×
جدبد!

تطبيق موسوعة بيان الإسلام

احصل عليه الآن!

توحيد الأسماء والصفات (العربية)

إعداد: محمد بن إبراهيم الحمد

الوصف

توحيد الأسماء والصفات : في هذه الرسالة ستجد تعريف توحيد الأسماء والصفات. • أهميته. • ثمراته. • طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته. • الأدلة على صحة مذهب السلف. • قواعد في أسماء الله عز وجل. • قواعد في صفات الله عز وجل. • ما ضد توحيد الأسماء والصفات ؟ • الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات. • حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة. • مسائل أحدثها المتكلمون الكلمات المجملة. • دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة. • وقفة حول المجاز.

تنزيل الكتاب

 توحيد الأسماء والصفات

تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد

 مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن العلم بأسماء الله وصفاته أشرف ما اكتسبته القلوب، وأزكى ما أدركته العقول؛ فهو زبدة الرسالة الإلهية، وهو الطريق إلى معرفة الله وعبادته وحده لا شريك له.

وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن هذا النوع من أنواع التوحيد من خلال الوقفات التالية:

•        تعريف توحيد الأسماء والصفات.

•        أهميته.

•        ثمراته.

•        طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.

•        الأدلة على صحة مذهب السلف.

•        قواعد في أسماء الله عز وجل.

•        قواعد في صفات الله عز وجل.

•        ما ضد توحيد الأسماء والصفات ؟

•        الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات.

•        حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة.

•        مسائل أحدثها المتكلمون الكلمات المجملة.

•        دراسة موجزة لبعض الكلمات المجملة.

•        وقفة حول المجاز.

وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يلهمنا رشدنا، ويعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.

محمد بن إبراهيم الحمد

الزلفي: ص.ب: 460

www.toislam.net

 تعريف توحيد الأسماء والصفات

1_هو: الإيمان بما وصف الله به نفسَه في كتابه، أو وَصَفَه به رسوله"من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت على الوجه اللائق به_سبحانه وتعالى_( ).

2_أو هو: اعتقاد انفراد الله عز وجل بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة، والجلال، والجمال.

وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله"من الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة بالكتاب والسنة( ).

3_وعرفه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي×بتعريف جامع حيث قال: =توحيد الأسماء والصفات: وهو اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة، والجلال، والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه.

وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله"من جميع الأسماء، والصفات، ومعانيها، وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل.

ونفي ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله"من النقائص والعيوب ومن كل ما ينافي كماله+( ).

 أهمية توحيد الأسماء والصفات

للعلم بتوحيد الأسماء والصفات والإيمان به أهمية عظيمة، ومما يدل على أهميته مايلي:

1_أن الإيمان به داخل في الإيمان بالله عز وجل إذ لا يستقيم الإيمان بالله حتى يؤمن العبد بأسماء الله وصفاته.

2_أن معرفة توحيد الأسماء والصفات والإيمان به كما آمن السلف الصالح عبادة لله عز وجل فالله أمرنا بذلك، وطاعته واجبة.

3_الإيمان به كما آمن السلف الصالح طريق سلامة من الانحراف والزلل الذي وقع فيه أهل التعطيل، والتمثيل، وغيرهم ممن انحرف في هذا الباب.

4_الإيمان به على الوجه الحقيقي سلامة من وعيد الله، قال تعالى:[ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف: 180).

5_أن هذا العلم أشرف العلوم، وأجلها على الإطلاق؛ فالاشتغال بفهمه، والبحث فيه اشتغال بأعلى المطالب، وأشرف المواهب.

6_أن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، وإنما كانت أعظم آية لاشتمالها على هذا النوع من أنواع التوحيد.

7_أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها أخلصت في وصف الله عز وجل.

8_أن الإيمان به يثمر ثمرات عظيمة، وعبودياتٍ متنوعةً، ويتبين لنا شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات.

 ثمرات الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات( )

العلم بأسماء الله وصفاته، وتدبرها، وفهمها على مراد الله أهم العلوم وأشرفها كما مر؛ لما يثمره من الثمرات العظيمة النافعة المفيدة.

ولقد اعتنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان أسماء الله وصفاته، وشرحها، وإيضاحها، وبيان ثمرات الإيمان بها، فمن الثمرات التي تحصل من جراء الإيمان بها ما يلي:

1_العلم بأسماء الله وصفاته هو الطريق إلى معرفة الله:

فالله خلق الخلق ليعرفوه، ويعبدوه، وهذا هو الغاية المطلوبة منهم؛ فالاشتغال بذلك اشتغال بما خُلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خُلق له، وقبيح بعبد لم تزل نِعَمُ الله عليه متواترة أن يكون جاهلاً بربه، معرضاً عن معرفته.

وإذا شاء العباد أن يعرفوا ربهم فليس لهم سبيل إلى ذلك إلا التعرف عليه من خلال النصوص الواصفةِ له، المصرِّحةِ بأفعاله وأسمائه، كما في آية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الصمد، وغيرها.

2_أن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له: وهذا هو عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه بمعانيها، وأحكامها، ومقتضياتها.

3_تزكية النفوس وإقامتها على منهج العبودية للواحد الأحد: وهذه الثمرة من أجل الثمرات التي تحصل بمعرفة أسماء الله وصفاته، فالشريعة المنزلة من عند الله تهدف إلى إصلاح الإنسان، وطريقُ الصلاح هو إقامة العباد على منهج العبودية لله وحده لا شريك له، والعلمُ بأسماء الله وصفاته، يعصم بإذن الله من الزلل، ويفتح للعباد أبواب الأمل، ويثبت الإيمان، ويعين على الصبر، فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، واستحضر معانيها أثّر ذلك فيه أيما تأثير، وامتلأ قلبه بأجل المعارف والألطاف.

فمثلاً أسماء العظمة تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله.

وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة له، وشوقاً إليه، ورغبة بما عنده، وحمداً وشكراً له.

وأسماء العزة، والحكمة، والعلم، والقدرة تملأ القلب خضوعاً وخشوعاً وانكساراً بين يديه عز وجل.

وأسماء العلم، والخبرة، والإحاطة، والمراقبة، والمشاهدة تملأ القلب مراقبةً لله في الحركات والسكنات في الجلوات والخلوات، وحراسةً للخواطر عن الأفكار الرديئة، والإرادات الفاسدة.

وأسماء الغنى، واللطف، تملأ القلب افتقاراً، واضطراراً، والتفاتاً إليه في كل وقت وحال.

4_الانزجار عن المعاصي: ذلك أن النفوس قد تهفو إلى مقارفة المعاصي، فتذكر أن الله يبصرها، فتستحضر هذا المقام وتذكر وقوفها بين يديه، فتنزجر وترعوي، وتجانب المعصية.

5_أن النفوس طُلعَة، تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الآخرين، وربما وقع فيها شيء من الاعتراض أو الحسد، فعندما تتذكر أن الله من أسمائه =الحكيم+، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه عندئذٍ تكف عن حسدها، وتنقدع عن شهواتها، وتنفطم عن غيّها.

6_أن العبد يقع في المعصية، فتضيق عليه الأرض بما رَحُبت، ويأتيه الشيطان؛ ليجعله يسيء ظنه بربه، فيتذكر أن من أسماء الله =الرحيم، التواب، الغفور+ فلا يتمادى في خطيئته، بل ينزع عنها، ويتوب إلى ربه، ويستغفره فيجده غفوراً تواباً رحيماً.

7_ومنها أن العبد تتناوشه المصائب، والمكاره، فيلجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، فيذهب عنه الجزع والهلع، وتنفتح له أبواب الأمل.

8_ويقارع الأشرار، وأعداء دين الله من الكفار والفجار، فيجدُّون في عداوته، وأذيته، ومنع الرزق عنه، وقصم عمره، فيعلم أن الأرزاق والأعمار بيد الله وحده، وذلك يُثمر له الشجاعة، وعبودية التوكل على الله ظاهراً وباطناً.

9_وتصيبه الأمراض، وربما استعصت وعزَّ علاجها، وربما استبد به الألم، ودب اليأس إلى قلبه، وذهب به كل مذهب، حينئذٍ يتذكر أن الله هو الشافي، فيرفع يديه إليه ويسأله الشفاء، فتنفتح له أبواب الأمل، وربما شفاه الله من مرضه، أو صرف عنه ما هو أعظم، أو عوضه عن ذلك صبراً وثباتاً ويقيناً هو عند العبد أفضل من الشفاء.

10_أن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها: حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله ويشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته؛ فأفعاله دائرة بين العدل، والفضل، والرحمة، والحكمة.

11_أن من انفتح له هذا الباب باب الأسماء والصفات انفتح له باب التوحيد الخالص، الذي لا يحصل إلا للكُمّل من الموحدين.

