسل.
وسمة الإسلام الأساسية أنَّ: فيه معنى الاستسلام لله وعبادة الله وحده.
والإسلام هو أكمل شريعة تحُض على الاستسلام لله.
وهو الدين الوحيد الذي يدعو لتوحيد الله، ذلك التوحيد الذي جاء به كل الأنبياء.
فكل الأنبياء على عقيدة التوحيد وإن اختلفت شرائعهم.
قال الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [٢٥] سورة الأنبياء.
ولم يبق على هذا التوحيد اليوم على الأرض دين سوى الإسلام، بينما كل المنتسبين للشرائع الأخرى أصبح لهم من الشرك نصيبٌ قَلَّ أو كَثُر، فبعد موت الأنبياء وبعد أن تَركوا الناس على التوحيد اتخذ الناس مع الوقت الشركيات، ولم يبق اليوم على التوحيد النقي الذي جاء به الأنبياء دين سوى الإسلام.
ثم يُختم الكتيب ببيان كيف يصبح الإنسان مسلمًا ومعنى الإسلام وضرورة الإسلام.
فالإسلام أجاب عن كل الأسئلة الوجودية التي تدور في ذهن كل إنسان: من أين جئنا، ولماذا نحن هنا في هذا العالم، وإلى أين نحن ذاهبون؟
الإسلام أجاب عن كل هذا في آيةٍ واحدة من القرآن الكريم، قال ربنا سبحانه ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [٢٢] سورة يس.
من أين جئت؟ الله خلقني (الَّذِي فَطَرَنِي).
وإلى أين أنا ذاهب؟ سوف أذهب إلى الله لأُحاسَب على عملي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
لماذا جئت إلى هذا العالم؟ لعبادة الله ولأُختبَر.
لماذا أعبد الله؟ من الطبيعي أن أعبد الله الذي فطرني، فهذه طبيعة العلاقة بين العبد وربه أنْ: يعبد العبد ربه وخالقه (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي).
آية واحدة جمعت جواب أهم ثلاثة أسئلة يحار فيها البشر ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [٢٢] سورة يس.
فالإسلام هو شرع الله للعالم.
والإسلام يعني أنْ يُسْلم العبد نفسه لله, فيخضع لله وينقاد له بالطاعة، ويُذعن لخالقه ومولاه.
قال الله تعالى ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ﴾ [٢٢] سورة لقمان.
فالإسلام يعني العبودية لله في كل صغيرة وكبيرة في حياتك، قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١٦٢] لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [١٦٣]﴾ سورة الأنعام.
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: كل شيء أفعله لله، فأنا أصلي لله، وأطيع والديَّ لله، وأذاكر وأتعلم حتى أنفع الناس لله، وأنام حتى أكون أقوى في الغد على فِعل ما أمرني الله به.
فهي عبودية لله في كل عمل، وهذه من أهم مظاهر وعلامات التسليم لله.
فالجوع المعرفي... الجوع لمعرفة أهم ما يشغلُنا لا يُشبعه إلا الإسلام...
بينما الإلحاد لا يكفي إنسانًا يعلم أنَّه وُلد ليموت.
الكتيب يمثل: وجبة علمية وعقلية في إشكالات الإلحاد، وبعض دلائل صحة الإسلام.
والوجبة بصيغة سؤال وجواب...
فهيا نبدأ على بركة الله.
ج: الإلحاد هو: رفض الاعتقاد بأية قوى غيبية.
فالملحد ينكر الخالق والنبوات والبعث.
ج: الإلحاد يتطلب إيمانًا أعلى بكثير من الإيمان الديني.
لكنه إيمان مبني على الفروض المتوهمة والخيالات الخاطئة، بعكس الإيمان الديني المبني على بديهيات فطرية وقطعيات نرصدها بأعيننا وأوليّات عقلية وبراهين شرعية.
فحتى تُلحد عليك تخيُّل الآتي:
أ- اللاشيء انضاف إلى اللاشيء فصار شيئًا عظيمًا... صار كونا مدهشًا من أروع ما يكون وبمنتهى المعايرة الدقيقة والحدود الحرجة.
ب- الصدفة أنتجت الحدود الحرجة والثوابت الفيزيائية التي جاء بها الكون؛ في حين أن شرطي الصدفة هما المكان والزمان، والكون جاء من اللامكان واللازمان وبالتالي من اللاصدفة!
ج- العشوائية وبيئة الأرض الأولى أنتجت الحياة وأنشأت الباكتريا والإنسان، في حين أن العقل البشري في قمة جبروته الآن لا يستطيع أن يُنتج أبسط صور الحياة.
د- كل القيم الأخلاقية التي نُسلم بصحتها والتي يسير أغلبها في اتجاه مضاد للمادة تمامًا –فالأخلاق الأصلية تمثل عبئًا ماديًا وخسارة على مستوى المصلحة الدنيوية- هي من معطيات المادة ومنتوجاتها.
هذه المحالات العقلية عليك أن تؤمن بها حتى تبدأ في الإلحاد.
هـ- لا يوجد مستند عقلي ولا مادي في الإلحاد يمنع من إبادة أهل الأرض جميعًا.
فالعالم المادي لا يعرف الخطأ ولا الصواب؟
إذن تستوي إبادة أهل الأرض جميعًا بإحيائهم إلحاديًا.
فالإلحاد مبناه على الإيمان أيضًا، لكن إيمان بلا أثارةٍ من علمٍ أو نقلٍ أو عقلٍ أو خُلق.
ج: الأدلة كثيرة لكن نكتفي بدليلين:
1- دليل الإيجاد.
2- دليل العناية والإتقان.
ج: دليل الإيجاد يعني أنَّ:
كل شيء مُحدَث أي وُجد بعد أن لم يكن موجودًا، لابد له مِن مُحدِثٍ، أي: موجِد.
وبذلك يكون لدينا ما لا حصر له من الأدلة على وجود الخالق سبحانه.
فكل ذرَّة في الكون هي دليل على الخلق، إذ كل شيء مُحدَث قد ظهر إلى الوجود هو: دليل على الخالق الموجِد.
وأنت إذا نظرت إلى الوجود تبيّن لك أنه عارض ومتغير وليس دائمًا أو أزليًا، وبالتالي فهو غير مكتفٍ بذاته، وهذا يجعلك تقطع بعقلك بأنَّ له خالقًا، وبالتالي ينصرف نظرك إلى موجد العالم بمجرد النظر في العالم.
ولذلك ما أكثر آيات القرآن في لفت النظر إلى العالم والموجودات من حولنا، قال الله تعالى ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [١٠١] سورة يونس.
وقال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [٨] سورة الروم.
وقال تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ﴾ [١٨٥] سورة الأعراف.
فكل شيء مُحدَث هو: دليل مباشر على الموجِد!
ج: دليل العناية والإتقان يعني أنَّ:
كل شيء في الوجود على الإطلاق من الكواركات –أصغر جُرم مادي تم رصده يُشكل البُنى الذرية- إلى المجرات، يحمل درجة من درجات التعقيد الوظيفي.
أي يؤدي وظيفة متخصصة ومهمة محددة.
وكل تعقيد وظيفي في الطبيعة هو مرتبة زائدة على مجرد الوجود.
فالوجود مرتبة.
والتعقيد داخل الشيء الموجود، هو مرتبة زائدة على مجرد الوجود.
وكل ما حولك مُصمم بشكل معين ليؤدي وظيفة محددة.
إذن كل ما حولك يحمل تعقيدًا وظيفيًا.
والتعقيد الوظيفي هو دليل صنع وإيجاد.
إذن لابد من موجِد.
مثال ذلك "المصباح": هذا يمثل تعقيدَا وظيفيًا.
فالمصباح الكهربي يتكون من:
1- فتيلة.
2- سلك من الرصاص: يوصل الكهرباء للفتيلة.
3- غاز خامل: يحمي الفتيلة ولا يتعامل معها ولا مع الكهرباء.
4- زجاج: يمنع دخول الهواء أو خروج الغاز الخامل وإلا لاحترقت الفتيلة.
5- قاعدة المصباح: توصل المصباح بالدواية وتكون مسارًا للتيار الكهربي.
هنا المصباح الكهربي نظام به تعقيد لا يمكن تبسيطه، وبالتالي فيه دلالة عقلية أولية تفيد الصنع المتقن.
الشخص الذي ينفي الصنع المتقن عن المصباح أو يفترض ظهوره بالصدفة هو المطالب بالدليل على ذلك!
فالذي صَنع المصباح يعلم تمامًا معنى الكهرباء ومساراتها وفائدة المصباح وحساسية الفتيلة، ولذا وجود المصباح دلالة مباشرة على أن له صانع متقِن، وليس ضرب عشواء لمجرد أن هناك مصابيح مختلفة في شكلها تمامًا عنه!
وبنفس الدرجة من الاستدلال العقلي نجد أن الشيء المعقد وظيفيًا مثل الإنسان له موجِد صانع.
المصباح يتكون من 5 مكونات...
بينما الإنسان يتكون من 4 مليار مُكوِّن في كل خلية من خلاياه.
4 مليار مكوِّن "حرف" يشكلون وظائف الكائن الحي، وهي التي تسمى: الشفرة الوراثية أو الجينوم أو الـDNA وتقبع هذه الحروف في نواة كل خلية من خلاياك.
فإذا ظننت أنَّ الـ5 مكونات الخاصة بالمصباح لها صانع وأنت ليس لك صانع فهذه مشكلتك أنت.
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [٣٥] سورة الطور.
وكل شيء حولك فيه تعقيد، ولا يوجد شيء في الطبيعة ولا في الذرة ولا في الأفلاك ولا في داخل جسدك على الإطلاق بدون قدر من التعقيد الوظيفي.
فالتعقيد الوظيفي والوظيفة لكل ذرة وكل جُسيم هي أمور موجودة في كل شيء في الكون.
قال الله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّـهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [١٦٤] سورة البقرة.
والآيات في ذلك كثيرة جدًا؛
ولا يتذكر إلا من يستخدم عقله ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [٧] سورة آل عمران.
فمن استخدم عقله ونظر في الوجود (دليل الإيجاد) ونظر في ضبط ووظائف الموجودات (دليل العناية والإتقان) سيقطع بصحة دلالة الموجِد عقلاً!
ج: هنا مشكلتان:
المشكلة الأولى: أنَّه لا يوجد دليل واحد رصدي على انتقال نوع من الكائنات الحية إلى نوعٍ آخر، فضلاً عن هذه القفزة الافتراضية المهولة بأنَّ الإنسان أتى من كائنات أولية.
فكيف للملحد أن يؤمن بهذا الافتراض المعدوم من أي دليل مباشر وينكر علينا الاستدلال العقلي الديني؟
المشكلة الثانية: طبقاً لنظرية الحد الأدنى من الجينات Minimum gene set concept لا يُمكن لكائن حي مهما كانت بساطته أن ينزل إلى أقل من 200 جين.
والحد الأدنى من الجينات هو: القدر الأدنى من الجينات الذي لا يحيا كائن حي بدونِه!
فلن يكون هناك كائن حي لو قلَّ عدد الجينات عن الحد الأدنى بمقدار جينٍ واحد.
والجين هو شريط معلوماتي يحتوي على عدد كبير من الشفرات الوراثية تُشفر المعلومات.
فهناك حدٌّ أدنى من الجينات لازم للحياة بحيث: تشفر مجموعة من هذه الجينات للطاقة -لأنه لا حياة للكائن الحي بدون طاقة-، ومجموعة جينات أخرى تُشفر للغذاء، وجينات أخرى تشفر للتكاثر، وغيرها تشفر للوظائف الأساسية للحياة، وهكذا!
قام العلماء بحساب الحد الأدنى من الجينات اللازم للحياة، وقرَّروا أنها لا يمكن أن تقل عن مائتي جين.
وقد توصَّلت مؤسسة كريج فنتر Craig Venter إلى أنَّ الحد الأدنى من الجينات لا يكون أقلَّ من ثلاثمائة واثنين وثمانين جينًا.([1])
وقد وجد العلماء أن الميكوبلازما Mycoplasma وهي أدق كائن حي موجود على وجه الأرض على الإطلاق، لديها 468 جين.
لو كان الأمر مادةً فحسب، والعالم مُجرَّد نظام مادي، فنحن بحاجة إلى أنْ نبدأ من الصفر جين، إذا أردنا المرور من الهيدروجين إلى الإنسان!
لكن العلم يخبرنا أنَّه لا يوجد شيء يُسمَّى صفر جين، أو واحد جين، أو حتى مائة جين، العلم يقول: إنَّنا بحاجة إلى مجموعة عملاقة من المعلومات كحد أدنى، وإلا لما ظهر الكائن الحي من البداية.
فليس هناك في الطبيعة شيء بدائيٌّ، بل كل منظومة بدأت بإبهار مستقل!
