Description
علامات قبول الحج: ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بالمسجد النبوي بتاريخ 20 - 12 - 1431 هـ، والتي تحدَّث فيها عن علامات قبول الأعمال الصالحة عمومًا، وقبول الحج بوجهٍ خاص، وتوجَّه بالنصح لكل حاجّ بضرورة المحافظة على حجِّه وأن تظل صحيفته بيضاء، وأن يكون قدوةً لغيره في الصلاح والهدى.
نبذة مختصرة عن الخطبة:
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "علامات قبول الحج"، والتي تحدَّث فيها عن علامات قبول الأعمال الصالحة عمومًا، وقبول الحج بوجهٍ خاص، وتوجَّه بالنصح لكل حاجّ بضرورة المحافظة على حجِّه وأن تظل صحيفته بيضاء، وأن يكون قدوةً لغيره في الصلاح والهدى.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
تفضَّل الله على خلقه بتنوُّع العبادات، منها ما هو باطنٌ في القلب، ومنها ما هو ظاهرٌ على الجوارح، وأركان الإسلام والإيمان مدارُها على ذلك.
وقد عاد الحجيجُ من بيت الله والمشاعر بعد أداء أطول عبادةٍ بدنية.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ على أول حَجَّةٍ حُجَّت من مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلم المناسك أدق ما في العبادات، ولولا سعة علم أبي بكرٍ لم يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرًا على الحج في السنة التاسعة، ليُعلِّم الناسَ أحكام الحج؛ لأنه أفقه الصحابة".
في الحج تظهر عظمة الإسلام في توحيد الشعوب على الحق، وجمعهم على كلمة الإسلام، يقصِدون مكانًا واحدًا، ويدعون ربًّا واحدًا، ويتَّبِعون نبيًّا واحدًا، ويتلون كتابًا واحدًا، فيه تزولُ فوارقُ زُخرف الدنيا، ويظهر الخلقُ سواسيةً لا تمايُز بينهم في المظهر، فالجميع في لباسهم كلباس الأكفان، والله - سبحانه - يُظهِرُ آياتٍ لخلقه على صدق رسله.
فإبراهيم يدعو ربَّه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37]، فاستجاب الله دعاءه، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27].
قال ابن كثير - رحمه الله -: "فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصِدونها من سائر الجهات والأقطار".
والمخلصُ يستجيب الله دعوته ولو بعد مماته، وفي كل عامٍ يظهر أثر دعوة الخليل، فيستجيبُ المسلمون لدعوته، ويقصِدون مع مشقة السفر واديًا لا زرع فيه، ليُظهِروا افتقارهم إلى الله بوقوفهم في عرفات والمشاعر، وذُلِّهم للرب - سبحانه - بتجرُّدهم من المخيط، وحلق رؤوسهم خضوعًا له.
والله - سبحانه - وعد بحفظ هذا الدين، ومع تطاوُل الزمان وتقلُّب الأحوال، ووجود الكثير من الحروب والفتن، والفقر والرخاء، إلا أن هذا الدين بقِيَ ناصعًا تامًّا مُبيَّنًا كأن الوحي نزل اليوم، فيلبسون ما لبِس النبي - صلى الله عليه وسلم - من إزارٍ ورِداء، ويُلبُّون بتلبيته، ويرمون كما رمى، ويطوفون بالبيت كما طاف.
والوفاء من شِيَم الرجال، ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - صبر على الأذى والكروب لتنعَمَ أمته بالهداية، قال لعائشة - رضي الله عنها -: «يا عائشة! لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ»؛ رواه البخاري.
والصحابة - رضي الله عنهم - هجَروا الأوطان وتغرَّبوا في البلدان لحمل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبليغها بعزمٍ وأمانة، ونشر الإسلام في الآفاق بالدعوة والقدوة.
وواجبٌ على المسلم أداء حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدَّمه لهذا الدين؛ من محبته - عليه الصلاة والسلام - والتأسِّي به، والوفاء لصحابته - رضي الله عنهم - بمحبتهم، والترضِّي عنهم، والذبِّ عنهم.
والإخلاص لله في كل عملٍ شرطٌ في قبوله، والله غنيٌّ عزيز، لا يقبل عملاً لم يُرَد به وجهه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغِي به وجهُه»؛ رواه أبو داود.
ومن أدخل في عبادته رياءً أو سمعة أو ابتغى مدح الناس له لم تُقبَل منه عبادتُه، ولن يكون له منها سوى التعب والنَّصَب، قال الله - عز وجل - في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمِل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِركَه»؛ رواه أحمد.
