Description
خطبة جمعة بالمسجد النبوي، ألقاها فضيلة الدكتور عبد المحسن القاسم أثابه الله في يوم ٢١ ربيع الآخر ١٤٤٣هـ، يتحدث فيها الشيخ عن دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن اللَّهُ جمع لنبيِّنا محمَّدٍ ﷺ أكثرَ وأعظمَ ممَّا جاء به الأنبياء عليهم السَّلام من الآيات.
إنَّ الحمدَ للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللَّه - عباد اللَّه - حقَّ التَّقوى، وراقبوه في السرِّ والنَّجوى.
أيُّها المسلمون:
أرسل اللَّه الرُّسل لهداية الخلق، يُكَمِّلون الفِطرة بما معهم من نور الوحي، ويَدْعون إلى عبادة اللَّه ومحاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، وحاجة العباد إلى الرُّسل أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنَّفَس؛ إذْ لا سبيل إلى السَّعادة والفلاح ونَوَال رضا اللَّه البتَّة إلَّا على أيديهم.
واللَّه تعالى متفرِّدٌ بالغنى التَّام، والقدرةِ الكاملة، والعلمِ المحيط، والرُّسل عليهم السَّلام بشر لا يملكون من هذه الثلاثة إلَّا ما آتاهم اللَّه، قال اللَّه تعالى لنبيِّه ﷺ: ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّه وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ﴾، فاختصهم اللَّهُ من قدرتِه وعلمِه ومُلكه بآياتٍ باهرة؛ ليظهر للعباد أنَّهم رُسُل اللَّه صادقون فيما أخبروا به، قال ﷺ: «مَا مِنَ الأَنْبِياءِ نَبِيٌّ إلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ» (متفق عليه).
فأَتى صالحٌ عليه السَّلام قومَه بناقةٍ عظيمة خرجت من صخرة.
وأُلقي إبراهيم عليه السَّلام في نار عظيمة؛ فلم تؤذه.
وأُوتي موسى عليه السَّلام تسع آيات بَيِّنَات، وضَرب البحر بعصا؛ فانفلق فكان كل فرق كالجبل العظيم، وألقى عصاهُ فصارت ثعباناً عظيمَ الخِلقة.
وعُلِّم داودُ وسليمانُ عليهما السَّلام مَنْطِق الطَّير، وأُوتِيَا من كل شيء.
وعيسى عليه السَّلام كان يُبرئ الأَكْمَهَ والأبرص ويُحْيِي الموتى بإذن اللَّه، وتَكلَّم في مَهْدِه فبرَّأَ أُمَّه ووحَّد ربَّه.
ومِنْ آياتهم الشَّاهدة بصدقهم: ما كانوا عليه من حُسن السِّيرة، واستقامة الخُلُق، وما فعله اللَّه بهم وبأتباعهم من النُّصرة وحُسن العاقبة، وما فعله بمكذِّبيهم ومخالفيهم من الهلاك والعذاب.
وجَمَع اللَّهُ لنبيِّنا محمَّدٍ ﷺ أكثرَ وأعظمَ ممَّا جاء به الأنبياء عليهم السَّلام من الآيات، قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه: «ومعجزاته تزيد على ألفِ معجزةٍ، وليس في الدُّنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلَّا والعلم بآيات الرَّسول وشرائع دينه أَظهرُ منه، قال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّه شَهِيدًا﴾».
فمن آيات نبُوتِهِ: بِشارةُ الأنبياء به قبل مجيئه، قال إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾، وقال عيسى عليه السَّلام: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾.
ونَزَل إليه ملَك وهو في صِباه فشقَّ صدره، وانتزع ما فيه من حظ الشيطان.
وعَصَمهُ اللَّهُ قبل البِعثة من أمور الجاهلية ودَنَسِها، فلم تُر له عورةٌ، ولم يَمس بيده صنماً، ولم يَشرب خمراً، أو يُبايعْ أحداً بمُحرَّم.
وزِيدت حِراسة السَّماء بالشُّهب التي تُرْجَم بها الشياطين؛ حِفظاً لرسالته، قالت الجنُّ: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُباً﴾.
ومنها ما كان في حياتِهِ وباقٍ إلى اليوم كالقرآن العظيم، والعلم والإيمان الذي حمَله أتباعه.
ومنها إخباره بما أطلعه اللَّهُ عليه من الحوادث الكثيرة السَّابقة والغيوب اللاحقة، إخباراً مفصَّلاً لا يعلمه أحد إلَّا بتعليم اللَّه عزَّ وجلَّ، قال سبحانه: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾.
