الوصف
انتصار الحق: رسالة صغيرة عبارة عن محاورة هادفة حصلت بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين يدينان بدين الحق، ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما مدة طويلة، ثم التقيا فإذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن سبب ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون.
الحمدُ لله مدبر الليالي والأيام ومصرف الشهورِ والأعوام المَلكِ القُدُوسِ السلامِ، والصلاةُ والسلامُ على المبعوث رحمة وشفيعًا للأنامِ وعلى آله وأصحَابِه البررِة الكرام. أما بعدُ ..
فيسرني أن أقدم هذه المحاورة اللطيفة التي دبجها يراع عالمٍ جليلٍ وسماها (انتصارُ الحق)، والحقُ منتصر لا محالة، فوافق اسمها مسماها وطابقَ لفظها معناها فجاءت قوية في ألفاظها عَميقة في معنَاها، رَائدَة في منهَجِها رائعة في ثَمرتِها، وقَد كَانت هذه المحاورةُ في أصِلها مقالات نُشِرت في أعدادٍ من مجلة المنهَلِ في عام 1367هـ.
ونظراً لأهميتها ومَسيس الحاجَةِ لها حَيث تُخاطب عُقُولَ الكثيرينَ ممن بهرتهم الحضارةُ الغربية فانطمست بصيرتُهم وأخذوا يُروجونَ لها ويفتخِرونَ بها إما عن جَهل حينا، وإما عن عَداوةٍ وكيدٍ لدينهم أحياناً. نظراً لذَلَك كلِّه أحببتُ تقديم هذه المحَاورة بثَوبٍ جَديدٍ مُعلِّقًا على ما يَحتاج إلى تَعليق، وقد قدمتُ لها بترجَمَة موجَزَة مستلة من الترجمة الضَّافية لعلامَة القَصِيم والتي سَتَرى النور قريباً إن شَاءَ الله([1])، وإني بهَذه المنُاسَبة أشكر كلَّ من كانَ له يدٌ في إخراجها مَشورة وفكرَة وطَلَباً فلهؤلاء جَزيل الشُّكرِ وخَالص الدعاءِ؛ والله أسأل أن يوفقَ الجَميعِ لما يحبُ ويرضَى وأن يرحمَ المؤلفَ ويَفتحَ له في مَنَازله ويرفَعَ درجتَهِ مع الذين أنعَمَ الله عليهم مِن النبيَّيينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ والصَالحينَ وحسنُ أولئكَ رفيقاً.
وصلى الله عَلى نَبينا مَحمدٍ وعلى آلهِ وصَحبِه وسلَّمَ تَسليماً كَثيرَاً .
كتبه
أبو محمد عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
في ضحوة الجمعة 4/4/1412هـ
الزلفي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فقد طبعت هذه الرسالة بتقديمي وتعليقي عام 1412هـ، أي قبل أربعة عشر عاماً، وقد نفع الله بها نفعاً عظيماً، وهاهي الطبعة الثانية الخيرية بعناية المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بالربوة بالرياض والتي يرجى لها أن يتحقق بها النفع كما تحقق ـ ولله الحمد ـ بسابقتها .
ورغبة في الاختصار والتيسير على القارئ رغب الإخوة في المكتب حذف الترجمة، والإحالة على ترجمتي الموسعة للشيخ المطبوعة مستقلة بعنوان (صفحات من حياة علامة القصيم ) الشيخ عبدالرحمن السعدي والتي نشرت عام 1413هـ.
وحيث أن عمل الإخوة من باب الاحتساب فقد أذنت لهم بطباعتها بعد الأخذ بالملحوظات التي دونتها على المطبوعة، سائلاً الله ـ جل وعلا ـ أن يوفق القائمين على المكتب لما فيه الخير والصلاح للبلاد والعباد، وأن يجزي كل عامل للإسلام خيراً، وأن يثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يرزقنا وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
وكتب
أ.د عبدالله بن محمد بن أحمد الطيار
مكة المكرمة
مساء الخميس :6/7/1426هـ
أقبل ابنُ سعدي –رحمه الله – على العلمِ إقبالاً منقطع النظير وصرف له وقته وجهده فحصَّل الشيءَ الكثيرَ وتمكن في مختلفِ العلومِ والمعارفِ مما جعله يتأهلُ للتدريسِ والتعليمِ في زمنٍ مبكرٍ من عمره فتوافد إليه الطلابُ من كل مكانٍ وأصبحت حلقاتُه تعجُّ بالدارسين ينهلون من مختلفِ العلوم.
وقد سلك ابنُ سعدي طريقَةً حديثَةً في التعليمِ حيثُ كان يحاورُ تلاميذه ويناقشُهم ويطرحُ المسائلَ عليهم ويطلبُ منهم إعادَة الدرسِ، وكثيرًا ما كان يسألُ عن درسِ الأمسِ ليرى مدى تحصيل الطلاب، وبهذا الأسلوبِ الفريدِ كسبَ الطلابُ واستفادوا كثيراً.
ومع كثرةِ هذه الحلقات وكثرةِ هؤلاء الدارسين فيها اعتنى الشيخُ السعدي عناية فائقةً بالتأليف على غير عادةِ كثير من .علماءِ عصرِه اكتفوا بالحلقاتِ وتعليم التلاميذ لأن التأليف يأخذ منهم وقتًا طويلاً.
أما الشيخ السعدي فقد تركَ مؤلفاتٍ كثيرةً في مختلفِ العلومِ والمعارفِ سلك في تأليفِها طرقًا متعددةً من أنجحِهَا وأنفعِها طريق الحوارِ المفترض بين اثنين يمثلان وجهتي نظرٍ متعارضتين، وهذا اللونُ من التأليفِ أبدعَ فيه ابن سعدي وقرَّبَ فيه مسائل كثيرةً لذهنِ السامعِ والقارىء قد لا يستوعبهُا في التأليفِ المعتادِ.
لقد استطاع الشيخُ –رحمهُ الله – أن يصلَ إلى عقلِ القارئ بكُلِّ يُسرٍ وسهولةِ، وهذه المحاورةُ التي بين أيدينا تمثل نمطًا جديدًا من الكتابةِ طَرَقَه ابنُ سعدي قبل ما يقرب من نصفِ قرنٍ من الزمانِ.
وهذه المحاورةُ اللطيفةُ الهادئةُ جمعت بين قوةِ الحجةِ ووضوحِ المحجةِ وسلامةِ المنهجِ، وبُعدِ النظرِ والبحث عن الأسبابِ وعلاجها ثم الوصول إلى الثمرةِ المرجوةِ، كل ذلك في صفحاتٍ يسيرةِ لا تتجاوزُ العشرين صفحة، فرحِمَ الله ابنَ سعدي وأعلى منـزلتَه في المهديين وجمعنا به في جناتِ النعيمِ.
هذه صورة محاورة بين رجلين كانا متصاحبين رفيقين([3]) مسلمين، يدينان بالدين الحق، ويشتغلان في طلبِ([4]) العلم جميعاً، فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة، ثم التقيا، فإذا هذا الغائب قد تغيرت([5]) أحواله وتبدلت أخلاقه، فسأله صاحبه عن ذلك، فإذا هو قد تغلَّبت عليه دعايةُ الملحدين([6]) الذين يدعون لنبذِ الدين ورفضِ ما جاء به المرسلون. فحاوله صاحبه وقلبه لعله يرجع عن هذا الانقلابِ الغريبِ فأعيته الحيلةُ في ذلك، وعرف أن ذلك علةٌ عظيمةٌ ومرضٌ يَفتقِرُ إلى استئصال الداء ومعالجته بأنفع الدواء وعرف أنَّ ذلك متوقفُ على معرفِة الأسباب([7]) التي حولته والطرق التي أوصلته إلى الحالةِ المخيفةِ وإلى فحصِها وتمحيصِها وتخلِيصها وتوضيحها، ومقابلتِها بما يضادُها ويقمعُها على وجه الحكمةِ والسدادِ، فقال لصاحبه مستكشفاً له عن الحامل له على ذلك:
يا أخي، ما هذه([8]) الأسباب التي حملتك على ما أرى؟ وما الذي دعاك إلى نبذ ما كنتَ عليه؟ فإن كان خيراً كنتُ أنا وأنت شريكين، وإن كان غير ذلك فأعرفُ من عقلك ودينك وأدبك أنني وأنك لا ترضي أن تقيمَ على ما يضُّرك.
