Description
محمد نبي الرحمة: هذه رسالةٌ جمعَت بين طيَّاتها زهورًا من بستان سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في صورةٍ مختصرةٍ غير مُخِلَّة، مع ذكرِ بعضِ أقوال مشاهير علماء الغرب من المُستشرقين وغيرهم عن نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ورحمته وأخلاقه.
Other Translations 2
محمد نبي الرحمة
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
[قرآن كريم: سورة الأنبياء، آية 107]
من إعداد
البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة
ميلاد النبي. 9
وحيد في غياهب اليتم 10
الصادق الأمين. 11
حلف الفضول. 12
زواج النبي من خديجة 12
إعادة بناء الكعبة 13
غار حراء 14
"زملوني زملوني" 15
المسلمون الأوائل. 16
النذير المبين. 16
محاربة الدعوة 17
الاضطهاد 19
الهجرة إلى الحبشة 20
عمر وحمزة يعتنقان الإسلام 21
المقاطعة 22
الصبر الجميل. 22
المسير إلى الطائف.. 23
معجزة الإسراء 24
البيعة 25
هجرة النبي. 26
بداية جديدة 27
الدستور الأول. 28
موقعة بدر 28
صلح الحديبية 30
الشب عن طوق الجزيرة العربية 30
فتح مكة 32
حجة الوداع. 32
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 34
صفة النبي وأخلاقه 35
قول النبي صلى الله عليه وسلم في البيئة 36
قول النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة الحيوان. 37
قول النبي صلى الله عليه وسلم في العلاقة بغير المسلمين. 39
النبي صلى الله عليه وسلم والعناية بالنساء 41
النبي صلى الله عليه وسلم وحب الأطفال. 43
ما قاله المفكرون غير المسلمين عن النبي محمد. 45
فيما يلي غيض من فيض تلك الشهادات: 45
امتلأت صفحات التاريخ بشهادات المفكرين والعلماء من غير المسلمين الذين فتنوا بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ففاضت كلماتهم عنه بمدح ما أُثر عنه من مبادئ وإنجازات. من هؤلاء ألفونس دو لامارتين في كاتبه "تاريخ تركيا"، بانز، 1854، الجزء 11، الصفحات 267 – 277، حيث قال: 45
إنه الفيلسوف والخطيب والنبي والمشرّع وبشير الأفكار ومعيد المعتقدات العقلانية إلى حظوتها ... مؤسس الإمبراطوريات الدنيوية العشرين والمملكة الروحية الوحيدة هو محمد. وبإعمال كل المعايير التي تقاس بها عظمة الإنسان، حق لنا أن نتساءل قائلين: هل عرفت الإنسانية من هو أعظم منه؟" سير جورج برنارد شو، من كتابه "عبقرية الإسلام"، الجزء 1، الرقم 8، 1936. 46
"أعلم أنه إن قُدر لرجل مثله حكم العالم المعاصر فإنه سينجح في حل مشكلاته على نحو يجلب للعام ما يتحرق إليه من سلام ورحمة: لقد تنبأت لدين محمد بالقبول في أوروبا الغد لأنه لاقى القبول بالفعل في أوروبا اليوم". مايكل هارت، من كتابه "أعظم مائة مؤثرين في التاريخ، نيويورك، 1978. 47
قال القائد الهندي العظيم المهاتما غاندي: 47
قال الكاتب الإنجليزي توماس كارلايل: 47
في كتابه "أبطال العبادة وبطل العبادة والبطولة في التاريخ"، 1840: 48
كتب كل من إدوارد جيبون وسايمون أوكلاي في "تاريخ إمبراطورية العرب"، لندن، 1870، صفحة 54: 48
قال جيبون في كتابه "بزوغ الإمبراطورية الرومانية وأفولها"، 1823: 49
كتبت آني بيزانت في كتابها "حياة محمد وتعاليمه"، مادراس 1932، صفحة 4: 49
كتب مونتجمري وات في كتابه "محمد في مكة"، أكسفورد 1953، صفحة 52: 50
كتب بوزورث سميث في كتابه "محمد والمحمدية"، لندن 1874، صفحة 92: 50
كتب جيمس إيه مايكين في كتابه "الإسلام: الدين المفهوم خطئا، ملخص القارئ (الطبعة الأمريكية) مايو 1955، الصفحات 68 – 70: 51
قال الشاعر الألماني وولفجانج جوته: 52
ومن كتابات لين بول في كتاب "خطب النبي محمد وكلامه على الطعام": 52
من كتابات دبليو سي تايلور في كتاب "تاريخ المحمدية وطوائفها": 52
من كتاب "تاريخ الشعوب الإسلامية" للدكتور جوستاف فيل: 52
من كتاب "حياة محمد" للمؤلف واشنطن إرفينج، نيويورك، 1920: 53
من كتاب "الإسلام وقيمه الأخلاقية والروحية" للمؤلف آرثر جلين: 53
من مقال "من أعظم قادة التاريخ؟" للكاتبة جولز ماسيرمان، مجلة تايم، 15 يوليو 1974: 54
P
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
* * *
"إذا كان سمو الغاية وضعف الوسائل والنتائج المبهرة هي المعايير الثلاثة للعبقرية البشرية، فمن يجرؤ على مقارنة أي عظيم في التاريخ بمحمد؟
إنه الفيلسوف والخطيب والنبي والمشرّع وبشير الأفكار ومعيد المعتقدات العقلانية إلى حظوتها ... مؤسس الإمبراطوريات الدنيوية العشرين والمملكة الروحية الوحيدة التي هي محمد. وبإعمال كل المعايير التي تقاس بها عظمة الإنسان، حق لنا أن نتساءل قائلين: هل عرفت الإنسانية من هو أعظم منه؟"
من كتاب ألفونس دو لامارتين "تاريخ تركيا"، باريس، 1854.
وقف رجل ذات يوم يخطب بصوت جهير مفعم بالثبات "اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا" ... مخاطبا جمهرة من الناس يربو عددهم عن أربعة وعشرين ومائة ألف وقفوا كأن على رؤوسهم الطير علما منهم بأن ما سيُلقى على مسامعهم سيكون على أهمية لا تَعدِلُها أهمية. كان الرجال عن بكرة أبيهم يرتدون إزارًا ورداءً بيضاوين، أما النساء فكن في ثيابهن المعتادة. تابع الرجل كلماته من وضعه جالسا منتصب القامة على ظهر ناقته فقال: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم في بلدكم هذا".
تواكبت الخطبة مع استقرار الشمس في كبد السماء، فأشعتها لامعة وحرها قائظ، بيد أن حالة الجو كانت أبعد ما تكون عن عقول الحضور الأتقياء من رجال ونساء، فقد استقرت الأعين على القائد، واستحوذت كلماته على الآذان والألباب.
ثم أضاف الرجل نفسه: "وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ... اللهم هل بلغت؟" طرح الخطيب هذا السؤال فأجاب الجمع على قلب رجل واحد "اللهم نعم"، فقال الرجل رافعا سبابته إلى السماء: "اللهم فاشهد"، ثم وجهها إلى الجمع المحتشد.
وما إن فرغ الرجل من خطبته، نزل عليه الوحي بالآية الكريمة:
"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، [سورة المائدة، الآية 3].
أخيرًا آذنت الرسالة بانتهاء بعد ما يربو على عشرين عامًا حملها رجل واحد على عاتقه من المبدأ إلى المنتهى متمثلا في أمة ناضجة تعج بآلاف المؤمنين. وما هي إلا عقود قلائل حتى طارت الرسالة لتنثر سناها على ثلاث قارات، وما هو إلا قرن حتى غدت الإمبراطورية الإسلامية أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، إذ امتدت من بلاد الهند شرقا حتى مضيق جبل طارق غربا، وما كاد يمضي قرن آخر حتى طرقت الإمبراطورية أبواب الصين، ذلك بأن قوة التغيير التي انضوت عليها الرسالة آذنت بقيام حضارة أسهمت في كل جوانب الرقي البشري علما وخلقا، وما إسهاماتها في الجبر والهندسة والفلك والطب عنا ببعيد.
بل إن ربع سكان الأرض تقريبا في عالم اليوم قد لبّوا دعوة ذلك الرجل، فنور الرسالة قد لامس شغاف القلوب على اختلاف الألوان والأجناس متغلبا على فوارق الغنى والفقر والقوة والضعف، كيف لا وهو النور الذي أضاءه ذلك الرجل منذ قرابة أربعمائة سنة وألف.
أنّى لرجل بمفرده متواضع الإمكانات محدود الأسباب قليل الأتباع أن يُحدث ثورة في ذلك الوقت المحدود أفضت إلى تغيير معالم البشرية وتاريخها إلى الأبد؟
من هو ذلك الرجل؟ إنه محمد بن عبد الله (عليه الصلاة والسلام)، خاتم رسل الله، وأعظم رجالات التاريخ، وفيما يلي بيان سيرته.
ولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يوم التاسع من شهر ربيع الأول من عام 571 بعد الميلاد، أي بعد نبي الله عيسى ابن مريم (عليه السلام) بنحو 600 عام.
أما نسب النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فهو من بطن يحمل اسم "بنو هاشم" ينتمي لقبيلة قريش. يمتد نسبه صلى الله عليه وسلم إلى نبي الله إسماعيل وإبراهيم النبي (عليهما السلام)،
وقد ولد صلوات الله وسلامه عليه بمكة المقدسة في صحراء شبه الجزيرة العربية القاحلة. كانت مكة حينها تنعم بالأهمية والرخاء، وكان من أسباب ذلك انتصاب الكعبة في قلب المدينة ... أول بيت وضع للناس لعبادة الله الحق. بنا نبي الله إبراهيم وابنه النبي إسماعيل الكعبة الأولى قرب نبع زمزم المبارك، ثم رغب الناس بمرور الوقت عن تعاليم النبيين إبراهيم وإسماعيل، بل ووضعوا تماثيل منحوتة وأصناما خشبية في جوف الكعبة، وبحلول مولده صلى الله عليه وسلم كانت الكعبة تنوء بأصنام بلغ عددها 360 صنمًا.
وُلد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتيما لوفاة والده عبد الله قبيل شهرين من مولده، فأرسلته أمه آمنة بنت وهب إثر مولده إلى جده عبد المطلب الذي كان حينها في جوف الكعبة. كان عبد المطلب سيد قريش وعظيمها، ولما بُشّر الجد ببشائر المولد السعيد أسبغ على المولود اسم "محمد"، أي "المحمود".
جرت العادة في الأوساط المكية بأن تبعث الأمهات بأطفالهن إلى الصحراء في رعاية قبائل صحراوية حيث يتسنى لهم النمو في محيط تقليدي صحي . الفراغ حدّه ,والسماء سقفه. وعلى ذلك أخذت حليمة السعدية النبي طفلا وعادت به إلى قومها لرعايته، ولما كان تاريخها حافلا برعاية الكثير من الأطفال في السابق، لاحظت حليمة أمورًا غير معتادة في مرعيّها الجديد، ذلك بأن أسرتها حظيت بكل صور البركة وأنواع الخيرات من الله سبحانه أثناء رعايتها محمد.
حان موعد عودة المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى أمه بعد خمس سنوات من حياة الصحراء، لكن أمه انتقلت إلى جوار ربها ببلوغه سن السادسة، وهو ما حز في نفس الطفل الصغير فتركه محزونا كسير الفؤاد لوفاه أمه. ثم انتقلت رعاية النبي إلى جده عبد المطلب، فشمله بأسمى صور الحنان والعطف والرعاية.
وبعد عامين، أي عندما بلغ النبي عامه الثامن، توفي جده عبد المطلب، فآلت كفالته إلى عمه أبو طالب.
اشتد ساعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفاق كل أقرانه ذكاءً وتواضعا وصدقا، فعُرف بالتواضع والأمانة ورجحان العقل وحسن النهوض بالمسؤولية، وعرفه القوم في مستهل شبابه بالتأمل والتفكير، وأذكى ذلك أن عمِل راعيا للغنم، ولم تخل الطفولة من اللعب مع الأقران.
قاده الفكر إلى الإيمان بوحدانية الإله حتى قبل نزول وحي السماء، إله إبراهيم عليه السلام، فكان ذلك وقاء له من الهبوط إلى مهاوي الممارسات التي سادت بين الناس إبان تلك الفترة من عبادة الأصنام. آمن صلى الله عليه وسلم بأن الله واحد أحد، وأنه وحده الحقيق بالعبادة والتقديس. ولم تلمس يد النبي الأكرم قمارا ولم يعاقر جوفه خمرًا قط، ونأى بنفسه عن مراتع الغيبة والنميمة، وانبرى لكل خير يعطف به على الفقراء ويرعى به المعوزين. ولم ينطق لسانه العف ببنت شفة كذبا، ولم يخلف وعدا أو يشهد زورًا، فاستحق بذلك احترام الجميع حتى لقبوه بالأمين لأمانته والصادق لعفاف لسانه وصدقه.
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة لأمر أهله، ووقف في وجه الظلم والطغيان، وقد أفضى ذلك إلى اجتماع النبي وغيره من عقلاء القوم في بيت عبد الله بن جدعان، قاطعين عهدًا على أنفسهم بالاتحاد لحماية حقوق الضعفاء والمعوزين. أطلقت العرب على ذلك الحلف اسم "حلف الفضول"،
وبعد عقدين من رسالته صلى الله وسلم قال في شأنه: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت".
خالجت مشاعر الفخر نبينا الكريم لقدرته على المشاركة في حلف بُني على إحقاق الحق وإسباغ العدل، ذلك بأنه أراد الصدوع بقوله حق مفادها أنه لا تسامح مع الظلم والطغيان سواء أكان المرء مسلما أم غير مسلم، أبيض أم أسود، غنيا أم فقيرا.
لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخامسة والعشرين ربيعًا، تزوج من خديجة بنت خويلد، وهي شريفة قرشية ذات حظوة وتجارة رائجة وثروة عريضة وعقل راجح. أبدت السيدة خديجة رغبة في الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم لما علمت عنه من سلوك حميد وصدق شديد وقدرات فريدة،
فما انقضت أيام قلائل حتى تم الزواج المبارك، واستمر عروةً وثقى مكللة بالنجاح. كانت خديجة رضي الله عنها أول امرأة تزوجها النبي الأكرم، وأنجبت له كل أبنائه وبناته إلا إبراهيم،
إذ ولدت له من البنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ومن البنين اثنين هما القاسم وعبد الله الذي لُقب أيضا بالطيب والطاهر.
عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الخامسة والثلاثين، قررت قريش إعادة بناء الكعبة بعد أن هز فيضان مفاجئ أسسها وصدع جدرانها. ولما بلغ البناء مرحلة وضع الحجر الأسود في مكانه، تنازعت العشائر شرف حمل الحجر الأسعد ووضعه في مكانه.
كاد التنازع يفضي إلى شقاق وحرب، فطرح أحد الحكماء حلا مفاده: "نحكم أول مارّ بالبوابة" ... تعلقت عيونهم بالبوابة وطارت قلوبهم فرحا إذ رأوا محمد صلى الله عليه وسلم يمر منها، فصاحوا "إنه الأمين، رضينا بحكمه". ألمّ النبي الكريم بالموقف، وطلب قطعة من قماش وأخذ الحجر الأسود فوضعه في منتصفها. ثم طلب إلى زعيم كل عشيرة أن يأخذ بطرف من أطراف الثوب ورفعه معا، ففعلوا حتى رفع الحجر لمستواه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه في مكانه بيديه الشريفتين. وبذلك جنّب ذكاء النبي القوم حربا دموية، بل وخرج الجميع من الأمر راضين مرحبين.
قضى النبي صلى الله عليه وسلم معظم أوقاته في التأمل والتعبد، فكان دائم التردد على غار حراء قرب قمة جبل النور الذي يبعد قرابة ميلين من مكة[1]. دأب صلى الله عليه وسلم على المكوث في الغار للتأمل والصلاة لحين فراغ مئونته من الطعام والشراب، فكان يطيل البقاء في الغار طلبا للتأمل في غياهب الكون وأسراره ... فما الغرض من خلق الإنسان؟ ومن أين أتى، وما مآله بعد الموت؟ وماذا يطلب الله تعالى منا؟
وفي الحادي والعشرين من رمضان، الموافق لعام 610 من الميلاد، وقد كان النبي حينها في سن الأربعين، أوحيت أولى آيات القرآن الكريم إلى النبي الأعظم، فبينا كان جالسا بمفرده في الغار طلع عليه الملك جبريل من جوف الليل البهيم قائلا:
"اقرأ!"
فأجابه محمد من خوف: "ما أنا بقارئ"،
فأعاد الملك عليه الأمر بالقراءة أن "اقرأ!"،
فعاوده محمد صلى الله عليه وسلم بالجواب نفسه "ما أنا بقارئ"،
فجاء الأمر ثالثا "اقرأ"،
وعاد الجواب نفسه: "ما أنا بقارئ".
عندئذ ضم الملك النبي عليه الصلاة والسلام ثالثا وقال :
"اقرأ باسم ربك الذي خلق -
خلق الإنسان من علق - اقرأ وربك الأكرم - الذي علم بالقلم –
علم الإنسان مالم يعلم"
(سورة العلق، الآيات 1 إلى 5).