12_زيادة الإيمان: فالعلم بأسماء الله وصفاته من أعظم أسباب زيادة الإيمان، وذلك لما يورثه في قلوب العابدين من المحبة، والإنابة، والإخبات، والتقديس، والتعظيم للباري جل وعلا [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] (محمد:17).

13_أن من أحصى تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله دخل الجنة، قال": =إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة+( ).

هذا وسيأتي معنى إحصائها عند الحديث عن قواعد في الأسماء.

وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.

 طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته ( )

أهل السنة والجماعة هم الذين اجتمعوا على الأخذ بسنة النبي"والعمل بها ظاهراً وباطناً في القول والعمل والاعتقاد.

وطريقتهم في أسماء الله وصفاته كما يأتي:

1_في الإثبات: يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.

2_في النفي: ينفون ما نفاه الله عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله"مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده لله تعالى إذ إن كل ما نفاه الله عن نفسه فهو صفات نقص تنافي كماله الواجب؛ فجميع صفات النقص كالعجز والنوم والموت ممتنعة على الله تعالى لوجوب كماله، وما نفاه عن نفسه فالمراد به انتفاء تلك الصفة المنفية، وإثبات كمال ضدها؛ وذلك أن النفي المحض لا يدل على الكمال حتى يكون متضمناً لصفة ثبوتية يُحمد عليها كما في قوله تعالى: [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ] (البقرة: 255)، وقوله: [وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (ق: 38).

فالله سبحانه وتعالى في آية الكرسي نفي عن نفسه (السنة والنوم) لكمال حياته وقيوميته، وفي الآية الثانية نفى نفسه (اللغوب) وهو التعب؛ لكمال قوته وقدرته، فالنفي هنا متضمن لصفة كمال.

أما النفي المحض فليس بكمال، وقد يكون سببه العجز أو الضعف كما قول الشاعر النجاشي يهجو بني العجلان:

قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة ولا

                   يظلمون الناس حبة خردل( )

فنفى عنهم الظلم لا لمدحهم، ولكن لذمهم؛ لأنهم عاجزون عنه أصلاً.

وكذلك قول الآخر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

                   ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

فهو لا يمدحهم لقلة شرهم، ولكنه يذمهم لعجزهم، ولهذا قال في البيت الذي بعده:

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا

                   شنوا الإغارة فرسانا وركبانا

وقد يكون سبب النفي عدم القابلية فلا يقتضي مدحاً، كما لو قلت: (الجدار لا يظلم).

ومن هنا يتبين لنا أن النفي المحض لا يدل على الكمال إلا إذا تضمن إثبات كمال الضد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً.

ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم، والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال+( ).

3_التوقف: وذلك فيما لم يرد إثباته أو نفيه مما تنازع الناس فيه كالجسم مثلاً، والحيز، والجهة ونحو ذلك، فطريقتهم فيه التوقف في لفظه فلا يثبتونه ولا ينفونه، لعدم ورود النص بذلك.

أما معناه فيستفصلون عنه، فإن أُريد به معنى باطل يُنَزَّهُ الله عنه رَدَّوه، وإن أُريد به معنىً حقٌّ لا يمتنع على الله قبلوه.

فلفظة =الجسم+ مثلاً يتوقفون في اللفظ، أما المعنى فيستفصلون، فإن أُريد به الشيء المحدث المركب المفتقر كل جزء منه إلى الآخر فهذا ممتنع على الرب الحي القيوم.

وإن أُريد بالجسم ما يقوم بنفسه، ويتصف به بما يليق به فهذا غير ممتنع على الله؛ فإنه سبحانه قائم بنفسه، متصف بالصفات الكاملة التي تليق به.

وكذلك الحال بالنسبة =للجهة+ يتوقفون في اللفظة، أما المعنى فإن أُريد بها جهة سفل فإن الله منزّه عن ذلك، وإن أُريد جهة علو تُحيط به فهذا ممتنع أيضاً، وإن أُريد بها أن الله في جهة أي في جهة علو لا تُحيط به فهذا ثابت لله، وهكذا شأنهم في الألفاظ المجملة كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن الألفاظ المجملة.

وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.  

 الأدلة على صحة مذهب السلف ( )

طريقة السلف الصالح أهل السنة والجماعة هي الطريقة الواجبة في أسماء الله وصفاته، وهي الأسلم والأعلم والأحكم، وليس هناك طريقة أخرى صحيحة في هذا الباب باب الأسماء والصفات إلا طريقتهم في إثباتها وإمرارها كما جاءت، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة منها:

1_أن طريقة السلف دل عليها الكتاب والسنة: فمن أدلة الكتاب قوله تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف:180)، وقوله: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الشورى:11)، وقوله: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء:36).

فالآية الأولى: دلت على وجوب الإثبات من غير تحريف، ولا تعطيل؛ لأنهما من الإلحاد في أسمائه عز وجل.

والآية الثانية: دلت على وجوب نفي التمثيل، والآية الثالثة دلت على وجوب نفي الكيفية، وعلى وجوب التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه.

أما من السنة فالأدلة كثيرة منها قوله": =اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء( )+.

2_العقل: فالعقل يدل على صحة مذهب السلف، ووجه دلالته أن تفصيل القول فيما يجب، ويجوز، ويمتنع على الله لا يُدْرَك إلا بالسمع الكتاب والسنة فوجب اتباع السمع في ذلك، وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، والسكوت عما سكت عنه.

3_الفطرة: أما دلالة الفطرة على صحة مذهب السلف فلأنَّ النفوس السليمة مجبولة ومفطورة على محبة الله وتعظيمه وعبادته، وهل تحب وتعظم وتعبد إلا من عرفت أنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص ؟

4_مطابقتها للكتاب والسنة: فمن تتبع طريقة السلف بعلم وعدل وجدها مطابقة لما في الكتاب والسنة جملة وتفصيلاً؛ ذلك لأن الله أنزل الكتاب ليدّبر الناس آياته، ويعملوا بها إن كانت أحكاماً، ويصدقوا بها إن كانت أخباراً.

5_أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين هم ورثة الأنبياء والمرسلين: فقد تلقوا علومهم من ينبوع الرسالة الإلهية؛ فالقرآن نزل بلغة الصحابة، وفي عصرهم، وهم أقرب الناس إلى معين النبوة الصافي، وهم أصفاهم قريحةً، وأقلهم تكلفاً، كيف وقد زكاهم الله في محكم تنزيله، وأثنى عليهم، وعلى التابعين لهم بإحسان كما قال تعالى: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ](التوبة: 100).

وقد تهدد رب العزة الذين يتبعون غير سبيلهم بالعذاب الأليم فقال عز وجل: [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً](النساء: 115).

ولا ريب أن سبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان.

فإذا كان الأمر كذلك فمن المحال أن يكون خير الناس، وأفضل القرون قد قصروا في هذا الباب بزيادة أو نقصان.

6_أن صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هم على مذهب أهل السنة والجماعة، أهل الإثبات للأسماء والصفات، وهم أبعد الناس عن مذاهب أهل الإلحاد( ).

7_تناقض علماء الكلام وحيرتهم واضطرابهم: فهذا مما يدل على صحة مذهب السلف؛ فلو كان مذهب الخلف حقّاً لما تناقضوا، ولما اضطربوا، ولما تحيروا وحيروا.

8_رجوع كثير من أئمة الكلام إلى الحق وإلى مذهب السلف: فهناك من أرباب علم الكلام الذين بلغوا الغاية فيه رجعوا إلى مذهب السلف، وتبرؤا من علم الكلام، وأعلنوا توبتهم منه، فهذا الرازي أحد أئمة أكابر علم الكلام ينوح على نفسه، ويبكي عليها، ويقول:

نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ

                   وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا 

                   وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نَسْتَفِدْ من بحثنا طول عمرنا

                    سوى أن جمعنا فيه قيل وقالُ

وكم قد رأينا من رجال ودولة 

                   فبادروا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علا شرفاتِها      

                   رجال فزالوا والجبال جبال

وقال ابن الصلاح: =أخبرني القطب الطوغائي مرتين أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم اشتغل بعلم الكلام، وبكى+.

وقد اعترف أكثر المتكلمين بالوقوع بالحيرة، والأمور، المشكلة المتعارضة فقال ابن أبي الحديد وهو من كبراء المعتزلة بعد عظيم توغله في علم الكلام:

فإذا الذي استكثرت منه هو الـ

                   ـجاني على عظائم المحن

فظللت في تيه بلا عَلَم

                   وغرقت في بحر بلا سفن

ومن الذين خاضوا في علم الكلام ورجعوا إلى منهج السلف أبو المعالي الجويني، والخسر وشاهي، وأبو حامد الغزالي( ).

