Description
أحكام الحج والأضحية: رسالة مختصرة في أحكام الحج، وبيان الواجبات والمستحبات والمكروهات والمحرمات في هذه الشعيرة، مع التنبيه على بعض الأخطاء التي تقع من بعض المسلمين.
બીજું ભાષાતર 2
عبد الله بن إبراهيم القرعاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فاضل بين الشهور والأيام، وجعل الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، أحمده سبحانه وأشكره، وشكر المنعم واجب على الأنام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، القدوس السلام.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من حج واعتمر، وصلى خلف المقام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام، ومن تبعهم بإحسان على الدوام.
وبعد: فإن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، ومن شعائر الله الظاهرة، فيجب على كل مكلف، مستطيع، المبادرة في أداء الحج، وينبغي له أن يتفقه في أحكامه وأفعاله، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم» وليحوز الفضل العظيم المنوه عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فإن هذا الفضل لمن حقق ذلك إخلاصًا لله تعالى ومتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وسعيًا مني على نفع إخواني المسلمين في معرفة هذا الركن العظيم على الطريقة الصحيحة، تسببت في طبع ما يتعلق بالحج وأحكامه لشيخنا فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم القرعاوي.
أسأل الله تعالى أن يجعل عملنا كله صالحًا ولوجهه خالصًا، ولا يجعل لأحد فيه شيئًا إنه سميع قريب.
بقلم بعض طلبة العلم
القصيم ـ بريدة
ص.ب 3699 الرمز 81999
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افترض على القادرين حج بيته الحرام، وجعل حجه أحد أركان الإسلام، وغفر لمن حجه ولم يرفث ولم يفسق جميع الذنوب والآثام، فهو الكريم الذي إذا دعا إلى بيته أفاض على الموحد جزيل الإكرام، خلق فقدر وشرع فيسر، فسبحانه من إله وفق من شاء لمراضيه ويسر له أسبابها بالتمام، وقضى على من شاء بالحرمان، فلم ينفع فيه ترغيب ولا ترهيب ولا ملام.
أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أتقى من وقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام.
والحج قصد البيت الحرام لأعمال مخصوصة في زمن مخصوص.
وللحج مواقيت زمانية ومكانية:
فالزمانية: أشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
والمكانية: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل المسمى بالسيل الكبير، ويلملم، وذات عرق.
جعلت هذه الحدود مواقيت، تعظيمًا للبيت الحرام وتكريمًا. ليأتي إليه الحجاج والمعتمرون من هذه الحدود معظمين، خاضعين، خاشعين.
واعلموا أن الحج يجب على كل مكلف من ذكر وأنثى، مستطيع، مرةً واحدةً في العمر. إلا أن المرأة لا يجب عليها إلا إذا وجدت محرمًا يسافر معها، لقوله عز وجل: ]وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس ـ وذكر فيها ـ وحج البيت» متفق عليه.
ومن الناس من يؤخر أداء الحج بعد وجوبه عليه بدون عذر شرعي، أو لم يأذن لأولاده من بنين وبنات.
ومن مات ولم يحج حجة الإسلام مع القدرة، فهو آثم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» رواه مسلم.
والأمر يقتضي الفورية: فتجب المبادرة إلى أداء فريضة الحج والعمرة.
ولا يجب الحج في العمر إلا مرةً واحدةً، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا أيها الناس كتب عليكم الحج» قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع» رواه أحمد وغيره. وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ويسن الحج كل عام لمن استطاع، ولا ضرر عليه ولا على من يعول بذلك، لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة، وما من مؤمن يظل يومه محرمًا إلا غابت الشمس بذنوبه» رواه الترمذي بهذا اللفظ وهو حديث صحيح بشواهده.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، قال: «لكن أفضل الجهاد حج مبرور». وفي رواية: «لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور». قالت عائشة: «فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه عام حجة الوداع: «هذه ثم ظهور الحصر».
فكن كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه أحمد.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - لنسائه: «هذه ثم ظهور الحصر»، أي: عليكن لزوم البيت ولا يجب عليكن الحج مرة أخرى بعد هذه الحجة، فيفهم من ذلك جواز الترك لهن، لا النهي عن الحج بعد حجة الوداع، لما روى البخاري أن عمر رضي الله عنه أذن لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف.
وأخرج ابن سعد من حديث أبي هريرة فكن - نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - - يحججن إلا سودة وزينب فقالتا، لا تحركنا دابة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمر متوقفًا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن وتبعه على ذلك من في عصره من غير نكير.
وروى أحمد والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة، الحج والعمرة» سنده جيد.
والمعنى: أن الحج والعمرة يقومان مقام الجهاد لمن منعه عنه كبر، أو ضعف بدن، أو صغرن أو أنوثة، ويؤجرون عليهما كأجر الجهاد. والله تعالى أعلم.
وتتأكد سنية الحج بعد أربعة أعوام، أو خمسة أعوام، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله عز وجل: إن عبدًا صححت له جسمه، ووسعت عليه في المعيشة، تمضي عليه خمسة أعوام، لا يفد إلي، لمحروم» رواه ابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى، والبيهقي.
ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: «إن الله يقول: إن عبدًا صححت له بدنه، وأوسعت عليه في الرزق، لم يفد إلي في كل أربعة أعوام، لمحروم» قال: في مجمع الزوائد: ورجال الجميع رجال الصحيح.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
المؤلف
عبد الله بن إبراهيم القرعاوي
هاتف: 3252528 - 3262528
* * * منافع الحج
عباد الله: إن الله دعاكم إلى بيت حرام، في شهر حرام، في بلد حرام.
فرض عليكم الحج لحكم وأسرار يعلمها، وبين شيئًا منها بقوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾[الحج: 28].
فمن المنافع ما هو دنيوي، ومنها ما هو أخروي.
فمن الأخروي: تطهير النفس، وتكفير الخطايا وغفران الذنوب وذلك لمن اتقى الله تعالى في حجه، فاجتنب الرفث، والفسوق، والجدال، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وقصد بحجه وجه الله تعالى، والتقرب إليه، ولم يقصد بحجه حطام الدنيا، أو المفاخرة، أو الرياء، أو السمعة فإن ذلك سبب في بطلان العمل وعدم قبوله.
من تلك المنافع: أن الله تبارك وتعالى يباهي بأهل عرفة أهل السماء.
من تلك المنافع: اجتماع الناس من أقطار الأرض في أوقات معينة، في أماكن معينة، لتحصل استفادة بعضهم من بعض في الدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، والدعوة إلى الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت وعدم التحاكم إليه.