أصابت حادثة الغار النبي بالارتباك والاهتزاز، فصار مضطربا من الخوف وقد أذهله ما رأى وما سمع، فانطلق إلى منزله من فوره حتى إذا بلغه طلب إلى خديجة أن تزمله – أي تدثره – بالأغطية، ولما هدأت نفسه قصّ عليها ما كان.
كانت خديجة أعلم الناس بمكانة النبي وكماله، كيف لا وهي زوجه الأمين، كما علمت أمانته ورجحان عقله علم اليقين، فما كان منها إلا أن هدأت من روعه وطمأنته من فورها قائلة: "كلا! فوالله لا يخزيك الله أبدًا! إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
اقترحت خديجة بعد ذلك استشارة ابن عمها الحكيم ورقة بن نوفل الذي كان على دين النصرانية يومئذ. قُصت الأحداث على مسامع ورقة فقال: "لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، يا ليتني أكون فيها جذعا حين يخرجك قومك"،
فقال النبي الأكرم: "أومخرجي هم؟" مستصعبا صلى الله عليه وسلم أن تؤول الحال إلى عداء مع قومه، فأجابه ورقة بأن الأقوام على الدوام عارضت من جاء برسالة من الله.
عمّر ورقة بعد هذه الحادثة عمرا قصيرا، ثم وافته المنية.
كانت خديجة رضي الله عنها أول من آمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه ورسالته السماوية، تلاها في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأيام معدودات. كان علي حينها ابن عشر سنين مقيما في بيت النبي الكريم. ثم آمن بالرسالة زيد بن حارثة خادم النبي صلى الله عليه وسلم.
آمن من الرجال أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، خليل النبي صلى الله عليه وسلم المعروف برجاحة عقله واستقامة خلقه.
كان هؤلاء النفر السباقون أقرب الناس إلى النبي الكريم، ولمسوا فيه صدقه وإخلاصه واستقامته، لذا كان من طبيعة الأمور أن يكونوا أسبق الناس إلى اعتناق الإسلام.
أُمر النبي خلال السنوات الثلاث الأولى من الدعوة بالتبليغ سرًا تجنبا لأي حماقات من قريش.
أبقى النبي صلى عليه وسلم على دعوته سرية لثلاثة أعوام جاءه بعدها أمر الله سبحانه بالجهر بالدعوة.
جرت عادة العرب بأني يعتلي الناس تلا أو جبلا لدى الإعلان عن خبر عظيم، لذا صعد النبي صلى الله عليه وسلم تلا غير شاهق اسمه الصفا قرب الكعبة، ودعا الناس إليه فاجتمعوا حوله سريعا، فوجه إليهم الكلام قائلا: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟" قالوا: "نعم، ما جربنا عليك كذبا قط".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه: إن الله قد أمرني أن أنذركم يا قومي ألا تعبدوا إلا إياه وحده، وإلا استنزلتم غضبه سبحانه، ولا أملك لكم من الله شيئا وإن كنتم قومي.
بيد أن جهره بالدعوة قوبل بالصد والرفض، بل إن بعض الجمع ترك الموقف غير مبال بالتفكير في كلمات رسول الله.
استند سادة قريش إلى سبب رئيس في حرب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من نشر رسالته، وذلكم السبب مفاده أن مكة كانت مركز الحج لوجود الكعبة المشرفة فيها بما حوته من أصنام تعبدها القبائل والبطون المتاخمة لمكة. ومن هنا خاف سادة قريش من سيادة مفهوم عبادة الله الواحد لما سيجره ذلك من إمساك القبائل عن الحج إلى أصنامها، وهو ما سيفضي حتما إلى اهتزاز المكانة الاقتصادية للمدينة واحتكار أولئك السادة له.
وبعد سنين طوال من اشتهار محمد صلى الله عليه وسلم بينهم بالصادق الأمين، شرعت قريش في سب النبي والسخرية منه، بل ونعته بالجنون. لكن مع كل هذا الصد والهجوم لم ينبس النبي الأكرم ببنت شفة تسيء إلى قريش ولو على سبيل الرد.
عانى المصطفى من كل صور التنكيل و الإهانة، فزُرعت في طريقه الأشواك، وألقيت عليه القاذورات، ورشقه القوم بالحجارة. ومن ذلك أن النبي الأكرم قصد الكعبة يوما للصلاة في رحابها، فإذا ببعض رجال قريش يهرعون لمهاجمته مجتمعين، ونزع أحدهم عباءته الشريفة محاولا خنقه. هرع أبو بكر الصديق رضي الله عنه لغوث النبي صلى الله عليه وسلم وصاح فيهم: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟"
ولما عجزت قريش عن إدراك غايتها بالتعذيب، فإنها جربت طرائق أخر لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أداء رسالته. ومن ذلك أن عتبة بن ربيعة جاء النبي يوما بعرض ظنه عصيا على الرفض، فقال: "إن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أكثرنا ثراء، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا فلا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد الملك ملكناك علينا".
فلما فرغ عتبة من حديثه أجابه النبي صلى الله عليه وسلم إجابة الواثق العازم، فتلا بضع آيات من سورة فصلت، ورد صاحب العرض خائبا.
بهت عتبة فما حري جوابا، وعاد إلى صحبه واصفا ما سمعه من القرآن الكريم ومأخذه الجميل فقال: "والله لقد سمعت كلاما ما سمعت مثله من قبل، ووالله ما هو بالشعر ولا السحر. يا معشر قريش! أطيعوني، واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه".
اغتمت قريش لما سمعت من كلام عتبة فلم تتأثر، بل رفضوا الأخذ بنصيحته في صلف وتجبر.
تعرض المسلمون للاضطهاد، وعوملوا بازدراء واحتقار، لكن هذه المعاملة لم تجد نفعا فلجأت قريش إلى التعذيب والمعاقبة. شرعت كل قبيلة في التنكيل بمن أسلم من أبنائها، فسجنوهم وعذبوهم ضربا وتجويعا وتعطيشا.
فهذا بلال عبد حبشي أسود دخل في الإسلام، فما كان من سيده إلا أن طرحه على رمال الظهيرة الحارقة مُثقلا بحجر عظيم على صدره، مأمورا من معذبيه بالتخلي عن دينه، لكن جوابه الوحيد كان "أحد أحد".
أما قبيلة بنو مخزوم فنكلت بعمار بن ياسر وأمه وأبيه في ظهر الصحراء القائظ لدخولهم الإسلام، فعذبوهم وتركوهم فرائس لشمس مكة الحرور. كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بآل ياسر مطالبا بالصبر، وانتهى فيض التنكيل والتعذيب بقتل أم عمار سميه، لا لشيء سوى رفضها ترك الإسلام.
افتنّت قريش في تضييق الحياة على المسلمين في مكة حتى وجّه النبي الكريم المسلمين إلى الهجرة إلى الحبشة (إثيوبيا حاليا)، فقال: "إن في الحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد، فهلا لحقتم ببلاده".
هاجر 15 رجلا وامرأة بادئ الأمر إلى الحبشة، ثم زاد العدد إلى 83 مهاجرًا، لكن الملاذ الآمن الذي وجده المسلمون في الحبشة زاد من حنق المكيين وسخطهم، فأوفدوا اثنين من أرفع سفرائهم إلى ملك الحبشة، فدخلوا عليه بالهدايا والعطايا طالبين رد المسلمين معهم، لكن النجاشي ملك الحبشة أرسل في طلب المسلمين سائلا منهم تبيان موقفهم.
ولما اجتمع القوم تكلم جعفر بن أبي طالب بكلامه المشهود المسطر في صفحات التاريخ فقال: "أيها الملك إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ويأكل القوي منا الضعيف، وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى الله نعبده ونوحده، ونقيم الصلاة، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار والإمساك عن الفحشاء وسفك الدماء، ونهانا عن الكذب وأكل مال اليتيم بغير حق وقذف المحصنات".
فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه، فبغى علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأصنام، فلما قهرونا خرجنا إليك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك".
أنصت النجاشي بسمع مرهف وأحاسيس يقظة، وصلب من جعفر تلاوة شيء من القرآن الكريم، فتلا جعفر مطلع سورة مريم (العذراء أم المسيح عليه السلام).
لمست آي القرآن شغاف قلب الملك المرهف فبكى حتى اخضلت لحيته، فقال: "إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة".
التفت النجاشي على إثر ذلك إلى رسولي قريش فردهما حالفا ألا يُسلم إليهما معشر المسلمين المهاجرين، وسمح للمسلمين بالعيش في بلده بسلام، وعاملهم معاملة كريمة، ثم اعتنق النجاشي الإسلام بعد ذلك.