ومن المتأخرين الذين خاضوا في علم الكلام ولم يرجعوا منه بفائدة، بل وقعوا في الحيرة الإمام الشوكاني×فإنه حدَّث عن نفسه فقال: =ها أنا أخبرك عن نفسي، وأوضح لك ما وقعت فيه أمس؛ فإني في أيام الطلب وعنفوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سمّوه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورُمْت الرجوع بفائدة، والعود بعائدة، فلم أظفر بغير الخيبة والحيرة، وكان ذلك من الأسباب التي حبّبت إليَّ مذهب السلف على أني كنت قبل ذلك عليه، ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفاً، وقلت عند ذلك في تلك المذاهب:

وغاية ما حصّلته من مباحثي

                   ومن نظري من بعد طول التأمل

هو الوقف ما بين الطريقين

                   حيرة فما علم من لم يلق غير التحير

على أنني قد خضت منه غماره

                   وما قنعت نفسي بغير التبحر( )

وبهذا يتبين لنا صحة مذهب السلف في باب الأسماء والصفات.

وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.

قواعد في أسماء الله عز وجل ( )

_القاعدة الأولى_ أسماء الله_ تعالى_ كلها حسنى:

أي بالغة في الحسن غايته، قال الله تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] (الأعراف:180).

وذلك لأنها متضمنة لصفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لا احتمالاً ولا تقديراً، ذلك لأن الألفاظ إما أن تدل على معنى ناقص نقصاً مطلقاً فهذه ينزه الله عنها، وإما أن تدل على غاية الكمال فهذه هي الدالة على أسماء الله وصفاته، وإما أن تدل على كمال لكنه يحتمل النقص فهذا لا يُسمّى الله به لكن يُخبر به عنه، مثل: المتكلم، الشائي.

كذلك ما يدل على نقص من وجه وكمال من وجه لا يُسمّى الله به، لكن يُخبر به عن الله مثل: الماكر.

ومثال الأسماء الحسنى =الحي+ وهو اسم من أسماء الله متضمن للحياة الكاملة التي لم تُسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.

ومثال آخر =العليم+ من أسماء الله متضمن للعلم الكامل، الذي لم يُسبق بجهل، ولا يلحقه نسيان.

قال الله تعالى: [قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى] (طه:52).

 العلم الواسع بكل شيء جملة وتفصيلاً، سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال العباد.

وقل مثل ذلك في السميع، والبصير، والرحمن، والعزيز، والحكيم وغيرها من الأسماء الحسنى.

 _القاعدة الثانية_ أسماء الله _تعالى_ أعلام وأوصاف:

أعلام باعتبار دلالتها على الذات، وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني.

وهي بالاعتبار الأول مترادفة؛ لدلالتها على مسمى واحد وهو الله عز وجل.

وبالاعتبار الثاني متباينة؛ لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص؛ فمثلاً =الحي، القدير، السميع، البصير، الرحيم، العزيز، الحكيم+ كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى لكن معنى =الحي+ غير معنى =العليم+، ومعنى =العليم+ غير معنى =القدير+ وهكذا. . .

_القاعدة الثالثة_ أسماء الله _تعالى_ إن دلت على وصفٍ متعدٍّ تضمنت ثلاثة أمور:

أحدها: ثبوت ذلك الاسم.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها ذلك الاسم لله_ عز وجل_.

الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها _أي الأسماء_.

مثال ذلك =السميع+ فهو يتضمن إثبات =السميع+ اسماً لله تعالى وإثبات =السمع+ صفة له، وإثبات حكم ذلك ومقتضاه، وهو أنه يسمع السر والنجوى، كما قال تعالى: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] (المجادلة: 1).

وقل مثل ذلك في العليم والرحيم، وغيرها من الأسماء المتعدية.

وإن دلت على وصفٍ غير متعدٍ لا لازم تضمن أمرين:

أحدها: ثبوت ذلك الاسم.

الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.

مثل اسم =الحي+ فهو يتضمن إثبات اسم =الحي+ لله عز وجل وإثبات =الحياة+ صفة له، ومثل ذلك اسم =العظيم والجليل+.

 _القاعدة الرابعة_ دلالة أسماء الله _تعالى_ على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.

فمعنى دلالة المطابقة: تفسير الاسم بجميع مدلوله، أو دلالته على جميع معناه.

ومعنى دلالة التضمن: تفسير الاسم ببعض مدلوله، أو بجزء معناه.

ومعنى دلالة الالتزام: الاستدلال بالاسم على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها، أو على لازم خارج عنها.

مثال ذلك: =الخالق+ يدل على ذات الله، وعلى صفة =الخلق+ بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي =العلم والقدرة+ بالالتزام.

وذلك لأن الخالق لا يمكن أن يخلق إلا وهو قادر، وكذلك لا يمكن أن يخلق إلا وهو عالم( ).

 _القاعدة الخامسة_ أسماء الله توقيفية لا مجال للعقل فيها:

ومعنى ذلك أن نتوقف على ما جاء في الكتاب والسنّة، فلا نسمّي الله تعالى إلا بما سمَّى به نفسه، أو سمّاه به رسوله"لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء.

وتسميتهُ تعالى بما لم يسمِّ به نفسه، أو إنكار ما سمَّى به نفسه جناية في حقه تعالى فوجب سلوك الأدب، والوقوف مع النص.

 _القاعدة السادسة_ أسماء الله غير محصورة بعدد معين:

لقوله"في الحديث المشهور: =أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك+( ).

وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحداً حَصْرُه، ولا الإحاطة به.

قال ابن القيم×في قوله": =استأثرت به+: =أي انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه+( ).

وأما قوله"في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: =إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة+( ) فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة =إن أسماء الله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة+.

قال ابن القيم×في بيان مراتب إحصاء أسماء الله التي من أحصاها دخل الجنة:

=المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.

المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.

المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا](الأعراف: 180).

وهو مرتبتان، إحداها: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة+( ).

 _القاعدة السابعة_ أن من أسماء الله _تعالى_ ما يطلق عليه مفرداً ومقترناً بغيره، ومنها ما لا يطلق إلا مقترناً بمُقابله:

فغالب الأسماء يطلق مفرداً ومقترناً بغيره من الأسماء، كالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحليم.

فهذه الأسماء وما جرى مجراها يسوغ أن يدعى بها مفردة، ومقترنة بغيرها، فنقول: يا عزيز، يا حليم، يا غفور، يا رحيم.

أو أن يفرد كل اسم على حِدَةٍ فنقول: يا حليم، أو يا غفور، أو يا عزيز وهكذا...

ومن الأسماء ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقروناً بمقابله، كالمانع، والضار، والمنتقم، والمذل.

فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله؛ فإنه مقرون بالمعطي، والنافع والعَفُو والمعز؛ فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أن المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً ومنعاً، ونفعاً وضراً، وعفواً وانتقاماً، وعزَّاً وذلاً.

وأما أن يُثنى عليه بمجرد المنع، والانتقام، والإضرار فلا يسوغ.

فهذه الأسماء المزدوجة تجرى الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض؛ فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجىء مفردة، ولم تُطلق عليه إلا مقترنة؛ فلو قلت: يا مذل، يا ضار، يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنياً عليه ولا حامداً له حتى تذكر مقابلها. وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.

 قواعد في صفات الله ـ تعالى ـ( )

القاعدة الأولى: صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجه: كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والرحمة، والعلو، والعظمة، وغير ذلك، وقد دل على هذا: السمعُ والعقلُ، والفطرة.

أما السمع فمنه قوله تعالى: [لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى](النحل: 60).

والمثل الأعلى: الوصف الأعلى الكامل.

وأما العقل فوجهه: أن كل موجود حقيقةً لابد أن تكون له صفة: إما صفة كمال، وإما صفة نقص، والثاني باطل بالنسبة إلى الرب الكامل المستحق للعبادة، فتعين الأول.

ثم إنه قد ثبت بالحسن والمشاهدة أن للمخلوق صفات كمال، ومُعْطي الكمال أولى به.

وأما الفطرة: فلأن النفوس السليمة مجبولة على محبة الله، وتعظيمه، وعبادته.

وهل تحب، وتعظم، وتعبد إلا من علمت أنه متصف بصفات الكمال اللائقة بربوبيته وألوهيته ؟.

ثم إن الصفات منها ما هو كمال على الإطلاق كالصفات السابقة، فهذه ثابتة لله تعالى.

ومنها ما هو نقص على الإطلاق فهذه منفية عن الله، كالجهل، والعمى، والصمم.

ومنها ما هو كمال من وجه ونقص من وجه، فهذه يوصف الله بها في حال كمالها، ويمتنع وصفه بها في حال نقصها، بحيث يوصف الله بها وصفاً مقيداً مثل المكر، والكيد والمخادعة.

القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء: وذلك لأن كل اسم متضمن لصفة كما سبق في القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء، ولأن من الصفات ما يتعلق بأفعال الله، وأفعاله عز وجل لا منتهى لها.

قال تعالى: [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (لقمان: 27).

ومن أمثلة ذلك أن من صفات الله المجيءَ والأخذَ، والإتيان، والإمساك، والبطش، فنصف الله بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولا نسميه بها، فلا نقول: إن من أسمائه الجائي، والآتي، والباطش، والآخذ، والممسك، والنازل، والمريد، ونحو ذلك، وإن كنا نُخبر بذلك عنه، ونصفه به.

القاعدة الثالثة: صفات الله تنقسم إلى قسمين: ثبوتية وسلبية: فالثبوتية: هي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"وكلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والاستواء، واليدين، والوجه، فيجب إثباتها لله على الوجه اللائق به، وقد تقدم ذلك في الحديث عن طريقة أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته.

وأما السلبية أو المنفية: فهي ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله"مثل الصمم، والنوم، وغير ذلك من صفات النقص، فيجب نفيها عن الله كما مر.

القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال، فكلما كثرت وتنوعت دلالتها ظهر من كمال الموصوف بها ما هو أكثر: ولهذا كانت الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات السلبية؛ فالقاعدة في ذلك الإثبات المفصل، والنفي المجمل؛ فالإثبات مقصود لذاته، أما النفي فلم يذكر غالباً إلا على الأحوال التالية:

 أ_بيان عموم كماله كما في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] (الشورى: 11)، وقوله [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ] (الإخلاص: 4).

ب_ نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون كما في قوله: [أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً] (مريم:، 91 92).

ج_ دفع توهم نقص من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر كما في قوله: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ] (الدخان: 38)، وقوله: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ] (ق: 38).

ثم إن النفي مع أنه مجمل بالنسبة للإثبات إلا أن فيه تفصيلاً وإجمالاً بالنسبة لنفسه.

فالإجمال في النفي أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص، كما في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ](الشورى: 11).

وقوله: [هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً](مريم: 65).

وقوله: [سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون](الصافات: 180).

وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه عن كل واحد من العيوب والنقائض بخصوصه، فينزه عن الولد، والصاحبة، والسِّنة، والنوم، وغير ذلك مما ينزه الله عنه.

القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية:

 أ_الذاتية: هي التي لم يزل الله ولا يزال متصفاً بها، وهي التي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، والوجه، واليدين.

ب_ الفعلية: وتسمى الصفات الاختيارية، وهي التي تتعلق بمشيئة الله، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وتتجدد حسب المشيئة كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا.

وقد تكون الصفة ذاتية وفعلية باعتبارين، كالكلام؛ فإنه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأن الكلام يتعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء بما شاء، وكل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء إلا وهو موافق لحكمته، كما يشير إليه قوله تعالى: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً] (الإنسان: 30).

القاعدة السادسة: الصفات الذاتية والفعلية تنقسم إلى قسمين:

عقلية، وخبرية:

 أ_ عقلية: وهي التي يشترك في إثباتها الدليل الشرعي السمعي، والدليل العقلي، والفطرة السليمة.

وهي أغلب صفات الله تعالى مثل صفة السمع، والبصر، والقوة، والقدرة، وغيرها.

ب_ خبرية: وتسمى النقلية، والسمعية، وهي التي لا تعرف إلا عن طريق النص، فطريق معرفتها النص فقط، مع أن العقل السليم لا ينافيها، مثل صفة اليدين، والنزول إلى السماء الدنيا.

القاعدة السابعة: صفات الله توقيفية:

فلا نَصِفُ الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله".

ولدلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة ثلاثة أوجه:

أ_ التصريح بالصفة: كالعزة، والقوة، والرحمة، كما في قوله

 تعالى: [فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً](النساء: 139)، وقوله: [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ](الذاريات:58)، وقوله: [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ] (الأنعام:133).

ب  تضمن الاسم لها: كالعزيز والغفور، قال تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ](الملك: 2) ؛ فالعزيز متضمن لصفة العزة، والغفور متضمن لصفة المغفرة.

ج_ التصريح بفعل أو وصف دال عليها، كالاستواء على العرش، والمجىء قال تعالى: [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى] (طه: 5).

وقال: [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً] (الفجر: 22).

القاعدة الثامنة: المضافات إلى الله إن كانت أعياناً فهي من جملة المخلوقات، وإن كانت أوصافاً فهي من صفات الله:

وبيان ذلك أن المضافات إلى الله على نوعين:

 أ_أعيان قائمة بذاتها مثل: عبدالله، ناقة الله، فهذه من جملة المخلوقات، وإضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق لخالقه، وقد تقتضي تشريفاً مثل: بيت الله، وناقة الله، وقد لا تقتضي تشريفاً مثل: أرض الله، سماء الله.

ب_ أن يكون المضاف أوصافاً غير قائمة بذاتها مثل: سَمْع الله، قدرة الله، بصر الله، فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله، وأن الله متصف بها، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف.

القاعدة التاسعة: القول في بعض الصفات كالقول في بعض:

وهي قاعدة يُردُّ بها على من فرَّق بين الصفات فأثبت بعضها، ونفى بعضها، فيقال لمن فعل ذلك: أثبت الجميع، أو انفِ الجميع.

ومن أثبت بعض الصفات، ونفى بعضها، فهو مضطرب متناقض، وتناقض القول دليل على فساده وبطلانه.

القاعدة العاشرة: القول في الصفات كالقول في الذات:

وذلك أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات.

القاعدة الحادية عشرة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار، ومجهولة لنا باعتبار:

فباعتبار المعنى معلومة، وباعتبار الكيفية مجهولة؛ كالاستواء مثلاً، فمعناه معلوم لنا فهو بمعنى العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار.

أما كيفيته فمجهولة؛ لأن الله أخبرنا بأنه استوى، ولم يخبرنا عن كيفية استوائه، وهكذا يقال في باقي الصفات.

القاعدة الثانية عشرة: في العلاقة بين الصفات والذات:

وخلاصة القول في هذه المسألة أن العلاقة بين الصفات والذات علاقة تلازم؛ فالإيمان بالذات يستلزم الإيمان بالصفات، وكذلك العكس؛ فلا يتصور وجود ذات مجردة عن الصفات في الخارج، كما لا يتحقق وجود صفة من الصفات في الخارج إلا وهي قائمة بالذات( ).

القاعدة الثالثة عشرة: في علاقة الصفات بعضها ببعض من حيث الآثار والمعاني:

أما بالنسبة لبعضها فقد تكون مترادفة من حيث المعنى أو متقاربة.

مثل المحبة، والرحمة، والفرح، والتعجب، والضحك.

وهناك صفات متقابلة كالرفع والخفض، والظاهرية والباطنية، والنفع والضر، والقبض والبسط.

وهناك صفات متضادة من حيث معانيها، مثل الغضب والسخط مع الرضا، ومثل الكراهية مع الحب، وهكذا. . .

فاتصافه عز وجل بهذه الصفات المزدوجة المأخوذة من أسمائه المتقابلة، وبالصفات المتضادة في معناها على ما تقدم، والمترادفة باعتبار الذات، والمتباينة باعتبار ما بينها في الغالب دليل على الكمال الذي لا يشاركه فيه أحد؛ لدلالته على شمول القدرة الباهرة، الحكمة البالغة، والتفرد بشؤون الكون كله( ).

وصلى الله وسلم علي نبينا محمد وآله وسلم.

 ما ضد توحيد الأسماء والصفات

يضاد توحيد الأسماء، والصفات الإلحادُ فيها، ويدخل في الإلحاد التعطيلُ، والتمثيلُ، والتكييف، والتفويض، والتحريف، والتأويل.

1_الإلحاد: الإلحاد في اللغة هو: الميل، ومنه اللحد في القبر، ومنه قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي:

كم من أخ كان لي ماجدٍ

                   ألحدته في يديَّ الثرى

وقول جرير:

دعوت الملحدين أبا خبيب

                   جماحاً هل شفيت من الجماح( )

ويُقصد بالملحدين: المائلين عن الحق.

أما في الاصطلاح: فهو العدول عما يجب اعتقاده أو عمله( ).

والإلحاد في أسماء الله هو: العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها.

 أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته( ):

1_أن ينكر شيئاً مما دلت عليه من الصفات كفعل المعطلة.

2_أن يجعلها دالة على تشبيه الله بخلقه، كفعل أهل التمثيل.

3_أن يُسمي الله بما لم يُسمِّ به نفسه؛ لأن أسماء الله توقيفية، كتسمية النصارى له =أباً+ وتسمية الفلاسفة إياه =علة فاعلة+ أو تسميته ب =مهندس الكون+ أو =العقل المدبر+ أو غير ذلك.