وكذلك يستفيد بعضهم من بعض في توضيح أنواع العبادة، وأنها من خصائص الله كالدعاء، والذبح والنذر وغير ذلك.
وأن من صرف شيئًا منها لغير الله - كأن يدعو عبد القادر أو البدوي أو العيدروس أو يذبح للأموات أو للجن أو للكواكب - فهو مشرك كافر، الشرك الأكبر والذنب الذي لا يغفر لمن مات على ذلك.
وتوضيح ذلك والتحذير منه من أجل المنافع وأعظمها.
إن للحج مقاصد سامية، وأهدافًا لا تقتصر على المظهر لأنها من التوحيد في القول، والعمل، والاعتقاد.
فمن ذلك: رفع الصوت بالتوحيد، ونفي الشريك عن الله تعالى، وإعلان انفراد الله جل وعلا بالحمد والنعمة والملك، وذلك بعد الإحرام للحج، أو العمرة.
حيث شرع للحاج أن يرفع صوته بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، يردد ذلك الحاج بين فترة وأخرى حتى يشرع في التحلل من الإحرام.
ومن مقاصد الحج: إعلان التوحيد مع اعتقاده والعمل به، في المجمع العظيم، في يوم عرفة، وكلمة التوحيد أعظم الذكر الذي يقال فيه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه الترمذي.
وذلك من أجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها، فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل.
ومن مقاصد الحج: من التوحيد مشروعية الطواف بالبيت العتيق، ليعلم الحاج أن الطواف خاص ببيت الله، وأن كل طواف بغير البيت العتيق، فهو باطل، قال الله تعالى: ]وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29]. فالطواف بالضريح تعظيمًا للميت المقبور فيه، أو خوفًا منه، رجاء أن يدفع صاحب الضريح المضرة ويجلب المنفعة، من الشرك في عبادة الله تعالى.
ومن مقاصد الحج: من التوحيد مشروعية التكبير عند استلام الحجر الأسود والركن اليماني، حيث يقول: الله أكبر، معتقدًا أنهما لا ينفعان، ولا يضران، وإنما يستلمهما لأنهما من شعائر الله، طاعة لله واقتداءً برسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: والله إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. متفق عليه.
وبهذا يعلم المسلم أنه لا يجوز التمسح بشيء من الأبنية كحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بالأحجار كمقام إبراهيم ونحو ذلك، إلا بالركن اليماني والحجر الأسود أثناء الطواف، لا للتبرك ورجاء البركة منهما، وإنما لكونهما من شعائر الله.
ومن مقاصد الحج: من التوحيد مشروعية قراءة سورة: ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [سورة الكافرون] و ]قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص] في ركعتي الطواف.
ففي السورة الأولى: البراءة من دين المشركين، وإفراد الله بالعبادة.
وفي الثانية: إفراد الله تعالى بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص. حتى يعرف العبد ربه، ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه.
ومن مقاصد الحج السامية من التوحيد: الأعمال العظيمة التي تؤدي في أيام منى، من رمي الجمار، وذبح الهدي، وحلق الرأس، وأداء الصلوات الخمس، في هذا المشعر المبارك، والأيام المباركة، وكل هذه الأعمال من التوحيد.
فرمي الجمرات ذكر لله. حيث شرع للحاج أن يقول عند رمي كل حصاة: الله أكبر.
وذبح الهدي ذكر لله عز وجل. كما قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: 34].
وقال تعالى: ]وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الحج: 36، 37].
ومن هنا يعلم المسلم أن الذبح عبادة لله عز وجل ولا يجوز لغير الله. فلا يجوز أن يذبح لغير الله، لا لقبر ولا لولي، ولا لجني، ولا لأي مخلوق، لأن الذبح عبادة لله تعالى. وصرف العبادة لغير الله من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر.
وكذلك حلق الرأس في منى لله تعالى، من العبادة، لدعائه - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين رءوسهم والمقصرين. ولقوله تعالى: ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ [الفتح: 27].
ومن هنا يعلم المسلم أن حلق الرأس للشيخ والسيد من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر.
ومن مقاصد الحج من التوحيد: أن الله تعالى أمر بذكره أثناء أداء مناسك الحج، وبعد الفراغ منه، ونهى عن ذكر غيره من الرؤساء، والعظماء، الأحياء والأموات، وعن المفاخرة في الأحساب والأنساب. فقال تعالى: ]فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [البقرة: 200-203].
موعظة
أيها الحاج: من تاجر مع الله فقد ربحت تجارته، ومن هاجر إلى الله قبلت هجرته.
هذه أشهر الحج ابتدأت بعيد الفطر وختمت بعيد النحر، يؤم فيها بيت الله العتيق، فتوبوا إلى ربكم واخرجوا من المظالم التي بينكم، وأزيلوا الشحناء والبغضاء بينكم بالعفو والمسامحة والبر والصلة، وإن كان ذلك واجبًا في كل وقت إلا أنه قبل الحج آكد.
والمقصود من التوبة تقوى الله، وهو خوفه وخشيته والقيام بأمره واجتناب نهيه، فيعمل بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله، يخاف عقاب الله، لا يريد بذلك عز الطاعة، فإن للطاعة وللتوبة عزًا ظاهرًا وباطنًا، فلا يكون مقصوده العزة، وإن علم أنها تحصل له بالطاعة والتوبة.
فمن تاب لأجل العزة فتوبته مدخولة، وفي بعض الآثار: "أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إلي: فقد اكتسبت به العزة، ولكن ما عملت فيما لي عليك؟ قال: يا رب، وما لك علي بعد هذا؟ قال: هل واليت في وليًا، أو عاديت في عدوًا؟" يعني أن الراحة والعز حظك، وقد نلتهما بالزهد والعبادة. ولكن أين القيام بحقي. وهو الموالاة في والمعاداة في؟ والله أعلم.
للحج أربعة أركان هي:
الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، فلا يصح الحج إلا بهذه الأركان.
وللعمرة ثلاثة أركان وهي: الإحرام، والطواف، والسعي.
الركن الأول: الإحرام:
الإحرام: هو نية الدخول في نسك حج أو عمرة مع التجرد أو التلبية، فإن الرجل لا يكون محرمًا بمجرد ما في قلبه من قصد الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ أن خرج من بلده فلابد من قول أو عمل يصير به محرمًا على الصحيح من قولي العلماء.
وله واجبات، وسنن، ومحظورات:
فمن واجبات الإحرام: الإحرام من الميقات، ففي الحديث الصحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة» متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق» رواه أبو داود والنسائي.
وثبت بتوقيت عمر، ولعله خفي النص فوافقه برأيه، فإنه رضي الله عنه موفق للصواب.