أسلم حمزة عم النبي وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في العام السادس للبعثة، فكان لذلك وقع الصاعقة على قريش كونهما معروفين بالقوة والبأس الشديد.
ومن المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سأل الله سبحانه هداية عمر للإسلام، وما إن اعتنق عمر الإسلام حتى عز المسلمون وظهروا، فقبل ذلك ما كانت صلاتهم إلا سرا خوفا من المشركين، لكن إسلام عمر أتاح لهم الصلاة جهارا أمام الكعبة.
وفي ذلك دأب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه – أحد أشهر صحابة النبي الأكرم – على أن يقول: "ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر"، ولهذا سمى النبي عمر بالفاروق.
زادت أعداد الداخلين في دين الله يوما بعد يوم، فاضطربت قريش لذلك أيما اضطراب، وقرروا نفي النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وإجبارهم على العيش في حي ضيق مغلق من المدينة، بل واتفقوا على قطع المؤن عن المسلمين، فعانى المسلمون من فترات طوال طول الدهر من الجوع القاتل والعطش المميت.
كتبت قريش وثيقة لمقاطعة عشيرتي النبي الكريم: بنو هاشم وبنو المطلب، وأعلنوا في الوثيقة الامتناع الزواج منهم أو البيع لهم، وعلقت قريش مخطوط الوثيقة في جوف الكعبة إكبارا لشأنها.
طبقت قريش المقاطعة بصرامة شديدة حتى أجبر المسلمون على أكل ورق الشجر، وكانت صيحات الجائعين الصغار تهز أركان الوادي بلا مجيب، واكتنفت حال البؤس هذه المسلمين ثلاث سنوات متصلة حتى آذنت المقاطعة بانتهاء إثر إتيان الأرضة بمعجزة على الوثيقة المعلقة.
حتى في خضم الصعاب والمحن، بقي النبي صلى الله عليه وسلم رابط الجأش ماضيا في دعوة الناس إلى الله عز وجل ليل نهار.
ما إن انتهت المقاطعة حتى آذن عام الحزن بالبداية، أولا هو العام العاشر للبعثة الذي مات فيه أبو طالب عم النبي ونصيره، وزوجة النبي السيدة خديجة. ولطالما كان الاثنان خير نصير للنبي لما أبدياه من نصرة وإخلاص وتفان، فقد ظل أبو طالب على دينه، لكنه كان نعم النصير للنبي على مر السنين حاميا له من هجمات قريش النكراء. أما السيدة خديجة فكانت نبع المساندة الشخصي بما قدمته من مواساة وتشجيع وشد لأزر النبي صلى الله عليه وسلم في كل الصعاب.
لكن الأقدار قضت بوفاتهما فحزن النبي لذلك حزنا شديدا، لكن ذلك لم يفت في عضده، بل ثابر النبي على دربه صابرا محتسبا داعيا الناس إلى الإسلام غير آبه بالصعاب التي يواجهها في سبيل الله.
زادت معاناة النبي الأكرم بعد وفاة أبي طالب، فقد عز الآن الحامي والنصير، وبات النبي بلا درع يقيه الهجوم وسوء المعاملة.
ولما بلغت إساءات قريش حدًا يفوق طاقة البشر، قرر النبي صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الإسلام، وهي مدينة تبعد نحو 45 ميلا من مكة، فلما عزم النبي على المسير قابل أول ما قابل زعماء الطائف، لكنه – وإن أمّل خيرًا – وجد منهم الجفاء والرفض للرسالة، بل إنهم أغروا به سفهاءهم لسبوه ويقذفوه بالحجارة، واحتمل النبي الأعظم ذلك قرابة ثلاثة أميال حتى سالت الدماء من جسده الشريف.
لكن مكنون النبي من الرحمة أعظم وأحوى، فبعد كل تلك الصعاب الجسام أتته الملائكة تطلب الإذن لتطبق على أهل المدينة بما حولها من جبال، فكانت للرحمة الغلبة في رد النبي آملا أن يخرج الله من أصلابهم من يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
في ليلة لا تدانيها ليلة، أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم برفقة جبريل عليه السلام من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، ومن هناك كان معراجه إلى السماوات العلى. تخللت الرحلة الكثير من العلامات والمشاهد العظام، والتقى النبي بإخوانه من الأنبياء فكان منهم آدم وإبراهيم وموسى ويحيى وعيسى المسيح عليه وعليهم الصلاة والسلام.
فرض الله سبحانه وتعالى في هذه الرحلة فريضة الصلاة، فكانت خمسين صلاة مفروضة على المسلمين في اليوم الواحد بادئ الأمر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يسأل ربه التخفيف في العدد حتى صارت خمس صلوات في اليوم والليلة، ومن رحمته سبحانه أن جعل ثواب الصلوات الخمس - لمن أداها حق أدائها – ثواب الصلوات الخمسين التي فُرضت بادئ الأمر.
وفي صبيحة اليوم التالي أخبر النبي قريشا بما حدث، لكنهم كذبوا وعاندوا كما هو دأبهم، بل ورأوا في قصصه فرصة للاستهزاء به والسخرية منه. لكن النبي برحمته حريص عليهم، ورغبة منه في إقناعهم قدم لهم وصفا دقيقا لبيت المقدس والمدينة، علما بأنه لم يسبق لقدميه أن وطأت أرضها من قبل، بل وزادهم معلومات عن قافلة رآها في طريق عودته إلى مكة. بيد أن قريشا بعنادها وصلفها لم يكن ليكفيها ذلك الوصف حتى تُعلي الحق.
في العام الحادي عشر من البعثة المشرفة، وبينا كان النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة إذ أتاه قوم من رجال المدينة (التي تعرف حينئذ بيثرب) فدعاهم إلى الإسلام. كان هؤلاء الرجال جيرانا لليهود فسمعوا منهم ذكر نبي أظلهم زمانه، وبعد شيء من التباحث قبلوا بتعاليم الإسلام فصاروا مسلمين.
وفي العام التالي وفد اثنا عشر رجلا من المدينة للقاء النبي وعاهدوه على الإيمان بالله الواحد وعدم الإشراك به، كما عاهدوه على ألا يسرقوا أو يقتلوا أبناءهم، فعرف ذلك العهد منذئذ ببيعة العقبة.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وقد كان مصعب شابا وسيما لصوته حلاوة وطلاوة في قراءة القرآن الكريم، فصحبهم إلى المدينة مبشرا بالإسلام دينا وإماما لهم في الصلاة.
عاد مصعب رضي الله عنه إلى مكة بسبعة وثلاثين رجلا وامرأتين من المدينة، فاجتمعوا بالنبي وأقسموا على طاعته وتعهدوا بحمايته وحماية المسلمين، فعرف هذا المشهد ببيعة العقبة الثانية.
بعد بيعة العقبة الثانية، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في مكة بالهجرة إلى المدينة، إذ لم يعد له طاقة بعذابهم ومعاناتهم على أيدي عتاة قريش.
لم تكن الهجرة من مكة إلى المدينة ضربا من الترفيه، فقد وضعت قريش الكثير من العقبات لمنع المسلمين من ترك مكة، فقد أجبر بعضهم على ترك زوجاتهم وأبنائهم والهجرة بدونهم، فيما أجبر آخرون على ترك كل ثرواتهم وممتلكاتهم والسفر أصفار اليدين.
وفي السابع والعشرين من صفر من العام الرابع عشر للبعثة (الموافق لشهر سبتمبر لعام 622)، أذن الله سبحانه وتعالى لنبيه بالهجرة إلى المدينة. شاءت الأقدار أن يكون أبو بكر – خليل النبي الوفي – رفيق النبي في رحلته المباركة المشهودة.
أما قريش فقد اجتمعت عشية الهجرة في محاولة أخيرة لاغتيال النبي والإجهاز على دعوته، فاتفقوا على أن يُأخذ من كل قبيلة شابا نسيبا حسيبا جلدا فيجتمعون على قلب رجل واحد لقتل النبي حتى يتفرق دمه في القبائل، لكنهم إذ يمكرون فالله ماكر بهم، فنزل الوحي إلى النبي ليطلعه على خبيئة قريش، فغادر النبي منزله سرا دون أن تدري قريش.
دأب النبي – لأمانته وصدقه – على أن تستودعه قريش المكذبة برسالته ودعوته ودائعها ونفائسها. لذلك كلف النبي علي بن أبي طالب قبيل هجرته صلى الله عليه وسلم برد تلك الودائع إلى أهلها.
وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يوم الجمعة الموافق للثاني عشر من ربيع الأول للعام الأول من الهجرة (الموافق للسابع والعشرين من سبتمبر لعام 622 ميلادية)، واتخذ من الطابق السفلي في دار أبي أيوب الأنصاري سكنا مؤقتا.
