Description
بحث مقدم إلى ندوة ترجمة السنة والسيرة النبوية والتي عُقدت بالرياض في الفترة من 23، 25/صفر/1429هـ، يذكر أبرز معوقات ترجمة السنة والسيرة النبوية بلغتي الفارسية والبشتو، مع بيان بعض سبل التغلب عليها.
بحث مقدم
لندوة ترجمة السنة والسيرة النبوية
(الواقع، التطوير، المعوقات)
إعداد
عبد النافع زلال عبد الحي
الطالب بمرحلة الدكتوراه
بالمعهد العالي للقضاء، قسم الفقه المقارن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان على خاتم النبيين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من أعظم نعم الله على العباد أن هداهم للإسلام وبعث إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: )لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ(([1])، حيث بلَّغ ﷺ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الكرام الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى بلَغَ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها.
لقد كان محمد بن عبد الله ﷺ النموذج الأمثل في تبليغه رسالة الإسلام إلى القريب والبعيد، وفي دعوة الناس إليه، وفي انتهاجه من السبل الملائمة ما يمكِّن لدعوته في الأرض بحسب ما تقتضيه كل مرحلة، وقد خلف ﷺ بعد موته تراثاً ضخماً في مجال الدعوة الإسلامية تحفظه لنا كتب السيرة والحديث.
وأول ما نستفيده من ذلك التراث الضخم أن الإسلام لم ينفصل يوماً عن الدعوة منذ نزول قوله تعالى: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(([2])، إلى قوله تعالى: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا(([3])، وأنه ما ينبغي أن تُعطل يوماً حركة الدعوة إلى الإسلام بمقتضى خاتميته وعالميته وفطريته، ومن أجل ذلك، وُكِّل أمر الاستمرار في تبليغ هذا الدين والدعوة إليه، -بعد موت رسول الله ﷺ - إلى العلماء وفي مقدمتهم الصحابة رضوان الله عليهم.
وبمقتضى ذلك، فإن الدعاة مدعوون لتبليغ رسالة الله إلى الناس أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، ومطالبون بتنويع الوسائل والآليات والمناهج تبعاً لمتغيرات الواقع.
ومن هذه الوسائل وأهمها: ترجمة الأحاديث النبوية وسيرة المصطفى ﷺ إلى كل شعوب العالم، مهما اختلفت لغاتهم وأعراقهم.
وانطلاقاً من هذه الأهمية الكبيرة لترجمة السنة والسيرة النبوية، عزمت الجمعية العلمية السعودية للسنة وعلومها على عقد (ندوة ترجمة السنة والسيرة النبوية: الواقع، التطوير، المعوقات) بمقر الجمعية بالرياض.
وكانت من دواعي سروري واغتباطي المشاركة بجهدي المتواضع من خلال تجربتي المتواضعة في مجال الترجمة، وذلك بإعداد بحث حول (معوقات ترجمة السنة والسيرة النبوية بلغتي الفارسية والبشتو، وسبل التغلب عليها)؛ ليكون إسهاماً مني في إلقاء الضوء على أبرز العوائق التي يواجهها المترجم في هذا المجال، وبيان سبل التغلب عليها، للوصول إلى مستوى لائق في إخراج ترجمات صحيحة قوية ونافعة للسنة والسيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم.
فأسأل الله العلي القدير التوفيق والإعانة والتسديد.
وقد جاء هذا البحث في تمهيد، ومبحثين، وخاتمة.
التمهيد: في التعريف بلغتي الفارسية والبشتو، وتعريف الترجمة، وأنواعها، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: التعريف بلغتي الفارسية والبشتو.
المطلب الثاني: تعريف الترجمة في اللغة والاصطلاح، وأنواعها.
المبحث الأول: أبرز معوقات ترجمة السنة والسيرة النبوية بلغتي الفارسية والبشتو.
المبحث الثاني: سبل التغلب على هذه المعوقات.
الخاتمة: أبرز النتائج والتوصيات التي توصل إليها الباحث.
وفيه مطلبان:
أسماؤها: اللغة الفارسية، أو الفارسية الإسلامية، والدرية.
جذورها التاريخية: اللغة الفارسية من أقدم اللغات في أفغانستان وكذلك في إيران، وهي من فصيلة اللغات الآرية التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندو أوروبية، لها صلة باللغة السنسكريتية في الهند، ويرجع تاريخ نشأتها إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى سفوح جبال الهندوكش في شمال أفغانستان الحالية([4]).
واللغة الفارسية تنقسم تاريخياً إلى مرحلتين مهمتين:
المرحلة الأولى: الفارسية القديمة قبل الإسلام.
والمرحلة الثانية: الدرية الحديثة، أو الفارسية الإسلامية بعد دخول الإسلام وانتشاره في بلاد الأفغان (أفغانستان)، وفارس، فاللغة الفارسية الجديدة هي امتداد للغة الفارسية القديمة.
ازدهرت اللغة الفارسية الحديثة في القرن التاسع الميلادي، ووصل عصرها الذهبي في عهد بعض الملوك من سجستان، وخراسان، وخوارزم، والغزنويين، والسلجوقيين([5]).
وقد تأثرت اللغة الفارسية الإسلامية كثيراً باللغة العربية، حيث استبدلت بالخط البهلوي الذي كانت تُكتَب بها قديماً الخطَّ العربي، فأصبحت تُكتَب بالحروف العربية إضافة إلى أربعة حروف فارسية هي: (پ، چ، ژ، گ)، لتصبح حروفها الأبجدية اثنين وثلاثين حرفاً.