4_أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام، كاشتقاق =اللات+ من =الإله+ والعُزَّى من =العزيز+.

5_وصفه تعالى بما لا يليق به، وبما ينزه عنه، كقول اليهود: بأن الله تَعِبَ من خلق السماوات والأرض، واستراح يوم السبت، أو قولهم: إن الله فقير.

2_التعطيل: التعطيل في اللغة: مأخوذ من العطل، الذي هو الخلو والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى: [وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ] (الحج: 45)، أي: أهملها أهلها، وتركوا وردها( ).

وفي الاصطلاح: هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه، وهو نوعان:

أ_تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً.

ب_ تعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف ذلك من هذه الأمة الجعد بن درهم( ).

3_التمثيل: هو: إثبات مثيل للشيء، وفي الاصطلاح: اعتقاد أن صفات الله مثل صفات المخلوقين، كأن يقول الشخص: لله يد كيدي.

4_التكييف: حكاية كيفية الصفة كقول القائل: يد الله أو نزوله إلى الدنيا كذا وكذا، أو يده طويلة، أو غير ذلك، أو أن يسأل عن صفات الله بكيف.

5_التفويض: هو الحكم بأن معاني نصوص الصفات مجهولة غير معقولة لا يعلمها إلا الله( ).

أو هو إثبات الصفات وتفويض معناها وكيفيتها إلى الله عز وجل.

والحق أن الصفات معلومة معانيها، أما كيفيتها فيفوض علمها إلى الله عز وجل.

6_التحريف: التحريف لغة: التغيير، وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظاً أو معنى.

والتغيير اللفظي قد يتغير معه المعنى، وقد لا يتغير، فهذه ثلاثة أقسام:

 أ_تحريف لفظي يتغير معه المعنى، كتحريف بعضهم قوله تعالى: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء: 164) إلى نصب لفظ الجلالة؛ ليكون التكليم من موسى عليه السلام.

ب_ تحريف لفظي لا يتغير معه المعنى، كفتح الدال من قوله تعالى: [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (الفاتحة: 2)، وذلك بأن يقول: =الحمدَ لله. . . + وهذا في الغالب لا يقع إلا من جاهل؛ إذ ليس فيه غرض مقصود لفاعله غالباً.

جـ_ تحريف معنوي: وهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل كتحريف معنى =اليدين+ المضافتين إلى الله إلى القوة والنعمة ونحو ذلك.

7_التأويل: التأويل في اللغة يدور حول عدة معانٍ، منها الرجوع، والعاقبة، والمصير، والتفسير.

أما في الاصطلاح فيطلق على ثلاثة معانٍ، اثنان منهما صحيحان مقبولان معلومان عند السلف، والثالث مبتدع باطل.

وإليك بيان هذه المعاني:

المعنى الأول: التفسير، وهو إيضاح المعنى، وبيانه.

وهذا اصطلاح جمهور المفسرين كابن جرير وغيره، فتراهم يقولون: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي تفسيرها.

الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة، كما قال تعالى: [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ](الأعراف: 53)، وقوله: [ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (الإسراء: 35)، وقوله عن يوسف عليه السلام: =هذا تأويل رؤياي من قبل+.

الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر.

وهذا ما اصطلح عليه المتأخرون من أهل الكلام وغيرهم.

كتأويلهم الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة.

وهذا هو الذي ذمه السلف.

 الفرق التي ضلت في باب الأسماء والصفات( )

هناك فرق عديدة ضلت في هذا الباب منها:

1_الجهمية: وهم أتباع الجهم بن صفوان، وهم ينكرون الأسماء والصفات.

2_المعتزلة: وهم أتباع واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وهم يثبتون الأسماء، وينكرون الصفات، معتقدين أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء( ).

3_الأشاعرة: وهم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهم يثبتون الأسماء، وبعض الصفات، فقالوا: إن لله سبع صفات عقلية يسمونها =معاني+ هي =الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر والكلام+ وهي مجموعة في قول القائل:

حي عليم قدير والكلام له

                   إرادة وكذلك السمع والبصر

وإثباتهم لهذه الصفات مخالف لطريقة السلف( ).

4_الماتريدية: وهم أتباع أبي منصور الماتريدي، وهم يثبتون الأسماء وبعض الصفات، وإن كان هذا الإثبات مخالفاً لطريقة السلف( ).

5_الممثلة: وهم الذين أثبتوا الصفات، وجعلوها مماثلة لصفات المخلوقين، وقيل إن أول من قال بذلك هو هشام بن الحكم الرافضي.

 حكم من نفى صفة من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة

هذا الأمر يحتاج إلى تأنٍّ وتريث، ثم تفصيل.

فيقال: إن الذي ينفي صفة من الصفات الثابتة بالنصوص القطعية لا يخلو من أحد ثلاثة أحوال.

أحدها: أن يكون النافي عالماً بالنص الذي ثبتت به الصفة المنفية كتاباً كان أو سنة، ولا توجد لديه شبهات قد تغير مفهومه للنص وإنما نفى لعناده، وفساد قصده، ومرض قلبه، ومشاقته للرسول من بعد ما تبين له الحق.

فهذا كافر؛ لتكذيبه كلام الله أو كلام رسوله".

الثاني: أن يكون النافي مجتهداً في طلب الحق، معروفاً بالنصيحة والصدق ولكنه أخطأ وتأول: لجهله بالنص، أو لعدم علمه بالمفهوم الصحيح. فحكمه أنه معذور، وخطؤه مغفور؛ لأن نفيه ناتج عن تأويل، لا عن عناد وفساد قصد.

الثالث: أن يكون النافي متعباً لهواه، مقصراً في طلب الحق، متكلماً بلا علم، ولكنه لا يقصد مشاقة الرسول، ولم يتبين له الحق تماماً فحكمه أنه عاصٍ مذنب، وقد يكون فاسقاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد"وقصد الحق فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر. ومن اتبع هواه، وقصَّر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاصٍ مذنب، وقد يكون فاسقاً، وقد تكون حسناته ترجح على سيئاته؛ فالتكفير يختلف باختلاف حال الشخص؛ فليس كل مخطىء، ولا مبتدع ولا جاهل، ولا ضال يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل ولا عاصياً+( ).

وقال ×: =هذا مع أنني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق ومعصية إلا إذا عُلِم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى. وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية.

وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية.

إلى أن قال: =وكنت أبيِّن أن ما نقل عن السلف، والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول: كذا وكذا فهو أيضاً حق.

لكن يجب التفريق بين الإطلاق، والتعيين+( ).

 مسائل أحدثها المتكلمون =الكلمات المُجْمَلة +

يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح (الكلمات المجملة).

فما المقصود بها ؟ وما معنى كونها مجملة ؟ وما المراد من إطلاقها ؟ وما الذي دعى إلى إطلاقها ؟ وهل وردت في الكتاب والسنة ؟ وما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الألفاظ ؟

والإجابة عن هذه الأسئلة تكون على النحو التالي:

أ_المقصود بالكلمات المجملة: أنها ألفاظ يطلقها أهل التعطيل.

أو: هي مصطلحات أحدها أهل الكلام.

ب_ ومعنى كونها مجملة: لأنها تحتمل حقاً وباطلاً.

أو يقال: لأنها ألفاظ مُشتركة بين معانٍ صحيحة، ومعانٍ باطلة. أو يقال لخفاء المراد منها؛ بحيث لا يدرك بنفس اللفظ إلا بعد الاستفصال والاستفسار.

ج_ ومراد أهل التعطيل من إطلاقها: التوصل إلى نفي الصفات عن الله تعالى بحجة تنزيهه عن النقائص.

د_ والذي دعاهم إلى ذلك: عجزهم عن مقارعة أهل السنة بالحجة؛ فلجؤوا إلى هذه الطريقة؛ ليخفوا عوارهم، وزيفهم.

هـ_ وهذه الألفاظ لم ترد لا في الكتاب، ولا في السنة؛ بل هي من إطلاقات أهل الكلام.

و_ وطريقة أهل السنة في التعامل مع هذه الكلمات: أنهم يتوقفون في هذه الألفاظ؛ لأنه لم يرد نفيها ولا إثباتها في الكتاب والسنة؛ فلا يثبتونها، ولا ينفونها.

أما المعنى الذي تحت هذه الألفاظ فإنهم يستفصلون عنه، فإن كان معنى بالطلاً يُنَزَّه الله عنه رَدُّوه، وإن كان معنى حقاً لا يمتنع على الله قبلوه، واستعملوا اللفظ الشرعي المناسب للمقام.

وإليك فيما يلي نماذج وأمثلة لبعض الألفاظ المجملة:

1_الجهة.

2_الحدَّ.

3_الأعراض.