فأجابه صاحبه قائلاً : لا أكتمك أني قد رأيتُ المسلمين على حالةٍ لا يرضاها ذوو([9]) الهمم العلية : رأيتهُم في جهلٍ وذلٍ وخمولٍ، وأمورهم مدبرة، وفي الجانب الآخرِ هؤلاء الأجانب قد ترقوا في هذه الحياة وتفننوا في الفنونِ الراقيةِ والمخترعاتِ العجيبةِ المدهشةِ والصناعاتِ المتفوقةِ، رأيتُهم قد دانت لهم الأممُ، وخضعت لهم الرقابُ، وصاروا يتحكمون في الأمم الضعيفةِ بما شاؤوا ويعُدُّونهم كالعبيدِ والأُجراءِ، فرأيتُ فيهم العزَّ الذي بهرني، والتفننَ الذي أدهشني فقلتُ في نفسي : لو لا أن هؤلاء القوم هم القوم وأنهم على الحقِّ والمسلمون على الباطلِ لما كانوا على هذا الوصفِ الذي ذكرتُ لك. فرأيتُ أن سلوكي سبيلهم واقتدائِي بهم خيرٌ لي وأحسنُ عاقبة فهذا الذي صيَّرني إلى ما رأيتَ.
فقال له صاحبه حين أبدى ما كان خافياً : إذا كان هذا هو السبب الذي حوَّلك إلى ما أرى فهذا ليس من الأسباب التي يبني عليها أُولوا الألبابِ والعقولِ عقائدهَم وأخلاقَهم وأعمالَهم ومستقبلَ أمرِهم، فاسمع يا صديقي تمحيص هذا الأمرِ الذي غرك وحقيقَته :
إنَّ تأخر المسلمين فيما ذكرت ليس ناشئاً عن دينهم، فإنه قد علِم كُلُّ من له أدنى نظر وبصيرة أنَّ دينَ الإسلامِ يدعو إلى الصلاحِ والإِصلاح في أمورِ الدين وفي أمورِ الدنيا، ويَحثُّ على الاستعدادِ من تعلمِ العلومِ والفنونِ النافعة، ويدعو إلى تقويةِ القوة المعنوية([10]) والمادية لمقاومة الأعداء، والسلامة من شرهم وأضرارهم، ولم يستفد أحدٌ منفعةً دنيويةً فضلاً عن المنافع الدينيةِ إلا من هذا الدينِ، وهذه تعاليمُه وإرشاداتُه قائمة لدينا تنادي أهلهَا : هَلُمّ إلى الاشتغالِ بجميع ِ الأسبابِ النافعة التي تُعَلِّيكم وتُرقِّيكم في دينكم ودُنياكم. أفبتفريط المسلمين تحتجُ على الدين؟! إن هذا لهو الظلمُ المبينُ !.
أليس من قصورِ النظرِ ومن الهوى والتعصبِ، النظرُ في أحوالِ المسلمين في هذه [الحقبة من الزَّمن] التي تدهورت فيها علومهُم وأعمالُهم وأخلاقُهم، وفقدوا فيها جميع مقوماتِ دينهِم، وتركُ النظر إليهم في زهرة([11]) الإسلامِ والدينِ في الصدرِ الأولِ، حيث كانوا قائمين بالدين، مستقيمين على الدين، سالكين كل طريق يدعو إليه الدين، فارتقت أخلاقُهم وأعمالُهم حتى بلغت مبلغًا ما وصل إليه ولن يصل إليه أحدٌ من الأولين والآخرين، ودانت لهم الدنيا من مشارِقها إلى مغارِبها وخَضَعَتْ لهم أقوى الأمم وذلك بالدين الحقِّ والعدلِ والحكمةِ والرحمةِ، وبالأوصاف الجميلةِ التي كانوا عليها؟!
أليس ضعف المسلمين([12]) في هذه الأوقات يوجبُ لأهلِ البصائرِ والنجدَةِ منهم أن يكون جدُّهم ونشاطُهم وجهادهم الأكبر متضاعفاً، ويقوموا بكل ما في وُسعهم لينالوا المقاماتِ الشامخةَ ولينجُوا من الهُوَّةِ العميقة التي وقعوا فيها؟ أليس هذا من أفرضِ الفرائِض وألزَمِ اللازماتِ في هذا الحال؟ فالجهاد في حالِ قوةِ المسلمين وكثرةِ المشاركين فيه له فضلٌ عظيمٌ يفوق سائرَ العباداتِ، فكيف إذا كانوا على هذه الحالة التي وصفتَ؟ فإن الجهاد لا يمكن التعبير عن فضائله وثمراته. ففي هذه الحالة يكون الجهادُ على قسمين :
أحدهما : السعيُ في تقويمِ المسلمين([13]) وإيقاظ هممهم وبعث عزائمهم وتعليمهم العلوم النافعة، وتهذيبهم بالأخلاقِ الراقيةِ، وهذا أشَقُّ الأمرين وهو أنفَعُهُمَا وأَفضَلُهُمَا.
والثاني : السَّعُي في مقاومةِ الأعداء وإعداد جميع العدد القولية والفعلية والسياسية، الداخلية والخارجية، لمِنُاوَأَتهم والسلامةِ من شرِّهم!.
أفحين صار الأمرُ على هذا الوصف الذي ذكرتَ، وصار الموقف حرجًا تتخلى عن إخوانك المسلمين وتتخلف مع الجبناء والمخالفين؟ فكيف مع ذلك تنضم إلى حزب المحاربين! الله الله يا أخي، لا تكن أقل ممن قيل فيهم :
(تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعُوا) سورة آل عمران : الآية 167.
قاتلوا لأجل دينِكم([14]) أو ادفعوا لأجل قومِكم ووطنكم. لا تكن مثل هؤلاء المنافقين، فأعيذك يا أخي من هذه الحال الذي لا يرضاها أهل الديانات ولا أهل النجدات والمروءات. فهل ترضى أن تشاركَ قومَك في حالِ عزِّهم وقُوَّةِ عددِهم وعنصرهم، وتُفَارِقَهم في حالِ ذلِّهم ومصائِبهم. وتخذلَهم في وقتٍ اشتدت فيه الضرورةُ إلى نصرةِ الأولياء ورد عُدوانِ الأعداء؟ فهل رأيتَ قومًا خيرًا من قومِك أو شاهدتَ دينًا أفضل من دينِك؟
فقال المنصوح : الأمر هو ما ذكرتُ لك، ونفسي تتوقُ إلى أولئك الأقوام الذين أتقنوا الفنون والصناعاتِ، وتَرَقَّوا في([15]) هذه الحياة.
فقال له صاحبه وهو يحاوره : رفضت دينًا قيِّمًا كامل القواعدِ ثابت الأركانِ مشرق البرهانِ، يدعو إلى كل خيرٍ ويحث على السعادِة والفلاحِ، ويقول لأهله هَلُمَّ إلى كل صلاح وإصلاح، وإلى كل خير ونجاح، واسلكوا كلَّ طريق يوصلكم إلى السعادةِ الدُّنيويةِ والأُخرويَّة. دينا مبنيا على الحضارة الراقية الصحيحة التي بنيت على العدلِ والتوحيدِ، وأُسسِّت على الرحمة والحكمة والعلمِ والشفقة وأداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وسَلمت من الظلم والجشعِ والأخلاقِ السافلةِ، وشملت بظلِّها الظلِّيلِ وإحسانِها الطويلِ وخيرها الشاملِ، وبهائها الكامل، ما بين المشارق والمغاربِ، وأقَرَّ بذلك الموافِقُ والمنُصفُ المُخالفُ... أتتركُها راغبًا في حضاراتٍ ومدنياتٍ مبنية على الكفرِ والإلحادِ، مؤسسة على الطمعِ والجشعِ والقسوةِ وظُلمِ([16]) العبادِ، فاقدة لروحِ الإيمانِ ورحمتِه، عادمة لنور العلم وحكمتهِ حضارةٌ ظاهِرهُا مُزَخرَفٌ مُزوّقٌ، وباطِنُها خرابٌ، وتظنها تعمر الوجُوُد، وهي في الحقَيقِة مآلُها الهلاكُ، والتدميرُ؟ ألْم تر آثارها في هذه الأوقاتِ، وما احتوت عليهِ من الآفات والويلاتِ، وما جَلَبَتْه للخَلائِقِ من الهلاكِ والفناءِ والتدميرِ؟.