عمت الفرحة والسرور أوساط المسلمين بوصول النبي سالما، فكانت لهم أعظم العطايا وأجل الهدايا، وخرج الصغار ينشدون الأناشيد المبهجة ترحابا بوصول النبي إلى المدينة،
ومنذ ذلك اليوم، عُرفت يثرب بمدينة النبي.
آذنت هجرة النبي من مكة إلى المدينة ببداية جديدة وفرصة سانحة لنشر رسالة الإسلام، بل وتعاظمت أهمية هذا التاريخ لاحقا عندما قرر المسلمون الأوائل اتخاذه مرجعا للتاريخ هو التأريخ الهجري.
وما إن حط النبي رحاله في المدينة حتى ساعد في بناء مسجد يُعرف اليوم باسم المسجد النبوي، فكان المسجد ملتقى المؤمنين ومركزا لكل الأنشطة الأخرى. وبعد بناء المسجد اختار النبي بلال بن رباح لرفع الأذان لما حباه الله به من صوت ندي أخّاذ.
كان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بمثابة رئيس الدولة، فآخى بين المهاجرين من مكة والأنصار في المدينة، وهنا أبدى الأنصار سعادة غامرة بالمؤاخاة حتى إنهم تقاسموا كل ممتلكاتهم مع إخوانهم من المهاجرين.
كما عقد النبي عهدا مع اليهود أكد فيه على حريتهم في ممارسة شعائرهم والعيش في سلام، ويعتبر هذا العقد أول دستور وميثاق لحقوق الإنسان والحريات العامة، ذلك بأنه كفل الحرية والأمن والأمان والعدالة لكل مواطن.
أولى النبي صلى الله عليه وسلم اهتماما كبيرا في تلك الفترة للتعليم، فبدأت جهود التعليم للرجال والنساء والأطفال وتوعيتهم بمختلف جوانب الدين والعبادة. كما أولى الاهتمام للأخلاقيات وتتميم مكارم الأخلاق كونه أدرك أن المدينة العظيمة ليست برفع أسوارها وتعظيم بنائها، بل برقي أبنائها. وبذلك لم تمض سنوات قلائل حتى أصبحت المدينة مجتمعا زكيا لم يعرف تاريخ الإنسانية له مثيلا.
بالغت قريش في عداوتها للمسلمين حتى بعد هجرتهم مرغمين من مكة، بل واستقصت كل السبل الممكنة لسحق المجتمع المسلم الوليد. هنالك أدرك المسلمون أنه لا تسامح بعد اليوم مع الظلم والعدوان، إذ لا بد من المقاومة، لأنهم إن لم يدافعوا عن أنفسهم فسيؤول بهم الحال إلى الفناء. وبعد أن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم سياسة المسالمة و المصابرة على مدار ثلاثة عشر عاما في مكة رافضا أي مظهر من مظاهر الرد بالقوة، جاءه الإذن من الله سبحانه بصد أية هجمات يشنها أعداء الدعوة.
وفي ذلك نزل قرآن يتلى: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، و وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون". [قرآن كريم، البقرة، الآية 216].
وعلى ذلك، حارب المسلمون في شهر رمضان من العام الثاني من الهجرة قريشا في موقعة سطر التاريخ وقائعها وعرفت باسم معركة بدر. لم يتجاوز عدد المسلمين في المعركة 313 فردًا، فيما تجاوز جيش قريش الألف مقاتل بكامل عتادهم.
وبعون من الله ومدد انتصر المسلمون في المعركة، ووقع بعض رجال قريش أسرى في أيدي المسلمين، لكن دين الرحمة قضى بإطلاق سراحهم في وقت لاحق. كانت تلك أول مرة في التاريخ يلقى فيها أسرى الحرب حسن المعاملة من إطعام ورعاية ومعاملة إنسانية.
كان من بين الأسرى من كان لا يملك شراء نقير لافتداء نفسه، لكن نبي الرحمة أتاح لهم افتداء انفسهم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة.
وخلال الأعوام التالية حاولت قريش عدة محاولات باءت بالفشل لتدمير الدولة الإسلامية الوليدة، لكن المسلمين عزموا فأوفوا ودافعوا فصدوا بشجاعة وبسالة.
توجه المسلمون في شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة لأداء العمرة، فوفدوا بثياب بيضاء كما الحجيج دلالة على السلام، لكن قريش رفضت في استعلاء دخولهم مكة.
عندئذ أبرم النبي صلوات الله وسلامه عليه صلحا مع قريش في منطقة الحديبية.
تبعد الحديبية نحو 7 أميال عن مكة، وجاء في صلحها ألا يعتمر المسلمون في عامهم هذا، على أن يُسمح لهم بالاعتمار في العام التالي، كما اتفق الطرفان على نبذ الحرب والعيش في سلام لعشر سنوات كاملة، ورغم أن ظاهر الصلح بدا في صالح قريش كلا وجزءا، إلا أنه في باطنه كان نصرا آخر للمسلمين.
استغل النبي صلى الله عليه وسلم فترة السلم مع قريش وبعث بخطابات إلى الملوك والقادة بمن فيهم أباطرة القوتين العظميين إبان تلك الفترة فارس والروم ليدعوهم إلى الإسلام.
وعندما تلقى قيصر – عظيم الروم – خطاب النبي، أرسل رجاله لاستقصاء أمر النبي الأكرم، وحينها كان أبو سفيان القائد القرشي في رحلة تجارية إلى فلسطين وهو يومئذ من أعداء الإسلام، فجيء به إلى قيصر.
استفسر منه قيصر بعدة أسئلة عن النبي وحاله، وبعد الإنصات إلى إجابات أبو سفيان قال قيصر:
"سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ و لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ ْ قَدَمِيه.
نكصت قريش عن عهدها في صلح الحديبية كما هو متوقع، وساندت أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك سار إليهم النبي صبيحة يوم الجمعة لعشرين يوم خلت من رمضان في العام الثامن من الهجرة، وبصحبته عشرة آلاف مقاتل، فقيّض لهم دخول مكة وفتحها دون أن تسال قطرة دم. وهنا عفا نبي الرحمة عن كل من ناصبوه العداء سنينا وأعلن عفوه العام عنهم.
ثم اتجه النبي إلى الكعبة فدخلها وحطم كل الأصنام التي كانت داخلها، فاستعادت الكعبة طبيعتها الأولى وغاية وجودها منذ بناها الخليل إبراهيم عليه السلام لتكون مثابة لعبادة الله الواحد.
وخلافا للقادة الأخر الذين يفاخرون في زهو ونشوة بنصرهم شامخين برؤوسهم إلى العُلى، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة خاضعا لربه شاكرا وقد لامست ذقنه ظهر ناقته. ولما أراد أحدهم أن يحدثه أخذته هيبة فارتعد، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة".
كان لفتح مكة أثر طاغ على العرب جمعاء ، إذ ثبت لهم به أن الإسلام دين الله، وجاء الفتح ممهدا لدخول الجزيرة العربية في دين الله أفواجًا.
ولما كان الرابع من ذي الحجة للعام العاشر من الهجرة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة لآخر مرة لأداء فريضة الحج ومعه 144 ألفا من المسلمين والمسلمات. عندئذ أدرك النبي الأكرم أنه قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة، وأنه كان لزاما عليه وداع أصحابه.
ألقى النبي يومئذ خطبة عصماء مشهودة بيّن فيها مبادئ الإسلام، فقال:
"أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ... أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حق ... واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان ... فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه، تعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة.
أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى".
ثم تضرع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وقال: "ألا هل بلغت. اللهم فاشهد".
عندئذ أوحى الله سبحانه لنبيه الآيات التالية:
"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". (سورة المائدة، الآية الثالثة).
أدى النبي الرسالة وبلغ الأمانة، وحان أوان لحاقه بالرفيق الأعلى. ولما كان يوم الاثنين الموافق للثاني عشر من ربيع الأول صعدت روح النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سن الثالثة والستين إلى بارئها، فوافته منيته وهو في منزله وبين أسرته، ثم كان الدفن في غرفة الوفاة بالمدينة المنورة.
وافقت يوم الوفاة يوم الميلاد، فجاءت في المنزل الذي شرف بالنبي لعشر سنين في المدينة على فراش جلدي صغير محشو بجريد النخيل وهو بين يدي حبيبته عائشة رضي الله عنها. وكان آخر ما أوصى به النبي: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ... بل الرفيق الأعلى".