وسيبقى الإبهار في النظام المعلوماتي الذي يُشفر للكائنات قبل أن تظهر، سيبقى هذا الإبهار دومًا حَجَر عثرة في وجه الإلحاد، حَجَر عثرة في وجه مُنكري الخلق الإلهي!
فأنت أمام 4 مليار معلومة متخصصة –تلك المعلومات الموجودة داخل نواة كل خلية من خلاياك- لإنتاج وظائف حيوية دقيقة.
فالملحد كان يتخيل أن هناك كائنات بدأت من الصفر جين، لكن أتت نظرية الحد الأدنى من الجينات لتقضي على هذا الحلم.
فالكائنات الحية ظهرت معقدة وظيفيًا منذ اللحظة الأولى، وإلا ما ظهرت ابتداءًا.
ج: الأمثلة لا حصر لها.
ولا تسعها دواوين الأرض.
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [٢٧] سورة لقمان.
فكل ذرة في الكون هي دليل عناية علِمنا اليوم أو سنعلم غدًا بهذه الحقيقة.
أ- فالإنسولين – هرمون هضم الجلكوز- يفرزه البنكرياس بنفس مقدار السكر الذي أكلته.
ب- قوة ضخ القلب للدم تتعادل مع الطاقة التي تحتاجها العضلات بحسب الجهد المبذول.
ج- صمامات معدتك لئلا يرجع الطعام إلى فمك فتتأذى.
د- صمامات الإخراج لئلا تتأذى ثيابك في كل لحظة.
هـ- عظام جمجمتك لا تلتحم حتى تنزل من بطن أُمك آمناً بسهولةٍ ويُسر، لأنها لو كانت ملتحمة لما نزلت من بطن أمك إلا بعد تكسرها، ولا يكتمل نموها حتى يكتمل نمو مخك.
و- كل محاور أعصابك والتي تنقل الإشارات الكهربية مُغطاه بطبقة عازلة –كما نفعل نحن الآن مع الأسلاك الكهربية -، لئلا تشرد الإشارة الكهربية أو تضيع أو تسبب لك إزعاجًا.
ز- الالكترون يدور حول النواة بسرعة ألف كيلو متر في الثانية وإلا لسقط داخل النواة بفعل قوة التجاذب مع النواة الموجبة ولانهار الكون قبل أن يبدأ، وهذه هي السرعة المثالية لتشكل الذرة.
ح- عندما تلتحم ذرتان من الهيدروجين فإن 0.007 % من كتلة الهيدروجين تتحول إلى طاقة، ولو كانت هذه الكتلة هي 0.006% بدلا من 0.007% ، فإن البروتون لن يلتحم بالنيوترون، ولظل الكون مجرد هيدروجين فحسب، ولما ظهرت باقي العناصر، ولو كانت الكُتلة المتحوّلة إلى طاقة هي 0.008% بدلاً من 0.007%، لأصبح الالتحام سريعاً للغاية، الأمر الذي سيؤدي إلى اختفاء الهيدروجين فوراً من الكون، فتستحيل معه الحياة، فالرقم يلزم أن يكون بين 0.006% و 0.008%.
ط- كتلة الإلكترون Electron mass تمثل 0.2% من كتلة النيوترون Neutron mass، وهذه هي الكتلة القياسية لتكوين الذرَّة.-
ي- تتجه البراعم بعد الإنبات مباشرةً نحو مصدر الضوء وتتجه الجذور نحو الأسفل حيث تتمتع البراعم بحساسية مفرطة للضوء، وكل المعلومات التي تحتاجها للقيام بوظيفتها توجد مُشفرة داخل البذرة، وهناك هرمونات تتحكم في النمو العلوي والجانبي للنبتة وفي اتجاه الجذور وكلها أيضاً مشفرة داخل البذرة.
ك- بينما أنت تأكل الفاكهة اللذيذة ثم ترمي البذرة الجافة اليابسة عديمة الطعم بعيدًا عنك، أنت بهذا تسمح لتلك الفاكهة أن تُمرر جيناتها حيث تمنحك الفاكهة طعماً لذيذاً بينما هي تُخفي جيناتها -أصل حياتها- في قلب بذرة جافة ملساء غير مغرية لك، فما أن تلقي بهذه البذرة على الأرض حتى تبدأ حين تتوفر الظروف المناسبة في تشكيل شجرة الفاكهة بما فيها من فروع وأغصان وجذور، كل هذا يحدث في نباتات لا تعي شيئا.
ل- مَن الذي ضبط المعلومة لتلك الفاكهة البكماء الصماء، وضَبَط كمية السُكر بها بحيث تروق لك؟
ثم: مَن الذي جعل البذرة غير مقبولة وغير مُستساغة، حتى تزهد فيها وتلقيها بعيدًا؟
ثم: مَن الذي شحن البذرة بالمعلومات الوراثية الكافية لتخليق نبتة جديدة بكل تفاصيلها ووظائفها؟
م- تبيَّن لنا مؤخرًا أنَّ: القصور الذاتي أو العَطالة Inertia التي نحيا في نعيمها هي نتاج كتلة الكون ككل.
ما معنى: القصور الذاتي؟
لو أنك تركب سيارة وفجأةً السيارة توقفت، ما الذي يحصُل؟
تندفع للأمام! أليس كذلك؟
هذه هي العطالة أو القصور الذاتي.
لو كان القصور الذاتي في عالمنا أقلَّ مما هو عليه الآن لاستطاعت أبسط نسمة هواء أن تحرك الصخور، وفي عالم كهذا نكون معرضين باستمرار لقصف كل أنواع الأشياء!
ولو كانت العطالة أكبر مما هي عليه الآن لما استطعنا حتى تحريك أصابعنا.([2])
وتتوقف قوة القصور الذاتي أو العَطالة على الكتلة.
والأمر الذي أدهش الفيزيائيين أن كتلة مَجرَّة درب التبانة، المجرة التي تحتوي على مجموعتنا الشمسية، لا تشارك في ضبط العطالة إلا بنسبة 0.1 بالمليون، بينما كتلة الأرض لا تضبط العطالة إلا بنسبة 0.001 بالمليون.
فالعطالة المثالية التي نحيا على ثمارها، والتي من خلالها نمارس كل أنشطتنا، هي نتاج مجموع طاقة الكون ككل.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [٢٧] سورة ص.
وكلما توسَّع العلم، ظهرت عجائب الحكمة ودقائق الخلق!([3])
ن- ثم ماذا لو ذهبنا للعين:
تلك النعمة التي لا تُقدر بثمن ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾ [٨] سورة البلد.
فدقة العين توازي: خَمْسمائة وستة وسبعين ميجا بيكسل.
وتحتوي العين على أنقى عدسة في العالم.
وحجم المستقبل الضوئي في الشبكية لا تتجاوز مساحته نصف ملليمتر مربع، ويميز بها بين عشرة ملايين درجة لونية بأبعادها المختلفة، إنَّه إعجاز وخلق إلهي مبهر.
وعندما تنظر لشيءٍ أمامك ويسقط الضوء على شبكية العين، فإنه تحصل في هذه اللحظة عدة عمليات كيميائية معقدة تُوَّلِد في الأخير تيارًا كهربيًا، ينتقل هذا التيار من شبكية عينك إلى دماغك عبر أسلاك عصبية، والدماغ هنا يقوم بتفسير تردد هذا التيار الكهربي على أنه رؤية، وكأن الدماغ يمتلك قاموسًا متكاملاً مسبقا يُحول التيار الكهربي الذي وصل إليه إلى رؤية لما أمامَك.
شيء مدهش لو فكرتم فيه!
تخيل: هذا المخ يقبع داخل صندوق عظمي مظلم – الصندوق المظلم هو الجمجمة-.
ولا يصل لمخِك إلا تيارات كهربية.
فكيف يفسر المخ هذا التيار على أنَّه رؤية؟
كيف أعطاك الرؤية؟
هذا الإعجاز يحصل في لحظة بمجرد أن تفتح عينيك وتنظر!
ونفس الأمر بالنسبة للسمع:
حيث تدخل موجات الصوت إلى طبلة أذنك، فتُحولها طبلة الأذن من موجات إلى حركة ميكانيكية، ثم تنتقل هذه الحركة الميكانيكية عبر ثلاث عظمات صغيرة جدًا داخل الأذن الوسطى إلى الأذن الداخلية والتي تحولها إلى تيار كهربي.
هذا التيار الكهربي سوف ينتقل الآن من الأذن الداخلية إلى المخ، ليبدأ المخ في تمييز هذا التيار الكهربي إلى أصوات فتسمع الصوت!
كل هذا يجري أيضًا في أقل من جزء من الثانية ﴿وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [٧٨] سورة النحل.
تخيل أنَّ المخ تصل إليه كل لحظة آلاف الإشارات الكهربية من العين والأذن واللمس والتذوق والشم، ومن أعضاء الجسم المختلفة ليميز بين كل هذه الاشارات بدقة من أعجب ما يكون ﴿هَـٰذَا خَلْقُ اللَّـهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [١١] سورة لقمان.
﴿صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [٨٨] سورة النمل.
من هذا الذي يُحصي نعمة واحدة من نعم الله؟
فَكِر في كل مَفصِل في جسدك وفي كل عظمة تتيح لك الحركة بقدرها!
فَكِر في المفاصل الملساء التي تتيح لك الحركة بلا احتكاك بين العظام ولا تآكل، هذه المفاصل التي أودع الله فيها سائل كالشحم الذي يوضع في مفاصل الآلات!
فَكِر في نعم الله متأملاً شاكرًا لأنعمه سبحانه.
نِعم الله لا تحصى ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ [٢٠] سورة لقمان.
ج: عدم وجود أشياء متقنة في الكون على حد تعبير الملحد لا ينفي وجود الإتقان.
فهو بذلك يؤكد وجود الإتقان في الكون.
فلو لم يكن ثمة إتقان أصلاً لما أدرك الملحد وجود أشياء غير متقنة.
فكيف تتحدث عن عيب في التصميم في عالم بلا تصميم؟
أما ما يصفونه بأنه غير مُتقن فهذا قصور في العلم أو قصور في إدراك الحكمة من الأشياء.
فالمؤمنون لا يقولون أن الكون متقن فلا تقع فيه مصائب، وإنما يقولون أنَّ: الكون متقن فلا يقع فيه شيء بلا غاية.
وموقف الملحد شبيه بمن ينفي الاتقان عن مركبة الفضاء لوجود كمية ضخمة من المواد البترولية فيها والتي قد تُفجر المركبة في أية لحظة!([4])
والعالَم لم يُصمَم ليكون عالمًا أبديًا أو أزليًا، ونحن لم نُصمم لنصير آلهة؟
بل نحن مُصممون لنبتلى بالخير والشر ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [٣٥] سورة الأنبياء.
والخير والشر وكل فتنة تدور في إطار الحكمة والمشيئة الإلهية.
ج: هناك قاعدة أسّس لها علماء الإسلام منذ أكثر من ألف عامٍ تقريبًا، هذه القاعدة تقول أنَّ: "التسلسل في الفاعلِين يؤدي بالضرورة إلى عدم وقوع الأفعال".([5])
التسلسل في الفاعلين أي: وجود أكثر من خالق، وفي هذا السؤال عندنا حضارة أخرى وحضارة سبقتها أنتجتها وحضارة سبقتهم أنتجتهم وهكذا، فهذا تسلسل في الخالقِين.
هذا التسلسل يؤدي بالضرورة إلى عدم وقوع أفعال.
عدم وقوع أفعال أي: عدم ظهور مخلوقات مثل الكون والإنسان وغيرهم.
فالتسلسل في الفاعلِين يؤدي إلى عدم ظهور الكون والوجود.
فلو أنَّ إحدى الحضارات يتوقف ظهورها على حضارة أخرى أنشأتها والحضارة الأخرى يتوقف ظهورها على حضارة سابقة عليها أنشأتها وهكذا إلى ما لا نهاية، فلن تظهر هذه الحضارة ولا التي تسبقها ولا التي تسبقهما ولن يظهر الوجود ولا أي شيء.
لأن كل حضارة يتوقف ظهورها على حضارة سبقتها وهكذا وبالتالي لن تظهر أي حضارة ولن يظهر أي شيء.
فلابد من خالق أول أزلي أوجد كل شيء!
فلو كان تسلسل لا نهائي وكل حلقة في السلسلة تعتمد على التي قبلها، فلن توجد مخلوقات ولا خلق ولا موجودات، لأن الفاعل سيتوقف وجوده على فاعل يسبقه وسابقه يتوقف على سابق لهما وهكذا، وبالتالي لن يوجد أي شيء.
فلابد أن تتوقف السلسلة عند حد.
وهنا نجزم بالخالق الأول الذي لا يسبقه شيء!
ج: يفترض الملحد أنَّ القوانين تكفي لخلق الكون وظهوره، وقد اعتمد بعض الملحدين على فكرة "قانون الجاذبية" وأنَّه كافٍ لظهور الكون، وبغض النظر عن سقوط هذا الزعم ذاتيًا بمجرد التفكير في مصدر قانون الجاذبية، أو مَن الذي قننه أو مَن الذي أعطاه صفة التدخل وإظهار الأثر؟
بغض النظر عن هذه البديهيات الأولية فإنَّ قانون الجاذبية لا يؤدي إلى دحرجة كرة البلياردو!