4_الأبعاض أو الأعضاء والأركان والجوارح.

5_حلول الحوادث بالله_تعالى_.

6_حلول الحوادث بالله_تعالى_.

7_التسلسل.

وإليك فيما يلي تفصيلاً لهذه الألفاظ، وما يراد بها، وجواب أهل السنة المفصل على ذلك.

يَرِدُ في كتب العقائد مصطلح (الكلمات المجملة).

 دراسة موجزة لبعض الكلمات المُجْملة

أولاً_الجهة: هذه اللفظة من الكلمات المجملة التي يطلقها أهل التعطيل، فما معناها في اللغة ؟ وما مرادهم من إطلاقها ؟ وما التحقيق في تلك اللفظة ؟ وهي هي ثابتة لله، أو منفية عنه ؟

أ_معنى الجهلة في اللغة: تطلق على الوضع الذي تتوجه إليه، وتقصده، وتطلق على الطريق، وعلى كل شيء استقبلته، وأخذت فيه( ).

ب_ ومراد أهل التعطيل من إطلاق لفظ الجهة: نفي صفة العلو عن الله عز وجل.

ج_ والتحقيق في هذه اللفظة: أن يقال: إن إطلاق لفظ الجهة في حق الله سبحانه وتعالى أمر مبتدع لم يرد في الكتاب ولا السنة، ولا عن أحد من سلف هذه الأمة.

وبناء على هذا لا يصح إطلاق الجهة على الله عز وجل لا نفياً ولا إثباتاً، بل لابد من التفصيل؛ لأن هذا المعنى يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً.

فإن أريد بها جهة سفل فإنها منتفية عن الله، وممتنعة عليه أيضا؛ فإن الله أعظم وأجل من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، كيف وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟

وإن أريد بالجهة أنه في جميع الجها، وأنه حالٌّ في خلقه، وأنه بذاته في كل مكان فإن ذلك بالحل ممتنع على الله، منتفٍ في حقه.

وإن أريد نفي الجهة عن الله كما يقول أهل التعطيل حيث يقولون: إن الله ليس في جهة، أي ليس في مكان، فهو لا داخل العالم، ولا خارجة، ولا متصل، ولا منفصل، ولا فوق، ولا تحت فإن ذلك أيضاً ممتنع على الله منتفٍ في حقه؛ إذ إن ذلك وصف له بالعدم المحض.

وإن أريد بالجهة أنه في جهة علوٍّ تليق بجلاله، وعظمته من غير إحاطة به، ومن غير أن يكون محتاجاً لأحد من خلقه فإن ذلك حق ثابت له، ومعنى صحيح دلت عليه النصوص، والعقول، والفطر السليمة.

ومعنى كونه في السماء، أي في جهة العلو، أو أن =في+ بمعنى على، أي على السماء، كما قال تعالى: [وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ](طه: 71) أي على جذوع النخل.

وبهذا التفصيل يتبين الحق من الباطل في هذا الإطلاق.

أما بالنسبة للفظ فكما سبق لا يثبت ولا ينفي، بل يجب أن يستعمل بدلاً عنه اللفظ الشرعي، وهو العلو، والفوقية( ).

ثانياً_الحد: وهذا_أيضاً_ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل التعطيل.

فما معنى الحد في اللغة ؟ وماذا يريد أهل التعطيل من إطلاقه ؟ وما شبهتهم في ذلك ؟ وما جواب أهل السنة ؟

أ_ معنى الحد في اللغة: يطلق على الفَصْل، والمنع، والحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر.

يقال: حددت كذا، جعلت له حداً يميزه.

وجد الدار ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه، المميز له عن غيره( ).

ب_ وأهل التعطيل يريدون من إطلاق لفظ (الحد) نفي استواء الله على عرشه.

ج_ وشبهتهم في ذلك: أنهم يقولون: لو أثبتنا استواء الله على عرشه للزم أن يكون محدوداً؛ لأن المستوى على الشيء يكون محدوداً؛ فالإنسان مثلاً إذا استوى على البعير صار محدوداً بمنطقة معينة، محصوراً بها، وعلى محدود أيضاً.

وبناء على ذلك فهم ينفون استواء الله على عرشه ويرون أنهم ينزهون الله عز وجل عن الحد، أو الحدود.

د جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون:

إن لفظ (الحد) لم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام سلف الأمة؛ فهو إذاً لفظ مبتدع حادث.

وليس لنا أن نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله"لا نفياً، ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون.

هذا بالنسبة للفظ.

أما بالنسبة للمعنى فإننا نستفصل كعادتنا ونقول ماذا تريدون بالحد ؟

إن أردتم بالحد أن الله عز وجل محدود، أي متميز عن خلقه، منفصل عنهم، مباين لهم فهذا حق ليس فيه شيء من النقص، وهو ثابت لله بهذا المعنى.

وإن أردتم بكونه محدوداً أن العرش محيط به وأنتم تريدون نفي ذلك عنه بنفي استوائه عليه فهذا باطل وليس بلازم صحيح؛ فإن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش.

ولا يلزم من كونه مستوياً على العرش أن يكون العرش محيطاً به؛ لأن الله عز وجل أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه( ).

ثالثاً_الأعراض: هذا اللفظ من الألفاظ المجملة التي يطلقها أهل الكلام ومن أقوالهم في ذلك: =نحن نُنَزِّه الله تعالى من الأعراض والأغراض، والأبعاض، والحدود، والجهات+.

ويقولون: =سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض+.

والحديث في الأسطر التالية سيكون حول لفظ (الأعراض). أما بقية الألفاظ فسيأتي ذكرها فيما بعد.

أ_ تعريف الأعراض في اللغة: الأعراض جمع عَرَض، والعَرض هو ما لا ثبات.

أو هو: ما ليس بلازم للشيء.

أو هو: ما لا يمتنع انفكاكه عن الشيء( ).

ومن الأمثلة على ذلك: الفرح بالنسبة للإنسان فهو عَرَض؛ لأنه لا ثبات بل هو عارض يعرض ويزول.

وكذلك الغضب، والرضا.

ب_ العَرَض في اصطلاح المتكلمين: قال الفيومي: =العَرَض عند المتكلمين ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا في محل يقوم به+( ).

وقال الراغب الأصفهاني: =والعرض ما لا يكون له ثبات، ومنه استعار المتكلمون العَرَض لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون والمطعم( ).

ج_ ما مراد المتكلمين من قولهم: =إن الله منزه عن الأعراض ؟+: مرادهم من ذلك نفي الصفات عن الله تعالى لأن الأعراض عندهم هي الصفات.

د_ ما شبهتهم ؟: يقولون: لأن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام، والأجسام متماثلة؛ فإثبات الصفات يعني أن الله جسم، والله منزه عن ذلك وبناء عليه نقول: بنفي الصفات؛ لأنه يترتب على إثباتها التجسيم، وهو وصف الله بأنه جسم، والتجسيم تمثيل، وهذا كفر وضلال، هذه هي شبهة المتكلمين.

ه_ الرد على أهل الكلام في هذه المسألة: الرد عليهم من وجوه:

1_أن لفظة =الأعراض+ لم ترد في الكتاب ولا في السنة لا نفياً ولا إثباتاً، ولم ترد كذلك عن سلف الأمة.

وطريقة أهل السنة المعهودة في مثل هذه الألفاظ التوقف في اللفظ، فلا نثبت الأعراض، ولا ننفيها.

أما معناها فيُستَفْصَل عن مرادهم في ذلك ويقال لهم: إن أردتم بالأعراض ما يقتضي نقصاً في حق الله تعالى كالحزن، والندم، والمرض، والخوف، فإن المعنى صحيح، والله منزه عن ذلك؛ لأنه نقص، لا لأنها أعراض.

وإن أردتم نفي ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله"من الصفات كالغضب، والفرح، والرضا، ونحوها بحجة أنها أعراض فإن ذلك باطل مردود، ولا يلزم من إثباتها أي لازم.

2_أن الصفات الربانية ليست كلها أعراض، بل إن بعضها أعراض كالفرح، والغضب. وبعضها ليست أعراضاً، كبعض الصفات الذاتية كاليد، والوجه، والقدم، والساق؛ فهذه ليست أعراضاً، بل لازمة للذات لا تنفك عنها.

3_أن قولكم: =إن الأعراض لا تقوم إلا بجسم+ قول باطل؛ فالأعراض قد تقوم بغير الجسم كما يقال: ليل طويل، فقولنا: طويل، وصف ل: ليل، والليل ليس بجسم، ومثل ذلك: حر شديد، ومرض مؤلم، وبرد قارس.

4_أن القول بتماثل الأجسام قول باطل؛ فالأجسام غير متماثلة لا بالذوات ولا بالصفات، ولا بالحدوث؛ ففي الحجم تختلف الذرَّة عن الجمل، وفي الوزن يختلف جسم القيراط عن جسم القنطار، وفي الملمس يختلف الخشن عن الناعم، واللين عن القاسي، وهكذا.