والميقات: هو المكان الذي حدد الشارع الإحرام عنده، تعظيمًا وتشريفًا لبيت الله الحرام.
فإن الله جعل له حصنًا وهي مكة، وجعل لها حمى وهو الحرم، وجعل للحرم حرمًا وهي المواقيت، فلا يجوز لأحد يريد الحج والعمرة أن يتجاوز المواقيت بدون إحرام تعظيمًا لبيت الله الحرام، فمن تجاوزها ولم يرجع إليها قبل إحرامه فعليه دم، فإن لم يجد صام عشرة أيام، كما يكره إحرام قبل ميقات، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر إحرامه من المدينة إلى ذي الحليفة في حجة الوداع ولم يحرم من المدينة، وهي قريبة من الميقات.
ومنها التجرد من المخيط عند نية الإحرام:
ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم من الثياب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلبسوا القمص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فيلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس».
والمخيط: هو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه كالقميص والسراويل ليبعد عن الترفه، ويتصف صفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، وليتذكر الموت ولباس الأكفان، ويتذكر به يوم البعث يوم القيامة، والناس حفاة عراة، مهطعين إلى الداعي، بل تعظيمًا لبيت الله الحرام وإجلالًا وإكرامًا، أن يحرم العبد قبل الحلول إجلالًا وإكرامًا، متخليًا عن نفسه فارغًا من اعتبارها.
فيا عباد الله! تذكروا ذلك إذا أحرمتم واحرصوا على العمل به بقلوبكم وجوارحكم.
وأما التلبية: فيقول من أراد الإحرام بالتمتع: "لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، ويستحب أن يشترط إن كان خائفًا، أو شاكيًا فيقول: "وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، فإن لم يكن خائفًا ولا شاكيًا فلا يشترط، وإن اشترط فلا بأس وجاز له ذلك بدون استحباب، جمعًا بين الأحاديث، والله تعالى أعلم.
ومن ساق الهدي، وجب عليه أن يحرم قارنًا، فيقول: "لبيك عمرة وحجًا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" ومعنى "لبيك اللهم لبيك" أي: إقامةً على طاعتك بعد إقامة وإجابةً لأمرك لنا بالحج بعد إجابة، لأن التلبية إجابة لدعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليل إبراهيم، والملبي هو المستسلم المنقاد، والمعنى إنا مجيبوك لدعوتك مستسلمون لحكمك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك.
وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله لعباده بأن وفودهم على بيته، إنما كان باستدعاء منه سبحانه.
ولا يستحب التلفظ بالنية، كقول: "اللهم إني أريد العمرة أو الحج".
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع ذلك، ولم يتكلم بشيء من ألفاظ النية لا هو ولا أصحابه عند الإحرام، بل كان يقول: "لبيك عمرة وحجًا".
وكان يقول للواحد من أصحابه: "بما أهللت" والإهلال هو التلبية.
وأما سنن الإحرام فمنها:
الاغتسال ولو لنفساء أو حائض: لأن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر رضي الله عنه وضعت وهي تريد الحج فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « بالاغتسال» ، رواه مسلم.
وأمر عائشة رضي الله عنها «أن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض» متفق عليه.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه «أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإهلاله واغتسل» رواه الترمذي والدارمي.
ومنها التطيب في بدنه: لقول عائشة: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يرحم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه.
ويستحب للمرأة خضاب بحناء: لقول ابن عمر: من السنة أن تدلك المرأة يديها في الحناء. رواه الشافعي والبيهقي.
ومنها تكرار التلبية وتجديدها كلما تجددت حال: من ركوب أو نزول، لقول جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي في حجته إذا لقي ركبًان أو علا أكمةً، أو هبط واديًا، وفي أدبار الصلاة المكتوبة، وفي آخر الليل. رواه ابن عساكر، قاله في التلخيص، ولخبر سهل بن سعد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يلبي إلا لبى من على يمينه، أو شماله، من حجر، أو شجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض، من ههنا وههنا» رواه الترمذي وهو حديث صحيح بشواهده.
ومنها التحميد والتسبيح والتكبير: قبل الإهلال كما ترجم لذلك البخاري رحمه الله بقوله: باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، ثم ذكر حديث أنس، وفيه: «ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استوت به على البيداء، حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة».
ومنها الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: عقب التلبية إذ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا فرغ من تلبيته، سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار». رواه الشافعي والدارقطني.
فهذه السنن لو تركها المحرم لم يجب عليه فيها دم، ولكن يفوته بتركها أجر كثير وثواب جزيل.
أما محظورات الإحرام:
وهي الأعمال الممنوعة التي لو فعلها المحرم لوجب عليه فدية من دم أو صيام أو إطعام، فهي تسعة:
1- إزالة الشعر من البدن.
2- تقليم الأظافر.
3- تعمد تغطية الرأس والوجه من الرجل، ولا تغطي المرأة المحرمة وجهها إلا إذا بقربها رجال أجانب، فيجب عليها حينئذ أن تغطي وجهها.
4- تعمد لبس المخيط على الرجل. وخياط الإزار على صفة وزره من المخيط الذي ينهى عن لبسه المحرم.
5- قصد شم الطيب مس ما يعلق.
6- قتل صيد البر الوحشي المأكول.
7- عقد النكاح ـ ولا يصح ـ وخطبته.
8- الجماع.
9- مقدمات الجماع من قبلة ونحوها.
وحكم المحظورات الخمس الأول: أن من فعل واحدًا منها وجبت عليه فدية، وهي صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]. ولحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.
وأما قتل الصيد ففيه جزاؤه بمثله من النعم لقوله تعالى: ]فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [المائدة: 95].
وأما عقد النكاح وخطبته: وسائر الذنوب كالغيبة والنميمة وكل ما يدخل تحت لفظ الفسوق ففيه التوبة والاستغفار، ولا فدية في ذلك.
وأما الجماع: إذا كان قبل التحلل الأول فإنه يفسد به الحج وعليه القضاء، ويجب الاستمرار في النسك الفاسد حتى يتم، وعلى صاحبه بدنة من الإبل لفقراء الحرم، فإن لم يجد صام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، لقول عمر وعلي وأبي هريرة رضي الله عنهم، فيما رواه مالك وغيره عنهم، ولقول ابن عباس وابن عمر، فيما رواه أحمد والحاكم والدارقطني وغيرهم عنهم من القول بذلك، وإذا كان الجماع بعد التحلل الأول فإنه لا يفسد الحج، وعليه فدية شاة لفعله المحظور في الإحرام.
وأما مقدمات الجماع والوطء فيما دون الفرج: فإنها لا تفسد الحج لكن إن أنزل، فإنه يلزم فاعلها دم وهو ذبح شاة لفقراء الحرم.