فالقانون وحده عاجز عن أي شيء بدون ظهور الشيء.
فقانون الجاذبية لن يُنتج كرة بلياردو وإنما فقط يُحركها إذا ظهرت وضُربت بعصا البلياردو.
فقانون الجاذبية ليس شيئًا مستقلاً وإنما هو وصف لحدث طبيعي.
وقانون الجاذبية لن يُحرِّك كرة البلياردو دون قوة تضغط على عصا البلياردو وتحركها وهنا فقط تتحرك كرة البلياردو ويظهر أثر قانون الجاذبية.
لكن الملحد يفترض أن وجود قانون الجاذبية يكفي لخلق كرة البلياردو وعصا البلياردو ودحرجة الكرة!
أيهما أكثر قربًا من العقل والمنطق في سبب ظهور هذا الكون: الخالق أم القانون؟
وبالمثل فقوانين الاحتراق الداخلي في موتور السيارة لن تخلق موتور سيارة.
ولو أضفنا قوانين الاحتراق الداخلي إلى موتور السيارة فإن الموتور أيضًا لن يعمل، فلابد من البنزين الذي يعطي طاقة، ولابد من شرارة الاحتراق ولابد قبل ذلك من وجود الموتور، وهنا فحسب تظهر قوانين الاحتراق الداخلي ويعمل الموتور!
فليس من العقل افتراض أن قوانين الاحتراق الداخلي تكفي لخلق الموتور وشرارة الاحتراق والبنزين والسائق والطريق.
ففكرة الاكتفاء بالقانون لتفسير ظهور الكون هي فكرة لا تنتمي للعقل في شيء.
ثم إن هذه الفكرة لو افترضناها ستُدخلنا في تسلسل الفاعلين الذي شرحناه في إجابة السؤال السابق، فمن الذي خلق هذا القانون ومن الذي أوجده، ولو زعموا أنه قانونًا آخر سندخل في تسلسل الفاعلين الذي يقضي بعدم ظهور أي قانون أو أي موجودات.
ج: القول بالصدفة هو جهل بأصول الاحتمالات؛ لأن الصدفة لها شرطان لا ينفكان عنها.
وهما: الزمان والمكان.
فالصدفة تشترط زمان تقوم فيه بإحداث أثرها.
وتشترط وجود مادي مكاني تقوم فيه بإنتاج مفعولها.
فكيف نقول بدور للصدفة في إيجاد الكون، مع أن كوننا جاء من اللازمان واللامكان؟
كيف يظهر أثر الصدفة دون ظهور الصدفة نفسها؟
كيف تُعطي الصدفة أثرًا قبل وجودها ووجود الزمان ووجود المكان اللذان هما شرطا الصدفة الأساسيان؟
ج: طبقا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية Second Law of Thermodynamic يستحيل أن يكون الكون أزليًا.
ولتبسيط هذا القانون نضرب هذا المثال لشرحه:
لو كان عندك كوب ماء ساخن في الغرفة، فإن الحرارة تنتقل من الماء الساخن إلى جو الغرفة حتى تعادل درجة حرارة الغرفة درجة حرارة الكوب، هذا هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، حيث تسري الطاقة من الأعلى إلى الأدنى طوال الوقت.
وهذا القانون يحصل في كل شيء في الكون في كل لحظة منذ ظهور الكون، حتى تتساوى حرارة كل شي في الكون، وحين تتساوى حرارة كل شيء في الكون سيحدث ما يعرف بـ: الموت الحراري للكون4
Thermal Death of Universe .
فلو كان الكون أزليًا لكان المفترض أن يصبح متوقفًا الآن –ميت حراريًا-، لكن في الواقع الكون الآن في حالة أقل من الانتروبي القصوى، ولم يصل للموت الحراري بعد، إذن هو ليس أزليًا بل له بداية ثابتة ظهر معها الزمان والمكان.
وقد ثَبُت طبقا لنفس القانون أنَّ الكون بدأ عند الحد الأدنى من الأنتروبي، وهذا يعني أنَّ حدوثه كان على غير مثالٍ سابق –مُبدَع-.
فهذا قانون علمي في جانب بينما الإلحاد في جانب آخر تمامًا.
ج: أولاً: الخالق لا تنطبق عليه قوانين مخلوقاته وهذا بديهي.
وإلا لقلنا: مَن الذي طبخ الطباخ؟
ومَن الذي دَهن الدهّان؟
فالخالق من البديهي أنه موجِد الزمان والمكان فلا تنطبق عليه قوانين هو الذي أوجدها سبحانه!
ثانيًا: كل شَيْءٍ حادث له محدِث، هذا صحيح؛ لكن الخالق ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [١١] سورة الشورى.
ثالثًا: الخالق ليس حادث –بل هو أزلي- فكيف نقول مَن الذي خلقه؟
رابعًا: لابد أن يكون الخالق أزليًا واجب الوجود وإلا لدخلنا في مشكلة "التسلسل في الفاعلين الذي يؤدي بالضرورة إلى عدم وقوع الأفعال" وهذا ما شرحناه قبل قليل بالتفصيل، فلابد أن يكون الخالق واجب وجود أول أزلي سبحانه.
ج: الملحد يضع افتراضًا متهافتًا فيقول: بما أن الكون ضخم، إذن الإنسان ليس مركزًا في هذا الكون!
هذا الافتراض مبنيٌّ على مقدمة: بما أن المزارع شاسعة وصاحبُها حجمه صغير جدًّا بالنسبة لها إذنْ: هو ليس بصاحبِها!
ليس الأمر بالحجم إطلاقًا.
والأخلاق التي بلا حجم مادي هي المعيار الأكبر في التفاضُل بين أعظم الناس وأحقر الناس.
فالناس يوزنون بأخلاقهم.
فقضية الأحجام ليست معيارًا!
ودعونا نضرب هذا المثال: لو أنَّ عندنا مَلِكًا وهذا الملك أوصى لابنه ببعض الوصايا والنصائح، وكَتب له في ذلك كتابًا، هل يمكن أن يأتي معترضٌ ويقول: كيف لملك يملك ملايين الأفدنة والأراضي الشاسعة التي لا حصر لها أنْ يهتمُّ بابنه الذي لا يبلغ حجمه ووزنه واحد على مليون مما يملك هذا الملك من الأراضي والأفدنة؟
ولله المثل الأعلى.
هل هذا اعتراض معقول أصلًا؟
فالقضية ليست بالحجم ولا بالوزن.
ثم أليس هذا الكون بدأ من نُقطة أصغر من رأس الدبوس بمليارات المرات كما يقرر كل فيزيائي العالم؟
إذنْ الحجم نسبيٌّ.
ثم ما الذي يضير الملحد أن يخلق اللهُ ما يشاء بالكيف الذي يشاء؟
هل الإله يعاني من نقص في الموارد حتى يُنفق بقدر الحاجة؟
تعالى الله عن ذلك.
لكن هل نحن بالفعل نمثل مركزًا في هذا الكون؟
نعم أنت أيها الإنسان: مركز هذا الكون بالتكليف الإلهي.
والتكليف الإلهي هو: الدِّين.
فالدين هو الأمانة التي حملتَها، وهو الاختبار الأعظم الذي أنت مطالَب بأدائه.
فأنت أيها الإنسان مطالب بالعبودية لله تعالى وبهذا تكون مركزًا في هذا الكون، فأنت مركز هذا الكون لا بحجمك ولا بقوتك ولا بقدراتك وإنما بالتكليف الإلهي.
وأنت القادر على فعل الخير وترك الشر... القادر على الإيمان والكفر.
فكلنا يعلم أنه مُكلَّف، سواءً شئنا أم أبينا!
الملحد والمؤمن واللاأدري الكل يعلم أنه مُكلَّف ويشعر بالتكليف الإلهي، ويعاني وَخْز الضمير الأخلاقي، ويعرف أنَّ بداخله: افعل ولا تفعل... افعل الخير ولا تفعل الشرَّ، كلنا يعلم من واقع نفسه أنه مُطالَب!
فنحن في مركز هذا الكون تكليفيًّا!
أيضًا نحن في مركز هذا الكون إدراكيًّا ومعرفيًّا، فنحن ندرك ونعي ونعقل ونعرف حقيقة وجودنا، وحقيقة الكون من حولنا، ونفهم معنى وجودنا جيدًا.
فنحن المُطالبون المآخذون المُكلفون المحاسَبون!
ونحن الكائن المُدرِك لروعة الإعداد بعنايةٍ، نحن الكائن المدرك للإتقان، نحن الكائن القادر على تنفيذ ما كُلف به أو الكفر بالتكليف، نحن نَقدر تمامًا على الاختيار، نحن نَقدر على الإيمان والكفر.
فنحن في مركز هذا الكون ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [٧٢] سورة الأحزاب.
ج: ما عَلاقة وجود كواكب كثيرة بنقد دليل الإتقان؟
القضية ليست موادًا أوَّلية.
ليس بما أنني في غابة مليئة بكافة الخُضر والثمار والحيوانات، ليس معنى ذلك أن يظهر أمامي فجأةً في وسط الغابة إناء طعام مطبوخ شهيٍّ؛ فالقضية ليست موادَّ أوَّلية!
أيضًا ليس معنى توافُر الرمال في صحاري العالم، ليس معناه أبدًا أنني أجد المعالجات الرَّقْمية والشرائح الإلكترونية التي تُصنع من الرمال، حولي في كل مكان في الصحراء!
فالقضية ليست موادًا أولية؛ القضية صُنع وإتقان Know how.
ليس مجرد وجود مجموعة كواكب تكون كافية لأن يظهر بينها كوكب بهذا الإتقان كالأرض.
القضية إتقان وخلق وصُنع ﴿صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [٨٨] سورة النمل.
فوجود كواكب أخرى كثيرة لا يبرر إطلاقًا وجود حياة على كوكب الأرض.
وجود كواكب أخرى لا يبرر شفرة وراثية بداخلك من أربعة مليارات حرف تضبط كل وظائفك وأعضائك وهرموناتِك بضبطٍ مبهرٍ قبل أن توجد أنت بنفسك!
فالحياة معلومة وليست بمادَّة.
ولو صعدنا أنا وأحد الملحدين على أحد الكواكب واكتشفنا جهازًا مُعقدًا يعمل بضبطٍ مبهرٍ، وحتى لو لم نفهم وظيفته بعدُ، هل يمكن إنكار الصانع لهذا الجهاز لمجرد ضخامة حجم الكوكب الذي نحن عليه؟
البداهة العقلية تدفعنا أنا والملحد حين نرى هذا الجهاز للقول بالموجِد القادر.
والذي ينكر هذه البداهة العقلية الذي يُنكر المُوجِد هو المُطالَب بالدليل وليس المُثبِت!
الملحد في هذا الكون المبهر الأنيق هو المُطالب بالدليل وليس المؤمن!
ذات مرة كتب الملحد اللاأدري كارل ساغان رواية اسمها "كونتاكت Contact"، يحكي فيها كيف أنَّ العلماء يبحثون عن ذكاء خارج الأرض.
وفي الرواية الخيالية اكتشف العلماءُ سلسلة طويلة من الأرقام الأوَّلية قادمة من الفضاء الخارجي؛ ولأن هذا التسلسل الأولي يفيد قيمة رياضية مُحدَّدة، قيمة تدلُّ على نوع من الضبط، فكان هذا دليلًا عقليًّا كافيًا ليقطعوا أن هذه الرسالة قادمة من حضارة أخرى تحاول التواصل معنا!
الطرفة أن كارل ساغان لاأدريٌّ شهيرٌ Agnostic، لكن عقله يُسلِّم بحقيقة أن التعقيد والنظام في رسالة صغيرة هو دليل على برهان الإيجاد والإتقان!
مُجرَّد سلسلة من أرقام أوَّلية ستقطع بوجود حضارة عملاقة؛ فكيف تَنسب أربعة مليارات حرف داخل كل خلية من خلايا جسدك، والتي لو اختلَّ حرف واحد منها لربما حصلت كارثة، كيف تنسب كل هذا الإتقان إلى المراوغات الإلحادية اللامنطقية؟
ليس من العقل في شيءٍ الاحتكام إلى مراوغات لمنع تفسير الظاهرة في إطارها الدلالي على الخالق ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [١٠١] سورة يونس.
ج: قال الله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا﴾ [٢٢] سورة الأنبياء.
وجود إله مع الله يقتضي التعدد، والتعدد يستلزم الافتقار.
والافتقار على الخالق -حاشاه سبحانه- يستلزم عدم أمان الكون وأنه قد ينهار... يستلزم فساد الكون.
فلا ضمان لبقاء الكون مع إله مفتقر!