مواقع انتشارها: اللغة الفارسية أو الدرية نشأت في أحضان أفغانستان الخراسانية، ثم انتشرت بمرور الزمن غرباً وشمالاً، وذاعت في إيران وطاجكستان وغيرهما من البلاد المجاورة([6]).
فهي تنتشر بشكل كبير في أفغانستان وهي اللغة الرسمية للدولة بجانب لغة البشتو، وتنتشر في إيران وهي لغتها الرسمية والشعبية، واللغة الشعبية في طاجكستان، وفي بعض أجزاء باكستان، كما ينتشر الناطقون بها في دول لخليج العربي، والمملكة العربية السعودية، ودول أوربا، وأمريكا.
واللغة الفارسية من أهم اللغات الأدبية وأكثرها ازدهاراً وانتشاراً، وهي قد أثّرتْ في كثير من اللغات الأفغانية، كما أثّرت في كثير من اللغات الإسلامية الأخرى، كاللغة الأوزبكية، والتركية، والأردية، والبلوجية، والكردية، فإن هذه اللغات بأكملها قد أخذت كثيراً من مفردات اللغة الفارسية، وكثيراً من المصطلحات في الأدبيات والدوائر العلمية، كما دخلت بعض المفردات الفارسية كذلك في اللغة العربية.
عدد الناطقين بها: يتحدث باللغة الفارسية أكثر من مائة مليون من الناس في إيران، وأفغانستان، وطاجكستان، ودول الخليج العربي، وأوربا، وأمريكا.
أسماؤها: لغة البشتو أو البشتونية([8])، وتعرف أيضاً بلغة البختو أو البختونية([9])، كما تعرف بلغة الأفغان، أو باللغة الأفغانية، والناطق بها يسمى (بشتون)([10]) أو (بختون) ، ويعرف أهلها كذلك بـ(الأفغان)([11])، ويعرفون في الهند باسم (بتهان)([12]).
جذورها التاريخية: لغة البشتو لغة حية نشطة من فصيلة اللغات الآرية القديمة التي تنتمي إلى مجموعة اللغات الهندو أوروبية، ويعود تاريخ نشأتها إلى القرن الخامس قبل الميلاد([13]).
وهي في أوائل دخول الإسلام إلى أفغانستان كانت لغة الأدب ولغة بلاط الحكام في مناطق خراسان، وغزنة([14])، وغور وغيرها من مناطق أفغانستان الحالية([15]).
وهي بعد دخول الإسلام إلى أفغانستان تأثرت بشكل كبير باللغة العربية، فهي تكتب الآن بالحروف العربية، إضافة إلى اثني عشر حرفاً خاصاً بلغة البشتو، وهي: (پ، ټ، چ، ځ، څ، ډ، ړ، ژ، ږ، ښ، ګ، ڼ)، ومن جملة هذه الحروف أربعة منها (پ، چ، ژ، گ) مشتركة بينها وبين اللغة الفارسية، وبقية الحروف الثمانية خاصة بها([16]).
مواقع انتشارها: عاشت لغة البشتو ولا تزال تعيش حية على جانبي جبال هندوكش الشامخة شمالاً وجنوباً، ومن باختر التاريخية في الشمال الأفغاني حتى البنجاب الغربي في باكستان.
فهي تنتشر أساساً في أفغانستان، وباكستان، كما تنتشر في نطاق محدود في الهند، وينتشر الناطقون بها في الدول الأوربية، وأمريكا، وتوجد جالية كبيرة في دول الخليج العربي، وبخاصة في المملكة العربية السعودية حيث توجد فيها جالية كبيرة من الناطقين بالبشتو.
عدد الناطقين بها: يتحدث بلغة البشتو أكثر من خمسين مليوناً من الناس في أفغانستان، وباكستان، فهي لغة نصف سكان أفغانستان البالغ عددهم أكثر من أربعين مليوناً، ولغة خُمْس سكان باكستان البالغ عددهم أكثر من مائة وخمسين مليوناً([17])، إضافة إلى الناطقين بها في الهند.
الأوجه المشتركة بين اللغة الفارسية ولغة البشتو:
اللغة الفارسية ولغة البشتو تشتركان في صفات كثيرة، وتلتقيان في جذورهما التاريخية، ونشأتهما البيئية.
فاللغتان كلتاهما من فصيلة اللغات الآرية القديمة، وقد عاشتا جنباً إلى جنب في أفغانستان القديمة، وما زالت تعيشان في هذا العصر متعانقتين في أفغانستان، وهما تحملان أوجه شبه كثيرة في الصفات، وكثير من القواعد، والآداب، وطريقة النطق والكتابة، والحروف الهجائية المشتركة، وغيرها من الأوجه المشتركة الأخرى.
وإن كان هناك شيء من الاختلاف بين اللغتين في التركيب والنظم اللغوي([18]).
المعنى اللغوي:
يرد لفظ الترجمة في اللغة بمعنى التفسير، ونقل الكلام من لغة إلى أخرى.
يقول ابن منظور في «لسان العرب»([19]): «التَّرجُمان والتُرجمان- بفتح التاء وضمها- المفسر لِلِّسان، وفي حديث هرقل: قال لترجمانه.. والترجمان بالضم والفتح: هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى، والترجمان: المفسِّر، وقد تَرْجَمَه، وتَرْجَمَ عنه».
ويقول الفيروزآبادي في «القاموس المحيط»([20]): «الترجمان: المفسِّر لِلِّسان، وقد تَرْجَمَه، وعنه».