5_أن لفظ الجسم من إحداث المتكلمين، وهذا اللفظ كقاعدة الألفاظ المجملة؛ فإن كان إثبات الصفات بلزم منه أن يكون جسماً في مفهومك فليس ذلك يضيرنا.

لكن إن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق لأننا نؤمن بأن لله ذاتاً موصوفة بالصفات اللائقة بها.

فإن أردت بالجسم هذا المعنى فيصح.

وإن أردت بالجسم الشيء المكوَّن من أعضاء، ولحم ودم المفتقر بعضه إلى بعض وما أشبه ذلك فباطل غير صحيح؛ لأنه يلزم أن يكون الله حادثاً أو مُحْدَثاً. وهذا أمر مستحيل، على أننا لا نوافق على إثبات الجسم، ولا نفيه؛ لأنه يحتمل حقاً وباطلاً.

رابعاً_الأبعاض: أو الأعضاء، أو الأركان، أو الجوارح: وهذه أيضاً من الكلمات المجملة التي تطلق وتحتمل حقاً وباطلاً؛ فإليك نبذة في معانيها، ومقصود أهل التعطيل من إطلاقها وجواب أهل السنة على تلك الدعوى.

أ_ معاني هذه الكلمات: معاني هذه الكلمات متقاربة من بعض.

•        فالأبعاض: جمع لكلمة بعض، يقال: بعض الشيء أي جزؤه، وبعّضْتُ كذا أي جعلته أبعاضاً( ).

•        والأركان: جمع ركن، وركن الشيء قوامه، وجانبه القوي الذي يتم به، ويسكن إليه.

•        والأجزاء: جمع جزء، والجزء ما يتركب الشيء عنه وعن غيره، وجزء الشيء ما يتقوم به جملتُه كأجزاء السفينة، وأجزاء البيت.

•        والجوارح: مفردها الجارحة، وتسمى الصائدة من الكلاب والفهود والطيور جارحة؛ إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب.

وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهاً بها لأحد هذين( ).

•        ويشبه هذه الألفاظ لفظ: الأعضاء، والأدوات، ونحوها.

ب_ مقصود أهل التعطيل من إطلاقها: مقصودهم نفي بعض الصفات الذاتية الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد، والوجه، والساق، والقدم والعين( ).

ج_ ما الذي دعاهم إلى نفيها ؟: الذي دعاهم إلى نفي تلك الصفات هو اعتقادهم أنها بالنسبة للمخلوق أبعاض، وأعضاء، وأركان، وأجزاء، وجوارح وأدوات ونحو ذلك، فيرون بزعمهم أن إثبات تلك الصفات لله يقتضي التمثيل، والتجسيم؛ فوجب عندهم نفيها قراراً من ذلك. وقد لجؤوا إلى تلك الألفاظ المجملة لأجل أن يروج كلامهم ويلقى القبول.

د_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذه الصفات وإن كانت تعد في حق المخلوق أبعاضاً، أو أعضاءً، وجوارح ونحو ذلك لكنها تعدُّ في حق الله صفات أثبتها لنفسه، أو أثبتها له رسوله"فلا نخوض فيها بآرائنا وأهوائنا، بل نؤمن بها ونُمرُّها كما جاءت ونفوض كنهها وحقيقتها إلى الله عز وجل لعدم معرفتنا لحقيقة الذات؛ لأن حقيقة معرفة الصفة متوقفة على معرفة حقيقة الذات كما لا يخفى وهذه الصفات أعني اليد، والساق ونحوها وكثير من صفات الله قد تشترك مع صفات خلقه في اللفظ، وفي المعنى العام المطلق قبل أن تضاف.

وبمجرد إضافتها تختص صفات الخالق، وصفات المخلوق بالمخلوق؛ فصفات الخالق تليق بجلاله وعظمته وربوبيته، وقيومته.

وصفات المخلوق تليق بحدوثه، وضعفه، ومخلوقيته( ).

وبناء على ذلك يقال لمن يطلق تلك الألفاظ المجملة السالفة: إن أردت أن تنفي عن الله عز وجل أن يكون جسماً، وجثة وأعضاء، ونحو ذلك فكلامك صحيح، ونفيك في محله.

وإن أردت بذلك نفي الصفات الثابتة له والتي ظننت أن إثباتها يقتضي التجسيم، ونحو ذلك من اللوازم الباطلة فإن قولك باطل، ونفيك في غير محله.

هذا بالنسبة للمعنى.

أما بالنسبة للفظ فيجب ألا تعْدِل عن الألفاظ الشرعية في النفي أو الإثبات؛ لسلامتها من الاحتمالات الفاسدة.

يقول شارح الطحاوية ×: =ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد، الصمد، لا يتجزأ سبحانه وتعالى والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية( ). تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: [الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ](الحجر:91).

والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع؛ وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة.

وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فكذلك يجب أن لا يُعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد، وأن ينفى معنى صحيح.

وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل+( ).

خامساً_الأغراض: وهذا أيضاً من إطلاقات المتكلمين، وإليك بعض التفصيل في هذا اللفظ.

أ_ الأغراض في اللغة: جمع غرض، والغرض هو الهدف الذي يرمي فيه، أو هو الهدف الذي ينصب فيرى فيه.

والغرض يطلق في اللغة أيضاً على الحاجة، والبغية، والقصد( ).

ب_ الغرض في اصطلاح علماء الكلام: قيل هو ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل( ).

وقال الجلا الدوائي: =الغرض هو الأمر الباعث للفاعل على الفعل، وهو المحرك الأول، وبه يصير الفاعل فاعلاً+( ).

وبذلك نرى توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي للغرض، وأنه غاية الفاعل من فعله، وهو الباعث له على فعله( ).

ج_ ماذا يريد أهل الكلام بهذه اللفظة ؟: يريدون إبطال الحكمة في أفعال الله عز وجل وشرعه.

د_ حجتهم في ذلك: يقول المتكلمون وعلى وجه الخصوص الأشاعرة إننا ننزه الله عن الأغراض فلا يكون له غرض فيما شرعه أو خلقه؛ فأبطلوا الحكمة من ذلك، وقرروا أن الله لم يشرع إلا لمجرد مشيئته فحسب؛ فإذا شاء تحريم شيء حرَّمه، أو شاء إيجابه أوجبه.

وقالوا: لو قررنا أن له حكمة فيما شرعه لوقعنا في محذورين:

الأول: أنه إذا كان لله غرض فإنه محتاج إلى ذلك الغرض؛ ليعود عليه من ذلك منفعة، والله منزه عن ذلك.

والثاني: أننا إذا عللنا الأحكام أي أثبتنا الحكمة والعلة لزم أن نوجب على الله ما تقتضيه الحكمة؛ لأن الحكم يدور مع علته، فنفع فيما وقع فيه المعتزلة من إيجاب الصلاح والأصلح على الله؛ لأن الغرض عند المعتزلة بمعنى الغاية التي فعل لها وهم يوجبون أن يكون فعله معللاً بالأغراض.

ه_ الرد عليهم:

1_أن هذا اللفظ الأغراض أو الغرض لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، ولا أطلقه أحد من علماء الإسلام؛ لأن هذه الكلمة قد توهم النقض، ونفيها قد يفهم منه نفي الحكمة؛ فلابد إذاً من التفصيل والأولى أن يعبر بلفظ: الحكمة، والرحمة، والإرادة، ونحو ذلك مما ورد به النص.

2_أن الغرض الذي ينزه الله عنه ما كان لدفع ضرر، أو جلب مصلحة له، فالله سبحانه لم يخلق، ولم يشرع لأن مصلحة الخلق والأمر تعود إليه، وإنما ذلك لمصلحة الخلق.

ولا ريب أن ذلك كمال محض، قال تعالى: [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً](آل عمران:176) [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ] (الزمر:7)، وفي الحديث القدسي: =يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني+.

وهذا أمر مستقر في الفطر.

3_أن إيجاب حصول الأشياء على الله متى وجدت الحكمة حق صحيح. لكنه مخالف لما يراه المعتزلة من جهة أن الله عز وجل هو الذي أوجب هذا على نفسه ولم يوجبه عليه أحد، كما قال عز وجل: [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] (الأنعام:54) وكما قال: [وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] (الروم:47).

وكما في حديث معاذ بن جبل÷لما كان رديف النبي"على حمار فقال: =أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله ؟+ قال معاذ: الله ورسوله أعلم.

قال: =حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به+ الحديث( ).