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [٢٢] سورة الأنبياء
تنزه الباري عن الحاجة والافتقار فهو الغني القيوم سبحانه.
أضف إلى ما سبق: أنه لو كان فيهما إلهين أو أكثر فإمكان التعارض أقرب عقلاً من التوافق، لأن أكثر من إله يعني أكثر من مشيئة وأكثر من إرادة، وتعدد الإرادات يعني إفتقار كل أحد، وهذا يستلزم فساد السماوات والأرض.
وفطرة الإنسان تقطع بأنَّ الله واحد، ولو نظر فيزيائي أو غير فيزيائي في هذا الكون فلن يتصور له إلا خالقًا واحدًا فهذه فطرة.
ج: أشرس ملحد يؤمن بأنَّ الصدق أفضل من الكذب، أليس كذلك؟
أشرس ملحد يؤمن بأنَّ الأمانة أفضل من الخيانة، أليس كذلك؟
هذه مصطلحات ليست من هذا العالم وليس في العالم المادي ما يبرر معناها ولا مقتضاها.
فما معنى الصدق؟
ما معنى الأمانة؟
هل لو قمنا بتحليل أعماق الذرة سنرصد معانٍ مثل: الصدق أو الكذب؟
هل لو رصدنا فيزياء المجرات أو كيمياء الهرمونات سنرصد: الأمانة أو الخيانة؟
هذه مصطلحات ليست من هذا العالم المادي.
لكنها مصطلحات حقيقية.
بل هي من أعظم الأمور.
فقيمة الانسان بأخلاقه وليس بحجمه المادي ولا بعدد ذراته ولا بمستوى طاقة خلاياه.
قيمة الإنسان بالتزامه بالتكليف الإلهي بداخله.
وهذه القيمة لا يشترك فيها مع الإنسان من العالم المادي شيء.
فهناك رجلٌ صالح ورجلٌ فاسد.
لكن لا يوجد جبلٌ صالح وجبل فاسدٌ.
ولا نرصد كوكبًا أمينًا وكوكبًا خائنًا.
الإنسان فقط هو المَعني بالقيمة والمعني بالغاية والمعني بالوجود.
الإنس والجن فقط هم مَن يستوعب أنَّه مُكلف.
وما الشعور بمعنى الأخلاق إلا جزء من فطرة التكليف الإلهي داخل كلٍ منّا.
فالدين ضرورة لفهم الإنسان.
الدين هو الوحيد الذي يبرر معنى الأخلاق ولماذا هي موجودة ولماذا نشعر بضرورة الالتزام بها.
الوحيد الذي يعطي للأخلاق صبغتها هو الدين.
فالأخلاق لا يمكن فهمها إلا في إطار التكليف الإلهي.
ولا يمكن معرفة لماذا هي فطرية في الجنس البشري إلا من خلال الدين.
ومن خلال الدين نعرف غاية الوجود، ونعرف أنَّ الأخلاق التي نشعر بضرورة التزامها حتى ولو لم نلتزم بها هي جزء من التكليف الإلهي.
فالدين ضرورة إنسانية.
ومن خلال الدين أيضًا نعرف لماذا نحن هنا؟
ونعرف ماذا بعد الموت؟
ونعرف معنى الوجود.
ونعرف ما هو المطلوب منّا في هذا الوجود؟
فالدين حتمية لمعرفة أهم ما يشغل الإنسان.
ولذلك فبدون الدين يتحول العالم كله إلى عماء كامل وعدمية تامة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم".([6])
فالدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الدين وشمس الرسالة، كما يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله.([7])
فبدون الدين لا تُعرف غاية الوجود ولا معنى الخير ولا قيمته.
وبغير الرسالات يتحول العالم إلى عبثية مخيفة.
حين يختفي الدين وينكر البشر النبوات ساعتها سيتحول الإنسان إلى نفاية نجمية كما يقول كارل ساغان، وحشرة كما يقول سارتر.([8])
ويصبح الإنسان بالفعل حثالة كيميائية أو بمعنى أدق وسَخًا كيميائيًا Chemical Scum كما يقول ستيفن هاوكنج.([9])
فالنبوة هي نبض الوجود الأوحد، وبدون النبوة تتحول أروع المخترعات وأمتع الشهوات إلى رعب!
بدون الدين يتحول العالم بكل جماله إلى أشباح مرعبة.
وأنت لو سألت أي ملحد عن أي سؤال وجودي مثل: لماذا نحن هنا في هذا العالم أو ماذا بعد الموت؟
فإنَّه إما أنْ يسفسط سؤالك أو يلتزم الخرس التام.
إذن فالدين هو مقتضى طبيعي لفهم الإنسان وفهم ضرورة القيم الأخلاقية، وهو حتمي لمعرفة معنى الوجود والغاية من الوجود وتحقيق العبودية لله تلك العبودية التي بها النجاة .
ج: يتكون الدماغ من نفس المكونات المادية التي في العالم المادي بالضبط!
فمهما تعقد الدماغ أو تعقدت التركيبات المادية فمجموع الأصفار لن ينتج إلا صفرًا.
فإذا كانت المادة لا تعرف خيرًا ولا شرًا فالدماغ كذلك!
وهنا نسأل الملحد: كيف ظهر مفهوم الخير والشر إذا كان العالم المادي بأجمعه محايدًا أخلاقيًا، ولا يعرف خيرًا ولا شرًا؟
والسؤال الثاني: ما المانع الدماغي من إبادة أهل الأرض جميعًا؟
وما المانع الدماغي من إدخال الأعراق البشرية الأدنى أقفاص حيوانات؟
ما المانع الدماغي من إبادة المرضى والمعاقين والعجزة والأعراق الأدنى كما حصل في مشروع الانتخاب الطبيعي الذي قام به النازي -مشروع أكشن تي فور-؟([10])
هذه الأسئلة لا يملك الدماغ المادي جوابًا عنها بالتخطئة أو التصحيح.
فالدماغ محايد تمامًا من الناحية الأخلاقية، لأنه يتركب من نفس ذرات الأرض.
فلا علاقة بين الدماغ وبين الأخلاق لا من قريبٍ ولا من بعيد.
أما فكرة أن المجتمع منشأ الأخلاق فهذه فكرة غريبة، لأن الأخلاق تعني الإنسان كإنسان وليس المجتمع كمجتمع.
ثم إنَّ المجتمع هو من نفس مكونات المادة، وبالتالي فمجموع الأصفار مرةً أخرى لن ينتج إلا صفرًا، فكيف أنتح المجتمع الأخلاق، وهي لا تنتمي للعالم المادي أصلاً؟
ثم لو صح هذا الكلام، واعتبرنا أن الأخلاق نتاج مجتمع، فهنا سيصبح النازي مُصيبًا في إبادة غيره لأن المجتمع يرى ذلك.
فعندما قرَّر العالَم محاكمة النازي كان هذا القرار بناءًا على أن الأخلاق مطلقة وليست نتاج مجتمع، وإلا لما أمكنهم محاكمة النازي ولما استوعبوا أنه أخطأ ابتداءًا.
فالأخلاق مستقلة عن المجتمع، فالصواب صواب عند المجتمع الصالح والمجتمع الفاسد.
والخطأ خطأ عند المجتمع الصالح والمجتمع الفاسد.
فالأخلاق لها معنىً يتجاوز الدماغ والمجتمع.
ج: لا يوجد معبود في كل ديانات الأرض إلا الله.
وخلافنا مع بقية الديانات أنهم اتخذوا مع الله آلهة صغيرة مثل يسوع والروح القدس في النصرانية وفشنو وشيفا وبراهما في الهندوسية ...إلخ.
فالديانات كلها تؤمن بالله الواحد الأحد وهو عندها خالق الوجود.
لكنهم يجعلون مع الله آلهةً أخرى لا أكثر.
بل وحتى أوثان المشركين لم يكونوا يتخذونها آلهةً لذاتها، وإنما كانوا يُسلِّمون أن الله هو الخالق، لكنهم يجعلونها وسائط لله ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [٦١] سورة العنكبوت.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن ظنَّ في عُباد الأصنام أنَّهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات أو تخلق الحيوان أو غير ذلك، فهو جاهلٌ بهم بل كان قصد عُباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور".([11])
ويقرر ول ديورانت أنَّ أصل الهندوسية الوثنية يعود في الأخير إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، فيقول عن آلهة الهندوس: "هذه الألوف من الآلهة هي نفس ما تفعله الكنائس المسيحية من تقديس آلاف القديسين، فلا يتطرق إلى ذهن الهندي ولو للحظة واحدة أن هذه الآلهة التي لا حصر لعددها لها السيادة العليا".([12])
وقد ذكر التقرير المرفوع إلى الحكومة البريطانية في الهند أثناء احتلال بريطانيا للهند أنَّ: "النتيجة العامة التي انتهت إليها اللجنة من البحث هي أنَّ كثرة الهنود الغالبة تعتقد عقيدة راسخة في إله واحد أعلى".([13])
فالله واحد في كل ديانات الأرض ﴿وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ﴾ [٤٦] سورة العنكبوت.
وما الأوثان والآلهة البشرية إلا وسائط كُفرية لله ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ﴾ [٣] سورة الزمر.
ج: فكرة أن الحاجة يقابلها العبث هي فكرة سخيفة!
فالحاجة يقابلها الحكمة لا العبث.
فالطبيب الثري صاحب الصيت الطيب قد يعالج الناس دون أن يحتاج منهم شيئًا، بل يعالجهم لمصلحتهم هم، وهنا نحن لا نصف فعله بأنه عبث!
فالحكمة والمقصد العظيم من وراء الفعل لا يدوران في حلقة الحاجة/العبث!
وقد ينقذ أحد السباحين طفلاً رحمةً به ثم يتركه ويذهب دون انتظار ثناء أهل الطفل، وهنا فعله لا يُصنف بأنه حاجة ولا عبث بل هذا فعل كريم ومقصد نبيل وخلق طيب!
فلا تلازم بين الاحتياج وبين العبث!([14])
وفي صحيح مسلم في الحديث القدسي قال الله تعالى: «يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ، ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ».([15])
فالله غني عن العالمين.
وما سعيُنا وجهدُنا وعملُنا إلا لأنفسنا ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [٦] سورة العنكبوت.
ونحن نعلم بأنَّ لله حكمة في كل خلقه وإن جهلناها، وجهل المريض بحكمة الطبيب لا يعني أن قرارات الطبيب عبثية.
فالعلم بالحكمة الإلهية لا يلزم له فَهم كل أبعاد الحكمة وإنما يكفي فهم بعضها!
فيكفي أنْ نعلم أننا مُكلفون بعبادة الله وأن نعلم وجود الحكمة الإلهية، فهذا يكفينا من حيث الجملة، وإلا نكون كالذي يكفر بكل ما لا يفهمه ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [٣٩] سورة يونس.
فالله حكيمٌ وخلقنا لحكمةٍ سبحانه.
والله وحده هو الذي يستحق أن يُعبد.
فلا يستحق العبادة إلا الله، فهو الخالق الذي أوجدنا من العدم قال سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [٢١] سورة البقرة.
وهو الذي هدانا وهو الذي شرع وقدَّر وأمر ونهى ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [٥٤] سورة الأعراف.
فالله ليس له الخلق فقط، وإنما له الأمر أيضًا ونحن نأتمر بأمره سبحانه.
فالعبادة هي حقُ الله على عباده، فهو سبحانه الذي فطرنا وأحيانا ورزقنا وهدانا وأرسل إلينا رسله ليختبرنا وليبلونا مَن مِنّا أحسن عملاً، فالعبادة هي حق الله علينا ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [٢] سورة الملك.
ولا تستقيم حياتنا وآخرتنا إلا بالعبادة، ولا تنصلح أخلاقنا إلا بها، فالعبادة تنهى عن الفواحش والمنكرات وتصلح بها دنيا الناس، قال ربنا تعالى ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [٤٥] سورة العنكبوت.
ولا نفوز بالجنة إلا بالعبادة فهي النجاة في الآخرة والهناءة في الدنيا.
فالعبادة لنا نحن ولخيرنا نحن، وهي واجبة علينا تجاه الله عز وجل لأنه خالقنا، ونَفْعُها يعود علينا نحن فقط والتقصير فيها يعود علينا نحن فقط.
والجنة غالية، فمن يريد الجنة يعمل لها، فنحن المحتاجون إليه سبحانه... المحتاجون لعبادته، وهو الغني عنَّا وعن كل خلقه.
ج: نعرف الله بطرق كثيرة جدًا لكن سنذكر هنا أربعة طرق:
الطريق الأول: نعرف الله عن طريق الفطرة السليمة.
فالإنسان بفطرته يعلم أنَّ له خالقًا، فأنت بالفطرة تعرف أنَّ لك خالقا خلقك بهذه الهيئة وهذه الأعضاء وهذه الخِلقة وهذا الصنع والإتقان المدهش.