ويقول الزبيدي في «تاج العروس»([21]): «و يُقال تَرْجُمان.. المُفَسِّرُ لِلِّسان وقد تَرْجَمَهُ، وتَرْجَمَ عَنْهُ، إِذا فَسَّر كَلامَه بِلِسانٍ آخَرَ، قاله الجوهريّ، وقِيلَ: نَقَلَه مِن لُغَة ٍ إلى أُخْرَى».
التعريف الاصطلاحي:
الترجمة هي: التعبير بلغة ثانية عن المعاني التي تم التعبير عنها بلغة أولى.
ويدل هذا التعريف على وجود مستويين: مستوى المعاني، ومستوى التعبير عن هذه المعاني بلغة معينة، وفي حين يتساوى بنو البشر في كيفية اكتساب المعاني، يختلفون في طريقة التعبير عنها بحسب اختلاف لغاتهم، ويكمن هذا الاختلاف في أن لكل لغة وسائلها التركيبية والصرفية والصوتية التي تستعملها للتعبير عن المعاني المختلفة، فمعنى الاستفهام عن الشيء -مثلاً- قائم في أذهان جميع البشر، ولكن التعبير عنه في اللغة العربية يتم بوسائل ليست هي الوسائل التي تُستعمل للتعبير عنه في اللغات الأخرى. ومثل ذلك وارد أيضاً في جميع المعاني.
فالترجمة إذن تعبير دقيق عن المعاني بالوسائل التركيبية والصرفية والصوتية المتوافرة في لغة ثانية (اللغة الهدف) شرط أن تكون معادلة للوسائل التي استُعملت للتعبير عن هذه المعاني في اللغة الأولى (اللغة المصدر)، وشرطُ صحتها أن يكون مدلول العبارة أو النص في اللغة المصدر هو ذاته في اللغة الهدف.
بناء على التعريف السابق، فإن الترجمة تتطلب -عموماً- معرفة كافية بمعجم اللغة المصدر ومعجم اللغة الهدف، وبقواعد اللغتين النحوية ( بالمعنى العام للنحو)؛ إلا أنه ليس من الضروري أن تتوافر في كل لغة الألفاظ الدالة على المعاني المعبر عنها بألفاظ لغة أخرى.
ومن هنا فالترجمة ليست عملية سهلة، بل هي عملية خلق أو إبداع فني، تكاد تكون أكثر صعوبة من عملية التأليف أساسًا، لأن المؤلف ابتداء يجد نفسه حرًا في اختيار مفرداته وتراكيبه وأسلوبه، يستطيع أن يعدل عن كلمة إلى أخرى، وأن يترك تركيباً ليرجح آخر، ثم ينقّح أسلوبه كما يريد.
أما المترجم فهو أسير النص الذي يترجمه، مقيد به وبكل ما فيه، لا يحق له أن يبتعد عنه، إذ هو ملتزم بالأمانة، وإذا افترضنا أنه متمكن تمام التمكن أو على درجة منه في لغة النص المترجم، فثمة قيود أخرى تحد من التزامه الكامل بكل أبعاد هذا النص ووجوه تفاصيله في لغته، إذ يجد نفسه أمام اللغة الأخرى، اللغة المتلقية، المترجم إليها، وهي ما يعبر عنها بـ«لغة سيدة»، لا بد أن يتبعها ويلتزم أوامرها ونواهيها... إذ هي التي سيواجه بها القارئ، الذي قد لا يعرف إلاَّ إياها، بل ربما لا يعرف شيئاً عن لغة النص الأصلية المترجم منها.
الترجمة تتحقق بطريقتين مختلفتين:
الأولى: ترجمة المفردات من اللغة المصدر إلى اللغة الأم، بحيث تتم ترجمة كل مفردة أو ما هو شبه مفردة وإن كانت مركبة من كلمتين فأكثر على حدة دون ربطها ببقية مفردات الجملة، فتأتي الترجمة موافقة غالباً في عدد مفرداتها، وترتيبها داخل الجملة موافقة للغة المصدر، ويمكن تسمية مثل هذه الترجمة بـ(الترجمة الحرفية، أو الترجمة المعجمية).
الثانية: تحصيل معنى الجملة كاملة في الذهن كما هي في اللغة المصدر، والتعبير عنه في اللغة الهدف دون النظر إلى تساوي عدد المفردات في التعبيرين، ودون النظر إلى تطابق ترتيب مفردات الجملة في اللغتين، ويمكن تسمية هذا النمط من الترجمة بـ(الترجمة السياقية، أو الترجمة المعنوية).
وقد كانت هاتان الطريقتان معروفتين لدى العرب إبان حركة الترجمة من اللغة اليونانية إلى العربية، حيث نقل بهاء الدين العاملي (1031 هـ) عن صلاح الدين الصفدي (ت764 هـ) قوله: «أن للعرب في ذلك طريقتين:
الأولى: أن ينظر المترجم إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها، وينتقل إلى اللغة الأخرى حتى يأتي على جملة ما كان يريد تعريبه.
والأخرى: أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه، ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها».([22])
ولكل طريقة من الطريقتين المذكورتين ميزاتها وعيوبها، ليس هذا محل ذكرها.
لا شك أن الترجمة التي يمارسها المترجم هي عملية تحويل إنتاج كلامي في إحدى اللغات إلى إنتاج كلامي في لغة أخرى، مع المحافظة على جانب المضمون الثابت، أي على المعنى، وفي الوقت ذاته عدم الإخلال بطابع النص الذي يترجم.
وإن دقة الترجمة هي المشابهة القصوى للأصل كما يعرف بالتكافؤ في المضمون والشكل، ويتحقق ذلك بواسطة التحويلات القواعدية, والمعجمية, والدلالية, والاصطلاحية، وكذلك الدقة في نقل أساليب الأصل.