قصَّ علينا مما مضى: نبأَ آدمَ وسجودِ الملائكة له، وإبليسَ واستكبارِه، وتفاصيلَ كثيرةً عجيبةً من قَصَص الأنبياء، وما اختلفت فيه الأمم قبلنا، وخبرَ أصحابِ الكهف، وأصحاب الفيل.
وتحدَّى اللَّهُ الخلقَ أَنْ يأتوا بسورة من مثل القرآن؛ وأخبر أنَّهم لن يفعلوا ذلك إلى يوم القيامة، فلم يستطع أحد منهم ذلك، وقال عن الكفار - وهو مستضعَفٌ بمكة -: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وظَهر تصديقُ ذلك بَعد سنين طويلة، فأرى المسلمين مصارِعَ صَنَادِيدِ قريشٍ قبل يوم بدر، فقال: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، قَالَ - أَنَسٌ رضي اللَّه عنه -: وَيَضَعُ يَدَهُ - أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ - عَلَى الأَرْضِ هَاهُنَا هَاهُنَا، فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» (رواه مسلم).
وخرج إلى خيبرَ فكبَّر وقال: «خَرِبَتْ خَيْبَرُ»؛ ففتحها اللَّهُ عليه (متفق عليه).
وأرسل أصحابَه إلى مُؤْتَةَ غُزَاةً للروم، ونعى شهداءهم قبل مجيء خبرهم (رواه البخاري).
وذكر أنَّ الفُرْس ستغلب الروم في حياته، ولمَّا جاءه رسول كِسرى بكتاب منه قال له: «إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكَ - أَيْ: سَيِّدَكَ - اللَّيْلَةَ» (رواه أحمد).
وفي طريقه إلى تبوك قال: «سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ» (متفق عليه).
وأخبر بِدُنُوِّ أَجَلِه وانتقاله إلى الرَّفيق الأعلى، وجلس على المنبر وقال: «عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ؛ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ! فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى، فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا!» (متفق عليه)، فما لبث أياماً حتى فارق الدُّنيا.
وقال لأصحابه في آخر حياته: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِئَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ» (متفق عليه).
فكان كل ذلك كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام.
وأخبر عن فتح بيت المَقْدِس، ثم يَعْقُبُه طاعون يُفني المسلمين، ثم يَفيض بعده المالُ فلا يَقْبَلُه أحد، فكان ما أخبر به؛ ففُتح بيت المقدس، ووَقَع الطاعون بالشام، كلاهما في خلافة عمر رضي اللَّه عنه، ثم فاض المالُ في خلافة عثمان بن عفانَ رضي اللَّه عنه حتى كان أحدهم يُعطى مئة دينارٍ فَيَسْخَطُها.
وأخبر أنَّ الأمصارَ تُفتح فَيَخرج إليها أهلُ المدينةِ طلباً للرَّخاءِ والسَّعة، وقال: «وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (متفق عليه)، وأنَّ كِسْرى وقَيصَر يَهْلِكان وتُنفق كنوزُهما في سبيل اللَّه، وأنَّ الدُّنيا ستُفْتَح على أُمَّته فيتنافسون فيها كتنافس من قبلهم، وأنَّ أُمَّته ستَتَشَبَّه بالأُمم قبلَها وتَتَّبِعُ سبيلها حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخلوه (متفق عليه).
وبيَّن أشراطَ السَّاعةِ التي تقع بين يديها: مِن قِلَّة العلم، وكَثرة الجهل، وظهور الفِتَن، وكثرة القَتل، وتَطَاوُل النَّاس فِي البُنْيَانِ.
وقام في أصحابه فأخبرهم بما سيكون إلى يوم القيامة، قال حذيفة رضي اللَّه عنه: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَاماً، مَا تَرَكَ شَيْئاً يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» (متفق عليه).
وحَدَّثهم بمشاهد رآها في السَّماء، فأسرى اللَّهُ بروحه وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به إلى السَّماء حتى بلغ سدرة المنتهى، ثم رجع من ليلته إلى مكة، وأخبرهم بما رآه من الجنَّة والنَّار وأهلِهما وسدرةِ المنتهى، وبما سمعه من صَرير أقلام تدبير الكون.
وأيَّده اللَّه بآيات كونيةٍ مشاهَدة: فشقَّ اللَّهُ القمرَ آيةً له حتى صار فِرْقَتَين، رآهما النَّاس في مكةَ وغيرها.