وأيضًا الإنسان بفطرته يعلم أنه مُطالب باللجوء إلى خالقه بالعبادة، ويعلم أيضًا بفطرته أنه مفتقرٌ لخالقه سبحانه ومحتاجٌ إليه في كل وقت، ويزداد هذا الشعور بالحاجة لله في الشدائد.
ففطرة معرفة الله فُطِر عليها كل البشر، قال الله تعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [٣٠] سورة الروم.
وقال سبحانه ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ﴾ [١٧٢] سورة الأعراف.
فقبل أن نُخلق فُطِرنا على معرفة الله وفُطرنا على العبودية له سبحانه (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: ما مِن مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ.([16])
فكلنا نُولد على هذه الفطرة، وهذه الفطرة تكفي كل إنسان يريد الحق أن يستدل على الحق وأن يستسلم لهذا الحق متى تبين له.
وهذه الفطرة لا يستطيع أن ينكرها حتى أشد الناس كفرًا وخاصةً في الأوقات العصيبة، فالناس كلهم يلجأون لله في أوقات الشدائد وينسون ما يشركون ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا﴾ [٦٧] سورة الإسراء.
إذا كان الإنسان في كربٍ شديدٍ وشعر بالهلاك، فإنه لن يدعو إلا الله، وسينسى كل شركياته؛ وهذا الإخلاص لله في الدعاء وقت الشدائد دافعه الفطرة السليمة الموجودة بداخل كل إنسان.
يقول أحد رؤساء أمريكا -أيزنهاور- وكان قائدًا للقوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية يقول بعد أن شاهد كيف أنَّ القوات تعود للفطرة وقت الخطر الشديد: "لا يوجد ملاحدة في الخنادق".([17])
ففي الخندق وقت الحرب لا يوجد منكرٌ لله، الكل يعود لله، فهذه حقيقة الفطرة التي يعترف بها كل البشر وقت الشدائد.
الطريق الثاني لمعرفة الله هو العقل: فنحن نعرف الله بالعقل.
قال الله تعالى ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [٣٥] سورة الطور.
بالعقل هناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها:
الأول: أن نكون خُلقنا من غير خالق (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) وهذا مستحيل، إذ كيف نُخلق من غير خالق؟
الثاني: أن نكون خَلقنا أنفسنا (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) وهذا محال أيضًا، إذ كيف أَخلق نفسي قبل أن أُخلق؟
إذن بالعقل يبقى الاحتمال الثالث وهو الذي سكتت عنه الآية الكريمة لأنه هو البديهة، وهو أنّ لنا خالقًا خلقنا.
فنحن نعرف الله بالعقل.
الطريق الثالث لمعرفة الله هو النظر في مخلوقات الله:
فالنظر في خلق الله يضعنا أمام عظمة الله عز وجل ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [١٠١] سورة يونس.
فكلما نظرنا إلى دقيق خلق الله وعجيب الإتقان ازددنا معرفةً بالله.
وهذا ما ذكرناه سابقا في دليل الإيجاد ودليل العناية والإتقان.
الطريق الرابع لمعرفة الله هو من خلال الرسل:
وهذا هو الطريق الأعظم لمعرفة الله عز وجل، وهو أن نعرف اللهَ من خلال رسلِه وأنبيائه، فالرسل أخبروا عن الله وأخبروا عن صفاته وأخبروا عن ذاته سبحانه، فمن خلال الأنبياء عرفنا الله بأسمائه وصفاته، وعرفنا كيف نعبد الله وكيف نتقرب إليه، وعرفنا كيف ننجو يوم الحساب من عذاب الله، فالرسل دعوا الناس لعبادة الله أو بمعنىً آخر: دعوا الناس للعودة لفطرهم التي فُطروا عليها وأن يَعبدوا الله كما أمر.
فالرسل أرشدوا الناس إلى طريق الحق والنجاة ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [١٦٥] سورة النساء.
فإخبار هؤلاء الأنبياء والرسل عن الله وتأييد الله لهم بالمعجزات، لا يجعل لأحدٍ حجة على الله يوم القيامة.
فالله عز وجل أعطاك الفطرة التي تعرف بها خالقك، وأعطاك العقل وأعطاك النظر في مخلوقاته وأرسل لك الرسل، فلم يبق لك عند الله حجة.
ج: الإسلام ليس دينًا بين الديانات.
الإسلام يوافق في عقيدته عقيدة جميع أنبياء العهد القديم.
فالإسلام هو تصحيح لمسار الديانات التي انحرفت، وإعادة لعقيدة أنبياء العهد القديم التوحيدية.
يقول الله تعالى ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّـهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ [١٣] سورة الشورى.
فالإسلام ليس ديانة كالديانات وإنما هو أصل الديانات.
ج: الإسلام هو: الاستسلام والخضوع والانقياد لله تعالى .
قال جل شأنه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّـهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [١٢٥] سورة النساء.
ومعنى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ: أي استسلم لله وانقاد له سبحانه تعالى وتقدس ربُّنا، وهذا أحسن الناس دينًا.
وقال تعالى ﴿فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [٣٤] سورة الحج.
ومعنى فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: استسلموا لحكمه.
فهذه الآيات تفيد أنَّ معنى الإسلام هو الاستسلام المطلق لله تعالى, والانقياد له جلَّ في علاه, والامتثال لشرعه ومنهجه برضىً وقبول، وهذا هو جوهر الإسلام وحقيقته.
فالإسلام هو الاستسلام لله في قضائه وشرعه.
والإسلام هو دين الله لجميع البشر، قال تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ [١٩] سورة آل عمران.
فالإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الأديان ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [٨٥] سورة آل عمران.
والإسلام هو الدين الذي أرسل الله به جميع الأنبياء والرسل، فدين الأنبياء واحد وهو الإسلام، وكل الأنبياء أتوا بالتوحيد وإن اختلفت شرائعهم.
قال الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [٢٥] سورة الأنبياء.
ولم يبق على هذا التوحيد دين سوى الإسلام.
الإسلام هو الدين التوحيدي الأوحد اليوم على الأرض.
بينما كل المنتسبين للشرائع الأخرى أصبح لهم من الشرك نصيبٌ قَلَّ أو كَثُر، فبعد موت الأنبياء وبعد أن تركوا الناس على التوحيد اتخذ الناس مع الوقت الشركيات، ولم يبق اليوم على التوحيد النقي الذي جاء به الأنبياء دين سوى الإسلام.
ج: الاسلام أجاب عن كل هذه الأسئلة في آيةٍ واحدة من القرآن الكريم، قال ربنا سبحانه ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [٢٢] سورة يس.
من أين جئت؟ الله خلقني (الَّذِي فَطَرَنِي).
وإلى أين أنا ذاهب؟ سوف أذهب إلى الله لأحاسب على عملي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
لماذا جئت إلى هذا العالم؟ لعبادة الله ولأُختبر.
لماذا أعبد الله؟ من الطبيعي أن أعبد الله الذي فطرني، فهذه طبيعة العلاقة بين العبد وربه... أنْ يعبد العبد ربه وخالقه (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي).
آية واحدة جمعت جواب أهم ثلاثة أسئلة يحار فيها البشر ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [٢٢] سورة يس.
ج: تعدُّد دلائل الإعجاز يفيد التواتر المعنوي واليقين التام.
فأرسطو فيلسوف بمجموع أعماله وليس بجملةٍ قالها أو تحليلٍ فلسفيٍ أجراه.
وأبوقراط طبيب بمجموع مشاريعه الطبية وليس بجراحةٍ قام بها.
وكذلك تعدد دلائل الإعجاز المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد التواتر المعنوي واليقين التام أنَّه نبي.
فإذا نظرت في سيرته صلى الله عليه وسلم ووجدته صادقًا وقد اشتهر بالصدق باعتراف أشد الناس له عداوةً، ولم يُرم بكذبٍ ولا فجورٍ، ثم هو يُخبِر بالمغيبات فتقع كما هي، وقبل ذلك تتفق عقيدته التي دعا لها من أول يوم مع عقيدة الأنبياء جميعًا، ثم هو الذي يُبشِر الأنبياء بقدومه صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي بمئات السنين، فكل هذا يفيد التواتر المعنوي واليقين التام على صحة الرسالة.
ثم ماذا عن أعظم آية أتى بها وهي القرآن الكريم؟
القرآن الذي تحدى الله به أهل البيان، أن يأتوا بمثله أو بسورةٍ منه، فما فعلوا.
قال الله عز وجل ﴿لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا﴾ [٢٤] سورة البقرة.
فما فعلوا، ولا قَدروا.
ولم يزل القرآن الكريم يتحدى بلغاء المشركين وأهل الفصاحة، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته.
يقول د.عبد الله دراز رحمه الله: "ألم يكن يخشى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التحدي أن يثير حميتهم الأدبية؟
فيهبوا لمنافسته وهم جميعٌ حذرون؛ وماذا عساه يصنع لو أن جماعة من بلغائهم تعاقدوا على أن يُخرجوا كلامًا يساميَه ولو في بعض نواحيه!
ثم لو طوعت له نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة؟
إن هذه مغامرة لا يتقدم إليها رجلٌ يعرف قدر نفسه إلا وهو مالئٌ يديه من تصاريف القضاء، وخبر السماء، وهكذا رماها بين أظهر العالم، فكانت هي القضاء المبرم، فكل من عارضه باء بالعجز الواضح، والفشل الفاضح، على مر العصور والدهور".([18])
لقد رأى هؤلاء المشركون أن تجميع الجيوش وتحزيب الأحزاب لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهون وأيسر من معارضة القرآن وقبول التحدي، فهذا بالغ جهدهم ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [٢٦] سورة فصلت.
فلم يأت العرب جميعًا ولا الأمم التي نُقل لها التحدي بشيءٍ يستريح له الملاحدة ويريحون به غيرهم.
يقول الألوسي رحمه الله: "فلم ينطق أحد منهم إلى يومنا هذا ببنت شفه ولا أعرب عن موصوفٍ أو صفة".
قال جبير بن مطعم ولم يكن قد أسلم بعد: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذِه الآيَةَ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [٣٥ ] أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ [٣٦ ] أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [٣٧ ]﴾ سورة الطور.
قالَ: كَادَ قَلْبِي أنْ يَطِيرَ".([19])
فالقرآن فيه أسرار عجيبة تصل للنفس الإنسانية.
تأمل كيف أنَّ نساء المشركين كن يزدحمن حول بيت أبي بكر حين يقرأ القرآن من فرط انجذابهن وتأثرهن به، حتى أفزع ذلك رجال قريش.([20])
ولذلك اجتمعت كلمة وفود العرب على ألا يسمعوا للقرآن ولا يُسمِعوه أهليهم، فهذا هو السبيل الوحيد للبقاء على الكفر.
ومن عجائب القرآن الكريم وعجائبه لا تنفد ما ذكره د.عبد الله دراز رحمه الله في قضية نزول آيات القرآن في أوقات متفاوته، ثم يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى وضع بعض الآيات في أماكن محددة بين السور وآيات آخرى بين سور أخرى، ثم تظهر في الأخير كل سورة كبناء مستقل، يقول رحمه الله: "في وقت نزول القرآن كانت بعض المواضيع في القرآن تتزايد بمعزل عن مواضيع أُخرى، وتُكوِّن تدريجيًا وحدات مُستقلة بعد أن تنضم إليها آيات أُخرى نزلت بعدها، وأن بعضها كانت تُضاف هنا، والأُخرى تتداخل مع غيرها هناك، بحسب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يتلقاه بدوره من الروح القدس.
فإذا أخذنا في اعتبارنا التواريخ التي لا حصر لها - تواريخ نزول آيات القرآن الكريم-، ولاحظنا أن هذا الوحي كان بوجهٍ عام مرتبطًا بظروفٍ ومناسباتٍ خاصة، فإن ذلك يدعونا إلى التساؤل عن الوقت الذي تمت فيه عملية تنظيم كل سورة على شكل وحدة مستقلة.
وكأن القرآن كان قطعًا متفرقة ومرقمة من بناء قديم، كان يُراد إعادة بناؤه في مكانٍ آخر على نفس هيئته السابقة، وإلا فكيف يمكن تفسير هذا الترتيب الفوري والمنهجي في آنٍ واحد، فيما يتعلق بكثير من السور؟
ولكن أي ضمان تاريخي يستطيع أن يتحصل عليه الإنسان عند وضع مثل هذه الخطة إزاء الأحداث المستقبلة، ومتطلباتها التشريعية، والحلول المنشودة لها، فضلاً عن الشكل اللغوي الذي يجب أن تُقدم به هذه الحلول، وتوافقها الأُسلوبي مع هذه السورة بدلاً من تلك؟
ألا نستنتج ان اكتمال هذه الخطة وتحققها بالصورة المرجوة، يتطلب تدخلاً من خالق عظيم، تتوفر عنده القدرة على إقامة هذا التنسيق المنشود؟".([21])
فالقرآن معجزة مستقلة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
ومعجزاته صلى الله عليه وسلم التي جرت على يديه كثيرة تزيد على الألف بكثير، والعهد بها قريب وناقلوها هم أصدق الخلق وأبرهم.