أصاب الصحابة كرب عظيم، لا لأنهم فقدوا حبيبهم النبي فحسب، بل لأنهم علموا أن وحي السماء قد انقطع عن الأرض يومئذ. وبلغت الصدمة من بعضهم أن أنكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان من الخليل الأوفى أبو بكر إلا أن قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". ثم تلا قول الحق سبحانه:
"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟".(سورة آل عمران، الآية 144).
كانت الجزيرة العربية برمتها قد اعتنقت الإسلام بحلول وفاة النبي الأكرم كيف لا وقد ترك رسالة لا يعوزها الوضوح ولا الحياة، بل بقيت إلى اليوم كما جاءت كاملة غير منقوصة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم ربعة بين الرجال، أي متوسط الطول، جميل الخلقة أزهر اللون يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر، شعره بين الجعودة والسبوط لا يجاوز شحمة أذنيه، وكان أدعج أسود العينين كث اللحية أسيل الخدين (أي غير مرتفع الوجنتين)، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، رقيق الأسنان مفلجها تلمع كالدر المنثور عند التكلم.
وكان صلى الله عليه وسلم واسع الخطى يمشي الهوينى في غير خيلاء، يرفع قدميه ولا يجرهما، وإذا التفت التفت جميعا، ويبدأ من يلقاه بالسلام.
أحب النبي الابتسام، وكان شفوقا حنون القلب حتى وإن بدا له من الغير ما يكره، ففاضت منه الرحمة في منطقه وحركته وسكونه، ولم ينبس بسبّة أو ببذيء القول، وما جالسه أحد إلا وشعر أنه أهم الناس وأحبهم إليه، فكان كالأب الحاني على الجميع، والكل عنده سواء سواسية.
كانت البهجة والأمل عنوانا للنبي الأعظم، شكورا حامدا لربه على كل ما آتاه من نعم عظيمها وحقيرها، ولم يؤثر عنه التعريض بأي طعام ذاقه.
وكان صلى الله عليه وسلم يقضي النهار في خدمة الناس، ويمضي ليله في عبادة الله الواحد.
كان صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية العناية بالبيئة، فعلمنا أن الإنسان خليفة الله على الأرض، وحق على الخليفة صيانة ما استُخلف عليه. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
العالم أخضر وجميل، وقد أعدك أيها الإنسان الله عز وجل لحراسة هذا العالم والحفاظ عليه". (صحيح مسلم).
لقد حث النبي المسلمين على زراعة الزرع واعتبر خلع الزرع بلا سبب إثما كبيرا، إذ قال:
"ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه له صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة". (صحيح البخاري).
ومن ثم، فإن الحفاظ على اخضرار الأرض وإنتاجها ونفعها لعموم البشر والحيوان إنما هو هدف نبيل حض عليه الإسلام، ذلك بأننا نتعلم من النبي صلوات الله وسلامه عليه أن غرس الزرع عمل خير ينظر إليه ربنا جل وعلا بعين الرضا، بل وعلى المسلم أن يحرص على ذلك الغرس حتى وإن قامت القيامة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا؛ فَلْيَغْرِسْها". (رواه أحمد).
لقد علمنا النبي الأكرم الاهتمام بكل خلق الله سبحانه، كما علمنا أن للحيوانات والأرض والشجر وكل ما على الأرض من موارد وأحياء وجماد حقوقا واجبة الحماية والأداء.
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الإضرار بالحيوانات أو إيذاءها أو ضربها إنما هو إثم بيّن يستنزل غضب الله سبحانه، أما حماية الحيوان والرحمة به والرفق به فهي من صالح الأعمال التي يثيب الله عليها. كما علمنا صلوات الله وتسليماته عليه أن على المسلم رعاية الحيوان حتى إن الحيوان - إن أسيئت معاملته – يشهد على من أساء إليه يوم القيامة.
من أجل ذلك حرم النبي صيد الطير وتحريق بيوت النمل وضرب الحيوانات، كما حرم التصيّد بالحيوانات وقتلها تريّضا وترفيها. بل اعتاد نبي الرحمة الإشادة بالرحماء بالحيوانات، وصاحب ذلك تعريضه بأي إنسان يؤذي الحيوانات أو يرهقها أو يثقلها لمسافات طوال.
وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ". فسأل الصحابة: "يا رسول الله! وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ نَعَمْ، فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ". (رواه الشيخان).
ومر النبي ذات يوم بصبية يتساهمون على كبش فنهاهم
عن إيذاء الحيوان المسكين كما جاء في سنن النسائي.
كما أمر النبي رجلا أخذ فراخ طائر من عشها أن يعيدها من حيث جاء بها لما في ذلك من إحزان لأمها التي كانت تدفع عنها (صحيح مسلم).
جاء النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فقد وصفه رب العزة سبحانه فقال:
"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".(الأنبياء، الآية 107).
بل وقال النبي عن نفسه: "إنما بُعثت رحمة". (صحيح مسلم).
لقد كان النبي رحمة عامة شملت كل خلق الله مسلمهم وكافرهم، فعندما طفق طفيل بن عمر الدوسي فاقدا الأمل في هداية قومه قصد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"يا رسول الله، لقد غلب على دوس الفسوق والعصيان، فادع الله عليهم"، فتوجه النبي صوب مكة ورفع يديه للدعاء، والناس من حوله واثقون بما سيحل بدوس من دمار، لكن نبي الرحمة قال: "اللهم اهد دوسا، اللهم اهد دوسا". (رواه الشيخان).
دعا لهم النبي الأكرم بالهداية لا بالعقاب لأنه ما كان يأمل للناس إلا خيرا، ولا يرجو لهم إلا الفلاح والنجاة.
وعندما ذهب النبي إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الإسلام ردوا بالتكذيب والاستهزاء، بل وأغروا به سفهاءهم فسبوا النبي وقذفوه بالحجارة حتى فارقهم، ومع ذلك أبى النبي بهم شرا عندما جاءته الملائكة تسأله إطباق الأخشبين عليهم.
تلكم هي الرحمة التي جعلت النبي أقوى من جروحه النازفة وقلبه المكلوم الموجوع، فما كان منه إلا التفكير في خير أولئك القوم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وهدايتهم صراط الله المستقيم.
ولما فتح النبي مكة ودخلها في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل وملّكه الله سبحانه أمر من نكّلوا به وعذبوه ودبروا لقتله وأخرجوه من داره وقتّلوا أصحابه وعذبوهم لا لشيء إلا لدينهم، إذا بأحد الصحابة يصيح: "اليوم يوم الملحمة"، لكن نبي الرحمة أجابه: "لا، بل اليوم يوم المرحمة".
ثم خرج النبي على المهزومين الذين زاغت أعينهم من الخوف وبلغت قلوبهم الحناجر في انتظار حكم المنتصر عليهم، ولو كان الموقف بأيديهم لأعملوا سيوف الانتقام والتذبيح. لكن النبي عاجلهم بالسؤال: "يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟"، قالوا: "خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال النبي: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وهل كان هذا العفو الشامل إلا من منابع الرحمة التي يفيض بها قلب النبي صلى الله عليه وسلم؟! بل إن رحمته كانت من العظمة أن شملت أكثر أعدائه إيذاء له ولأصحابه، ولعمري ما أصدق النبي الأكرم حين قال عن نفسه: "أنا رحمة مهداه". (رواه الحاكم).
* * *
صدع النبي صلى الله عليه بكلمات الوحي من رب العزة سبحانه بأن النساء شقائق الرجال في الدين والإنسانية منذ أربعة عشر قرنا، فالله سبحانه يقول:
"إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما". (سورة الأحزاب، الآية 35).
وقال صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال". (رواه أحمد وأبو داوود والترمذي).
لقد واجه النبي الكثير من مظاهر الظلم والقسوة التي رزحت المرأة تحت وطأتها إبان رسالته صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعض العرب يرمقون النساء بعين الدونية، بل ويدفنهن أحياء، لكن النبي جاهر برفض تلك العادات الأثيمة.
"وإذ بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم - يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يزرون". (سورة النحل، الآيتان 58 و59).
حث النبي الأكرم على الإحسان للنساء والفتيات فقال:
"من كان له ابنتان أو أختان فأحسن إليهما ما صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة كهاتين يعني السبابة والوسطى". (صحيح مسلم).
أما المرأة أما فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم أيما وصية، فقد جاءه رجل يوما سائلا "يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟" قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك".
وقد اعتاد نبي الرحمة استشارة النساء والرفق بهن ومساعدتهم في كل المواقف وموافاتهم بكل حقوقهن على نحو لم يرق لأبعد أحلامهن قبل الإسلام. وكان من مظاهر اهتمامه بهن أن شُغل بتعليمهن، فخصص لهن يوما يجتمعن فيه لتعليمهن مما علمه الله. (صحيح مسلم).