فَهلْ سمِعَ الخَلقُ مُنذ أوجدَهم الله لهِذِه المجازر البَشرِيَّة التي انتهى إليها شوطُ هِذِهِ الحضارةِ نظيرًا أو مثيلاً، وهل أغْنَت عنهم مَدَنِيتُهُم وحضَارتُهم من عذاب الله من شيء لمّا جاء أمرُ رَبِّك، وما زادتهم غير تتبيب؟ فلا يخدعنك ما ترى من المناظر المزخرفة والأقوال المموهة، والدعاوي العريضة، وانظُرْ إلى بواطن الأمور وحقائقها، ولا تغرنك ظواهِرُهَا، وتأمل النتائجَ الوخيمةَ، والثمراتِ الذميمةَ فهل أسْعَدَتْهم([17]) هذه الحضارة في دنياهم التي لا حياة لهم يرجون غيرها؟! أم تراهم ينتقلون من شرٍ إلى شرورٍ؟ ولا يسكنون في وقت إلا وهم يتحفزون إلى شرورٍ فظيعةٍ ومجازر عظيمة؟ فالقوة والمدنية والحضارة والمادة بأنواعها إذا خلت من الدينِ الحق فهذه طبيعتها وهذه ثمراتها وويلاتها ليس لها أصول وقواعد نافعة، ولا لها غايات صالحة.
ثم هب أنهم مُتِّعُوا في حياتِهم واستُدْرجُوا فيها بالعزِّ والرياسةِ ومظاهرِ القوةِ والحياةِ، فهل إذا انحزت إليهم وواليتَهم يُشركونَك في حياتِهم ويجعلونَك كأبناءِ قومِهم؟ كلا والله، إنهم إذا رضوا عنك جعلوك من أرذلِ خُدَّامِهم! وآية ذلك أنك في ليلِك ونهارِك تكدحُ في خدمتِهم، وتتكلمُ وتجادلُ وتخاصم على حسابهم، ولم ترهم رفعوك حتى ساووا معك أدنى قومِهم وبني جنسِهم!! فالله الله يا أخي في دينِك([18]) وفي مُرُوءتِك وأخلاقِك وأَدبِك!! والله الله في بقية رمقِك!! فالانضمام إلى هؤلاء والله هو الهلاك.
فقال له المنصوح : لقد صدقتَ فيما قلتَ، ولكن لي على هذا المذهبِ أصحابٌ مثقفون .. ولي على هذا الرأي شبيبة مهذبون. قد تعاقدتُ معهم على التمسك بالإلحاد واحتقار المستمسكين بدين ربِ العبادِ، قد أخذنا نصيباً وافرًا من اللذاتِ، واستبحنا ما تدعو إليه النفوسُ من أصنافِ الشهواتِ فَأنَّى لي بمقاطعة هؤلاء السادة الغرر، وكيف لي بمباينتهم وقد اتصلت بهم غاية الاتصال؟! فالآن يتنازعني داعيان : داعي الحق – بعدما بان سبيلُه واتضح دليلُه – وداعي النفس والاتصال بهؤلاء الأصحاب المنافي للحق غاية المنافاة، فكيف الطريق الذي يريحني ويشفيني، وما الذي عن هذا الأمر([19]) يسليني؟
فقال له صاحبه الناصح : ألم تعلم أن من أوجب الواجباتِ وأكبرِ فضائلِ الرجل اللبيب أن يتبعَ الحقَ الذي تبين له ويدعَ ما هو فيه من الباطلِ، وخصوصًا عند المنازعاتِ النفسية والأغراضِ الدنيوية؟ وأن الموفق، إذا وقع في المهالك، طلب الوسيلة إلى تحصيل الأسباب المنجية؟ أما علمتَ أن من نعمةِ الله على العبدِ أن يُقيِّضَ له الناصحين الذين يرشدونه إلى الخَيْرِ ويأمرونه بالمعروفِ وينهونه عن المنكر([20]) ويسعون في سعادته وفلاحهِ؟ ثم من تمام هذه النعمة أن يوفق لطاعتهم ولا يتشبه بمن قال الله فيهم :
(ولكن لا تحبون الناصحين) سورة الأعراف. الآية : 79.
ثم أعلم أنَّهُ ربما كان الإنسان إذا ذاق مذهب المنحرفين وشاهد ما فيه من الغي والضلال ثم تراجع إلى الحق، الذي هو حبيب القلوب، كان أعظم لوقعه وأكبر لنفعه! فارجع إلى الحق صادقًا وثِقْ بوعدِ الله :
(إن الله لا يخلف الميعاد). سورة آل عمران، الآية : 9.
فإذا عرفت هذه الأصولَ فهذا الدينُ الحقُ الذي دعت إليه الرُّسُلُ عُمومًا وخاتمهُم وإمامُهم محمدٌ ﷺ خُصوصًا، قَد بُنِي وأُسس على التوحيدِ والتأله لله وحده لا شريك له حُبًا وخَوفًا ورجاءً وإخلاصًا وانقيادًا وإذعاناً لربوبيتِه واستسلامًا لعبوديتِه قد دَلَّ على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصولِ الأدلةِ العقليةِ والفطريةِ، ودلت عليه جميعُ الكُتبِ السَّماوِيَّةِ، وقررهُ جميعُ الأنبياء والمرسلين وأتباعُهم من أهلِ العلومِ الراسخةِ والألبابِ الرَّزِينِة والأخلاقِ العاليةِ والآدابِ الساميةِ، كل أولئك اتفقوا على أنَّ الله منفردٌ بالوحدانيةِ منعوتٌ بكِل صفة كمالٍ، موصوف بغايةِ الجلال والعظمةِ والكِبْرياءِ والجَمالِ، وأنَّهُ الخالقُ الرازِقُ المدبِّر لجميع ِ الأمورِ، وأنَّه منزهٌ عن كل ِّ صفةِ نقصٍ، وعن مُمَاثلةِ المخلوقين، وأنَّهُ لا يستحِقُ العبادةَ والحمدَ والثناءَ والشكرَ إلا هُو، فالدين الإِسلامي على هذا الأصلِ أُسِّسَ وعَلَيه قَام واستَقَام.
وأما ما عليه أهلُ الإلحاد فإنَّهُ ينافي هذا الأصلَ غايةَ المنافاةِ، فإنه مبنيٌ على إنكارِ البارئ رأسًا، فضلا عن الاعترافِ له بالكمالِ وعن القيامِ بأوجب الواجباتِ وأَفرضِ الفُروضِ وهُوَ عبُوديته وحده لا شَريكَ له، فأهل هذا المذهب أعظم الخلقِ مكابرةً وإنكارًا لأظهرِ الأشياء وأوضحِها فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف ؟ (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) سورة الجاثية: الآية 6.
وهؤلاء أبعدُ النَّاسِ عن عبُوديةِ الله والإنابة إليهِ، وعن التَخَلُّقِ بالأخلاقِ الفاضِلَةِ التي تدعو إليها الشَّراِئعُ، وتخضع لها العقولُ الصَحِيحَةُ ومع خُلُوِّ قلوبهم من توحيدِ الله والإيمان به وتوابعِ ذلك فهم أجهَلُ النَّاسِ، وأقلُّهم بصيرة ومعرفة بشريعةِ الإسلامِ وأُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، فتجدهم يكتُبون ويتكلمُون ويَدَّعُون لأنَفُسِهم منَ العِلْمِ والمعرفِة والثَّقافَةِ واليقينِ ما لا يصل إليه أكابرُ العُلماءِ.
ولو طُلبِ من أحدِهم أن يتكلَّمَ عن أصلٍ من أصولِ الدينِ العظيمةِ الذي لا يسع أحداً جَهله، أو على حُكم من الأحكام في العباداتِ والمعاملاتِ والأنكِحةِ لظهرَ عجزُهُ ولم يصل إلى ما وصل إليهِ كثيرٌ من صِغارِ طَلبةِ العِلمِ الشَّرعِيِّ، فكيف يثقُ العاقلُ – فضلا عن المؤمن – بأقوالهم عن الدينِ؟ فأقوالهم في مسائل([21]) الدين لا قيمة لها أصلاً.
ولَو سبرت حاصل ما عليه رؤساؤهُم لرايَتَهم قد اشتَغَلُوا بشيءٍ يسيرٍ من عُلومِ العَربيةِ، وتَردَّدوا في قِراءةِ الصُّحفُ التي على مشرَبِهم، وتمرَّنوا على الكلام الذي من جِنس أساليبِ كثيرٍ من هذه الصُّحف الرَّديئِةَ الساقطةِ فَظَنُّوا بأنفسِهم وظن بهم أتباعُهم الاضطلاع بالمعارفِ والعلوم .. فهذا أسمى ما يصلُون إليه([22]) في العلم.