وهؤلاء الرواة الذين نقلوا إلينا هذه المعجزات كانوا لا يجيزون الكذب فيما دقَّ فكيف يكذبون عليه، وهم يعلمون أن من كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، كما حذّر هو صلى الله عليه وسلم.
وبعض معجزاته صلى الله عليه وسلم شهدها آلاف الصحابة وبعضها رواه العشرات منهم فكيف يُجمعون على الكذب في كل هذا؟
ومثال على معجزاته التي حضرها جمع كبير من الناس: حديث حنين الجذع وهو حديث مشهور متواتر حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع، فلما عُمل له المنبر ورقي عليه وخطب حنّ الجذع، وأنّ أنين الصبي، ولم يزل يئن ويحن حتى ضمه النبي صلى الله عليه وسلم فسكت.
هذا الحديث رواه من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأُبي بن كعب، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وعائشة بنت أبي بكر، وأم سلمة.
فهل مثل هذا العدد من الصحابة يُجمِع على الكذب في رواية خبرٍ كهذا؟
بل إنَّ بعض معجزاته شهدها آلاف الصحابة مثل نبع الماء من بين أصابعه الشريفة حتى توضأ منه وشرب ألف وخمسمائة صحابي، والحديث متواتر ورواه البخاري ومسلم.
وتكثير الطعام اليسير ليَطعم منه الجيش العظيم وهذا أيضًا جائت به الأخبار المتواترة عن الصحابة، وقد ذكر البخاري وحده معجزات تكثير الطعام على يد النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع من صحيحه.([22])
فإذا كانت أدلة الصدق ثابتة والمعجزات حافلة على نبوته صلى الله عليه وسلم، فأنى لعاقل أن يُكذب بكل هذا؟
وهذه أمثلة أخرى يسيرة من معجزاته صلى الله عليه وسلم:
أخبر صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ من الليالي بأن ريحًا شديدة ستهُب، ونهى الناس عن القيام، فقام رجل فحملته الريح وألقته في مكان بعيد عن مكانه.([23])
وأخبر صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وكبَّر عليه أربعًا.([24])
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة عمرَ وعثمانَ وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين، وأنهم لن يموتوا على فُرُشِهم كما يموت الناس.
فقد صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبل ذات يومٍ هو وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليُ وطلحةُ والزبيرُ، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للجبل: "اهدأ، فما عليك إلا نبيٌ أو صديقٌ أو شهيد".([25])
فحكم لنفسه بالنبوة ولأبي بكر بالصدِّيقية وللباقين بأنهم سيكونون شهداء، وحصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وهناك 150 حديثًا دعا فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه وأُجيب في الحال والناس يشهدون!([26])
وحيث سأل أهلَ مكَّةَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُريَهُم آيَةً، فأراهُمُ القمَرَ شِقَّينِ، حتى رأوْا حِراءً بَينهُما، وهذا الحديث متواتر، أي أنه في أعلى درجات الصحة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة القمر التي فيها معجزة شق القمر في المجامع الكبار كالجُمع والأعياد ليُسمع الناس ما فيها من معجزاته صلى الله عليه وسلم وكان يستدل بها على صدق نبوته.
ثم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن آدم هو آخر الخلق من الكائنات الحية: "وخَلَقَ آدمَ بعدَ العصْرِ من يومِ الجمعةِ ؛ في آخِرِ الخلقِ".([27])
وهذه الحقيقة العلمية صارت الآن ثابتة، فكيف علِم صلى الله عليه وسلم بأنَّ آدم عليه السلام آخر الكائنات ظهورًا على الأرض بعد ظهور النبات والحيوان؟
وانظر لقول الله عز وجل ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [١٢] سورة الإسراء.
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: أي أنَّ القمر وهو آية الليل كان مضيئًا ثم مُحي ضوؤه.
وهذا بالفعل ما فسّر به الصحابة الآية الكريمة فقد روى الإمام ابن كثير في تفسيره أنَّ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كان القمر يضيء كما تضيء الشمس، وهو آية الليل، فمُحي".
والعجيب أنَّ هذا ما انتهى إليه العلم اليوم، فقد نشرت ناسا على موقعها الرسمي وقناتها الرسمية: الحقبة الأولى من عمر القمر وكان فيها مضيئًا متوهجًا.([28])
فقد ثبت بالتواتر وقوع الآيات والإخبار بالمغيبات ودقائق أسرار الأرض والسماوات التي لا حصر لها على يد رجلٍ واحدٍ صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن عليه، وجاء بما عليه النبيين من قبله، وكان مؤيدًا من عند الله ولم يَمُت حتى تمت الشريعة وكَملت.
فالقطع بأنه نبيٌ هو رشاد العقل!
فآياته صلى الله عليه وسلم الغيبية تزيد على الألف.
ونقَلَة المعجزات هم صحابته أصدق الخلق وأبّرهم بعده.
والعجيب أن كبار الصحابة أسلموا قبل أن يروا المعجزات، فهم أسلموا لأنهم يعلمون أنَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم صادق، وأنَّه لم يكذب قط.
وهذا الموقف من كبار الصحابة هو موقف عقلي حكيم، فصِدق النبي صلى الله وعليه وسلم دليل كافٍ مستقل لإثبات صحة النبوة... وهذا لأن: الشخص الذي يدَّعي النبوة إما أن يكون: أصدق الناس، لأنه نبيٌّ... فالنبي هو أصدق الناس.
وإما أن يكون: أكذَبَ الناس، لأنه يفتري كذبًا في أعظم الأمور شأنًا.
ولا يختلط أصدق الناس بأكذب الناس إلا على أجهل الناس.([29])
فما أيسر أن يستطيع العاقل أن يُميز بين أصدق الناس وأكذب الناس.
وقد اعترف المشركون في أول يومٍ من بعثته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكذب قط، فقالوا له: "ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا".([30])
وحين سأل هرقل أبو سفيان قبل أن يُسلم: "هل كنتُم تتهِمونه بالكذبِ قبلَ أن يقولَ ما قال؟".
فقال أبو سفيان: "لا".
فقال هرقل: "لم يكُن لِيَذَرَ الكذبَ على الناسِ ويكذِبَ على اللهِ".
ثم أكمل هرقل فقال قولته الشهيرة: "لو كنت عنده لكنت غسلت عن قدميه".([31])
فقد عجَز الكُفار عن إظهار كَذِبةٍ واحدة في كل حياته صلى الله عليه وسلم، ولذلك أنكر القرآن عليهم كفرهم مع علمهم بحاله هذا قبل بعثته فقال ربنا سبحانه﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [٦٩] سورة المؤمنون.
فحال النبي وسيرته دليل مستقل على أنه نبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت دواعي الصدق عامة متعاضدة على نبوته صلى الله عليه وسلم، فأنى لعاقل أن يُكذب بكل هذا؟
ج: انظر لنفسك سوف تعلم أنك مختبر، أليس بداخلك شعور افعل الصواب ولا تفعل الخطأ؟
لو كانت أمامك أموال وصاحبها مشغولٌ عنها، فإنه يأتيك شعور خذ هذه الاموال واستفد منها، وشعور مقابل يقول لك: لا تفعل ذلك فهذا حرام وجريمة.
فأنت مختبر في كل موقف من حياتك.
فهذا الشعور –شعور افعل ولا تفعل- يوجد بداخلك لأنك بالفعل مختبر ولستَ همَلاً... لستَ شيئا هكذا بلا قيمة.
قال تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [٣] سورة الإنسان.
فالإنسان بداخله افعل ولا تفعل: فهو إما شاكرًا وإما كَفُورًا في كل موقفٍ من حياته.
بل في كل خطوة من خطوات حياة الإنسان يمكن للإنسان أن يفعل الخير أو يفعل الشر، هل يذهب للمسجد أم يذهب ليلهو.
ولذلك قال الله عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [٥٦] سورة الذاريات.
في كل خطوة تجد نوعًا من العبودية لله أو معصية له سبحانه.
فمن وُفق لفعل ما أمر الله به نجا، ومن عصى ما أمره الله به أخطأ.
وهذه الاختيارية يترتب عليها حساب الإنسان على كل ما فعل.
فغاية خَلْقنا أن نُمتحن وأن نُختبر، وهذه هي الغاية التي أرسل الله من أجلها الرسل وأنزل الكتب ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [٣٦] سورة النحل.
وبعد أن ينتهي الاختبار بالموت نعود إلى الله ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [٢٢] سورة يس.
﴿وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ﴾ [٤٢] سورة النجم.
﴿إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ﴾ [٨] سورة العلق.
فنحن سنعود إلى الله لنُحاسَب على ما قدمنا ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ [٤٠ ] ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ [٤١ ]﴾ سورة النجم.
سوف يُرى ما قدمتَ من عمل وستُحاسب على ذلك ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [٧ ] وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٨ ]﴾ سورة الزلزلة.
ج: لا.
الإيمان بوجود الله مع عدم الإيمان بالأنبياء لا يكفي حتى يكون الإنسان مسلمًا لله، فما معنى أن تؤمن بأن الله هو الخالق الرازق المُدبِّر، ثم تكفر بوحيه وتنكر رسله؟
هذا كفر أكبر.
بل ليس هناك أعظم جُرمًا من الذي يرد على الله وحيه، قال الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّـهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا [١٥٠] أُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [١٥١]﴾ سورة النساء.
فمن يؤمن بالله ويكفر بالأنبياء فهو الكافر حقًا.
فكل من كفر بنبي من الأنبياء فهو كافر بالله لأنه أنكر وحي الله، لذلك فأهل الكتاب كفروا لكفرهم بنبوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [٦] سورة البينة.
ووعيد الله بدخولهم النار حق ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [١٤] سورة ق.
فليس الإسلام وليست النجاة لمجرد إقرار الإنسان بأنَّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فحسب، بل لابد من الإيمان برسله.
إذن فالإيمان بوجود الله والكفر بالأنبياء لا يكفي ولا ينفع العبد عند الله يوم القيامة، إذ لابد أن يُعبد الله ويتم الإيمان بكل رسله.
ولو كان الإيمان بوجود الله كافيًا لما أرسل الله رسله ولا أنزل كتبه، لأن البشر جميعًا يعرفون الله بالفطرة.
فالله الذي خلقك وهداك ورزقك هو وحده المستحق أن تعبده كما شرع من خلال رسله وأنبيائه.
ج: العمل الصالح فِطرة فَطر اللهُ الناس عليها، لذلك ترى أي إنسان يمكن أن يعمل أعمالاً صالحةً ولو كان كافرًا أو مشركًا، فالكل يعملون أعمالا صالحة للفطرة التي فُطروا عليها.
لكن شرط قبول العمل الصالح هو أنْ: يُقصد به وجهُ الله، أي: يُقصد به الحصول على ثوابه من الله.
لذلك الشخص الكافر بالله الذي يعبد مع الله آلهةً أخرى نقول له: اذهب لمن أشركتهم مع الله في عملك الصالح واحصل على أجرك منهم، فأنت لم ترجو بأعمالك الصالحة وجه الله وحده.
تخيل إنسانًا قام أهلُه بتربيته والإنفاق عليه حتى صار شابًا قويًا، ثم ذهب لغيرهم ليخدمهم، هل يحق له أن يعود لأهله ليقول لهم: أعطوني أجرة خدمتي لغيركم؟
فليذهب لمن كان يخدمهم وليحصل على أجرته منهم.
ولله المثل الأعلى.
فالله هو الذي خلقك ورزقك وامتن عليك بكل النعم ثم تترك عبادته وتريد أن تأخذ منه أجر عملك؟ كيف هذا؟
ولذلك قال الله عز وجل ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾ [٢٣] سورة الفرقان.
وقال سبحانه ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ [٣٩] سورة النور.
فالذين كفروا لا يستحقون الثواب على العمل وإن كان صالحًا، لأنهم كفار لم يقصدوا بالعمل الصالح أن ينالوا ثواب ربهم، ولا ابتغوا به رضا خالقِهم.
فليست القضية في مجرد العمل الصالح فنحن جميعًا مفطورون على كثيرٍ من الأعمال الصالحة، وإنما القضية لماذا تعمل هذا العمل الصالح ولمن تعمله؟ وهل تعمله لمصلحتك الشخصية أو تعمله رياءً أو تعمله لغير الله؟
فكل هذا ليس في سبيل الله ولا يُرجى منه ثواب العمل الصالح الذى يُرجى من الله.
ج: الشبهة هي مسألة لا يفهمها المسلم في دينه، وقد تلتبس عليه إلى أنْ يجد لها ردًا.
وقد شاء الله سبحانه أن تكون هناك أمور مشتبهة في مسائل فرعية من الدين، حتى يبتعد بها من يريد الباطل عن طاعة ربه.
قال الله عز وجل ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [٧] سورة آل عمران.