حجاج بيت الله الحرام! اتقوا الله تعالى وتأهبوا فقد زفت المطايا، وخذوا أهبة التحويل فما إلى البقاء بدار الفناء من سبيل، وبادروا فلم يبق من متاع الدنيا القليلة إلا القليل.
فهل منا من يعاتب نفسه على التقصير؟ وهل منا من يراقب الله السميع البصير؟ وهل منا من يتفكر في هول ما إليه يصير؟ فسبحان الله! ما أعم جوده على الأنام! وما أكثر تقصيرهم في حقه على الدوام! من ذا الذي عامله بصدق فلم يربح! ومن ذا الذي سأله تفريج كربه فلم يفرح؟
فاشكروه ولن تحصوا له شكرًا، واتقوه حق تقاته سرًا وجهرًا، وشمروا لعبادته عن ساق، ونافسوا على الوفود إلى حج بيته فله الحديث يساق.
الركن الثاني: الوقوف بعرفة:
وهو الوقوف أو الحضور بعرفة بنية، يوم تاسع ذي الحجة، ووقته من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، وأما قبل الزوال من يوم عرفة، فكثير من أهل العلم على أنه ليس وقتًا للوقوف وفاقًا للأئمة الثلاثة، واختاره الشيخ وغيره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال، وما قبله لا يعتد به، وجعلوا هذا الفعل مقيدًا لمطلق حديث عروة بن مضرس، الذي رواه الخمسة وصححه الترمذي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: «من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه».
وأما الإمام أحمد فإنه يرى أن يوم عرفة كله وقتًا للوقوف إلى طلوع فجر يوم النحر للحديث الذي تقدم، حديث عروة والله تعالى أعلم.
ويوم عرفة له فضائل متعددة:
منها: أنه يوم إتمام الدين وإكمال النعمة، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
ومنها: أنه عيد لأهل الإسلام، هو ويوم النحر، وأيام التشريق، لما روى عقبة مرفوعًا: «يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام» رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
ومنها: أنه موقف عظيم، تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، وهو أعظم مجامع الدنيا.
فإذا فرّغ الحاج قلبه وطهره، وطهر جوارحه، واجتمعت الهمم وتساعدت القلوب في هذا المجمع العظيم، وقوي الرجاء وعظم الجمع، كان ذلك من أسباب القبول، فإن تلك أسباب جعلها الله مقتضية لحصول الخير، ونزول الرحمة.
ومنها: أنه يوم ترجى فيه إجابة الدعاء.
ومن آداب الدعاء: أن يرفع الحاج يديه، قال ابن عباس: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات يدعو ويداه إلى صدره، كاستطعام المسكين». رواه أبو داود.
ويحرص في هذا الموقف على تفريغ الباطن والظاهر من كل مذموم وليكن على طهارة في هذا المشعر العظيم، ويجتهد أن يبكي، فإن لم يقدر على البكاء، فليتباك بالتضرع والدعاء.
وليحذر الحاج من الاختيال والتعاظم في هذا الموقف وغيره، فإنه من موانع الإجابة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18] وروي في ذلك حديث.
ومن الحجاج من يفرط في هذا الوقت الثمين، وذلك باشتغاله بالقيل والقال مع رفقته، أو بالأكل والشرب الزائد عن الحاجة.
ومنهم من يجعل اجتهاده في الذكر والدعاء في أول النهار، فإذا جاء وقت الذكر والدعاء والتضرع وهو آخر النهار من يوم عرفة، فإذا هو قد تعب وسئم وترك الذكر والدعاء.
ومنها: أنه يشرع صوم عرفة لغير حاج بها. لحديث: «صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده» رواه مسلم.
أما الحاج، فإنه لا يستحب له أن يصوم يوم عرفة بعرفة، بل يكره «لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة بعرفة» رواه أبو داود وصححه الحاكم.
ومنها: أن الدعاء في يوم عرفة أفضل من غيره لحديث: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» رواه مالك في الموطأ والترمذي.
ومن فضائله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم.
ومنها: أنه ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أرى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.
وقد روي في ذلك حديث رواه مالك في الموطأ وهو مرسل، ووصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء.
واجبات الحج:
الأول: الإحرام من الميقات المعتبر له، وقد تقدم.
الثاني: الوقوف بعرفة في يوم عرفة، من بعد الزوال إلى غروب الشمس، ومن دفع قبل الغروب من يوم عرفة ولم يرجع إليها قبل الغروب فعليه دم.
الثالث: المبيت بمزدلفة بعد الإفاضة من عرفات ليلة عاشر ذي الحجة، وسميت مزدلفة، من الزلف وهو التقرب. لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات، ازدلفوا إلى منى، أي قربوا منها، ومضوا إليها، وكلها موقف لكن الوقوف عند جبل "قزح" أفضل. وتتأكد صلاة الفجر بالمزدلفة على الأقوياء ونحوهم بأمور:
منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد صلاتنا هذه ـ يعني بالمزدلفة ـ فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى تفثه»، وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198].
وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا عني مناسككم» رواه مسلم والنسائي واللفظ له. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» رواه الخمسة إلا النسائي.
فعلى هذا: فإني أنصح الحجاج الأقوياء من إخواني المسلمين، أن لا يدفعوا من مزدلفة حتى يصلوا الفجر بها، ويذكروا الله ويدعوه خاشعين مستغفرين ملبين، وأما الضعفاء فلهم أن يدفعوا بعد غيبوبة القمر، بل يجب عليهم المبيت إلى غيبوبة القمر، وقال بعضهم: إلى نصف الليل، ومن دفع قبل ذلك فعليه دم.
الرابع: رمي الجمرات، ووقت رمي جمرة العقبة من غيبوبة القمر ليلة النحر إلى غروب الشمس.
ووقت رمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق من زوال الشمس إلى غروبها، ومن لم يتمكن من ذلك، فله أن يؤخر الرمي إلى اليوم الثاني أو الثالث من أيام التشريق.
الخامس: الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر.
السادس: المبيت بمنى ثلاث ليال، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر، أو ليلتين لمن تعجل، وهما ليلة الحادي عشر والثاني عشر.
السابع: طواف الوداع.
فمن ترك واجبًا فعليه دم فإن عدمه صام عشرة أيام.
سنن الحج والوقوف بعرفة:
منها: الخروج إلى منى ضحى يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة ويصلي بها الحاج خمس صلوات الظهر يوم الثامن، والعصر، والمغرب، والعشاء والفجر، ويقصر الرباعية.