ومن أخلص لله تقبَّل الله عمله وضاعَف أجره، قال - سبحانه -: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة: 261].
قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: بحسب إخلاصه في عمله".
ومن اقتفى أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجِّه حريٌّ به التأسِّي به في شأنه كله، وذلك سبيل الظَّفَر والفلاح، قال - عز وجل -: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضِلُّوا: كتابَ الله وسنتي»؛ رواه مسلم.
والنعمُ تدومُ وتزيدُ بالشكر، ومن أدَّى عبادةً وحمِدَ الله عليها يسَّر الله له عبادةً بعدها لينالَ ثوابَها، قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17]، ولذا شُرِع قولُ: (الحمد لله) ثلاثًا وثلاثين مرة دُبُر كل صلاة مفروضة، لشُكر الله على أداء تلك الفريضة.
وأمارةُ قبول العمل الصالح: الحسنةُ بعده، قال سعيدُ بن جبير - رحمه الله -: "من ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئةِ السيئةُ بعدها".
والمسلم إذا فرغَ من عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرى، قال - سبحانه -: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7].
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "أي: فادأَب في العمل".
ولا تنقطعُ عبادةُ المسلم إلا بالموت، كما قال - سبحانه -: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
وإذا عمل المسلم عملاً صالحًا وَجَبَ عليه حِفظُه بالحَذَر من الوقوع في الشرك؛ إذ هو يُحبِط الحسنات، قال - جل وعلا -: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سلَبَ رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشغَلَه برؤية ذنبه".
وسؤالُ الله قبول العمل الصالح من صدق الإيمان، بنى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الكعبة ودعا ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127].
والثبات على الدين من عزائم الأمور، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثبِّت قلوبنا على دينك»؛ رواه ابن ماجه.
ومن لبَّى في حجِّه بالتوحيد، وكبَّره في العيد، وجَبَ عليه الوفاء بوعده مع الله، وذلك بألاَّ يدعو سواه، ولا يلجأ إلى غيره، ولا يطوف بغير الكعبة، قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13].
ومن توجَّه إلى الله أعانه، قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69].
وليس من شرط صحة الحج زيارةُ المدينة؛ بل قصدُ مسجدها سنةٌ رغَّب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - للحاج وغيره بالصلاة فيه، فهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشدُّ الرِّحال إلا إليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»؛ متفق عليه.
وصلاةٌ فيه عن ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام.
ومن وصل إلى المدينة وسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فمن المشروع له زيارةُ مسجد قُباء، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من تطهَّر في بيته ثم صلَّى في مسجد قُباء كان له أجر عُمرة»؛ رواه ابن ماجه.
ويُشرع له زيارةُ مقبرة البقيع وشُهداء أُحُد للدعاء لهم وللعِظَة والعبرة بتذكُّر الآخرة.
والميت لا يملك لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا، ولا يتعلَّق به، وإنما يُدعَى له بالمغفرة والرضوان، ومن يُدعَى له لا يُدعَى ما الله، قال - سبحانه -: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106].
والمُوفَّق من اجتهد في طاعة ربه، وسارَ على هدي نبيِّه - عليه الصلاة والسلام -، وحاسَبَ نفسَه في حياته، وسارَع إلى الخيرات، وفاز بالباقيات الصالحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
من أدَّى فريضة الحج حرِيٌّ به بعد أداء هذا الركن أن يحفَظَ صحيفته بيضاء نقيَّة؛ فإنه من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كيوم ولدَتْه أمُّه، وأن يكون قدوةً لغيره في الصلاح والاستقامة والتفقُّه في الدين، والمحافظة على الصلوات جماعةً في بيوت الله، ويجبُ أن يكون داعيًا بالحكمة والموعظة الحسنة، مُبتدئًا دعوته بذوي القُربى، وصادقًا مع ربه في دعوته وفي سائر أعماله.
فالزَموا سنة نبيكم - عليه الصلاة والسلام -، وأخلِصوا لربكم، واحرِصوا على نفع إخوانكم المسلمين، وتعليمهم ما ينفعهم وما يُصلِحهم من أمور الدين، فلئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمُر النعم.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مُطمئنّا رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم، واغفر ذنبنا وذنبهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وعملهم مُتقبَّلاً يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، وأسبِغ عليه لباس الصحة والعافية يا رب العالمين، واشفِه مما ألَمَّ به يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
اللهم اهدِنا وسدِّدنا ويسِّر الهدى لنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.