Description
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ٢٠ ذو الحجة ١٤٣١هـ، يتحدث فيها الشيخ عبد المحسن القاسم عما ينبغي للمسلم فعله بعد الحج من دوام الطاعة والمسلم إذا فرغَ من عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرى؛ كما قال سبحانه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، قال ابن الجوزي رحمه الله: «أي: فَادْأَبْ في العمل»، ولا تنقطعُ العبادةُ إلَّا بالموت؛ كما قال سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ}.
إنَّ الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّهِ من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ مُحمَّداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّه - عبادَ اللَّه - حقَّ التَّقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروة الوثقى.
أيُّها المسلمون:
تفضَّل اللَّه على خلقه بتنوُّع العبادات؛ منها ما هو باطنٌ في القلب، ومنها ما هو ظاهرٌ على الجوارح، وأركان الإسلام والإيمان مدارُها على ذلك، وقد عاد الحجيجُ من بيت اللَّه الحرام والمشاعر بعد أداء أطول عبادةٍ بدنية، قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقد استعمل النَّبيُّ ﷺ أبا بكرٍ على أولِ حَجَّةٍ حُجَّت مِن مدينةِ النَّبيِّ ﷺ، وعِلْمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات، ولولا سَعَة علم أبي بكرٍ بها لم يستعمله النبيُّ ﷺ» أميراً على الحجِّ في السَّنَة التَّاسعة؛ ليُعلِّم النَّاسَ أحكام الحجِّ، لأنَّه أفقه الصَّحابة.
في الحجِّ تظهر عظمةُ الإسلام في توحيدِ الشُّعوب على الحقِّ، وجَمعِهِم على كلمة الإسلام، يقصِدون مكاناً واحداً، ويدعون ربّاً واحداً، ويتَّبِعون نبيّاً واحداً، ويتلون كتاباً واحداً.
فيه تزولُ فوارقُ زُخرف الدُّنيا، ويظهر الخلقُ سَوَاسِيةً لا تَمَايُز بينهم في المظهر؛ فالجميع في لباسهم كلباس الأكفان.
واللَّهُ سبحانه يُظهِرُ آياتٍ لخلقه على صدق رسله؛ فإبراهيم يدعو ربَّه ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ الناسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾؛ فاستجاب اللَّه دعاءه، ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، قال ابن كثير رحمه الله: «فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلَّا وهو يحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطَّواف، والنَّاس يقصِدونها من سائر الجهات والأقطار».
والمُخلِصُ يستجيب اللَّه دعوتَه ولو بعد مماته، وفي كلِّ عامٍ يَظهر أثرُ دعوةٍ الخليل عليه السلام؛ فيستجيبُ المسلمون لدعوته، ويقصِدون - مع مشقَّة السَّفر - وادياً لا زرع فيه؛ ليُظهِروا افتقارَهم إلى اللَّه بوقوفِهم في عرفات والمشاعر، وذُلِّهم للرَّبِّ سبحانه بتجرُّدهم من المخيط، وحَلْق رؤوسهم خضوعاً له.
واللَّهُ سبحانه وعد بحفظ هذا الدِّين، ومع تطاوُل الزَّمان وتقلُّب الأحوال، ووجود الكثير من الحروب والفتن، والفقر والرَّخاء، إلَّا أن هذا الدِّين بقِيَ ناصعاً تامّاً مُبيَّناً كأن الوحي نزل اليوم، فيلبَسون ما لَبِس النَّبيَّ ﷺ من إزار ورِداء، ويُلَبُّون بِتَلْبِيَته، ويَرْمُون كما رمى، ويطوفون بالبيت كما طاف.
والوفاء من شِيَم الرجال، ونبيُّنا مُحمَّدٌ ﷺ صبر على الأذى والكروب؛ لِتَنْعَمَ أمته بالهداية، قال لعائشة رضي الله عنها: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ» (متفق عليه).
والصَّحابة رضي الله عنهم هجَروا الأوطان وتغرَّبوا في البلدان؛ لحمل رسالة النَّبيِّ ﷺ وتبليغها بعزمٍ وأمانة، ونَشْرِ الإسلام في الآفاق بالدَّعوة والقدوة.
وواجبٌ على المسلم أداء حقوق النَّبيِّ ﷺ لِمَا قدَّمه لهذا الدِّين بمحبَّته والتَّأسِّي به، والوفاء لصحابته رضي الله عنهم بمحبَّتهم، والتَّرضِّي عنهم، والذَّبِّ عنهم.
والإخلاصُ للَّه في كلِّ عملٍ شرطٌ في قَبوله، واللَّه غنيٌّ عزيز، لا يقبل عملاً لم يُرَد به وجهه، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصاً وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (رواه النسائي)، ومن أدخل في عبادته رياءً، أو سمعة، أو ابتغى مدح الناس له؛ لم تُقبَل منه عبادتُه، ولن يكون له منها سوى التَّعب والنَّصَب؛ قال اللَّه عز وجل في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (رواه مسلم)، ومن أخلص للَّه تقبَّل اللَّه عمله وضاعَف أجره، قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، قال ابن كثير رحمه الله: «أي: بحسب إخلاصه في عمله».