وآياتُ نبُوَّتِهِ ظهرت في الإنس أيضاً: ففي خُطبة حَجَّة الوَداع فتح اللَّهُ له أسماعَ النَّاس حتى سمعوه جميعاً، وكانوا أكثر من مئة ألف (رواه أبو داود).
ودعا لأنس رضي اللَّه عنه بكثرة المال والولد؛ فدَفَن في حياته أكثر من مئة وعشرين من صُلْبِه (متفق عليه).
ودعا لأبي هريرة وأُمِّه رضي اللَّه عنهما أنْ يُحَبِّبَهما اللَّه إلى المؤمنين، قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: «فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي» (رواه مسلم).
ودعا لعُرْوَة البَارِقي رضي اللَّه عنه بالبركة في بيعه؛ فكان لو باع الترابَ لَرَبِح فيه (رواه البخاري).
وكُسرت رِجلُ عبد اللَّه بن عَتِيك رضي اللَّه عنه فمسحها؛ فبَرأت (رواه البخاري).
وبصق في عَيْنَي عليٍّ رضي اللَّه عنه من رَمَد كان به؛ فبَرأ كأن لم يكن به وَجَع (متفق عليه).
ودلائل نُبُوَّتِهِ ظهرت في البهائم أيضاً: دخل عليه الصَّلاةُ والسَّلام يوماً حائطاً لبعض الأنصار فيه جَمَل، فلمَّا رأى الجملُ رسولَ اللَّه ﷺ بكى، فمسح عليه رسولُ اللَّه ﷺ فسكت، فقال لصاحب الجمل: «أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللَّهُ؟! إِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ - أَيْ: تُتْعِبُهُ -» (رواه أبو داود).
وقالت عائشة رضي اللَّه عنها: «كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ دَخَلَ رَبَضَ فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ - أَيْ: لَمْ يَتَحَرَّكْ وَلَمْ يُخْرِجْ صَوْتاً - مَا دَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي البَيْتِ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ» (رواه أحمد).
ومن آياته: ما أُوْتِيه من تكثير الطعام والشراب، ففي الحُدَيْبِية كان معه ألفٌ وخمس مئةٍ من أصحابه، قال جابر رضي اللَّه عنه: «وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ - وَهِيَ: إِنَاءٌ صَغِيرٌ -؛ فَجَعَلَ المَاءُ يَثُورُ - أَيْ: يَنْبُعُ بِشِدَّةٍ - بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ العُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، قِيْلَ لَهُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِئَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِئَةً - أَيْ: أَلْفاً وَخَمْسَ مِئْةً -» (رواه البخاري).
وفي غزوة ذات الرِّقاع جَمَع الماء اليسير في جَفنة - وهي: وِعاء للطعام -؛ فملأ منها جميعُ العسكَر آنيتَهم.
وفي خَيْبَر قَلَّ الطعام؛ فأمرهم ﷺ فجمعوا ما عندهم، فبرَّك عليه - أي: دعا بالبركة فيه -، فأكلوا حتى أَشْبَعَ الجيش كلَّهم، وكانوا ألفاً وخمسَ مئة.
وكان معه في تبوك نحوُ ثلاثين ألفاً يطلبون الماء، فتَوَضَّأَ في عين من عيونها؛ ففاضت بماء مُنْهَمِر حتى اسْتَقَوا جميعاً (رواه مسلم).
وقال سَمُرة بن جُنْدُبٍ رضي اللَّه عنه: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَتَدَاوَلُ مِنْ قَصْعَةٍ - وَهِيَ: وِعَاءٌ مٌسْتَدِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ - مِنْ غُدْوَةٍ حَتَّى اللَّيْلِ، تَقُومُ عَشَرَةٌ وَتَقْعُدُ عَشَرَةٌ، قُلْنَا: فَمَا كَانَتْ تُمَدُّ؟ قَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ؟ مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ» (رواه الترمذي).
وسخَّر اللَّه لهُ الأشجار والأحجار آيةً لنبوَّته: نَزَل مع أصحابه وادياً فأخذ بشجرتين فانقادتا معه والْتَأَمَتا عليه - أي: اجتمعتا عليه - بأمره (رواه مسلم).
واجتمع عليه الجنُّ يستمعون منه القرآنَ وهو بمكة؛ فأخبرته بوجودهم شجرةٌ كانت حوله (متفق عليه).