ومنها: المبيت بمنى ليلة التاسع وعدم الخروج منها إلى عرفة إلا بعد طلوع الشمس.
ومنها: النزول بنمرة وصلاة الظهر والعصر قصرًا وجمعًا مع الإمام إن أمكن.
ومنها: إتيانه لموقف عرفات بعد أدائه صلاة الظهر والعصر، والاستمرار بالموقف ذاكرًا داعيًا إلى غروب الشمس، ويكثر الاستغفار والتضرع والخشوع، وإظهار الضعف والافتقار، ويلح في الدعاء.
ومنها: السكينة في السير وعدم الإسراع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيضاع»، والإيضاع هو: الإسراع.
ومنها: الإكثار من التلبية والذكر في طرقه إلى منى وإلى عرفات وإلى مزدلفة وإلى منى، ويقطع التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة.
ومنها: تأخير صلاة المغرب إلى أن ينزل بمزدلفة فيصلي المغرب والعشاء بها جمعًا وقصرًا.
ومنها: الوقوف مستقبل القبلة ذاكرًا داعيًا عند المشعر الحرام بعد صلاة الفجر حتى يسفر جدًا.
ومنها: الدفع من مزدلفة بعد الإسفار وقبل طلوع الشمس.
ومنها: الإسراع في السير ببطن محسر قدر رمية حجر إن لم يخش ضررًا.
ومنها: رمي جمرة العقبة بين طلوع الشمس والزوال.
ومنها: قول: "الله أكبر" مع كل حصاة يرميها.
ومنها: الترتيب بين رمي جمرة العقبة ثم النحر ثم الحلق ثم طواف الإفاضة.
ومنها: أداء طواف الزيارة ـ أي الإفاضة ـ في يوم النحر قبل الغروب.
ومنها: مباشرة ذبح الهدي أو شهوده حال نحره أو ذبحه.
ومنها: الأكل من الهدي، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل من هديه.
ومنها: المشي إلى الجمرات الثلاث أيام التشريق.
ومنها: الوقوف للدعاء مستقبل القبلة بعد رمي الجمرة الأولى والثانية دون الثالثة، لأنه لا دعاء يستحب بعد رميها إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرميها وينصرف.
تنبيه:
يحصل التحلل الأول لفعل اثنين من ثلاثة:
الرمي، والحلق، والطواف، لحديث عائشة مرفوعًا: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» رواه أحمد.
قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، يرون أن المحرم، إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح وحلق أو قصر فقد حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء.
وذبح هدي التمتع والقران لا يصح إلا بعد طلوع الشمس يوم النحر فلو رمى قبل الفجر فإنه لا ينحر حتى تطلع الشمس.
ومما ينبغي التنبيه عليه:
الأول: أن صعود جبل الرحمة بعرفة تقربًا بدعة، لأنه لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من سلف الأمة الصالح أنه صعد الجبل يوم عرفة تقربًا، وكان موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أسفل الجبل عند الصخرات، وقال: «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» رواه مسلم.
الثاني: الحلق أفضل من التقصير، والتقصير لابد فيه من الإتيان على جميع الرأس لا على كل شعرة شعرة.
الثالث: ترك البقاء في منى في نهار أيام التشريق وهو (أي البقاء بمنى) مشروع لأجل رمي الجمرات وإقامة ذكر الله، وإن كان غير واجب فإنه من السنة.
الرابع: تفرق الجماعات للصلوات الخمس، في منى وعرفة ومزدلفة، كل فرقة يصلون في خيمتهم وحدهم، وهذا لا ينبغي لأن ذلك مخالف للسنة، بل السنة أن يصلي الحاج المسلم مع أكثر عدد ممكن إذا وجد مكانًا، وإذا لم يجد فالتفرق جائز.
الخامس: من الناس من يصور أو يصور حال إحرامه، وفي وقوفه بالمشاعر، والتصوير حرام في كل زمان ومكان، ولكنه يغلظ تحريمه في تلك المشاعر بل هو من الإلحاد في تلك المشاعر، والله عز وجل يقول: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25].
السادس: من الناس من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثناء حجه، وترك الأمر والنهي مع الاستطاعة وعدم المفسدة، حرام في كل وقت يأثم تاركه، ولكن ترك الأمر والنهي في حرم الله يكبر فيه الذنب ويعظم الإثم ويغلظ.
السابع: من الحجاج من يجادل في الحج، وقد يكون بخلاف مع رفقته، أو بأسباب المزاح الزائد عن المباح ونحو ذلك، وقد لا يحصل جدالهم إلا في آخر حجهم، وكل هذا من كيد الشيطان ومكره ليفوت على الحاج وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» ـ أي بغير ذنب ـ.
فعلى الحاج أن يحذر من الجدال والخصومة، وأن يبتعد عن الفسوق، من غيبة ونميمة وشرب حرام كدخان ونحوه، وأن يغض طرفه عن النظر إلى الحرام والاستماع إليه، وأن يجتنب الرفث، لقوله تعالى: ]الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
أيها الحجاج! أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي التجارة التي لا تبور، وأحثكم على مراقبته سبحانه وتعالى، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فشمروا لطاعته واحذروا التواني والفتور، وحافظوا على أداء الفرائض والسنن، وافزعوا إلى كتاب الله فنعم المفزع عند البلايا والمحن والملاذ عند مضلات الفتن.
الركن الثالث: طواف الإفاضة:
وهو طواف الحج، والطواف هو الدوران حول البيت سبعة أشواط بنية الطاعة والعبادة وأول وقت طواف الإفاضة من غيبوبة القمر ليلة النحر بعد المبيت بالمزدلفة وفعله يوم النحر أفضل، ويجوز تأخيره، وإن أخره عن أيام منى جاز، وله شروط وسنن ومكروهات.
شروط الطواف:
الأول: النية عند الشروع في الطواف إذ الأعمال بالنيات فكان لابد للطائف من نية طواف، وهي عزم القلب على الطواف تعبدًا له تعالى وطاعة له ـ عز وجل ـ
الثاني: الطهارة من الحدث والخبث لحديث: «الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان.
الثالث: ستر العورة، لحديث: «ولا يطوف بالبيت عريان» متفق عليه.
الرابع: أن يكون البيت على يسار الطائف لحديث جابر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا» رواه مسلم.
الخامس: أن يكون الطواف سبعة أشواط، وأن يبدأ بالحجر الأسود بأن يقف مقابل الحجر الأسود بكله فيستقبله استقبالًا في أول مرة، وبعد ذلك كلما أتى عليه استقبله بوجهه، لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الصحيح، فيكون تفسيرًا لمجمل قوله تعالى: ]وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 29].