ومن اقتفى أثر النَّبيِّ ﷺ في حجِّه؛ حريٌّ به التَّأسِّي به في شأنه كله، وذلك سبيل الظَّفَر والفلاح؛ قال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي» (رواه الحاكم).
والنِّعَمُ تدومُ وتزيدُ بالشُّكر، ومن أدَّى عبادةً وحمِدَ اللَّه عليها؛ يسَّر اللَّه له عبادةً بعدها لينالَ ثوابَها؛ قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾، ولذا شُرِع قولُ: «الحمد للَّه» ثلاثاً وثلاثين مرة دُبُر كلِّ صلاةٍ مفروضة؛ لشُكر اللَّه على أداء تلك الفريضة.
وأمارةُ قَبول العمل الصَّالح: الحسنةُ بعده، قال سعيدُ بن جُبير رحمه الله: «من ثواب الحسنةِ: الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السَّيِّئةِ: السَّيِّئةُ بعدها»، والمسلم إذا فرغَ من عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرى؛ كما قال سبحانه: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾، قال ابن الجوزي رحمه الله: «أي: فَادْأَبْ في العمل»، ولا تنقطعُ العبادةُ إلَّا بالموت؛ كما قال سبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾.
وإذا عمل المسلم عملاً صالحاً؛ وَجَبَ عليه حِفظُه بالحَذَر من الوقوع في الشرك، إذ أنه يُحبِط الحسنات؛ قال جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ﴾، قال ابن القيِّم رحمه الله: «إذا أراد اللَّه بعبدٍ خيراً؛ سلَبَ رؤية أعماله الحسنة من قلبِه، والإخبارَ بها من لسانه، وشغَله برؤية ذنبه»، وسؤالُ اللَّه قَبولَ العمل الصالح؛ من صدق الإيمان، بنى إبراهيم عليه السَّلام الكعبة ودعا ربَّه: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السمِيعُ العَلِيمُ﴾.
والثَّبات على الدِّين من عزائم الأمور، ومن دعاء النَّبيِّ ﷺ: «يَا مُثَبِّتَ القُلُوبِ! ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» (رواه ابن ماجه).
ومن لبَّى في حجِّه بالتَّوحيد، وكبَّره في العيد؛ وجَبَ عليه الوفاء بوعده مع اللَّه، وذلك بأن لا يدعوَ سواه، ولا يلجأ إلى غيره، ولا يطوف بغير الكعبة، قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾، ومَنْ توجَّه إلى اللَّه أعانه؛ قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.
وليس من شرط صحَّة الحجِّ زيارةُ المدينة؛ بل قصدُ مسجدِها سنَّةٌ رغَّب فيها النَّبيُّ ﷺ للحاجِّ وغيرِه بالصَّلاة فيه؛ فهو أحد المساجد الثَّلاثة التي لا تُشدُّ الرِّحال إلَّا إليها؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى» (متفق عليه)، وصلاةٌ فيه عن ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام.
ومن وصل إلى المدينة وسلَّم على النَّبيِّ ﷺ وعلى صاحبيه - أبي بكر وعمر رضي الله عنهما -؛ فمن المشروع له: زيارةُ مسجد قُباء، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ صَلَّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَةٍ» (رواه النسائي)، ويُشرع له زيارةُ مقبرة البقيع وشُهداء أُحُد؛ للدُّعاء لهم وللعِظَة والعِبْرة بتذكُّر الآخرة، والميِّت لا يملك لأحدٍ نفعاً ولا ضرّاً، ولا يتعلَّق به، وإنما يُدعَى له بالمغفرة والرضوان، ومن يُدعَى له لا يُدعَى مع اللَّه، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، والمُوفَّق من اجتهد في طاعة ربه، وسارَ على هَدْيِ نبيِّه ﷺ، وحاسَبَ نفسَه في حياته، وسارَع إلى الخيرات، وفاز بالباقيات الصالحات.
أعوذ باللَّه من الشَّيطان الرَّجيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾.
بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …
الخطبة الثانية
الحمد للَّه على إحسانه، والشُّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحدَه لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عبده ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
من أدَّى فريضة الحجِّ حرِيٌّ به بعد أداء هذا الرُّكن أن يحفَظَ صحيفته بيضاء نقيَّة، فإنه «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (متفق عليه)، وأن يكون قدوةً لغيره في الصَّلاحِ والاستقامةِ والتَّفقُّهِ في الدِّين، والمحافظةِ على الصَّلوات جماعةً في بيوت اللَّه، ويجبُ أن يكون داعياً بالحكمة والموعظة الحسنة، مُبتدئاً دعوته بذوي القُربى، وصادقاً مع ربِّه في دعوته وفي سائر أعماله كلِّها.
فالْزَموا سنَّة نبيِّكم، وأخلِصوا لربِّكم، واحرِصوا على نفع إخوانكم المسلمين، وتعليمهم ما ينفعهم وما يُصلِحهم من أمور الدِّين، «فَوَاللَّهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» (متفق عليه).
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصَّلاة والسَّلام على نبيِّه …
([1]) ألقاها الشيخ د. عَبْدُ المُحْسِنِ بْنِ مُحَمَّدٍ القَاسِمِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، يوم الجمعة، العشرون من شهر ذي الحِجة، سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة وألف من الهجرة، في مسجد الرَّسول ﷺ.