ولكي يتأتى ذلك فلا بد أن يكون المترجم عالماً ومتمكناً من اللغتين المنقول منها والمنقول إليها, كما أنه لا بد أن يكون مستوعباً للمادة التي يترجمها, أميناً في النقل، ومحافظاً على طابع المادة المترجمة.
ومن هنا تأتي العوائق والعقبات في طريق الترجمة الصحيحة، وكلما ضعف هذا التمكن في المترجم كلما زادت نسبة الخطأ في الترجمة، وظهرت فيها سمات الضعف والركاكة والخلل.
والعوائق التي يمكن أن يواجهها المترجم في ترجمته للسنة والسيرة النبوية، نذكر أهمها وأبرزها فيما يأتي:
ومن أبرز ذلك:
1- أسلوب النفي والاستثناء بـ(ما وإلا) أو (لا وإلا): فإنه يفيد الحصر، ويكون ترتيب الجملة في هذا الأسلوب هكذا: حرف النفي، ثم المستثنى منه، ثم أداة الاستثناء، ثم المستثنى.
بينما ترتيب جملة الحصر في لغتي الفارسية والبشتو هكذا: حرف الاستثناء، ثم المستثنى، ثم المستثنى منه، ثم النفي. فهناك فرق كبير جداً بين اللغتين في ترتيب أجزاء الجملة الحصرية.
فيأتي المترجم ويترجم هذا الأسلوب بنفس ترتيب مفردات الجملة العربية، فتأتي الترجمة غير مألوفة وركيكة، بل ربما كانت غير مفهومة في بعض الأحيان لمن يقرأ الترجمة فقط دون النص العربي.
2- الجملة الفعلية: فإن ترتيب أجزاء الجملة يكون بذكر الفعل أولاً، ثم الفاعل، ثم الأجزاء الأخرى من متعلقات الجملة.
بينما ترتيب الجملة الفعلية في لغتي الفارسية والبشتو يكون بذكر الفاعل أولاً ثم الفعل ثانياً.
فإذا تمت الترجمة بحسب ترتيب الجملة في اللغة العربية كانت الترجمة ركيكة، وكلما طالت الجملة وكثرت أجزاؤها كلما ازدادت هذه الركاكة، بل ربما كانت الترجمة في بعض الأحيان غير مفهومة للقارئ.
3- المفعول به: فإن الموضع الطبيعي له أن يذكر في نهاية الجملة، بينما في لغة البشتو ومثلها الفارسية يذكر المفعول به بعد الفاعل، وقبل الفعل.
4- المفعول فيه بنوعيه الزماني والمكاني: فإن محله في الغالب في نهاية الجملة في اللغة العربية، بينما في لغتي البشتو والفارسية يكون في وسط الجملة، أي بين الفاعل والفعل.
5- الأفعال الناسخة: حيث تذكر في الجملة العربية في أولها، بينما موضعها في لغتي الفارسية والبشتو في آخر الجملة.
ويخطئ كثير من المترجمين حيث يترجمونه في موضعها في أول الجملة، ولا يذكرون لها مقابلاً في آخر الجملة، فتأتي الترجمة ركيكة، وغريبة في شكلها وتناسقها.
6- الشرط إذا ورد في آخر الجملة: فإنه في لغتي الفارسية والبشتو يكون في أول الجملة.
7- الصفة والموصوف: فإن الموصوف في اللغة العربية يتقدم على الصفة، بينما في لغة البشتو تُقدَّم الصفةُ على الموصوف، وأما في اللغة الفارسية فهو بنفس ترتيب اللغة العربية.
ومن أمثلة ذلك ما يأتي:
1- المفعول المطلق: فإنه لا يوجد في لغتي الفارسية والبشتو ما يرادف المفعول المطلق، وترجمته كما هو في الجملة العربية تربك تناسق الجملة وتؤدي إلى إخلالها، ولا يوجد لمعنى المفعول المطلق أي موقع مناسب في الجملة أبداً، بل تكون الجملة بدونها كاملة متناسقة مترابطة ومفيدة إفادة تامة.
ولكن مع ذلك قام ويقوم كثير من المترجمين بترجمة المفعول المطلق بصفته كلمة مستقلة في اللغة الهدف وذلك بدافع الحرص على نقل معاني اللغة المصدر بجميع ألفاظها.
2- التمييز: فإنه لا يوجد في لغتي البشتو والفارسية ما يقابلها من حيث كونه تمييزاً.
3- البدل والمبدل منه: فإن المبدل منه يذكر في الجملة العربية أولاً، ثم يعقبه البدل بأنواعه الثلاثة. ولا يوجد في لغتي الفارسية والبشتو أسلوب البدل، ويمكن الاستغناء عن ذلك بأسلوب الإضافة، أو الصفة والموصوف، وذلك إما بإضافة الجزء إلى الكل، كما هو في بدل البعض من الكل، أو بإضافة ما يشتمله عليه الشيء إلى الشيء نفسه، كما هو في بدل الاشتمال، أو بجعل الوصف صفة للمبدل منه، كما هو في بدل الكل من الكل، وإن سمينا هذه الأساليب بالبدل، ففي الحالات الثلاث يتقدم البدل على المبدل منه.
فعدم التنبه إلى هذا الفرق الدقيق يوقع المترجم في الخطأ في ترجمته، ويجعلها ترجمة ركيكة غير متناسقة.
مثل قوله ﷺ: «ذروني ما تركتكم».