وكان يَخْطُب على جِذْع نخلة في مسجده ثم صُنع له منبر، فلمَّا خطب عليه حنَّ الجِذع وبَكى بُكاءَ الصبيان، حتى وضع عليه يده ﷺ؛ فسكت (رواه البخاري).
وقال: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَراً بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الآنَ» (رواه مسلم).
وصعِد على أُحُدٍ مع ثُلَّة من أصحابه فَرَجَفَ بهم، فضربه وقال: «اثْبُتْ أُحُدُ»؛ فَثَبَت (رواه البخاري).
وأيَّده اللَّه بملائكته تأييداً لم يُؤَيَّد به أحدٌ قبلَه آيةً لنبوته؛ في مكة استأذنه ملَك الجبال أن يُطْبِق على كُفَّارها الأَخْشَبين - وهما: جبلان بمكة - فاستمهله لهم.
وفي الهجرة قال اللَّهُ: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾.
وفي بدرٍ قاتل معه خيرُ الملائكة.
وفي أُحُد رُؤِيَ النَّبِيُّ ﷺ بين جبريل وميكائيل يقاتلان عنه أشدَّ القتال (متفق عليه).
وسار جبريلُ عليه السَّلام معه من الخَنْدَقِ إلى بني قُرَيظَة (رواه البخاري).
ومن آيات نبوته: عِصمة اللَّه له في نبوته من أعدائه، فقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾؛ فلم يتمكَّنوا منه حتى ظَهر عليهم مع كثرتهم وقوَّتهم.
وسَحَره بعض اليهود؛ فأظهره اللَّهُ على سحرهم فأبطله، ووضعوا له السُّم في شاة؛ فأَنْبَأَه اللَّهُ بذلك.
ومن آيات نبوته: أخلاقه الطاهرة وخَلْقه الكامل.
ومع ظهور أمره ﷺ، وطاعةِ الخلق له، وتقديمِهم له على الأنفس والأموال، مات ولم يُخَلِّف درهماً ولا ديناراً، ولا شاةً ولا بعيراً، إلَّا بَغْلَته وسِلاحَه، ودِرْعه وكانت مَرْهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير ابتاعها لأهله.
وبعدُ، أيُّها المسلمون:
مَن تدَّبر سيرة النَّبي ﷺ مِن وِلادته إلى موته؛ عَلِم أنَّه رسولُ اللَّهِ حقّاً، أَتى بكلام لم يسمع الأوَّلون والآخرون بنظيره، وكان في كل وقت يأمر أُمَّته بالتَّوحيد، ويدلُّهم على كل خير، وينهاهم عن كل شرٍّ، ويُظهر اللَّهُ له من عجائب الآيات.
جاء بأكمل دين، وجَمَع محاسن ما عليه الأمم، فأصبحت أمَّتُه أكملَ الأمم في كل فضيلة، وهذه الفضائل به نالوها، ومنه تعلَّموها، وهو الذي أمرهم بها، فصار من اتبعه أعلمَ أهل الأرض وأدْينَهم وأعدلَهم وأفضلَهم.
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
بارك اللَّه لي ولكم في القرآن العظيم …
الحمد للَّهِ على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلَّا اللَّهُ وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبدُهُ ورسوله، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليماً مزيداً.
أيُّها المسلمون:
التَّأَمُّل في آيات نبيِّنا محمَّد ﷺ ودلائل صِدْقِه يزيد من الإيمان، والرِّفعة تُنال بكثرة النَّظر في محاسنه البَاهرةِ وشريعته الطَّاهرة، ولا طريق لنا لمعرفة اللَّهِ إلَّا بالرسول ﷺ.
وَمَنْ أراد معرفة صدق الرِّسالة وجَلاء براهينها فعليه بالقرآن العظيم.
ولمَّا كانت حاجة الخلق إلى تصديق الرَّسول ﷺ أشدَّ من حاجتهم إلى جميع الأشياء؛ يَسَّرَ اللَّه الدَّلائل التي بها يُعرف صِدْقُ الأنبياء، وجعلها من الكثرة والظهور والوضوح بِحَيث لا يتخلَّف عن الإيمان بها إلَّا مُعاند، ولا يتردد في التَّصديق بها إلَّا مُكابر.
والخيرُ كلُّه في الثَّبات على التَّصديق بالنُّبوة، وطاعته.
ثمَّ اعلموا أنَّ اللَّه أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه …
([1]) أُلقيت يوم الجمعة، الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة وألف من الهجرة، في المسجد النبوي.