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ: الذي في قلبه زيغ سيتبع هذه الشبهات ابتغاء الفتنة وابتغاء البعد عن الله.
فقد شاء الله بحكمته أن يكون هناك إيمان وكفر ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾ [٢] سورة التغابن.
فيتعلق بهذه الشبهات مَن يريد الكفر وينشغل بها عن دينه وعن صلاته وعن إيمانه.
أما المؤمن فإنه يتبع الأدلة المحكمة الثابتة والتي هي (أُمُّ الْكِتَابِ) على صحة الدين وصحة الرسالة، ولو وَجد شيئًا لا يفهمه فإنه يسأل عنه، لكنه لا ينشغل بما لا يفهمه عن دينه أو عن صلاته.
فلا ينشغل عن دينه بما لا يفهمه إلا مَن في قلبه مرض ﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [٣١] سورة المدثر.
ومن حِكمة وجود الشبهات أيضًا أنَّ هذه المتشابهات يتمايز بسببها أهل العلم وأهل البصيرة في دين الله، فترى العالِم يعرف جواب الأمور المشتبهة ويتميز بها عن الشخص العامي الذي لم يتعمق في الدين ولم يدرسه، فيرفع الله الذين أوتوا العلم درجات.
فالحق أبلج لكن لابد من وجود متشابه لأنه يحصل به التمحيص.
فسنة الله في خلقه التكليف، وسنته في التكليف خفاء بعض الحكمة، والفائزُ مَن استدل بما يعلم على ما خفي ودقّ، والخاسر من جعل مما يجهل حجابًا يحرمه من الاستدلال بما يعلم.
ج: فتنة الشر هي تقريبًا أكبر أسباب الإلحاد عبر التاريخ.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [١١] سورة الحج.
فهناك من يكفر بالله بسبب فتنة أو بلاء أو مصيبة نزلت به.
وهنا قد يسأل الملحد فيقول: لماذا هناك شر من الأساس؟
والجواب ببساطة: لأننا مُكلفون.
لأننا في عالم اختباري.
قال ربنا سبحانه ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [٣٥] سورة الأنبياء.
فالخير والشر لأنك مكلف، والتكليف هو غاية وجودك.
قال الله تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [٢] سورة الملك.
ووجود الشر ووجود الفتن والبلايا، هو في حد ذاته أكبر دليل على صحة القضية الدينية وعلى خطأ الإلحاد.
فلو كنا أبناء العالم المادي لما استوعبنا لا الخير ولا الشر.
لو كان الكون كله عديم المعنى لما كان قد تبين لنا إطلاقًا أنه عديم المعنى.([32])
لأننا طبقًا للرؤية الإلحادية نسير في حتميات مادية صارمة، وتجري علينا قوانين الطبيعة، وفي هذا الإطار لن نستوعب ماهية الشر ولا معنى كلمة شر.
فهل تُدرك أكثر الحيوانات تطورًا معضلة الشر؟
فاستيعاب الشر يعني أننا لسنا أبناء هذا العالم، وأننا نستمد استيعابنا لوجود الشر من مقدمة أخرى غير المقدمة المادية الداروينية للوجود.
فنحن ننتمي لمقدمة سماوية، وليس لطراز إلحادي مادي أرضي، وهذا هو التفسير الأوحد لكوننا نستوعب الشر.
فطالما أننا مكلفون إذن من الطبيعي أن يكون هناك فتن وبلاء ومن الطبيعي أن نستوعب الشر.
فالشر وبعض الألم والقدرة على ارتكاب المعصية هو المقتضى الطبيعي والنتيجة البديهية لحرية الإرادة والتكليف الإلهي.
ووجود الشر والبلاء والمصائب والشهوات هؤلاء يُخرجون أفضل ما في الإنسان الصالح وأسوأ ما في الإنسان الفاسد.
ومن عجيب حال الملاحدة حين يقومون بإنكار وجود الخالق لأن هناك شر، أنهم يستخدمون هذا التحليل:
1- إذا كان الأب خيِّرًا ويحب الخير لابنه، إذن لماذا سمح بإعطائه حقنة مؤلمة ضد الميكروبات؟
2- هناك ألم وقع على الإبن جراء الحقنة؟
3- إذن الأب غير موجود.([33])
فهل هذا استنتاج عقلي؟
ثم إنَّه من الطبيعي أننا لا نفهم كل دقائق الحكمة الإلهية في الخير والشر.
وقد جلَّى الله الحِكمة من أفعال الخضر لسيدنا موسى عليه السلام، مع أنَّها أفعال تُعد ظاهريًا مُنكرة وغير مستساغة، لكنها تكتنف على خيرٍ عظيم، وقصة موسى والخضر لم تأت في القرآن من باب السرد والحكايا، لكن من باب التدبر والإقرار بقصور النفس البشرية وحكمها المُتعجل.
ومن العجيب في أمر مسألة الشر أنّه: لو لم يكن هناك شر في العالم لما خرجْت من المكان الذي وُلدت فيه!
ولما وُجدت حضارة ولا بُنيت مدن ولا مصانع ولا بيوت ولا احتاج الناس إلى عمل ولا فَكَّر الناس في مقاومة مرض أو حل مشكلة أو اختراع فكرة لجلب الراحة!
ولما احتاج الإنسان أن ينتقل من مكان ولادته أصلاً.
إذ لا شر ولا عناء ولا بلاء ولا تعب ولا مشاكل تبحث لها عن حلول!
فلماذا التعب والسهر والتفكير والعمل؟
فالشر هو الضرورة التي لابد منها في الدنيا!
فتدبر!
واتق الله فإنك مكلف.
وكثير من الناس ينزل بهم البلاء والشر فيعودون إلى الله ويصبحون من الصالحين فسبحان الله العظيم وبحمده.
فكل أقدار الله فيها حكمة وخير.
ولابد للمسلم أن يؤمن بكل أقدار الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولوْ أنَّ لكَ مِثْلَ أُحُدٍ ذهبًا أَنفَقْتَهُ في سبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنكَ حتَّى تُؤْمِنَ بالقَدَرِ، وتَعْلَمَ أنَّ ما أَصابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وأنَّ ما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وإنَّهُ مَن مات على غيرِ هذا دَخَل النَّارَ".([34])
فأقدار الله من خير وشر يجب على المسلم الرضا بها.
وكل أقدار الله خير، وإن بدا في بعضها شر أو ضيق أو أذى ظاهريًا، لكنها في الأخير تكتنف على خير عظيم وحكمة إلهية بالغة.
ج: عاشت البشرية مع شرائع التوحيد آلاف السنين، ومع الشرائع الإبراهيمية الثلاث الكبرى أربعة آلاف سنة، ولم يمثل الدين خطرًا مباشرًا على الجنس البشري بل قدّم للبشرية قيمًا أخلاقيةً عليا يتفق عليها المؤمن والملحد، وأسّس لحضاراتٍ أصيلة، بل يمكن أن نزعم أن كل خير في الأرض فهو من آثار تلك النبوات!
فقد أراح الدين المحاكم من آلاف القضايا، وفوق كل هذا وذاك وضع الدين الأساس المعرفي والسلوكي والقيمي لغاية الوجود الإنساني على الأرض!
والدول التي احتضنت الشرائع التوحيدية ما زالت إلى اليوم تملك تنوعًا ثقافيًا أبقى على المخالفين لهم ووفّر لهم سقف حماية بموجب الشرائع التوحيدية ذاتها.
في حين أن قرنًا واحدًا اقتربت فيه بعض الدول من الإلحاد كانت البشرية كلها على شفير هلاك!
ثم يأتي الآن الملاحدة ويحدثونا عن خطر الدين على البشرية!
لم يعرف التاريخ البشري منهجًا أخطر من الإلحاد، فلم تكن مذابح الكولاج في الإتحاد السوفيتي السابق على يد الملحد لينين، وإبادة الأقليات الإثنية في ألمانيا النازية، وتفريغ ربع سكان كمبوديا من البشر على يد الملحد بول بوتPol Pot، وقتْل 52 مليون صيني في الثورة الثقافية الكبرى على يد الملحد ماو تسي تونج Mao Zedong ، وظهور رابطة الملحدين العسكرية League of Militant Atheists في أوربا والتي أغلقت رسميًا 42 ألف مؤسسة دينية –كنائس ومساجد-، وقتلت عشرات الآلاف من المتدينين، إلا إفرازات إلحادية ونتائج طبيعية لظهور الإلحاد.([35])
بل إن الحربين العالميتين الأولى والثانية كانتا حروبًا إلحادية –إلحادية، تحكمهما تصورات إلحادية للأجناس البشرية وأفكار السعي نحو النقاء العرقي، فكانت النتيجة إبادة قرابة 5% من سكان العالم وأرجعت الحروب العالمية كلاً من المنتصر والمهزوم ثلث قرن إلى الوراء، وقام الفلاسفة بوضع مبولة في وسط باريس كنايةً عن نهاية الحضارة.
وخلّفت المعارك الإلحادية ترسانات من الأسلحة النووية تكفي لإبادة الجنس البشري كله مراتٍ عديدة.
إن قراءة بسيطة لحروب القرن العشرين تُظهر مدى بؤس الإلحاد.
فقد خلَّف الإلحاد ورائه فكرة أن زوال الجنس البشري في أية معركة قادمة هي فكرة قائمة، وهذا هو الإفراز الإلحادي المتوقع.
ج: هذا هو سؤال الحضارة!
وكم عانى الأنبياء في مواجهة هذا السؤال.
وكم تفّلت الأَتباع بسبب هذا الأمر.
فسؤال الحضارة هو أصل كفر الأمم عبر العصور.
قال الله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [٧٣] سورة مريم.
إذا تُليت الآيات التي فيها الحجج والبراهين على صحة الدين، احتج الكافرون بتقدم الأمم الكافرة (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
يقول الباحث إبراهيم السكران –حفظه الله-: "وهذا قانون تاريخي وسنة كونية متكررة لا ينتهي العجب من تأمل أرشيفها الطاعن في العمر، فجمهور المبلغين عن الله منذ فجر النبوات وحتى لحظة العمل الإسلامي المعاصر يواجهون دوماً "قوى مادية" تفوقهم وتفتن الناس عن اتباع الوحي الذي معهم.
وانظر في تجارب الأنبياء، ستجدها تكاد أن تكون جميعًاً تمثالاً ناطقاً للصراع بين داعي "الوحي الإلهي" وفتنة "القوة المادية"، وستجد افتتان الناس بالقوة المادية يخلب ألبابهم ويصرفهم عن الانصياع والاستسلام للوحي، وستجد العاملين للدين يعانون الأمرَّين من افتتان الناس بالمظاهر المادية.
فالرسول الأول نوح عليه السلام قال له قومه بكل صراحة مادية ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ [٢٧] سورة هود.
وما أن يظهر نبي الله موسى حتى يتكرر من جديد مسلسل طغيان القوة المدنية وغرورها أمام الوحي.
﴿وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ﴾ [٨٨] سورة يونس.
ولم يكن الحال جديداً بالنسبة لنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقد كان الجاحدون لنبوته والوحي الذي معه يتعلقون في الإعراض عنه بضعفه المادي ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [٣١] سورة الزخرف".
انتهى كلام إبراهيم السكران.
فما ابتُلي البشر عبر العصور وعبر تاريخ النبوات ببلاءٍ أكبر من الافتتان بالقوة المادية للكافر.
مع أنه لا علاقة أصلاً بين التقدم وبين الحق.
فالتقدم المادي والتأخر لا علاقة لهما بمَن معه الحق أو الباطل.
فلا يلزم من كون الإنسان فاضلاً وصالحًا أن يكون متقدمًا حضاريًا.
فقد يكون الشخص ملتزمًا بتعاليم الإسلام لكنه فقير بسيط، وقد يكون العكس.
وكم من الأمم كانت متقدمة حضاريًا وهي من أبعد الناس عن شرع الله ودينه ووحيه ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ [٩] سورة الروم.
فالتقدم المادي والثراء المالي ليسا معيارًا على صاحب الحق ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [٨٣] سورة غافر.
إذن ليس التقدم المادي ممدوحًا في ذاته وكذلك هو ليس مذمومًا في ذاته، وإنما يُمدح بقدر تزكيته بالوحي الإلهي، وبقدر تطبيق الدين فيه، وبقدر انتفاعك به في دينك، وبقدر ما تستخدمه في نفع الناس وصلاح أحوالهم لوجه الله.
وهذا هو التقدم المطلوب.
فمعيار التفاضل الحقيقي بين البشر ليس في تقدمهم المادي ولكن في التفاضل بالتقوي والعمل الصالح، ويأتي التقدم المادي كوسيلة وليس كغاية... يأتي كوسيلة لخدمة ونفع الناس لله.
فيكون تقدما ماديا مُزكَّى بالوحي الإلهي وهو وحده التقدم المطلوب.
وهذا هو الاستخلاف الحقيقي في الأرض: استخلاف عبودية لله، واستخلاف تزكية إيمانية لكل مناحي الحياة ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [٤١] سورة الحج.