فإن ترجمة مثل هذا التعبير الجامع، لا تتحقق بترجمة مفردات الجملة فقط، دون النظر إلى المعاني التي يحملها هذا اللفظ النبوي الجامع، بل لا بد من فهم معنى الحديث فهماً صحيحاً، وتحصيل هذا المعنى في الذهن ثم ترجمته إلى اللغة الهدف بألفاظ مناسبة واضحة.
ومن ذلك كثرة التقدير في الجملة العربية:
فيخطئ المترجم عندما يترجم الجملة دون النظر إلى الأدوات والكلمات المقدرة في الجملة العربية التي تكون مكملة لمعناها ومتممة لأجزائها، فتأتي الترجمة ناقصة وغير مفهومة.
ومن أمثلة ذلك قولنا:
(خطب النبي ﷺ بعرفة خطبة عظيمة جامعة، حرم فيها الدماء والأموال..)، أي حرّم إراقة دماء المسلمين، وحرّم أكل أموالهم بالباطل، أو حرّم الاعتداء على دماء المسلمين وأموالهم بغير حق.
فإذا تُرجمت هذه الجملة ترجمة حرفية من دون هذا التقدير كانت الترجمة خاطئة، بل ربما تكون الترجمة في اتجاه معاكس لمعنى الجملة في اللغة الهدف.
إن اللغات غير متكافئة في التعبير عن الفروق القائمة بين المعاني أو المفاهيم، ومن حيث كثرة المفردات وقلتها، أو وجود مفردة في اللغة المصدر وعدم وجود مقابل لها في اللغة الهدف، ففي مثل تلك الحالات يلجأ المترجم إلى الشرح والتفسير، ويكون ذلك ضرورياً لتتم عملية الترجمة سليمة وصحيحة.
فعلى سبيل المثال:
الوقوف بعرفة: فإن معناه هو البقاء بعرفة لأجل الدعاء والذكر والاستغفار والتضرع إلى الله تعالى.
اختلاف معنى اللفظ باختلاف الاصطلاح، وذلك في الألفاظ التي تتعلق بالأحكام والاصطلاحات الشرعية:
فعلى سبيل المثال:
لفظ (الواجب): فإن معناه عند الحنفية غير ما هو عند جمهور الفقهاء، فالحنفية يفرقون بين الواجب والفرض، فالواجب عندهم ما ثبت بدليل قطعي ثبوتاً ودلالةً، والواجب عندهم أقل من الفرض وهو ما ثبت بدليل ظني ثبوتاً ودلالةً أو ظني الثبوت فقط، أو ظني الدلالة فقط. وأما الجمهور من الفقهاء فلا يفرقون بين الواجب والفرض، فهما عندهم بمعنى واحد، وهو ما كان مأموراً به في الشرع بطريق اللزوم. فالواجب عندهم في عامة استعمالاته الشرعية بمعنى الفرض، إن لم تكن هناك قرينة تصرف معناه إلى الواجب في اصطلاح الحنفية، وهو ما كانت مرتبته دون الفرض، ولا يبطل العمل بتركه، كما في الصلاة أو الحج مثلاً.
فإذا لم يتنبه المترجم إلى هذا الاختلاف في تحديد مفهوم الكلمة، وترجم (الواجب) ومشتقاتها في السنة النبوية بكلمة (واجب) في لغتي البشتو والفارسية، فَهِمَ منه القارئ في اللغة الهدف –وأغلبيتهم من الحنفية- معنى الواجب الذي هو أقل مرتبة من الفرض، وذلك لشيوع استعمال لفظ الواجب عندهم في غير الفرض، وأما الواجب القطعي فيعبرون عنه بلفظ الفرض، وليس بلفظ الواجب.
فيؤدي هذا الخطأ في الترجمة إلى خلل كبير جداً في فهم النص المترجَم، بل ويقلب المعنى رأساً في بعض الأحيان.
لا يزال: فإنهما كلمتان تفيدان مجتمعتين الاستمرارية والدوام، بينما يأتي بعض المترجمين فيترجم هذا التركيب على أنه كلمتين مستقلتين، فيترجمه بأداة نفي ثم يذكر بعدها فعلاً، وهو لا يفيد معنى الاستمرارية في لغتي الفارسية والبشتو، بل يفيد النفي وعدم دوام الفعل، وبذلك يقع في الخطأ في الترجمة، ويذهب بعيداً عن مرمى الكلام.
فعلى سبيل المثال:
حتى يأتي أمر الله: ومعناه: حتى تقوم الساعة أو القيامة، بينما يترجمه بعض المترجمين بإتيان حكم الله، دون أن يفسره بالقيامة، وهذا خطأ ينشأ من عدم معرفة معنى هذه الجملة.
وقلة ذلك في لغتي الفارسية والبشتو، وأمثلة ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال: السيف، فله أسماء كثيرة، وكل اسم يحمل معنى مغايراً لاسم آخر، بينما لا توجد في لغتي الفارسية والبشتو للسيف إلا اسم واحد، فتكون معالجة مثل هذا الأمر أحياناً بإضافة كلمة أخرى تبين المعنى الزائد على الكلمة الأصلية (السيف) في اللغة المصدر.
نظراً لعدم مثل هذا المعجم الذي يكون مرجعاً للمترجم، يواجه كثير من المترجمين صعوبة في عمل الترجمة، حيث لا يجدون بسهولة ترجمة المفردات والألفاظ الصعبة، أو قليلة الاستعمال، وكذلك المصطلحات الشرعية، والأساليب والتراكيب اللغوية الخاصة باللغة العربية وما يقابلها من أساليب وتراكيب في اللغة الهدف.