فمن ترك شيئًا من السبعة الأشواط ولو قليلًا، أو سلك الحجر لم يصح ولم يجزئه طوافه.
سنن الطواف:
الأول: يستحب إذا رأى الحاج البيت أن يرفع يديه كرفع يديه للدعاء ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً وبرًا وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةًَ وبرًا" رواه الشافعي وغيره مرسلًا ونحوه عند الطبراني وسمعه سعيد بن المسيب من عمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمن رأى البيت قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد في حالة سيره إلى البيت.
الثاني: الاضطباع:
والاضطباع هو كشف الضبع، أي الكتف اليمنى ولا يسن إلا في طواف القدوم خاصة، وللرجال دون النساء، ويكون في الأشواط السبعة عامة، وقال بعضهم: مع الرمل فقط.
الثالث: تقبيل الحجر الأسود إن أمكن، وإلا اكتفى باستلامه بيده أو الإشارة بيده اليمنى عند تعذر ذلك، ولا يرفع يديه كما يكبر للصلاة، كما يفعله من لا علم عنده بل هو من البدع.
الرابع: قول "بسم الله والله أكبر" عند ابتداء الطواف، أي بسم الله أطوف، والله أكبر من كل شيء، وفي لفظ آخر في الحديث أنه قال: "لا إله إلا الله والله أكبر".
الخامس: الرمل، والرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطا.
السادس: الإكثار من الذكر والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الطواف، والدعاء غير محدود ولا معين، بل يدعو كل طائف بما يفتح الله عليه غير أنه يسن ختم كل شوط بين الركن اليماني والحجر الأسود بقول: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" لحديث عبد الله بن السائب، رواه أحمد وغيره.
وإن قال: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" فحسن لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إن الله وكل بالركن اليماني سبعين ألف ملك، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قالوا: آمين» رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف.
السابع: أن يكون في طوافه خاشعًا متخشعًا، حاضر القلب ملازم الأدب بظاهره وباطنه، وفي هيئته وحركته ونظره، فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها، ويستشعر بقلبه عظمة من يطوف بيته.
الثامن: صلاة ركعتين بعد الفراغ من الطواف خلف مقام إبراهيم إن سهل، وإلا ففي أي مكان من الحرم، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: 125]، يقرأ فيهما بسورتي الكافرون والإخلاص بعد الفاتحة، لحديث جابر رواه مسلم.
تنبيهات:
مما ينبغي التنبيه عليه من المخالفات مما هو ليس بمشروع:
الأول: النطق بالنية عند الطواف، وذلك من البدع كالنطق بها عند الصلاة.
الثاني: لا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين.
فالركن الأول الذي فيه الحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان، وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم، وحجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومغارة إبراهيم، ومقام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي يصلي فيه، وصخرة بيت المقدس كل هذه لا تستلم ولا تقبل، بل استلامها وتقبيلها من البدع في الدين، وإن فعل ذلك للتبرك فهو من الشرك، سواء كان التبرك بالكعبة أو بغيرها.
الثالث: المزاحمة لاستلام الحجر وتقبيله وذلك من المنهي عنه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «إنك رجل قوي فلا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلم» رواه أحمد.
فاستلام الحجر سنة وترك الإيذاء واجب والعمل بالواجب هو الحق.
وأما النساء: فيتأكد النهي في حقهن، فلا يجوز لهن أن يزاحمن الرجال لاستلام الحجر لما في ذلك من المفاسد منهن وبهن، فليتق الله أولياء النساء، ولا يزاحموا بينهن الرجال لاستلام الحجر الأسود.
الرابع: الإيذاء بقول أو فعل إذ أذية المسلم حرام ولاسيما في بيت الله تعالى، بل عليه أن يلاحظ جلالة البقعة، ويتلطف بمن يزاحم ويعذره ويرحمه، لأن الرحمة ما نزعت إلا من شقي.
الخامس: الكلام إلا بخير، لحديث: «فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير».
مكروهات الطواف:
الأول: يكره في الطواف أن يشبك أصابعه، أو يفرقع بها، كما يكره ذلك في الصلاة.
الثاني: يكره أن يطوف وهو يدافع البول، أو الغائط، أو الريح أو وهو شديد التوقان إلى الأكل وما في معنى ذلك، كما تكره الصلاة في هذه الأحوال.
الثالث: يلزم الطائف أن يصون نظره عمن لا يحل النظر إليه من امرأة أو أمرد حسن الصورة، لاسيما في هذا الموطن الشريف.
الرابع: يصون نظره وقلبه عن احتقار من يراه من الضعفاء وغيرهم، كمن في بدنه نقص، وكمن جهل شيئًا من المناسك أو غلط فيها، بل ينبغي أن يعلم الصواب برفق.
وقد جاءت قصص في تعجيل عقوبة كثير ممن أساء الأدب في الطواف كمن نظر إلى امرأة ونحوها.
الركن الرابع: السعي:
وهو السعي بين الصفا والمروة بنية العبادة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158].
فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لابد منه لأن شعائر الله عظيمة لا يجوز التهاون بها، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى رضي الله عنه: «طف بالبيت وبالصفا والمروة» رواه مسلم.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أحمد وله طرق يقوي بعضها بعضًا.
شروط السعي:
الأول: النية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» فكان لابد من نية العبادة بالسعي، طاعة لله تعالى وامتثالًا لأمره جل وعلا.
الثاني: إكمال العدد سبعة أشواط ذهابه سعية ورجوعه سعية يبدأ بالصفا ويختم بالمروة فلو نقص الساعي شوطًا أو بعض الشوط لم يجزئه، إذ حقيقته متوقفة على تمام أشواطه.
الثالث: وقوع السعي بعد طواف صحيح، سواء كان الطواف ركنًا، كطواف الإفاضة، أو سنة كطواف القدوم.
وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم أن السعي لا يصح إلا بعد طواف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسع في حج ولا عمرة إلا بعد الطواف، وقد قال: لتأخذوا عني مناسككم. فعلينا أن نأخذ ذلك عنه.
واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف: بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك، قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجًا فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو قدمت شيئًا أو أخرت شيئًا، فكان يقول: «لا حرج ولا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك».
قال النووي في شرح المهذب في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور: وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره وهو أن قوله «سعيت قبل أن أطوف» أي سعيت بعد طواف الإفاضة، والله تعالى أعلم.
سنن السعي:
الأول: الموالاة بينه وبين الطواف بحيث لا يفصل بينهما بدون عذر شرعي.
الثاني: الوقوف على الصفا والمروة للدعاء فوقهما ويكبر ثلاثًا، لحديث جابر: فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾، ابدأ بما بدأ الله به، فرقي الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، ثم قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا". رواه مسلم.