أما الأخلاق فلا تسأل عن أخلاقِ من لا يؤمنُ بالله ولا باليومِ الآخرِ ولا يعتقدُ الأديانَ الصحيحةَ، فإن الأخلاق نتائجُ الاعتقادات الصحيحةِ والفاسدةِ، فغاية ما عند هؤلاء التملُّقُ القَوليِ والفعلي، والخُضوعُ الكاذبُ للمخلوقين، وهم مع هذا الخضوع السافل تجد عندهم من العُجْب والكِبْرِ واحتقار الخلق والاستِنكافِ عن مخالطةِ من يستنقصونهم شيئاً كثيراً، فَهُم أوضعُ خَلْقِ الله وأعظمُهم كِبْرًا وتيهًا.
ثَّم إنهم يستعينون على هَذَا الخُلُقِ المُسمَّى عِندْهم بالثَّقَافَةِ بالتَّصنِيع والتَّجَمُّل بالملابسِ، والفرشِ، والزخارفِ، ويُفنون كثيرًا من أوقاتِهم بذلك وقلوبُهم خرابٌ خاليةٌ من الهدى والأخلاقِ الجميلةِ، فالجمالُ الظاهرُ الباطِلُ ماذا يُغني عن الجَمالِ الحَقِيقي؟ ثُمَّ إذا لحظت إلى غاياتِهم ومقاصدِهم فإذا هي أغراضٌ دنيةٌ ومقاصدٌ سُفليةٌ ومطامع شخصية، وإذا سبرت أحوالَهم رأيتهم إذا اجتمعوا([23]) تَظُنُّهم أصدقاءَ مجتمعين فإذا افترقوا فهم الأعداءُ :
(تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون). سورة الحشر الآية : 14.
وما وصفتُ لك من أحوالِهم – وأنت تعرفُ ذلك – قليلٌ من كثيرٍ فكيف ترضى أن يكون هؤلاء أحبابَك وأصدقاءك ترضى لرضاهم وتسخط لسخطِهم وتقدمهم على حظُوظِك الحقيقيةِ وسعادِتك الأبدية؟ فانظر إلى صفاتِهم نظرَ التحقيقِ والإنصافِ، وقارن بينهما وبين نُعوتِ البررةِ الأخيارِ. الذين امتلأتْ قلوبُهم من محبَّةِ الله والإنابةِ إليه والإيمانِ وإخلاصِ العمل لأجلهِ، وفَاضَت ألَسِنَتُهم بذكر الله والثَّناءِ عليه، واشتَغَلَت جَوارِحُهم في كُلِّ وسيلةٍ تُقرِّبهُم إلى الله وتُدنِيهم من رِضوانِه وثَوابِه ونفع الخلقِ، أَشجعُ النَّاس قُلوباً وأصدقُهم قَولاً وأطهرُهم أخلاقًا وأزكاهم عملاً وأقربُهم إلى كُلِّ خير وأبعدُهم من كل شرٍ، يكُفُّون عن الخَلْقِ الأذى ويبذلون لهم ويَصبِرون منهم على الأذى، أَفَتقدِّمُ على هؤلاء الإنجاب الغُررَ مَنْ مُلِئتْ قُلُوبُهم من الشك والنفاقِ وفَاضَتْ على ظاهرهم، فاكتسبوا لذلك أرذلَ الأخلاقِ، يقومون بالنِّفاقِ والرِّياءِ ويقعدون بالتَّمَلُّقِ والإعجابِ والكبرياءِ، وصفهم القسوةُ والطمعُ والجشعُ، ونعتُهم الكذِبُ والغِشُّ والبَهرجةُ والخُنوعُ، قد منعوا إحسانَهم لكلِّ مخلوقٍ واتصفوا بُكلِّ فُسوقٍ، قد خضعوا في بحوثِهم العلميةِ لكُلِّ مَارِقٍ، وتبعوا في أخلاقِهم كُلَّ رذيلٍ وفاسقٍ؟
قال المنصوح : والله ما تعديتَ في وصفِهم مثقالَ ذرةٍ، ولكني أريد أن تدلَّني على طريقٍ يجمع بين السعادِة الدنيويةِ([24]) والسعادة الأخرويةِ، لأن نفوس من تربى وتخلق بأخلاقِ هؤلاءِ لا ترجِع عما ألِفَته إلا بأمر قوي : إما بِترغِيبٍ وهوى يجذبُها، وإما بترهيبٍ وخوفٍ يقمعُها.
فقال له صاحبه الناصح : والله لقد أدركتَ في هذا الدِّين مطلوبَكَ، وفيه والله كل مرادِكَ ومرغوبِكَ، فإنَّه الدِّينَ الذي جمَع بين سَعَادةِ الدُنيا والأخرةِ وفيه اللذَّات القَلبِيَّة والرُوحِيَّة والجَسَدِية، ولا تفقد من مطالبِ النّفوسِ الحقِيقيَّة شيئًا إلا أدركته، ولا من أنواع المسرَّاتِ شيئاً إلا حصلته، ففيه ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ، وسأوضح لكَ ذلكَ.
فاعلم أنَّ أصولَ اللذَّاتِ المطلوبَة :
أولاً : راحةُ القلوبِ وسُكونها وطُمأنِينَتُها، وفَرحُها وبَهجَتها وزوال هُمومها وغمومها.
ثانياً : القَناعَةُ والطمأنينة بما أوتيه العَبْد مِن المطَالِب الجَسديَّة.
ثالثاً : استعمالُ ذلكَ على وجَه يَحصُل به السرور والاغتباط، فَهذِه الأمور الثَّلاثَة، مَن رُزقها واستَعمَلَها عَلى وجهها فَقد نَال كل ما تَعلَّق بِه طَمَع الطَّامِعين، فإنّ جَميع اللذَّات تَرجِع إلى مَا ذَكرنا.
فأما لذَّات القُلوب وحصُول سُرورِها وزَوال كَدرِها فإنَّما أَصل ذلكَ بالإِيَمانِ التَّام بما دَعا الله عبادَه إلى الإيمان بهِ مِن الإيمانِ بتَوحده بجَمِيع نُعُوت الكَمالِ وامتلاءِ القَلبِ مِن تَعظيمه وجَلاله ومن التَّألُّه له وعبُودِيته والإنابة إليه وإخلاص العَمَل الظَّاهِر والباَطِن لوجهِه الأعلَى، وما يَتْبَع ذلكَ مِن النُّصح لعَبَادِ الله ومَحبَّة الخير لهم وبذلِ المقدُور مِن نَفعهم والإحسانِ إليهم والإكثار مِن ذكر الله والاستِغفَار والتَّوبَة فَمن أوتي هَذه الأمور فَقد حَصل لَقَلبه من الهدَايةِ والرَّحَمةِ والنورِ والسرور وزوالِ الأكدارِ والهموم والغمومِ ما هو نُموذج مِن نَّعيم الآخرةِ، وأهل هذا الشَّأنِ لا يغبطُون أربَاب الدُّنيا([25]) والملوك عَلى لذَّاتِهم وريَاسَاتِهم بل يرون ما أُعطوه مِن هذه الأمور يَفوق ما أُعطيه هؤلاء بأضعَافٍ مُضَاعَفَة. وهذا النَّعيم القَلبي لا يَعرفه حقَّ المعرِفة إلا مَن ذَاقه وجرَّبه فإنه كما قيل :
مَن ذَاقَ طَعمَ نَعِيمِ القَوم يَدرِيه
ومَن دَرَاهُ غَدًا بالرُّوحِ يَشرَيه
فَهذا إشارة لطَرِيق هذا النَّعيم القَلبي الذي هُو أصلُ كلِ نَعيم.
وأما الأمر الثاني فإنَّ الله أعطَى العِبَاد القوةَ والصحةَ وما يتبَع ذلكَ مِن مالٍ وأهلٍ وولدٍ وخول وغيرها.
والنَّاس بالنسبة لهذِه الأشياء نوعان :
ـ قسمٌ صَارتِ هذه النَعم في حقهم مِحَنًا ونِقَماً.
ـ وقسمٌ صارَ في حقهِم نَهَمًا وخَيرَات ومنحا، أما أهل الدِّين الحقِيقي فقد قَابلوا هذه النِّعم وتَلقوها على وجه الشُكر لله والاغتباطِ بفضله وتناولوها على وجه الاستعَانَة بها على طَاعِة المُنعِم وعلموا أنها من أكبرِ الوسائل لهم إلى رضَى رَبِّهم وخيرِه وثوابِه إذا استعملوها فيما هُيِّئت له وخلِقَت لأجله وقَد رضوا بها عَن الله كل الرضَى، فإنَّهم عَلموا أنها من عندِ الله الذي له الحِكمة التَّامة في جَميع أقضيته وأقدارِه، وله الرَّحمَة الواسِعَة في جميعِ تدابيرِه، وله النِّعمة السابِغَة في كل عطاياه وهو أرحَم بِهم من الخَلق أجمعين فحيث عَلموا العِلم اليقيني صدورها ممن هَذا شَأنه قنعوا بما أُعطوه منها، من قَليل وكثيرٍ، كل القَنَاعَة، وسكنت قلوبُهم عن التطلُّعِ والتطلُّبِ لما لم يقدَّر لهم.