إن عدداً من المترجمين يفضل في عملية الترجمة الأخذ بالترجمة الحرفية أو المعجمية في ترجمة السنة والسيرة النبوية، والترجمة الحرفية لها عيوب كثيرة نذكر منها:
ضعف الترجمة من حيث إفادتها في اللغة الهدف، وذلك أن تركيب الكلمات والمفردات في اللغة الهدف لا يتوافق مع قواعدها وطبيعتها اللغوية، وبالتالي تضعف إفادتها للمعنى المراد من الجملة في اللغة المصدر.
ركاكة الجملة وهشاشتها وفقدان الناحية الجمالية في اللغة الهدف، وذلك لأن الترجمة تمت وفق مكونات الجملة العربية وبنفس ترتيب مفرداتها، كل مفردة على حدة في موضعها من الجملة العربية، دون مراعاة قواعد اللغة الهدف، وعدم استخدام الأساليب والتراكيب المناسبة والجميلة في اللغة الهدف لمعاني ألفاظ اللغة المصدر، مما يفقدها جمال التعبير، وقوة إيصال المعاني بألفاظ كافية، وأسلوب لائق.
الوقوع في الخطأ في فهم المعنى المراد من النص في اللغة المصدر، ويحصل ذلك بسبب سيطرة مجاراة اللغة المصدر وقوة تأثيرها على المترجم، وعدم العناية بمقومات اللغة الهدف وقواعدها.
يمكن أن نشير فيما يلي إلى أبرز الأسباب التي تجعل المترجم يأخذ بنمط الترجمة الحرفية، ولا يولي عناية للترجمة المعنوية:
1- ضعف التمكن وعدم الإجادة للغة المصدر واللغة الهدف، أو إحداهما، وبخاصة لمن لم يمارس اللغة ممارسة عملية من حيث الكتابةُ والتأليفُ والترجمةُ، أو لم تكن اللغة بالنسبة له لغة التعليم والدراسة، وإنما تلقاها بطريقة غير أكاديمية، أو كان اهتمامه ضعيفاً بدراسة آداب اللغة، والكتابة العلمية والتأليف والترجمة، كما هو الحال في عدد من خريجي المدارس الدينية الأهلية التقليدية في إيران، وأفغانستان، وباكستان، وشبه القارة الهندية.
2- سهولة الترجمة الحرفية؛ فإنها لا تكلّف المترجم عناء ومشقة، فيلجأ كثير ممن لم يبرع في الترجمة، أو كان مبتدئاً في هذا المجال إلى هذا النمط من الترجمة، فيترجم كل كلمة أو كل عبارة في موضعها كما هي، دون النظر إلى ترتيب مكونات الجملة في اللغة الهدف، ودون مراعاة قواعدها اللغوية.
3- النزعة القدسية؛ وذلك أنهم لأجل أن يحافظوا على قدسية النص القرآني وقدسية نصوص السنة النبوية، ويراعوا الدقة في نقل معانيها كما هي في اللغة المصدر، لجأوا إلى الترجمة الحرفية، ثم سيطرت عليهم هذه النزعة حتى تأثرتْ بها ترجماتهم لسائر الكتب الدينية من فقه، وأصول، وعقيدة، وغيرها من العلوم الشرعية، ومازالت هذه النزعة القدسية مسيطرة إلى الآن على أعمال الترجمة التي تتم في الأوساط الدينية التقليدية، وبخاصة في محيط باكستان.
وكذلك حرصهم الشديد على ربط القارئ بالنص العربي للسنة النبوية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه بالترجمة، فيرون أن الترجمة هي وسيلة مؤقتة لفهم النص العربي، ولا ينبغي لها أن تحل محله.
ويضاف إلى ذلك سيطرة اللغة القديمة التي اندثر كثير من مفرداتها، وهَجَرَها الناطقون بها، وهذا كثير في أوساط المتعلمين في المدارس الدينية التقليدية الأهلية، فإن عملية التطوير والتجديد في مناهجها بطيئة جداً، بل ربما تكون مفقودة في بعض العلوم التي يدرسونها، ومن ذلك دراستهم للغتي الفارسية والبشتو وآدابهما، فإن كتب القواعد التي يدرسونها لهاتين اللغتين، والمعاجم التي يستعينون بها في الترجمة بعيدة جداً عن مواكبة التطور الذي حصل في الحياة الأدبية، والاجتماعية، وما جدّ من أساليب ومفردات في مجال الكتابة والتأليف في هاتين اللغتين.
ومن مظاهر هذا النمط من الترجمة (وهي الترجمة الحرفية) أن النص المترجَم (في اللغة الهدف) يكتب مباشرة تحت النص العربي (اللغة المصدر)، فترجمة كل كلمة عربية تكتب تحتها مباشرة، وذلك في أغلب الترجمات التي تمت في محيط باكستان.
ولكن إذا رجعنا إلى محيط أفغانستان فإنه قد حصل تحسُّن كبير في هذا الجانب؛ والسبب في ذلك أن اللغة الفارسية ولغة البشتو لغتان رسميتان في الدولة، وهما لغتا الدراسة النظامية، ولغة التخاطب في المكاتبات الرسمية، كما أن النصاب التعليمي يتضمن دراسة كتب الآداب والقواعد في اللغتين البشتو والفارسية، إضافة إلى أنهما لغتا الصحافة والإعلام بشكل عام.
فساهمت كل هذه العوامل في تحسين مستوى اللغة في مجال الأدب، والكتابة، والترجمة جميعاً، فكانت أعمال الترجمة -مع قلتها- جيدة وقوية من الناحية اللغوية والأدبية.