ولا يرفع يديه على الصفا والمروة: كما يكبر للصلاة، بل يرفع يديه كرفعهما للدعاء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: فلما فرغ ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ من طوافه «أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء أن يدعو رواه مسلم».
الثالث: الخبب وهو سرعة المشي بين الميلين الأخضرين على حافتي الوادي القديم الذي خبت فيه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام وليس هو الركض كما يفعله بعض الناس.
الرابع: أن يستحضر الساعي في نفسه ذله وفقره وحاجته إلى الله تعالى في هداية قلبه وتزكية نفسه وإصلاح حاله.
الخامس: الإكثار من الذكر والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لحديث: «إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عز وجل» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
تنبيهات
الأول: من واجبات الحج والعمرة، طواف الوداع ويرخص للحائض والنفساء في تركه، لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» رواه مسلم.
وعنه أيضًا: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض» متفق عليه.
ولحديث الحارث: «من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت» رواه أحمد والترمذي.
ومن أخّر طواف الإفاضة إلى حين سفره كفاه عن طواف الوداع، إلا أنه عند الطواف لا ينويه لهما جميعًا، أي لطواف الإفاضة وطواف الوداع، بل ينويه عن طواف الإفاضة، لأنه ركن ويكفيه عن طواف الوداع.
الثاني: شد الرحل من مكة إلى المدينة لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - منهي عنها بل لا يجوز للمسلم أن يسافر من أجل القبور ولا شد الرحل للصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة، فإن من الناس من يشد الرحل في رمضان لصلاة التراويح وهو منهي عنه إلا للمساجد الثلاثة فإنه مما يثاب عليه ويؤجر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه.
لكن يستحب السفر لزيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما زيارة القبور بدون شد رحل فمستحبة.
الثالث: المال الذي يجعل لمن ينوب في الحج عن ميت أو حي فهذا إن أخذه المنوب ليحج لاشتياقه للبيت ومشاعر الحج وللعمل الصالح لما فيه من زيادة الفضل فهذا هو الذي تصح نيابته وحجه.
وأما الذي لا يحج إلا من أجل المال فهذا لا تصح نيابته ولا يصح حجه لأن عمله باطل ولا ثواب له في الآخرة لأنه قصد بعمله الدنيا، ومن قصد بعمله الذي يبتغي به وجه الله الدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب، وأكثر من يسافر لأخذ الوصايا بالحج إنما قصدوا هذا الثاني، والله أعلم بما تنطوي عليه الضمائر من الإرادات والنيات والمقاصد.
الرابع: التكبير المقيد يبتدئ من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، عقب الصلوات المكتوبات.
والتكبير المطلق يبتدئ من أول عشر ذي الحجة، وهي الأيام المعلومات، وينتهي بانتهاء أيام التشريق وهي الأيام المعدودات لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 203].
والمخاطب بهذا الذكر الحاج وغير الحاج، وفي الحديث المرفوع: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» رواه مسلم.
وقال البخاري: "وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعًا".
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إليه، واذكروه واستغفروه كثيرا، وكبروه في هذه الأيام المعلومات، وصونوا أعيادكم عن كل ما لا يجوز، احفظوها رحمكم الله عن كل ما يرديكم، واعمروا أيامها بالذكر والحمد والشكر، لتفوزوا في الدنيا والآخرة. جعلني الله وإياكم ممن إذا ذكر تذكر وأناب وإذا دعي إلى طاعة الله سمع وأجاب.
وهذا ونسأل المولى جل وعلا أن يمنحنا الفقه في الدين ويعلمنا التأويل ويجعلنا من العلماء العاملين وذرياتنا وذرياتهم إلى يوم الدين، كما نسأل سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالعفو والعافية والستر والمغفرة والرحمة وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
اعملوا أن الأضحية سنة مؤكدة، على كل من قدر عليها من المسلمين المقيمين والمسافرين، لقوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر: 2] وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من ذبح قبل الصلاة فليعد» متفق عليه.
وقول أبي أيوب الأنصاري: كان الرجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته. رواه الترمذي.
ولا يعني هذا أنه لا يزاد على شاة وإنما هذا هو المتأكد الذي لا ينبغي أن يترك، وأما من رغب في الزيادة وهو مستطيع وأراد أن يخص والديه أو غيرهما بأضحية أو أكثر سواء كانا حيين أو ميتين فله ذلك، لأنه عمل صالح.
ويشهد لسنية الأضحية وما فيها من الفضل العظيم، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسًا» رواه الترمذي وابن ماجه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قالوا له ما هذه الأضحية؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: «بل شعرة حسنة» قالوا: فالصوف يا رسول الله؟ قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» رواه ابن ماجه.
ومن الحكم في مشروعية الأضحية: التقرب إلى الله تعالى بها إذ قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 162، 163].
والنسك هنا هو الذبح تقربًا إلى الله تعالى.
ومنها: إحياءً لسنة إمام الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ أوحى الله إليه أن يذبح ولده إسماعيل. ثم فداه بكبش فذبحه بدلًا عنه، كما قال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: 107].
ومنها: التوسعة على العيال يوم العيد وإشاعة للرحمة بين الفقراء والمساكين كما قال سبحانه: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28].
ومنها: شكر الله تعالى على ما سخر لنا من بهيمة الأنعام، قال الله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 36، 37].
ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئًا.
ولا يجزئ في الأضحية من الإبل إلا ما تم له خمس سنين، ومن البقر إلا ما تم له سنتان، ومن المعز سنة، ومن الضأن ستة أشهر.
ويشترط سلامتها من العيوب، لحديث البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي» رواه الخمسة.
وعن علي رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة، ولا خرقاء وثرماء" رواه الخمسة.
وأما وقت ذبح الأضحية فهو بعد صلاة العيد فلا تجزئ قبله، ويستمر الذبح إلى آخر أيام التشريق، وأما الوكالة في ذبحها فجائزة إلا أنه يستحب أن يباشر المسلم أضحيته بنفسه وكذلك المرأة، فقد كان أبو موسى يأمر بناته أن يضحين بأيديهن. ذكره البخاري تعليقًا.
وإن أناب المضحي غيره في ذبحها جاز.
ويستحب أن يوجه الأضحية عند الذبح إلى القبلة لحديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجههما: «﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 79]، ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163] باسم الله والله أكبر، اللهم منك، ولك عن محمد وأمته» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وإذا باشر الذبح وجب أن يقول: "بسم الله"، وسن أن يزيد: "والله أكبر اللهم هذا منك ولك، ويسن أن يأكل من الأضحية ويهدي ويتصدق أثلاثًا".