ومتى حَصلت الطمأنينَة والقَناعة والرضَى عن الله بما أعطى فقد حَصَلت الحياة الطيبة، فإذا أدركْتَ حقَّ الإدراكِ نَعتهم هذا عرفتَ أن نَعيم الدنيا في الحقيقة هو نَعيم القَناعة برزق الله، وطمأنينة القلوبِ بذكر الله وطاعتِه، وأن الواحد مِن هؤلاء لو لم يكن عنده من هَذه الأمور – وهي القُوة والصحَة والمال والأهل والوَلَد وتَوابِع ذَلك – إلا الشيء القَليل لكَان في راحةٍ وسرورٍ من جِهتَين:
ـ جهة القناعةِ وعَدم تطلع النَّفس وتَشَوقها للأمورِ التي لم تَحصُل.
ـ وجهة ما ترجُوه من ثَوابِ الله العاجلِ والآجلِ على هذه العِبَادَة القلبيِّة التي تَزيد على كَثِير من العِبادَات البدَنية، فإنَّ التعبد لله بمعرفِة نعمه والاعتراف بها والرضَى بها والرجَاء لله أن يُديمها ويُتمَّها وأن يَجعلها وسيلة إلى نِعَم أخرى وأن يجعَلَها طريقا للسعادةِ الأبدية لا رَيب أن هَذه الأحوال القَلبية من أفضَلِ الطاعاتِ وأجلِ القرباتِ، فكم من فرق بين سرور هذا الذي تَعبَّد بروح الدِّين وحصلت له الحَياة الطَّيبة، وبين من تلقى هذه النِّعم بالغَفلَةِ وعدم الاعترافِ بنعمَةِ المنُعِم وشقي بهمومها وغُمومها، وكان إذا حَصَل له شيء من مطالبِ النفوس لم يرضَ به بل تَشَوَّق إلى غيره وتطلّعَ لسواه فهذا ينتقلُ من كدرٍ إلى كَدرٍ آخر، لأن قَلبَه قَد تعلقَ تعلقاً شديداً بمطَالب الجَسَد، فحيث جاءت على خلافِ ما يؤمله ويُريده قَلق أشد القَلق، وهو لا يزال في قَلقٍ مستمرٍ، لأنَّ المطالبَ النفسية مَتَنوعة جداً، فلو وافقه واحدٌ لم يوافِقه الآخر وربما اجتمع في الشيء الواحِد سرور مِن وجَه، وحزن مِن وجَه آخَر فصَفوه مَمزوج بكَدره وسروره مختَلِط بحزنه، فأينَ الحَياة الطَّيبة لهذا؟! وإنما الحياة الطَّيبة لأربَاب البصَائِر والحجَى الذين يتلقَّونها كلها بالقَبولِ والقَنَاعةِ والرضَى.
وأما الأمرُ الثَّالثُ : وهو جهةُ استِعمَالِ هَذه النِّعم، فصَاحِب الدِّين الصحيحِ يتناولها على وجهِ الشُّكرِ لله على نِعَمه والفرحِ بِفَضِله، وينوى بها التَقَوِّي على ما خُلِق له من عبادة الله وطاعتِهِ، ويُنفقُها مُحتَسِبا بها رضَى الله وفَضله وخَلَفه العَاجِل والآجل، ويعلم أنَّه إذا أنفَقَ على نَفسِه وأهلِه أو ولَدِه أو مَن يتصل به فإنَّما نَفَقَته صَادفت محَلها ووقَعَت موقعَها فلم يتَثَاقل كَثَرة النَّفقةِ في هَذا الطَّريق لأنه يُقولُ مُعتَقِدا : هَذا أولَى ما بَذَلتُ فيه مَالي، وهَذا ألزَم ما قُمتُ به من الواجِبَاتِ والفُروضِ([26])، وهَذا خير ما قُمتُ بِه من المُستَحَبات، وهَذا أعظَم ما أرجو لَه الخلف مِن الله حَيثُ يقولُ وهو الكريمُ الوفي :
(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خيرُ الرازقين). سورة سبأ، الآية : 39.
ولا يَزال نَصبَ عَينَيه احتِسَاب الأجرِ في سَعيه بكَسبه وفي مَصرفه أجنَاس ذلكَ وأنوَاعه وأفرَاده متفَطنًا لِقوله ﷺ "عَلى أنَّكَ لَن تُنفِقَ نَفَقَة تَبتَغِي بها وَجهَ الله إلا أُجِرتَ عَليها حَتى مَا تَجعَله في فيِّ امرأتِكَ"([27]) فَمن كانَ هذا وَصفه فإنَّ لذَّاته الدنيَويَة هي اللذَّات الحَقيقِية السَّالِمة من الأكدارِ مَع ما يرجو من الثوابِ العَاجِل والآجِلِ من الله، ومن كَانت هَذه صِفَته سَهل عَليه الأخذ من جُلِّها ووضعها في مَحَلها ويسرَت لَه أموره غَايَة التَيسِير.
وأما من استَعمَل هَذه النِّعم على وجهِ الشَّرَه والغَفلَةِ، ولم يفكر في الاعترَاف بفضلِ الله في كلِ الأوقاتِ وبِنعَمِ الله، ولم يَفرح بالنِّعمِ لأنها من فضلِ الله بل فرح بها فقط لموافقةِ عرضه النفسي ولا نوى بها الاستعانَة على طاعةِ الله، ولا احتسب في نيِلها([28]) وصرفِها على المنفق عليهم الأجرَ والثَّوابَ فمن كان هذا وصفه فإن الكَدرَ والحزنَ له بالمرصادِ، فإنه إذا فاتته بعضُ الشهواتِ النفسيةِ حزَنَ، وإن أدركَ ما أدركه منها ولم يكُن على ما في خاطره من كل وجه حزن، وإن أراد منه ولده ومن يتصل به نفقةً أو كِسوةً واجبة أو مستحبة حزن، ولم تخرج منه إلا بِشقِّ الأنفِس، وإن خرجت منه خَرَجَ معها بضعةٌ من سُرور قَلبِه، لأنَّه يُحبُّ بقاءَ مالِه ويحَزَنُ لنَقْصِه على أي وَجْهٍ كان وليس عنده من الاحتسابِ ما يُهَوِّنُ عليه الأمرَ، إنْ كانَ غير بخيل، فإن كانَ شحيحَ النفسِ مطبوعًا على البُخلِ فإن حياته مع أولاده وأهلِه والمتصِّلين به حياةُ شقاءٍ وعذاب وأكدار متواصلة وأحزان مستمرة، لا إيمان عنده يُهَوِّن عليه النفقاتِ، ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات فيا له من عذاب حاضر وعذاب مستمر، فأين هذا من ذاك الذي حصلت له الحياةُ الطَيِّبَةُ بأكملها.
هذا كله بالنَّظرِ إلى هذه الأمُورِ الثَّلاثَة التي هي أصل اللذاتِ عند العقلاءِ، قد اتضح لنا أن صاحب الإيمان الصحيح هو الذي فاز باللذات الحقيقية وسَلَمَ من المكدِّراتِ.
ثم إذا عطفنا النظَّرَ إلى الطَّوارئ البشريةِ التي لا بُدَّ لِكُلِّ عبدٍ منها، وهي المصيبات التي تعتري العبادَ :من الأمراضِ المتنوعةِ وموتِ الأحبةِ وفقدِ الأموالِ ونقصِها وُوُقوعِ المكارِهِ بمن تحب وزوال المحاب، وغيرها من أنواع المصائب، دَقِيقِها وجَلِيلِها، رأيتَ المؤمنَ حقًا قد تلقَّاهَا بِقُّوةٍ وصبرٍ واحتِسَابٍ، وقد قام لها بارتقاب الأجْرِ والثَّوابِ، وعَلمَ أنَّها تقدير العزيز العليم، وأَنَّها أقضِيَتهُ صدرت من الرَّب الرَّحيم، فَهان عَليهِ أمرُها وخَفَّتْ عَلَيهِ وَطْأَتهُا فإنّه إذَا فكّر فيما فيها من الآلام الشَّاقَّةِ قابَلَها بما تَتَضمنُهُ من تكَفِير السيَّئاتِ وتكثيرِ الحسنات ورِفعة الدَّرجات والتَّخلقِ بأخلاق الكِرَام والقوة والشجاعة، وإذا أنَهكَتْ بَدنَه ومالهَ رآهَا مصلحةً لقلبِه وروحِه، فَإنَّ صلاح القُلوبِ بالشُّكرِ لله على نعمائه والصَّبْرِ على بَلائِه، وانتظار الفرج من الله إذا أَلمَّت المُلمَّاتُ، واللجوء إلى الله عِنْدَ جَميعِ المُزعجَاتِ المقُلقاتِ. فأَقَل الأحْوالِ عندَ هذا المؤمن أنْ تتقابلَ عندَهُ المصَائِبُ والمَحَّابُ والأفراحُ والأتَراحُ، وقدْ تَصِلُ الحالُ بِخَواصِ المؤمنين إلى أنَّ أفراحَهم([29]) ومسرَّاتِهم عند المصيباتِ تَزيدُ على ما يحصُلُ فيها من الحزنِ والكَدَرِ الذي جُبِلتْ علَيه النُّفُوسُ.