وقد أنشئت([23]) في مدينة كابل العاصمة الأفغانية أكاديمية خاصة من الأدباء والعلماء باسم «پښتو ټولنه» تُعنَى بآداب لغة البشتو وترجمة الكتب الدينية من اللغة العربية إليها.
وكان من أبرز أعمال هذه الأكاديمية في هذا المجال ترجمة معاني القرآن والكريم وتفسيره إلى لغة البشتو في ستة مجلدات، وكذلك ترجمة السيرة النبوية في أربعة مجلدات، وقد تمت طباعة ترجمة معاني القرآن الكريم المذكورة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.
ومن الترجمات الجديدة القوية التي ظهرت بلغة البشتو في مجال السيرة النبوية، ترجمة كتاب «الرحيق المختوم» للمباركفوري([24])، وترجمة «مختصر زاد المعاد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب([25])، كلتاهما للمترجم الأفغاني الأستاذ/ سلطان محمود صلاح.
ومن الترجمات الجديدة القوية في اللغة الفارسية: ترجمة «رياض الصالحين»([26])، وترجمة «الأربعين النووية»([27])، كلتاهما للمترجم الأفغاني الأستاذ/ عبد الله خاموش، وترجمة «مختصر صحيح البخاري» للزبيدي([28])، وشرحه باللغة الفارسية([29])، وترجمة «الشمائل النبوية» للترمذي([30])، الثلاثة للدكتور عبد الرحيم يعقوب فيروز الأستاذ المشارك في قسم التربية الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض.
وأما لغة البشتو في باكستان وبخاصة في مدينة بيشاور وما جاورها من المناطق فلم تتهيأ لها من العوامل المساعدة لتطويرها وتقوية مستواها من الناحية الأدبية، وإن كانت البيئة الدينية فيها تميزت بكثرة وضخامة أعمال الترجمة في جميع العلوم الشرعية، وبخاصة القرآن الكريم وتفسيره، والأحاديث النبوية وشروحها، وسائر الكتب الدينية، ولكنها لم تصل من حيث النوعية والكيفية إلى مستوى الترجمات الأفغانية، وإن فَاقَتْها من حيث الكمية.
وأما في إيران فالوضع أفضل بكثير، وحركة الترجمة فيها نشطة وقوية وبمستوى ممتاز؛ ولعل من الأسباب المعينة على ذلك ازدهار اللغة الفارسية في إيران، وكونها لغة الدولة الرسمية في جميع المجالات، كالتعليم، والإعلام، والصحافة.. واهتمام الدولة بها، إضافة إلى قوة حركة الترجمة، وكثرة الترجمات، والمترجمين، وكثرة الدراسات الأدبية المتخصصة في هذا المجال في الجامعات والكليات الإيرانية.
ولكن الملاحظ في مجال الترجمة في إيران أن معظم هذه الأعمال تتم من قبل الشيعة، وإسهام علماء السنة في هذا المجال يعتبر قليلاً مقارنة بما يقوم به الشيعة.
يمكن التغلب على هذه العوائق بالطرق الآتية:
1- قوة التمكن من معرفة قواعد اللغة المصدر، واللغة الهدف، فكلما كان المترجم متمكناً من معرفة اللغتين وقواعدهما، وأساليبهما، وتراكيبهما، كان أقدر على إنتاج الترجمة الصحيحة القوية البعيدة عن الأخطاء المخلة بالمعنى.
2- تجنب الترجمة الحرفية، والتمرن على الترجمة المعنوية، فإنها أسلم من الخطأ، وأقوى إفادة للمعنى المراد من النص المترجم منه، وأقوى في سلامة نقل مراد المتكلم إلى القارئ باللغة الهدف.
3- الاستعانة بالمعاجم اللغوية، والمعاجم المتخصصة في السنة النبوية إن وُجدت.
4- الرجوع إلى كتب شروح السنة النبوية والاستعانة بها لمعرفة وتحديد المعنى الصحيح والدقيق من لفظ الحديث، وبخاصة في الكلمات الصعبة، والألفاظ النبوية الجامعة، والمصطلحات الشرعية الخاصة.
5- الاستفادة من الترجمات الصحيحة السليمة التي قام بها مترجمون متمكنون ومتمرسون في هذا المجال، ومن الأفضل في مرحلة التمرن والتدرب أن يقوم الشخص بترجمة تلك النصوص مبدئياً، ثم يقارن بين ترجمته وترجمة هؤلاء المترجمين المتمكنين، ليعرف الفرق بينهما، ويتلمس مواضع الخلل والضعف في ترجمته، والعمل على إصلاحها وتحسينها، وعدم تكرارها.
6- من الضروري للمترجم أن يقوم بمراجعة عمله مرتين على الأقل، الأولى للمطابقة بينها وبين النص العربي لتلافي الخلل والتباين في المعنى. وفي المرة الثانية يراجع الترجمة بعيداً عن النص العربي، بل يقرأه باللغة الهدف كقراءة القارئ الذي لا يعرف اللغة العربية، فيحاول إعادة صياغة الجمل والعبارات وفق قواعد اللغة الهدف، وإزالة ما بها من ضعف وركاكة وخلل، ويحرص على أن تكون الجمل سلسلة، وسليمة، ومفيدة للمعنى المراد من أول قراءة.
فهذه بعض السبل التي إذا سلكها المترجم يمكنه تجنب الأخطاء الكبيرة في ترجمته، ويساعده في إنتاج ترجمة صحيحة وسليمة وقوية إن شاء الله تعالى تكون موضع استفادة القراء باللغة الهدف دون الرجوع إلى اللغة المصدر.