ولم يجعل النبي النساء أسيرات منازلهن، بل أتاح لهن الخروج وقضاء حاجاتهن وزيارة أقاربهن وعيادة المرضى، كما سمح لهن بالشراء والبيع في السوق ما دمن على خلق قويم وفي رداء ساتر. كما سمح لهن بالمجيء إلى المسجد وحرّم منعهن من ذلك قائلا: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". (رواه أحمد وأبو داوود).
وحرم النبي ضرب النساء فقال: "لا تضربوا إماء الله"، (رواه أبو داوود)، بل وحث على الرفق بهن والإحسان في الكلام إليهن فقال "استوصوا بالنساء خيرًا"، (رواه الشيخان)، وهذا يعني المعاملة الطيبة واحترام حقوقهن والاهتمام لمشاعرهن وعدم إيذائهن بأي صورة. وفي ذلك قال النبي لأصحابه: "خيركم خيركم لأهله"، (رواه أحمد والترمذي).
* * *
النبي صلى الله عليه وسلم قدوة عز مثيلها على صعيد التعامل مع بني البشر، أما تعامله مع الأطفال فكان على الدوام مفعما بالعاطفة والرحمة، إذ كان صلى الله عليه وسلم شغوفا بالأطفال، ولطالما شوهد وهو معهم في ساحات اللعب، فهذا أنس بن مالك صاحب النبي يقول:
"ما رأيت أحدًا كان أرحم بالصغار من رسول الله، كان ابنه إبراهيم في حضانة مرضعة تقطن التلال المحيطة بالمدينة، فكان النبي يذهب إليه وكنا نرافقه، وكان يدخل البيت ويرفع ابنه ويقبله ثم يعود"، (صحيح مسلم).
لم يكن حب النبي للأطفال قاصرا على أبنائه وأحفاده، فثوب رحمته وعطفه شملت كل الأطفال، فأبدى الرحمة نفسها لكل أبناء أصحابه.
أما البعض الذين استعصى عليهم فهم قوة الرحمة والحب تجاه الأطفال فتساءلوا عما يدفع رسول الله إلى اللعب مع الأطفال وإبداء كل هذا الاهتمام بهم. وقد جاء أعرابي إلى النبي ذات يوم فقال: "أتقبلون أبناءكم؟! إننا لا نقبلهم". وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يدريني لعل الله نزع الرحمة من قلبك"، (صحيح البخاري).
وفي مناسبة أخرى رد النبي الأكرم: "من لا يرحم لا يُرحم"، (رواه الشيخان).
اهتم النبي صلى الله وسلم دوما بأفكار الجميع ومشاعرهم، ومن ذلك أن اعتاد الأخ الأصغر لأنس بن مالك اللعب بطائر صغير، ومات ذلك الطائر، فحزن عليه الصبي حزنا شديدا، فإذا بنبي الرحمة يزوره ويعزيه ويدخل السرور على قلبه. (رواه الشيخان).
كما اعتاد النبي الأكرم زيارة الأنصار، وتحية أطفالهم والتربيت على رؤوسهم (كما جاء في النسائي)، بل إنه دأب على الاقتراب من الصغار ومباركتهم ومضغ التمرات لهم (كما جاء في صحيح مسلم)، كما اعتاد أن يحمل [حفيدته] أمامة بنت زينب أثناء الصلاة، وعند السجود كان يضعها النبي على الأرض، ثم يحملها مجددًا عند الوقوف.
صلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ... نبي الرحمة والكرامة.
* * *
"لم يسبق لإنسان بمفرده متواضع الإمكانات محدود الأسباب على هذه الشاكلة أن يفعل ما فعله محمد فكرا وعملا بهذا الرونق في الشكل والمضمون، في حين لم يكن له من معين إلا نفسه أو عون إلا بضعة رجال , يعيش في ركن الصحراء. وأخيرا، لم يسبق لإنسان إحداث ثورة بهذا الحجم وهذا الخلود في العالم، ذلك بأنه في أقل من قرنين من ظهوره تمكن الإسلام – دينا وجيشا – من السيطرة على الجزيرة العربية كلها وفتح باسم الله فارس وخراسان وبلاد ما وراء النهر والهند الغربية وسوريا ومصر والحبشة وكل شمال أفريقيا وعشرات الجزر في البحر المتوسط وإسبانيا وجزءا من بلاد الغال.
"إذا كان سمو الغاية وضعف الوسائل والنتائج المبهرة هي المعايير الثلاثة للعبقرية البشرية، فمن يجرؤ على مقارنة أي عظيم في التاريخ بمحمد؟ لقد أوجد أشهر رجال التاريخ مقومات الجيوش والقوانين والإمبراطوريات فحسب، فقد أنجزوا – إن صح اعتبار ذلك إنجازا – قوى مادية لم تلبث أن تلاشت أمام ناظريهم، أما هذا الرجل فلم يسيّر الجيوش ويضع التشريعات ويقيم الإمبراطوريات ويبني البشر والأسر الحاكمة فحسب، بل أضاف لذلك ملايين البشر في ثلث العالم المسكون إبان حياته، والأكثر من ذلك أنه بدل ما كان من مذابح كنائس وآلهة وأديان وأفكار ومعتقدات، بل غير مكنون الأرواح".
"إذا كان لدين فرصة تسيّد إنجلترا، بل أوروبا في غضون القرن المقبل، فهو الإسلام".
"لطالما نظرت لدين محمد بعين الإكبار لما فيه من حياة باعثة على الإعجاب، فهو الدين الوحيد الذي يبدو لي قادرا – بما له من إمكانات استيعابية – على تغيير وجه الوجود والتكيف مع كل عصر. لقد درست حياته – إنه رجل رائع وبرأيي فهو أبعد ما يكون عن دجال طالب دنيا، بل إنه الشخص الذي يجب تسميته مخلص الإنسانية".
"إن اختياري محمدا على رأس قائمة المائة الأعظم والأكثر تأثيرا قد يدهش بعض القراء بل ويثير شكوك البعض الآخر، لكنه كان الرجل الأوحد - على مر التاريخ - الذي حقق نجاحا منقطع النظير على الصعيدين الديني والدنيوي ... قد يكون التأثير النسبي لمحمد على دين الإسلام أكبر من تأثير عيسى المسيح والقديس بولس مجتمعين على المسيحية ... فهذا الجمع منقطع النظير بين التأثير الديني والدنيوي – كما أراه – يخول محمدا لقب الأكثر تأثيرا في تاريخ الإنسانية".
"بعد أن أنهيت الجزء الثاني من سيرة محمد شعرت بحاجتي إلى معرفة المزيد عن هذه الشخصية العظيمة، فهو بلا منازع من فاز بقلوب ملايين البشر".
"أحب محمدا لطبيعته المنافية للنفاق ... فكلماته واضحة مدوية في مخاطبته قياصرة الرومان وأكاسرة فارس, فقد هداهم إلى ما أحب لهم في هذه الدنيا والحياة الآخرة".
"إن الأكاذيب (التشهير الغربي) بما فيها من حماس جارف موجّه للنيل من هذا الرجل (محمد) إنما هي عار علينا وحدنا".
"كان روحا عظيمة تعمل في صمت، لا تعرف لغير المثابرة إلى نفسها سبيلا. قدّر له إشعال نور الحضارة في العالم بتكليف من صانعها".
"ليس نشر هذا الدين ما يستحق إعجابنا، بل ديمومته، إذ ما زال يحتفظ بنقائه وتمامه كما بدأ في مكة والمدينة بعد ثورات امتدت على مدار اثني عشر قرنا في بلاد الهند وإفريقية وتركيا بعد دخولها في الإسلام واهتدائها بالقرآن ... لقد وقف أتباع محمد صفا واحدا ضد غواية الانتقاص من الدين، ووقفوا صفا واحدا مخلصين له بكل أحاسيس المؤسس وخياله. "لا إله إلا الله الواحد محمد رسول الله" هي السبيل البسيط وغير المتبدل لاعتناق الإسلام. والصورة الذهنية للإله في هذا الدين لم تتبدل مطلقا أو تُستنزَل إلى صورة مرئية أبدا، ولم ينل النبي من تشريف يفوق حد الفضيلة البشرية بين أتباعه، وكان لمبادئه الحية الفضل في حصر فضائل أتباعه في حدود العقل والدين بتمامه".
"رفضت أخلاق محمد أبهة الملك، بل ساعد – وهو رسول الله – أهل بيته في أعمال المنزل فأشعل النار ومسح الأرض وحلب الماشية وخصف نعله ورقأ ثوبه. رفض محمد صكوك الغفران ومنازل الكهنوت، بل مضى مشاهَدا في ثوب العربي البسيط".