فأين هذه الحالُ من حالِ من تلقى المصيباتِ التي لابد للخلقِ منها بقلبٍ منزعجٍ مرعوبٍ وخَشَعَت نفسُه المهينة لما فيها من الشَّدائِدِ والكُرِوبِ، فبقيت الحَسراتُ تنتاب قَلْبهَ ورُوحَه، وزادت مصائِبُ قَلبِه على مصائِبِ بدنِه، ليس عنده من الصبر وارتقاب الثوابِ ما يخفف عنه الأحزانَ، ولا من الإيمانِ ما يُهوِّنُ عنه الأشجَانَ، تعتريه المصائُب فلا تَجِد عنده ما يُخَفّفُها، فتعمل عمَلَها في قَلْبِه وروُحِه وبَدَنِه وأَحَوالِه كُلِّها.. القلْبُ مليء من الهَمِّ والغَمِّ والألم، والخَوْف السَّابِقُ واللاحِقُ قد ملأ نَفسَه فانحلَّ لذلك لُبُّه وانحطم، وقدْ ضَعُفَ تَوَكُّلُه على الله غاية الضَّعفِ، حتى صار قلبهُ يتعلق بمن يرجو نَفْعَه من المخلوقين؟ فيا لها من مصائب دنيويةٍ اتصلت بالمصائبِ الدينيةِ والخُلُقِيَّةِ وتراكم بعضُها فوقَ بعضٍ حتى صارت عنده أعظم من الجبالِ الرواسي.
فوالله لو عَلِم أَهلُ البَلاءِ والمَصَائِب بما في الإيمانِ والرُّوحِ والتَّسلية والحياة الطيبة لسارعوا إليه، ولو في هذه الحال التي هم فيها مضطرون إلى ما يخفف عنهم آلامَهم، ولا يجدونه إلا في الإيمانِ الصحيح الحقيقي وما يدعو إليه.
ومما يتعلق به سرورُ الحياةِ، ونعيمُها، أو هَمُّها وغَمُّها، مُعاشَرةُ الخَلْقِ على اختلاف طبقاتِهم، فمن عاشرهم بما يدعو إليه الدينُ استراحَ، ومَنْ عاشرهم بحسبِ ما تدعو إليه الأغراضُ النَّفسيةُ، فلا بد أن يكونَ عيشه كدرًا، وحياتهُ منَغصةَّ .. وتوضيح ذلك أن الناس ثلاثةُ أصنافٍ : رئيسٌ، ومرؤوسٌ، ونظيرٌ.
أما من له رئاسة حُكم، أو ثروةٌ، وله أتباعٌ وحاشيةُ، فله معهم حالان : حالة فيما يفعله معهم، وحالة فيما يصيبه من أتباعه من خيرِ وشرٍ، وموافق للطبع ومخالف له، فإن هو حَكَّمَ الدِّينَ والشرعَ، في الحالتين استراح وله أجرٌ من الله، إذا استعمل العدلَ معهم، واستعمل النُّصْحَ والإِحسَانَ، وقابل المسيء([30]) منهم بالعَفْو، وشكرهم على فِعل المعروفِ والخَيرِ، مبتغياً بذلك وَجْهَ الله، وأيضاً فإنَّه إذا تأمَّل فيما فعله من خيرٍ اطمأنَّت نفسُه وانشرحَ صدرهُ، فأين هذا من الرئيس الذي لا يبالي بظلمِ النَّاس في دمائِهم([31]) وأموالِهم وأعَراضِهم، ولا يبالي بسلوكِ طُرق العدْلِ والإنصافِ، وليس له صبر على أيَّة أذيَّةٍ تصيبهُ من رعيَّته؟ فهو من أتباعِه في نكدٍ مستمرٍ، ورعيتهُ قد مُلِئَتْ قُلُوبهُم من مقتِه وبغضِه، يتربصون به الدَّوائِر والفُرصَ، حتى إذا وقع في أقلِّ شيءٍ أعانوا عَلْيه أعدى أعدائهم فهو معهم غيرُ مطْمئن على حياتِه ولا نعمتِه، لا يدري متى تَفْجُؤه البلايا، ليلاً أو نهارًا، هذه حالة الرئيس([32]) على وجه الإجمال.
وأما حالة المرؤوس، فإن أطاع الدِّين في وظيفتِه وأطاعَ حاكِمه أو سيِّدَه، أو والِده، واستعمل الآداب الشرعيَّة في مُعاملَتِه، والأخلاق المرضْيةَ، فهو مع طاعتهِ لله ولرسولِه قد استراحَ وأراحَ، وطَابَتْ عنه نفسُ رئِيسِه، وأَمِنَ عقُوبته، وأمل إحسانَه وبِرَّه ومحبتَّه، وأما من تعدى طوره، وعصى متبوعَه والتوى فإنَّه لا يزال مُتوقعًا لأنواعِ المضَارِّ، يمشي خَائفاً وجِلاً لا يَقَر له قَرارٌ، ولا يستريحُ له.
وأما حالة النظير المساوي فإنَّ جُمهورَ مَنْ تعاشرهُم مِنَ الخَلقِ إذا خَالقْتَهم بالخُلُقِ الحَسنِ، اطمأنت نفسُك، وزالت عنك الهمومُ، لأنّك تكتسبُ بذلك مودَّتَهم، وتخمد عداوتهم، مع ما ترجوه من عظيمِ ثواب الله على هذه العِشْرةِ التي هي من أفضلِ العباداتِ، فإنَّ العْبدَ يبلغ بُحسْن خُلُقِه([33])، درجةَ الصائمِ القائمِ. وحسنُ الخُلقِ له خَاصية في فرحِ النفس، لا يعرفُ ذلك حقّ معرفِته إلا المُجرِّبون .. فأين حالُ هذا مَّمن عاشَر النَّاسَ بأسوإ الأخلاق؟ فَخَيرُه ممنُوع، وشرُّه غيرُ مأمون، وليس له أقل صبر على ما ينالُه من المُكَدِّرات، فهذا قد تَنغَّصت عليه حياتُه، وحَضَرتهَ هُمومهُ وحَسَراتُه، فهو في عناءٍ حاضرٍ، ويخشى من الشَّقاء الآجلِ .. وأما معاشرتُه مع أهلِه وأولادِه ومن يتصل به فإنه يتأكد عليه القيامُ بالحقوق اللازمَةِ، تامة لا نَقْص فيها ولا تَبَرُّم، فمن عامل هؤلاء بما أمر الله ورسولهُ، راجيًا بقيامه به ثوابَ رَبِّه ورِضاه، عَاشَ معهم عِيشَةً راضِيةً، ومن كان معهم في نكدٍ وسوءِ خُلُقٍ مع الصَّغيرِ والكَبير، يخرجُ من بَيتِه غضبان ويدخُلُ على أهلِه وولدِه متكدِّرًا ملآن، فأَيُّ حياة لِمَنْ كَانَتْ هذه حاله؟ وما الذي يَرجْوُه حَيثُ ضيَّع مَا فيه فرحهُ ومسَّراتهُ؟ وأما عِشْرتهُ مع معَامِليه، فإن استعمل معهم النُّصْحَ والصِّدْق وكان سَمحًا إذا بَاعَ، سَمْحًا إذا اشْتَرى، سمحًا إذا قَضى، سمحًا إذا اقْتضَى – حصلت له الرَحْمَةُ، وفازَ بالشَّرَفِ والاعتِبارِ، واكتسبَ مودَّة معامِليه ودوامَ معاملتِهم، ولا يخفى ما في ذلك من طِيبِ الحياة، وسرور النَّفسِ، وما في ضِدَّها من سوء الحالِ وسقوطِ الشرفِ، وتنغصِ الحياةِ.