واعلم أنَّ المسلم إذا فعل ما عليه يَسَّر اللهُ له أسباب كل خيرٍ وسعادة وتقدم في الدنيا، ونجاة ورفع درجة في الآخرة ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [٥٥] سورة النور.
وحين طبّق المسلمون دينهم كانوا أئمةً في الدين والدنيا.
وقدّم الإسلام على أيديهم حضارة امتدت 1200 سنة وهي أطول حضارة استمرت بدون توقف أو انقطاع هذه المدة.
فالإسلام نشأت به الحضارة الاسلامية.
وهو بهذا الدين الوحيد الذي أنشأ حضارة.
بقية الديانات احتضنتها حضارات.
فتجد الحضارة الغربية احتضنت المسيحية، والحضارة الهندية احتضنت الهندوسية.
أما الدين الوحيد الذي أنشأ حضارة فهو: الإسلام.
فعندما كان المسلمون يعرفون ما يلزمهم نحو دينهم قادوا العالم ماديًا وروحيًا.
وحين دخل الإسلام القسطنطينية عام 1453 ميلادية، انتهت العصور الوسطى المظلمة في أوربا.
فتاريخ انتهاء العصور المظلمة هو 1453 ميلادية، وهو نفس العام الذي دخل فيه الإسلام أوربا.
فما أنْ دخل الإسلام قلب أوربا حتى شعَّ فيها نور العلم.
وفي مكتبة الكونجرس نُقش على سقف الصالة الرئيسية للمكتبة دوائر تشير إلى مصادر تقدم الحضارة الغربية، والإسلام هو الديانة الوحيدة المذكورة في الدوائر السبع.
الاسلام هو الدين الوحيد المذكور، وهو يختص بالعلوم الطبيعية.
ISLAM: PHYSICS
بينما تختص بقية الدوائر بأسماء بلدان وما قدمته هذه البلدان هو تقدم أدبي أو فني أو لغوي!
فالإسلام قدَّم العلم، وعلى مدى 700 سنة كانت اللغة الدولية للعلوم في العالم هي: اللغة العربية.(([36]))
فإذا أصلح المسلمون دينهم صلحت دنياهم.
ج: الإنسان بفطرته لا يعرف ذاتَه ولا تطمئن روحُه ولا تهدأ وحشةُ قلبه إلا بعبادة الله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [٢٨] سورة الرعد.
فبالعبادة يطمئن الصدر ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [٩٧] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [٩٨] وَاعْبُدْ رَبَّكَ﴾ سورة الحجر.
اعْبُدْ رَبَّكَ: فيطمئن صدرُك.
ولذلك ركعتان بخشوع وتدبر تفعلان في النفس الإنسانية ما لا تفعل ساعات من جلسات التهدئة النفسية.
فالعبادة فيها طمأنينة النفس الإنسانية، وكل بعيدٍ عن ذكر الله يضيق صدره، فتجده دائما يتلهف على الدنيا، فلا هو يشبع ولا يطمئن ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [١٢٤] سورة طه.
ومهما كان الإنسان في سعةٍ من الرزق إلا أنَّه بدون الإيمان يحيا في ضنك، وفي سباق محموم لا ينتهي مع المجهول فتراه دائمًا قلِقًا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدُّنيا همَّه فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيْه، ولم يأتِه من الدُّنيا إلَّا ما كُتِب له، ومن كانت الآخرةُ نيَّتَه جمع اللهُ له أمرَه، وجعل غناه في قلبِه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ".(([37]))
فالعبادة تحرر المسلم من الخضوع للدنيا، وتجعله حرًا.
ولذلك المسلم الذي يعبد الله بحقٍ هو إنسان فَهِم معنى الحياة، وفهم قيمة الدنيا، وفهم غاية وجوده في هذا العالم، وفَهم أنَّه في هذا العالم ليُختبر وليعبد ربه حق العبادة وليس ليعيش في قلق بلا طائل تحته، قال ربنا سبحانه ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [٢] سورة الملك.
ج: علامات الاستسلام لله تعالى أربع وهي:
أولاً: العبودية لله في كل صغيرة وكبيرة في حياتك، قال تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [١٦٢] لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [١٦٣]﴾ سورة الأنعام.
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: كل شيء أفعله لله، فأنا أصلي لله، وأطيع والديَّ لله، وأذاكر وأتعلم حتى أنفع الناس لله، وأنام حتى أكون أقوى في الغد على فِعل ما أمرني الله به.
فهي عبودية لله في كل عمل، وهذه أولى مظاهر وعلامات التسليم لله.
العلامة الثانية حتى تكون مستسلمًا لله تمام الاستسلام: هي اتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، قال ربنا سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ [٢٠] سورة الأنفال.
وقال عزَّ وجلَّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [٢٠٨] سورة البقرة
فِي السِّلْمِ أي: في الإسلام.
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً: أي التزموا بكل ما أمر به الله وانتهوا عما نهى عنه.
أمرني الله بشيء أفعله.... نهاني عن شيء أنتهي عنه، فهذا هو تمام الاستسلام والانقياد لله.
العلامة الثالثة على التسليم لله هي أن: نُسَّلم بتحكيم ما شرع الله، فنرضى بشرعه ونقبل به.
نقبل بكل تشريع إلهي ولا ننكر مثلا العقوبات التي شرعها الله، بل لابد أن نرضى بشرع الله، لأنَّ الله يعلم ما يُصلِح خلقه، ويعلم أنَّ في هذه العقوبات طهارة للمجتمع ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [١٤] سورة الملك.
وقال سبحانه ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا﴾ [٥٠] سورة المائدة.
فالله هو الذي يعلم ما يصلح الناس في دنياهم وفي آخرتهم.
وتطبيق شرع الله يُطهر الناس ويجعلهم يعيشون في أمان.
ذهب رجل يزعم أنه مؤمنٌ بالله وبما أُنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى كعب بن الأشرف اليهودي ليحكم له في قضية من القضايا، بدلاً من أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا من أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمٍ لا يعجبه، فذهب لليهودي أملاً في حكم يعجبه، فنزل قول الله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [٦٠] سورة النساء.
فإذا كنت مسلمًا منقادًا لله فعليك أن تلتزم بشرع الله، وأن تُسلِّم بحُكم الله ولو أتى حكمُ الله على غير هواك، لا أن تترك شرع الله وتذهب ليهودي ليحكم لك في قضيتك من أجل أن يرضيك.
وقال الله عز وجل في الآيات التالية:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّـهِ﴾ [٦٤] سورة النساء.
فالله لم يرسل الرسل حتى نتركها ونحتكم إلى شرع غيرها.
ثم يختم الله عز وجل الدرس من هذه الحادثة وأشباهها بآيةٍ هامة تبين ضرورة الخضوع للاحتكام لشرع الله، قال ربنا عز وجل ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [٦٥] سورة النساء.
لابد من التسليم التام لما شرع الله فالتسليم لشرع الله من علامات الانقياد للإسلام!
أما العلامة الرابعة على التسليم لله تعالى فهي: التسليم لأقدار الله، فكل شيء قدَّره الله سبحانه بحكمته وبالتالي فالمسلم يستسلم لله في كل أقداره ... في الخير والشر.
إن أصابت المسلم سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر.
لو رزقك الله طعامًا أو رزقًا حسنًا أو بيتًا جميلاً أو نجاحًا في الدراسة أو صحةً في البدن أو أهلاً طيبين تشكر الله.
ولو أصابت المسلم ضراء من مرض أو فقر أو خوف أو بلاء أو هَم، صبرَ على هذه الضراء واستعان بالله، فهذا حال المسلم المنقاد المستسلم لربه سبحانه.
فكل شيءٍ بتقدير الله عز وجل: الصحة والمرض والغنى والفقر... كل شيء بتقديره وحكمته، وعلى المسلم الرضا بالأقدار لأن الله هو الذي يُقدِّرها.
قال ربنا سبحانه ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [٤٩] سورة القمر.
وقال تعالى ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَنَا﴾ [٥١] سورة التوبة.
لن يصيبنا إلا ما قدّر الله لنا.
وقال عز من قائل ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ﴾ [١٤٥] سورة آل عمران.
الآجال قدرها الله.
وكل شيء يحصل في الكون وكل ذرة تسير في العالم وكل حادث يحدث، إنما يَحدُث بعلم الله ومشيئة الله وبتقدير الله وبحكمة الله وبقدرة الله.
قال ربنا سبحانه ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [٢] سورة الفرقان.
فهو سبحانه خلق كل شيء وقدَّر كل شيء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فأنا كمسلم مطالب بالتسليم بكل أقدار الله عز وجل.
وبهذا يصبح الإنسان مسلمًا لله.
الإسلام هو دين الله لجميع البشر، قال تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ [١٩] سورة آل عمران.
فالإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الأديان ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [٨٥] سورة آل عمران.
ولذلك يجب على كل إنسان أن يعتنق الإسلام.
ففي الإسلام النجاة من النار والفوز برضا الله وبالجنة.
والدخول في الإسلام نعمة من أعظم النعم، بل هو أعظم وأهم شيء في وجودك.
والإسلام في حقيقته رجوع إلى الفطرة والعقل.
والدخول في الإسلام أمره يسير ولا يحتاج إلى طقوس ولا أمور رسمية،
فقط على الإنسان أن ينطق بالشهادتين، وذلك بأن يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وهو بهذا صار مسلمًا.
ثم يبدأ في ممارسة الإسلام.
([1]) J. Craig Venter Institute (JCVI) conducted a study to find all the essential genes of M. genitalium through global transposon mutagenesis. As a result they found that 382 out of 482 protein coding genes were essential.
([2]) Nature's Destiny: How the Laws of Biology Reveal Purpose in the Universe, Michael Denton.
([3]) ناقَش هذه المسألة بالتفصيل مايكل دانتون في كتابه: قدر الطبيعة، والكتاب مترجم من إصدارات دار الكاتب.
([4]) ظاهرة نقد الدين في الفلسفة الحديثة، د. سلطان العميري، رسالة دكتوراة.
([5]) ظاهرة نقد الدين في الفلسفة الحديثة، د. سلطان العميري، رسالة دكتوراة.
([6]) زاد المعاد1-68.
([7]) مجموع الفتاوى 19-93،94.
([8]) Video Source: The Shores of the Cosmic Ocean [Episode 1]
Some part of our being knows this is where we came from. We long to return. And we can. Because the cosmos is also within us. We're made of star-stuff. We are a way for the cosmos to know itself. 06 min 04 sec
أما كون الإنسان حشرة فقد ذكر ذلك سارتر في روايته غثيان.
([9]) From an interview with Ken Campbell on Reality on the Rocks: Beyond Our Ken, 1995
([10]) https://en.wikipedia.org/wiki/Aktion_T4
([11]) مجموع الفتاوى، م1 ص 359.
([12]) قصة الحضارة، ول ديورانت، مجلد3 ص209.
([13]) المصدر السابق.
([14]) ظاهرة نقد الدين في الفلسفة الحديثة، د. سلطان العميري، رسالة دكتوراة.
([15]) صحيح مسلم، ح:2577.
([16]) صحيح مسلم، ح:2658.
([17]) https://en.wikipedia.org/wiki/There_are_no_atheists_in_foxholes.
([18]) النبأ العظيم، د. عبد الله دراز رحمه الله، ص44-45.
([19]) صحيح البخاري، ح: 4854.
([20]) صحيح البخاري، ح: 3905.
([21]) كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، د. عبد الله دراز.
([22]) البخاري (1217)، البخاري (2618)، البخاري (3578)، البخاري (4101)، البخاري (6452). وكلها أحداث ووقائع مختلفة متباينة وهذا في البخاري وحده!
([23]) صحيح مسلم، ح: 3319.
([24]) صحيح البخاري، ح:1333.
([25]) صحيح مسلم، ح:2417.
([26]) جمع هذه الأحاديث سعبد ين عبد القادر باشنفر، في كتابه دلائل النبوة، والكتاب من إصدارات دار ابن حزم.
([27]) صحيح الجامع، 8188.
([28]) http://www.nasa.gov/mission_pages/LRO/news/vid-tour.html
https://www.youtube.com/watch?v=UIKmSQqp8wY
([29]) ثبوت النبوات عقلًا ونقلًا، ابن تيمية، دار ابن الجوزي، ص573، وبمعناه في نفس المصدر ص318.
([30]) صحيح البخاري، ح:4971.
([31]) صحيح البخاري، ح:7.
([32]) C. S. Lewis
([33]) من كتاب أسس غائبة، م. أحمد حسن، مركز دلائل. بتصرف.
([34]) صحيح سنن أبي داود، ح:4699.
([35]) - https://en.wikipedia.org/wiki/League_of_Militant_Atheists
([36])-https://www.telegraph.co.uk/news/science/science news/3323462/Science-Islams-forgotten-geniuses.html
([37]) صحيح سنن الترمذي، ح:2465.