وليس معنى ذلك أننا نريد إبعاد القارئ عن نصوص الأحاديث النبوية، والاستغناء بالترجمة عنها، وعدم الاستفادة منها مباشرة، بل المقصود من الحرص على إخراج الترجمة الصحيحة السليمة بالدرجة الأولى هي نقل المعنى المراد من النص النبوي قدر الإمكان للقارئ العادي الذي لا يعرف اللغة العربية، وليس بطالب علم شرعي.
وأما النص العربي للأحاديث النبوية فيبقى هو الأصل المعوّل عليه أولاً وآخراً، ولا يستغنى عنه، ولذلك يفضل وجود النص الحديثي في ترجمات الأحاديث النبوية، ولكن لا تكتب الترجمة تحت الحديث النبوي مباشرة، بل يكون النص الحديثي مفصولاً بأكمله عن الترجمة، بحيث إذا قرأ القارئ (غير الناطق بالعربية) الترجمةَ فَهِمَ المعنى المراد، ووصل إلى مغزى الحديث النبوي.
وأما القارئ الذي يعرف اللغة العربية، ونصوص الأحاديث النبوية ولو معرفة ضعيفة، فإنه يستعين بالترجمة على معرفة ألفاظ الحديث، ويكون ذلك وسيلة إلى جودة تعلمه اللغةَ العربية، ومعرفة معاني الأحاديث النبوية، وتقوية مخزونه اللغوي المعجمي في اللغة العربية.
أولاً: أبرز النتائج:
نستخلص من بحثنا السابق عن المعوقات وسبل التغلب عليها النتائج التالية:
1- وجوب العناية بترجمة السنة والسيرة النبوية، وأن العناية بترجمتها مما يساعد على نشرها، وتبليغها إلى عامة المسلمين الذين لا ينطقون باللغة العربية.
2- أن هناك عدداً من المعوقات التي يواجهها المشتغلون في مجال ترجمة السنة والسيرة النبوية.
3- أن العوائق في ترجمة السنة النبوية، أكثر وأقوى من العوائق في ترجمة السيرة النبوية؛ وذلك لأن السنة ثاني الوحيين، وأن ألفاظها خرجت من مشكاة النبوة في ألفاظ جامعة، بليغة، ذات أوجه، وحمّالة معاني، بخلاف السيرة النبوية، فهي حكاية وتعبير عن دقائق وتفاصيل حياة النبي ﷺ بألفاظ غير المعصومين من الصحابة ومن بعدهم.
4- بالنظر إلى واقع الترجمات الموجودة في لغتي الفارسية والبشتو، نجد في بعض منها ضعفاً من الناحية اللغوية، وأنها ليست بمستوى لائق، ولم تصل إلى مرحلة الترجمة الجميلة المؤثرة، ومع ذلك فإن الترجمات باللغة الفارسية في مجملها أفضل حالاً من الترجمات بلغة البشتو، وأن الترجمات بلغة البشتو التي تمت في محيط أفغانستان ومن قبل المترجمين الأفغان أفضل وأقوى –في الغالب- من الترجمات التي تمت في محيط باكستان من قبل المترجمين الباكستانيين، وأن أغلب الترجمات التي تمت في أوساط المدارس الدينية التقليدية، أو من قبل المتخرجين من تلك المدارس يغلب عليها نمط الترجمة الحرفية.
ثانياً: أهم التوصيات:
ولكي نتمكن من تطوير أعمال الترجمة، وتحسين مستواها، والتغلب على العوائق الموجودة في هذا المجال، نوصي بما يلي:
1- عقد ندوات مشابهة لمثل هذه الندوة المباركة لدراسة واقع الترجمات في مجال السنة والسيرة النبوية، وتشخيص جوانب الضعف فيها، والعمل على معالجتها، وتطويرها.
2- نشر البحوث المعنية بهذا الجانب.
3- دعم المترجمين الذين لديهم التمكنُ، والخبرةُ القوية في الترجمة، وذلك بتوظيفهم في ترجمة أعمال السنة والسيرة النبوية، والاستفادة من خبراتهم في هذا المجال.
4- نشر الترجمات الصحيحة القوية للسنة والسيرة النبوية، سواء التي طبعت بكميات قليلة، أو الترجمات التي لم تطبع إلى الآن بسبب عدم وجود دعم لطباعتها.
5- وضع معجم لغوي كبير (عربي-بشتو) و(بشتو-عربي)؛ وذلك لعدم وجود معجم قوي يرجع إليه المترجم في هذه اللغة، وأما اللغة الفارسية فتوجد فيها معاجم إيرانية.
6- وضع معجم متخصص لشرح المصطلحات، والألفاظ الصعبة، والألفاظ الجامعة وغيرها في السنة النبوية والأحاديث الشريفة.
7- بيان أهمية الترجمة المعنوية، وقوتها في الإفادة، ومدى الحاجة الماسة إليها، وأنها هي الترجمة الصحيحة السليمة المناسبة لنقل معاني السنة والسيرة النبوية للقارئ باللغة الهدف، وأنه لا ضير في أن يرجع غير الناطق باللغة العربية إلى الترجمة وحدها ويستفيد منها، ويعمل بها، وبخاصة العوام من المسلمين الذين لا يتمكنون من تعلم اللغة العربية إلا بصعوبة بالغة، أو قد يعجزون عن تعلّمها بالكلية، مع ملاحظة أن الأصل والعمدة هو النص العربي، وأنه ينبغي للمسلم أن يتعلم اللغة العربية في حدود الإمكان، ويفهم النصوص الشرعية باللغة العربية، ليستقي منها الأحكام، ويأخذ بتوجيهاتها في حياته العملية.
هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.