والفارقُ بين الرجلين هو الدِّينُ، فصاحبُ الدِّين منبسطُ النفَّسِ، مطْمئنُّ القَلبِ.. فقَدَ تبينَّ لك أن السعادَةَ واللذة الحقيقيةَ بجميعِ أنواعِها تابعةٌ للدينِ ..
واعلم يا أخي أَنَّ الدين نوعَان :
أحدهما : أعمالٌ وأحوالٌ وأخلاقٌ دينيةٌ ودنيويةٌ، وكما ذكرنا أنه لا سبيل إلى حصول الحياةِ الطيبةِ إلا بالدين ..
والثاني : علومٌ ومعارفٌ نافعةٌ، وهي علومُ الشَّرع والدِّين، وما يعينُ عليها ويُتَوصَّلُ إليها بهِ، فالاشتغالُ بها من أجلِّ العباداتِ، وحصُولُ ثمرتِها من أكملِ اللَّذَّاتِ، ولا يُشبهه شيءٌ من اللذاتِ الدنيويةِ، واعتبر ذلك بحالِ الراغِبِين في العِلمِ تجدُ أَكَثَر أوقاتِهم مصروفةً في تحصيلِ العلمِ، فيمضي الوقتُ الطويلُ، وصاحبهُ مستغرقٌ فيه يتمنى امتدادَ الزمن، وهذا عنوانُ اللّذةِ، فإن المشتاقَ يَقصُرُ عنده الوَقْتُ الطَّويلُ، ومن ضاق صدرهُ بشيء يطولُ عليه الوقتُ القَصِيرُ.
وصاحبُ العلمِ في كُلِّ وقْتٍ مستفيدٌ علوماً يزداد بها إيمانُه، وتكملُ بها أخلاقهُ، والمتصفحُ للكُتُبِ النافعة، لا يزالُ يعرضُ على ذِهنِه عُقُول الأولِّين والآخرِين ومعارفهم وأحوالهم الحميدةُ، وضدُها، في ذلك معتبرٌ لأولي الألباب .. فكم من قصَّةٍ تمر عليك في الكُتُبِ تكتسبُ بها عقلاً جديدًا، وتُسَلِّيك عند المصائبِ، بما جرى على الفضلاءِ، وكيف تلقوها بالرِّضا والتسليمِ واغتنموا الأجر من العليمِ الحكيم.
والعلمُ يُعرِّفُك طرقًا تُدركُ بها المطالِبَ، وتَدفعُ بها المَكَارِه والمَضَارَّ.
والعقلُ عقلان : عقل غَريزِيٌّ، وهو ما وضَعَه الله في الإنسان من قُوةِ الذِّهنِ في أمُورِ الدِّين والدُّنْيا، وعقلٌ مكتسبٌ، إذا انضم إلى العقلِ الغَريزِيِّ ازدادَ صاحبُه حَزمًا وبَصيرةً، فكما أنَّ العقلَ الغَريزيَّ ينمو بنمو الإنسان حتى يبلغَ أشُدَّه، فكذلك العقل المكتسب له مادتان للنمو :
مادةُ الاجتماع بالعقلاءِ والاستفادة من عُقُولِهم وتَجارِبهم، تارةً بالاقتداءِ، وتارةً بمشاورتهم ومُبَاحَثتِهم، فكم ترقىّ الرَّجُلُ بهذه الحال إلى مراقي الفَلاحِ، ولهذا كان انزواءُ الرجلِ عن الناس يُفوِّتُه خيراً كثيراً، ونفعًا جليلاً، مع ما يُحْدِثُهَ الاعتزالُ من الخَيالات وسوءِ الظِّنِّ بالنِّاسِ، والإعجاب بالنِّفس الذي يُعبِّر عن نَقْصِ الرَّجُلِ، وربما ضر البَدَنَ، فإن مخُالطَة النَّاسِ تفتحُ أَبْوابًا مِنَ المصَالحِ، وتسلِّيكَ وتُقَويِّ قَلبَكَ، وفي ضَعفِ القَلبْ ضَرَرٌ على العَقلِ، وضرَرٌ على الدِّينِ، وضرَرٌ على الأخلاقِ وضرَرٌ على الصِّحةِ.
وينبغي للإنسان أَنْ يُعاملَ النَّاسَ، بحَسبِ أَحوالِهم، كما كَانَ النَّبيُّ ﷺ يحسنُ خُلُقَه مع الصَّغِير والكَبِيرِ قال تعالى : (خُذِ الَعَفْو). سورة الأعراف، الآية : 199.
أيَ خْذُ ما صَفَا لك من أَخْلاق الخَلقِ، ودَع عنْكَ ما تَعسرَّ مِنْها .. فيجالس أبناءَ الدُّنْيا بالأدبِ والمُروءة، والأكابِرَ بالتَّوقيرِ، والإِخوانَ والأصحَابَ بالانبساط، والفُقراءَ بالرَّحمةِ والتَواضُعِ، وأهلَ العِلمِ والدِّين بما يليقُ بِفضلهم .. فصَاحبُ هذا الخُلُقِ الجَليلِ تراه مبتهجَ النَّفسِ في حياةٍ طَيَّبةٍ.
وأَمَّا المادَّة الثانية للعقل المكتسب فهي الاشتغالُ بالعلُوم النَّافعةِ، فتستفيدُ بكُلِّ قضيةٍ رأيًا جديدًا، وعقلاً سَدِيداً، ولا يزال المشتغل بالعلمِ يترقى في العلمِ والعَقلِ والأدبِ. والعلمُ يعُرِّفُك بالله، وكيف الطَّريق إليْه، يُعَرِّفُكَ كيف تَتَوسل بالأمُورِ المُبَاحَةٍ إلى أنْ تَجعَلها عِبادةً تُقربُكَ إلى الله. والعلمُ([34]) يَقَومُ مقامَ الرِّياساتِ والأموالِ فمن أدركَ العلمَ فقد أدرك كلَّ شيءٍ ومن فاتَه العلمُ فَاتُه كلُّ شيء. وكل هذا في العُلومِ النَّافعةِ. وأَما كُتبُ الخرافاتِ والمجُونِ فإنَّها تُحِلل الأخَلاقَ وتُفسدُ الأفكارَ والقُلوبَ، بِحَثِّها على الاقتداءِ بأهلِ الشرِ، وهي تَعملُ في الإيمان والقلوبِ عمل النَّارِ في الهَشِيمِ.
فلما تلا النصيحُ لصاحبِه هذه المواضِيعَ، وبرهنَ عليها.
قال له المنصوح : والله لَقد انجلى عنيِّ ما أجِدُ في أوَّلِ موضوعٍ تَلوتَه عليَّ، وانزاح عَنيِّ الباطِلُ في شرحِك الأولِ. وإنَّ مجلِسَك يا أخي ونَصيحتَكَ بهذه الطريقةِ النَّافعةِ تَعْدلُ عِنْدي الدُّنْيا وما عَلَيها، فأَحْمَدُ الله أولاً حيثُ قَيضَّكَ لي، وأشكُرك شَكراً كثيراً حيَثُ وفيت بِحقِّ الصُّحبة، ولم تَصنْع ما يصنعهُ أهْلُ العُقُولِ الذِّين إذا رأَوا من أَصحْابهم ما يسوؤهُم قَطَعُوا([35]) عنهم حَبْلَ الوداد في الحالِ، وأَعَانُوا الشّيطَانَ عليهم، فازدَادَ بذلك الشَّرُّ عليهم، وضاعَ بينَهم التَّفاهُمُ وإني لا أنسى جميلَ معروفك حيثُ رأيتني سادراً في المهامةِ مغروراً بنفسي مُعجبًا برأيي، فأريتني بِعيني ما أَنَا فِيه، وأَوقفتني بِحكَمتِك على الهَلاكِ الذي وَقَعتُ فيه، فالآن أستغفرُ الله مما مضى وأتوبُ إليه، وأسألهُ الإعانة على سلوكِ مرضَاتِه، وأَفزعُ إليه أن يَختِمَ([36]) بالصَّالحاتِ أعمالي، وأَحمدُ الله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطنًا، فإنَّه مولي النِّعم، دَافعُ النِّقَمِ، غَزيرُ الجُودِ والكَرَم.
انتهى وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
([1]) طبعت هذه الترجمة بعنوان صفحات من حياة علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ وقد طبعتها دار ابن الجوزي عام 1413هـ.
([2]) جميع العناوين زيادة من المحقق وليست في الأصل.
([3]) الجليس له أثر كبير جداً ويكفي في ذلك قوله ﷺ "مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك أما أن يحذيك أو تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة" رواه البخاري ومسلم. انظر : صحيح البخاري (ج 7 ص 125) وصحيح مسلم (ج3 ص 38).