"من المستحيل على أي فرد يدرس حياة نبي العرب الأعظم و شخصيته – عارفا كيف علّم وكيف عاش – ألا يشعر بأي شيء إلا التعظيم والإكبار لذلك النبي العظيم، فهو من أعظم رسل السماء. ورغم أن ما سأقصه عليكم يشتمل على أشياء قد تبدو مألوفة لكثيرين، إلا أنني كلما أعدت قراءته وجدت عللا بعد نهل من الإعجاب، وإحساسا متجددا من التعظيم لذلك المعلم العربي العظيم".
"إن استعداده للتعرض للتنكيل في سبيل معتقداته، والشخصية الأخلاقية النبيلة للرجال الذين آمنوا به واتخذوه قائدا، والعظمة البادية في إنجازاته النهائية إنما تصب في معين نزاهته المتأصلة، وافتراض أن محمدا أفاك يفتح الباب أمام معضلات بأكثر مما يحل منها. يضاف إلى ذلك أنه ما من شخصية من عظماء التاريخ تعرضت لبخس حقها في الغرب كما كان مع محمد".
"كان في ملك قيصر وجلال البابا في آن واحد، لكنه استغنى من كلا الأمرين عن كهنوت الباب وسطوة القيصر: أي دون تجييش الجيوش أو اتخاذ حراس أو قصر المسير في موكب مهيب. وإذا كان لأي فرد الحق في القول بأنه قد حكم بتفويض سماوي حق فهو محمد، لأنه حاز كل القوة دون أدواتها ودعائمها، إذ لم يأبه لمظاهر القوة أبدا، بل كانت بساطة حياته الخاصة واقعا في حياته العامة".
كل شي مختلف في دين محمد، فبدلا من سيادة الغموض والحيرى نجد التاريخ ... إننا نعلم تاريخ محمد الخارجي ... أما تاريخه الداخلي بعد بعثته فهو في صور جلية بيّنة، إذ إن لدينا تاريخا أصيلا فريدا في منشئه واحتفاظ التاريخ به ... وصدق هذا التاريخ وثبات أمر لم يستطع امرؤ على مر التاريخ التشكيك فيه تشكيكا يستحق الاعتبار".
"محمد هو الرجل الملهم الذي أسس الإسلام، ولد قرابة عام 570 للميلاد لقبيلة عربية كانت تعبد الأوثان. ولد يتيما، وكان دائم الشفقة على الجميع وبالأخص الفقراء وفئات المعوزين والأرامل واليتامى والعبيد ومن أردتهم الحياة في غياهبها.
حقق النجاح كرجل أعمال وهو في سن العشرين، ثم أصبح مدير قوافل الإبل لأرملة ثرية. وعندما بلغ الخامسة والعشرين أدركت ربة العمل ما فيه صفات توافقها فعرضت عليه الزواج منها، ورغم أنها كانت تكبره يومئذ بخمسة عشر عاما، إلا أنه تزوجها وظل مخلصا لها طوال حياته.
وعلى شاكلة جل الأنبياء العظام من قبله، حارب محمد بالكلام في سبيل ربه. استشعر محمد عظم حدوث الوحي له، لكن الملك أمره "اقرأ"، وحسب علمنا كان محمد أميا، لكنه بدأ يملي تلك الكلمات الموحى بها إليه حتى أحدثت ثورة في قطاع عريض من البسيطة: "لا إله إلا الله".
اتسم محمد بصبغة عملية خالصة في كل ما أتى من أمور، فلما مات ابنه الحبيب إبراهيم، حدث كسوف للشمس فسارت إشاعات بأن ذلك مواساة الله الفورية له، لكن محمد سارع إلى نفي ذلك قائلا ما معناه أن الكسوف آية من آيات الله، ومن الحماقة عزو تلك المظاهر الكونية إلى موت إنسان أو ميلاد آخر.
ولما وافته المنية شهد القوم مسعى لتأليهه، لكن الرجل الذي قُدرت له خلافة محمد وأد الفتنة في مهدها بكلمة من أبهى الكلام في تاريخ الأديان إذ قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
"قلبت صفحات التاريخ بحثا عن نموذج إنساني فوجدته في محمد".
"كان أصدق حام لمن حماهم، وأرقهم حديثا وأعذبهم كلاما، وكان التبجيل والإعظام يغمر كل من يراه فور رؤيته، ومن اقترب من أحبه، وكل من وصفه كان يقول "لم أر له مثيلا لا من قبل ولا من بعد". كان كثير الصمت، لكن إذا تلكم فالبرهان والبيان، واستعصى على الذاكرة نسيان ما قال ..."
"كان عطفه على الفقراء عظيما حتى إنه كان يقدمهم على أهل بيته، ولم يهدأ باله برفع العوز عنهم، بل كان يحادثهم ويخالطهم ويبدي لهم العطف والحنان والرأفة بمعاناتهم، حقا لقد كان صديقا صدوقا وحليفا مخلصا".
"كان محمد قدوة منيرة لقومه، فكانت شخصيته نقيه لا يشوبها شيء، وكان منزله ولباسه وطعامه مثالا للبساطة، وكان رافضا لمظاهر الأبهة حتى إنه كان لم يحظى من أصحابه بأي أمارة من أمارات التقديس، بل ولم يكن يقبل أي خدمة من عبده كان يستطيع عملها لنفسه. وكان سهل الحجاب للجميع على الدوام، واعتاد عيادة المرضى، وكان مفعما بالعطف والحنان على الجميع. لم يكن لرقته ولا لكرمه حد، وكذلك كان اهتمامه الأكيد برفاهة المجتمع".
"لم يطر محمد بانتصاراته العسكرية زهوا وخيلاء، ولم يداخله المجد الزائف بها، لأنه لو فعلها لشابها أهواء شخصية. بل إنه لزم بساطته خلقا وخُلقا وهو في أوج قوته كما كان في أيام الشقاء والمحن. كان أبعد ما يكون عن دولة الأبهة والملك، بل كان يغضب إن دخل غرفة فوجد لنفسه أي مظهر من مظاهر الاحترام غير المعتادة".
"كانت عبقرية محمد الروح التي بثها في أوساط العرب من روح الإسلام التي رفعتهم أيما رفعة، فهي التي انتشلتهم من سبات عميق وركود قبلي مقيت إلى مصاف القيم المثلى في الوحدة القومية وصولا إلى نشأة الإمبراطورية. كانت بساطة ما أتى به محمد ورصانته وصفائه هي العوامل التي خالط بها الإيمان المنبعث من قلب المؤسس ما عمّم من قيم ومعتقدات، وبجماع ذلك كانت مخالطة الأخلاق والأفكار للأتباع بما فيها من قابلية ذاتية وإلهام حقيقي".
"لعل أعظم قائد على مر العصور هو محمد لأنه جمع بين الوظائف الثلاث، ولم يدانيه أحد في ذلك إلا موسى، ولكن بمقدار".
ثبت المراجع
* * *
أحمد مهدي رزق الله، سيرة نبي الإسلام في ضوء المصادر الأصلية – دراسة تحليلية، دار السلام، الرياض، 2005.
محمد الغزالي، فقه السيرة، دار النشر الإسلامية العالمية، الرياض، 1999.
تحية الإسماعيل، حياة محمد، شركة طه ببليشرز ليمتد، لندن، 1988.
المباركافوري، صفي الرحمن الرحيق المختوم، دار السلام، الرياض 2002.
علي محمد السلابي، حياة النبي صلى الله عليه وسلم، دار السلام، الرياض 2005.
محمد بن عبد الوهاب التميمي، مختصر سيرة النبي محمد، دار السلام، الرياض 2003.
إميريك، يحيى، محمد، حيوات مؤثرة (critical lives)، شركة ألفا بوكس، إنديانابولس، 2002.
مولانا وحيد الدين خان محمد، رسول الإنسانية، شركة جودوورد بوكس، نيودلهي، 2002.
فريدة خانوم، حياة النبي محمد وتعاليمه - وصلتها بالواقع العالمي، جودوورد بوكس، نيودلهي، 2006.
مارتن لينجز، محمد: حياته استنادًا إلى المصادر الأولى، شركة إنر تراديشنز إنترناشونال، روتشستر، 1983.
محمود مراد، مختصر سيرة ابن هشام، سيرة النبي، دار رسالة للنشر، بيروت 2001.
أبو الحسن علي سيد الندوي، محمد خاتم الأنبياء – قدوة لكل الأزمان، شركة حافظ وأبناؤه، كراتشي 2000.
سالم بن محمد رافع، محمد حبيب الله، دار السلام، الرياض 1999.
محمد صادق، طريق النبي محمد، دار السلام، الرياض 1996.
([1]) يقع اليوم إلى جهة الشمال الشرقي من مكة.