والذبح هو: إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع عبادة لله تعالى، إذا قصد الذابح بنحره تعظيم المذبوح له وهو الله جل وعلا، والتذلل له والتقرب إليه وذلك بذبح القرابين لله تعالى، من الضحايا والهدايا وغيرها، عن حي أو ميت من المسلمين.
فهذا الذبح عبادة لله تعالى من أفضل العبادات، وأجل القربات إلى الله تعالى لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ أي ذبحي، ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾ أي ما أحيا عليه من العمل الصالح وما أموت عليه ﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ فجمعه سبحانه بين هاتين العبادتين. أي الصلاة والذبح، مما يدل على فضل الذبح لله وأنه من أفضل العبادات والقربات، كما جمع بينهما بقوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، أي أخلص لربك الصلاة ونحر البدن ونحوها على اسمه وحده جل وعلا.
فالصلاة أفضل العبادات البدنية والذبح أفضل العبادات المالية وسواء أهدى الثواب لحي أو ميت، وإنما كان الذبح أفضلها لأنه يجتمع فيه أمران.
الأول: أنه طاعة لله تعالى.
الثاني: أنه بذل ماله وطابت به نفسه، والبذل مشترك في جنس المال كالصدقة بالدراهم عن حي أو ميت، لكن زاد الذبح على غيره في الفضل، لما يجتمع للذابح لله تعالى عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن بالله ما يكون به أفضل من جنس الصدقة.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها لمواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليها، قال ابن عمر رضي الله عنه: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين يضحي" رواه أحمد والترمذي.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها" ولا يعتبر الإكثار من الذبح لله من الإسراف، سواء كان في وقت الأضحية أو في غيره من أيام السنة.
والذبح عبادة مشتملة على تعظيم الله تعالى وإظهار شعائر دينه كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، ولا يكون أضحية إلا ما ذبح في يوم النحر وأيام التشريق، وما ذبح في غير هذا وقصد به التقرب إلى الله تعالى فهو عبادة، ولا يسمى أضحية.
ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير النحر كثير الصلاة، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة رضي الله عنها وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد».
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه ولو زاد في الهدايا والأضاحي فإن نفس الذبح وإراقة الدم مقصود، فإنه عبادة مقرونة بالصلاة كما قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ففي كل ملة صلاة، ونسكة لا يقوم غيرهما مقامهما.
ولذا لو تصدق عن دم المتعة والقران بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه، وكذلك الأضحية" انتهى كلامه رحمه الله.
فللمسلم أن يضحي عن أبيه وعن أمه، أو عن غيرهما من المسلمين والمسلمات سواء الأحياء والأموات، ويخص من يشاء منهم بأضحية، والدليل على ذلك هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص أهل التوحيد من أمته بأضحية، وليس في الحديث أنه خصص بها الأحياء دون الأموات، بل هو مطلق يدل بمفهومه على جواز التضحية عن الغير من الأحياء أو الأموات.
كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أملحين أقرنين موجوأين، فذبح أحدهما عن أمته ممن شهد لله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، والآخر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وآل محمد، رواه الإمام أحمد، فهذا مما يدل دلالة واضحة على مشروعية التضحية عن الغير وتخصيصه بها.
وأما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضح عن عمه حمزة ولا عن غيره، فهذا لا يدل على عدم مشروعية التضحية عن الغير.
أولًا: لأنه قد شرعت التضحية عن الغير في الحديث المتقدم.
ثانيًا: أن هناك كثيرًا من الأعمال لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمه كالصدقة والحج والعمرة والوقف وغير ذلك، فلو كان هذا دليلًا لعدم التضحية عن الغير مع وجود الدليل لمنع من كثير من أعمال البر والإحسان.
ولكن ليس هذا بدليل عند أهل العلم، لأنه قد دل دليل على المشروعية المطلقة، ولأن التضحية عن الغير نوع من الصدقة تصح عن الميت كما دلت على ذلك النصوص، والميت المسلم بحاجة شديدة إلى إهداء الثواب من الأحياء وإهداء الثواب من المسلم إلى الأحياء والأموات سواء كان بأضحية أو بحج أو بعمرة أو بصدقة بمال أو إطعام طعام في شهر رمضان أو غيره كل ذلك جائز ويثاب عليه المهدي والمهدى له من الأحياء أو الأموات عند أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا من كان من أهل البدع.
كما قرره ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث قال: "أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة".
وقال أيضًا في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾: "وقالت طائفة أخرى: القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها" اهـ.
وقال البخاري في صحيحه "باب من مات وعليه نذر". وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء، فقال صل عنها، وقال ابن عباس نحوه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه" ذكره المجد وغيره.
وقال في "الروض المربع": "فأي قربة من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك، فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي، نفعه ذلك. اهـ. وأما إذا أوصى الميت بأضحية أو أضاحي في ثلث ماله فإنه يجب على الوصي تنفيذ ذلك، ولا يجوز له التصدق بثمن الأضحية، لأنه خلاف السنة وتغيير للوصية المشروعة".
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا شعائره وانتقوا ضحاياكم واستسمنوها وتحروا بصدقاتكم منها فقراءكم وبهداياكم منها أرحامكم وجيرانكم.
معشر المسلمين! راقبوا ربكم وأخلصوا له العبادة فهو كاشف الضر وجالب النفع، مجيب دعوى المضطر إذا دعاه، لا إله إلا هو الرحيم الذي يرحم من عباده الرحماء، فكم ستر عاصيًا وقد بارزه بأنواع الفساد ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30].
فاستعدوا للقاء هذا الرب العظيم بالتوحيد، وأعدوا للقدوم عليه صالح العمل وخالصه، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، وفكروا في أنفسكم وما اشتملت عليه من العيوب، وحاسبوها على ما اكتسبته من الذنوب، فأي نفس منا لم تحمل ظلمًا، وأي جارحة من جوارحنا لم تقترف إثمًا، وأي عمل من أعمالنا يليق بذلك المقام، وأي وقت من أوقاتنا تمحص للطاعة وخلا عن الآثام، فلينوا قلوبكم بذكر الموت، عساها أن تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنه الحق اليقين وذكروها بتدبر قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 6].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [النبأ: 40].
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: 19].
وقوله تعالى: ]يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 30].
هذا ونسأل المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه أن يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، كما نسأله سبحانه أن يمنحنا الفقه في الدين ويعلمنا التأويل ويجعلنا من العلماء العاملين وذرياتنا وذرياتهم إلى يوم الدين، ونسأله جل وعلا أن يمن علينا بالعفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.