([4]) طلب العلم مما يعين الإنسان في طريقه إلى الله وهو من أفضل القربات، وأجل الطاعات وصدق الله العظيم. (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). سورة الزمر : آية 9.
وقال ﷺ : "وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". رواه الترمذي صحيح الترمذي ج2 ص 342).
([5]) كثير من الذين سافروا للخارج ولم يبحثوا عن المحضن الإسلامي وقعوا في شرك الأعداء ولذا لم تبتلى الأمة الإسلامية بمثل أولئك الذين سافروا للخارج فغسلت أدمغتهم ثم أتوا إلى بلادهم وهم أشد ما يكونون عداوة لدينهم ومبادئهم وبلادهم وعملوا جاهدين على تعميق فصل حاضر الأمة عن ماضيها ومحاولة ربطها بالغرب في كل شيء.
([6]) حرص أعداء الإسلام على استقطاب ثلة من المثقفين وعرض بضاعتهم عليهم فمن أخذها منحوه أعلى الأوسمة ودفعوه فوق ما يستحق، بل وهيأوا له فوق ما يحلم به لأنه أداتهم التي عن طريقها يتحركون وعصاهم التي بها يضربون.
([7]) كل من أراد بحث قضية من القضايا أو مشكلة من المشكلات وجب عليه بحث أسبابها ودراستها ثم وضع العلاج الناجع للقضاء على هذه الأسباب وبالتالي علاج المشكلة أو القضية من جذورها، وهذا ما فعله ابن سعدي في هذه المحاورة الرائعة.
([8]) من أراد مناقشة أحد وإيصال الحق إليه فلا ينبغي أن يبدأ بتخطئته فيما هو عليه، بل يتدرج معه في بيان الحق فيحسن الدخول إلى قلبه ثم يبدأ شيئاً فشيئاً حتى يوضح له الحق ويبين له خطأ ما هو فيه، وما ينبغي أن يكون عليه وبهذا المسلك الراشد تميز بعض الدعاة فكانت لهم الآثار الايجابية على المدعوين.
([9]) هذه مشكلة كثير من المنحرفين إذا دعوتهم للحق جعلوا واقع المسلمين حجة على الإسلام وهؤلاء سواء جهلوا أو تجاهلوا مخطئون لأن الإسلام هو الذي ينبغي أن يحكم في الواقع لا أن نجعل الواقع حكما على الإسلام فمن أراد أن يعرف الإسلام فليقرأ نصوصه وليتبين حكمها وأسرارها، وإن شاء مثالاً واقعياً للمجتمع المسلم فليلق نظرةً على القرون المفضلة التي كانت لها الريادة والقيادة.
([10]) يقول الحق تبارك وتعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباطٍ الخيل تُرهبونَ به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). الأنفال 60.
([11]) كان المسلمون قادة العالم فخسر العالم هذه القيادة الراشدة بسبب تخاذُل المسلمين وضعفِهم وبعدِهم عن دينهم وفُرقَتهم وتناحرِهم فيما بينهم مما جعل الأعداءَ يطمعون فيهم ويُغيرون عليهم حسا ومعنى صباحَ مساء.
([12]) مما لا يشكُّ به عاقل أن ضعفَ المسلمين اليوم جاء من ضعف أفرادهم وعدم تربيتهم، ويوم أن تتربى شبيبةُ الإسلام على العلمِ والرشد والصلاح والتقى يوم أن يقوى المجتمعُ المسلمُ ويتماسك بنيانُه وصدق الحبيب المصطفى : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" رواه البخاري (صحيح البخاري ح3 ص 98، وصحيح مسلم ج8 ص 20).
([13]) من أعظم أدواء المسلمين اليوم عدم إعداد الفرد المسلم إعداداً متوازناً إعداد روحه وعقله وجسمه.
([14]) لم تصب الأمة الإسلامية في مختلف عصورها بمصيبة أشد وأنكى من هؤلاء المخذلين أصحاب الوجهين الذي عشعش النفاق في قلوبهم وأكل وشرب معهم فأخذوا يطعنون الأمة الإسلامية في قلبها وهم سر خذلانها على مدار تاريخها الطويل.
([15]) بريق الحضارة وبهرجها ما هو إلا كالأصباغ التجميلية على وجه العجوز الشمطاء إذا تفحصته وجدته خراباً بلقعاً لا ينفع في العاجل ولا في الآجل.
([16]) ألم تهلك بسبب هؤلاء أمم وشعوب ألم تسلب خيرات وثروات ألم تنتهك أعراض وحرمات، ولعل في بلاد الأفغان في هذا العصر خير شاهد ودليل.
([17]) الواقع أن ما يراه الشخص من مظاهر المتعة ما هو إلا هروب من الهموم المتراكمة والأحزان المتلاحقة فمن لم يطعم سعادة الدنيا بالعبادة يحرم سعادة الآخرة.
([18]) أثبت الواقع أن المتنكرين لدينهم يَلفظُهم الأعداء إذا أدركوا مقصودهم منهم ويبتعد عنهم بنو جنسهم فيعيشون في حيرة عظيمة تنتهي بهم إلى نهاية وخيمة.
([19]) مصيبة المصائب انجراف الشخص مع رفقة السوء حتى يوردوا المهالك فيظن أنه لا يمكن أن يرجع عن هذا الطريق ولا يستقيم له أمر والحق أنه ليس بينه وبين انقلاب حياته من السوء إلى الصلاح ومن الرذيلة إلى الفضيلة إلا التوبة الصادقة.
([20]) صدق الحبيب المصطفى " إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك أو تبتاع منه أو تجد منه ريحًا طيبة ونافخ الكير أما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثة". رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري ج7 ص 125 وصحيح مسلم ج3 ص 38).
([21]) مما ابتليت به أمة الإسلام أنه تجرأ على الكلام في الأحكام الشرعية كثير من الناس الذين لا حظ لهم من العلم والبصيرة وأصبحت الفتوى والقول على الله بغير علم في هذه الأوقات من أسهل الأمور عند الكثيرين فإلى الله المشتكي من غمر يلمز أكابر العلماء ومن حدث ناشئ يفتي في قضايا الأمة الخطيرة التي توقف فيها جهابذة العلم وأساطينه.
([22]) فرق شاسع بين أن يتكلم المسلم في الأمور الشرعية وبين أن يتحدث في قضية معينة حديثاً يعبر به عن وجهة نظره الخاصة.
([23]) رحم الله العلامة السعدي كأنه يرى بعين بصيرته هؤلاء الذين يعيشون بين ظهرانينا اليوم وهم ممن يتكلم بلغتنا ومن بني جلدتنا لكنهم من أشد الناس عداوة للخير وأهله.
([24]) الإسلام جمع بين خيري الدنيا والآخرة وهو الدين الوحيد الذي حقق التوازن في كل شيء بين متطلبات الروح والعقل والجسد.
([25]) لذة العبادة والطاعة لا يدانيها لذة (ولو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة لجالدونا عليه بالسيوف).
([26]) يقول تعالى : (قُل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا أول المسلمين). الأنعام (162/163).
([27]) رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري ج3 ص 186، وصحيح مسلم ج2 ص 125).
([28]) قال الشاعر : "ابن عثيمين" :
ونسعى لجمع المال حلا ومأثما وبالرغم يحويـه البعيد وأقرب
نحاســب عنه داخلا ثم خارجا وفيما صرفناه ومن أين يكسب
([29]) "عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له". رواه مسلم ( صحيح مسلم ج3 ص 229).
([30]) يقول تعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم) فصلت (34/35).
([31]) يقول الرسول ﷺ في خطبته العظيمة في حجة الوداع "...... إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا .....".
رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري ج1 ص 26 وصحيح مسلم ج4 ص 39).
([32]) يا بني لا تكن رأسا فإن الرأس كثير الأذى.
([33]) " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافا الذي يألفون ويُؤلفون". رواه الترمذي (صحيح الترمذي ج2 ص 196).
([34]) "وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ..." رواه الترمذي (صحيح الترمذي ج2 ص 342).
([35]) ليت أحبابنا يعون ذلك تمام الوعي حيث نرى اختلاف بعض الأصحاب يودي بهم إلى الكراهية والحقد بل وأحيانا يؤدي بهم إلى الكيد والأذية نعوذ بالله من أمراض القلوب.
([36]) هنيئاً لمن كانت خاتمته حسنة أولئك من الذين أنعم الله عليهم وثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة نسأل الله بمنه وكرمه أن يجعلنا ووالدينا وأحبابنا ومشايخنا منهم.