فهذا حق أوجبه الله على نفسه، ولله أن يوجب على نفسه ما يشاء. ثم إن مقياس الصلاح والأصلح ليس راجعاً إلى عقول البشر، ومقاييسهم بل إن ذلك راجع إلى ما تقتضيه حكمة الله تعالى فقد تكون على خلاف ما يراه الخلق باديء الرأي في عقولهم القاصرة؛ فانقطاع المطر قد يبدو لكثير من الناس أنه ليس الأصلح بينما قد يكون هو الأصلح لكنه مراد لغيره لقوله تعالى: [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ](الروم:41).

وكذلك استدراج الكفار بالنعم، وابتلاء المسلمين بالمصائب كل ذلك يحمل في طياته ضروباً من الحكم التي لا تحيط عقول البشر إلا بأقل القليل منها.

بل إن خلق إبليس، وتقدير المعاصي، وتقدير الآلام يتضمن حكماً تبهر العقول وتُبين عن عظيم حكمة أحكم الحاكمين.

سادساً_حلول الحوادث بالله تعالى: هذا اللفظ من إطلاقات أهل الكلام، وإليك بعض التفصيل في معناه، ومقصود أهل الكلام منه، والرد على ذلك.

أ_ معنى كلمة (حلول): الحلول هو عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفاً للآخر، كحلول الماء في الكوز( ).

ب_معنى كلمة (الحوادث: الحوادث جمع حادث، وهو الشيء المخلوق المسبوق بالعدم، ويسمى حدوثاً زمانياً( ).

وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير، ويسمى حدوثاً ذاتياً.

والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراً في وجوده إلى الغير.

والحدوث الزماني: هو كون الشيء مسبوقاً بالعدم مسبقاً زمانياً.

ج_ معنى (حلول الحوادث بالله_ تعالى_): أي قيامها بالله، ووجودها فيه تعالى.

د_ ما مقصود أهل التعطيل من هذا الإطلاق ؟: مقصودهم نفي اتصاف الله بالصفات الاختيارية الفعلية، وهي التي يفعلها متى شاء، كيف شاء، مثل الإتيان لفصل القضاء، والضحك، والعجب، والفرح؛ فينفون جميع الصفات الاختيارية.

ه_ ما حجتهم في ذلك: وحجتهم في ذلك أن قيام تلك الصفات بالله يعني قيام الحوادث أي الأشياء المخلوقة الموجودة بالله.

وإذا قامت به أصبح هو حادثاً بعد أن لم يكن، كما أن تكون المخلوقات حالَّة فيه، وهذا ممتنع.

و_ جواب أهل السنة: أهل السنة يقولون: إن هذا الإطلاق لم يَردْ في كتاب ولا سنة، لا نفياً ولا إثباتاً، كما أنه ليس معروفاً عند سلف الأمة.

أما المعنى فيستفصل عنه؛ فإن أريد بنفي حلول الحوادث بالله أن لا يَحُلَّ بذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل فهذا النفي صحيح؛ فالله عز وجل ليس مَحَلاً لمخلوقاته وليست موجودة فيه، ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن له من قبل.

وإن أريد بالحوادث: أفعاله الاختيارية التي يفعلها متى شاء كيف شاء كالنزول، والاستواء، والرضا، والغضب، والمجيء لفصل القضاء ونحو ذلك فهذا النفي باطل مردود.

بل يقال له: إنه مثبتٌ ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله".

سابعاً_التسلسل: وهو أحد الألفاظ المجملة التي يطلقها المتكلمون.

ولأجل أن يتضح مفهوم هذه اللفظة، ومدلولها، ووجه الصواب والخطأ في إطلاقها إليك هذا العرض الموجز.

أ_ تعريف التسلسل: قال الجرجاني: =التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية+.

ب_ سبب تسميته بذلك: سمي بذلك أخذاً من السلسلة؛ فهي قابلة لزيادة الحِلَق إلى ما لا نهاية؛ فالمناسبة بينهما عدم التناهي بين طرفيهما؛ ففي السلسلة مبدؤها ومنتهاها، وأما التسلسل فطرفاه الزمن الماضي والمستقبل.

ج_ مراد أهل الكلام من إطلاق هذه اللفظة: مرادهم يختلف باختلاف سياق الكلام، وباختلاف المتكلمين؛ فقد يكون مرادهم نفي قدم اتصاف الله ببعض صفاته، وقد يكون مرادهم نفي دوام أفعال الله ومفعولاته وقد يكون مرادهم نفي أبدية الجنة والنار، وقد يكون غير ذلك.

د_ هل وردت هذه اللفظة في الكتاب أو السنة، أو أطلقها أحد من أئمة السلف ؟ الجواب: لا.

ه_ ما طريقة أهل السنة في التعامل مع هذا اللفظ ؟: طريقتهم كطريقتهم في سائر الألفاظ المجملة، حيث إنهم يتوقفون في لفظ =التسلسل+ فلا يثبتونه، ولا ينفونه، لأنه لفظ مبتدع، مجمل يحتمل حقاً وباطلاً، وصواباً وخطأ.

هذا بالنسبة للفظ.

أما بالنسبة للمعنى فإنهم يستفصلون، فإن أريد به حق قبلوه، وإن أريد به باطل ردوه.

و_ وبناء على ذلك فإنه ينظر في هذا اللفظ، وتطبق عليه هذه القاعدة: فيقال لمن أطلقوا هذه اللفظ:

1_إذا أردتم بالتسلسل: دوام أفعال الرب_أزلاً( ) وأبداً( ) فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع؛ فإثباته واجب، ونفيه ممتنع، قال الله تعالى: [فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ](هود: 107).

والفعال هو من يفعل على الدوام، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعالاً، فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً.

ثم إن المتصف بالفعل أكل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له وهذا ممتنع.

ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة، وكل حي فهو فعال، والله تعالى حي، فهو فعال وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً.

ولأن الفرق بين الحي والميت الفعل، والله حي فلابد أن يكون فاعلاً وخوله من الفعل في أحد الزمانين: الماضي والمستقبل ممتنع، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً.

فخلاصة هذه المسألة أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب فذلك معنى صحيح واجب في حق الله، ونفيه ممتنع.

3_وإذا أريد بالتسلسل: أنه تعالى كان معطلاً عن الفعل ثم فعل، أو أنه اتصف بصفة من الصفات بعد أن لم يكن متصفاً بها، أو أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن فذلك معنى باطل لا يجوز.

فالله عز وجل لم يزل متصفاً بصفات الكمال صفات الذات، وصفات الفعل ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص؛ فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده.

قال الإمام الطحاوي ×: =ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته.

وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً.

مثال ذلك صفة الكلام؛ فالله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء.

ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، ولم يكن معطلاً عنها في وقت، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً.

وكذلك صفة الخلق، فلم تحدث له هذه الصفة بعد أن كان معطلاً عنها.

4_وإذا كان المقصود بالتسلسل: التسلسل في مفعولات الله عز وجل وأنه ما زال ولا يزال يخلق خلْقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية فذلك معنى صحيح، وتسلسل ممكن، وهو جائز في الشرع والعقل.

قال الله تعالى: [أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ](ق:15).

ثم إنه عز وجل ما زال يخلق خلقاً ويرتب الثاني على الأول وهكذا؛ فما زال الإنسان والحيوان منذ خلَقَهُ الله يترتب خلقه على خلق أبيه وأمه.

5_وإن أريد بالتسلسل: التسلسل بالمؤثِّرين، أي بأن يؤثِّر الشيء بالشيء إلى ما لا نهاية، وأن يكون مؤثرون كلُّ واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية فذلك تسلسل ممتنع شرعاً وعقلاً؛ لاستحاله وقوعه؛ فالله عز وجل خالق كل شيء، وإليه المنتهى؛ فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، والقول بالتسلسل في المؤثرين يؤدي رلى خلو المُحدَث والمخلوق من مُحْدِث، وخالق وينتهي بإنكار الخالق جل وعلا.

 =خلاصة القول في مسألة التسلسل عموماً+:

* أن التسلسل هو ترتيب أمور غير متناهية، وأنه سمي بذلك أخذاً من السلسلة.

* وأن التسلسل من الألفاظ المجملة التي لابد فيها من الاستفصال كما مر.

* وأنه إن أريد بالتسلسل: دوام أفعال الرب ومفعولاته، وأنه متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً فذلك حق صحيح، يدل عليه الشرع والعقل.

* وأنه إن أريد بالتسلسل: أنه عز وجل كان معطلاً عن أفعاله وصفاته، ثم فعل، واتصف فحصل له الكمال بعد أن لم يكن متصفاً به، أو أريد بالتسلسل: =التسلسل في المؤثرين فذلك معنى باطل مردود بالشرع والعقل+( ).

 وقفة حول المجاز

المجاز مصطلح معروف عند أهل اللغة، والبلاغة، والتفسير، والأصول وغيرهم.

كما أنه يَرِدُ كثيراً في كتب العقائد، خصوصاً في باب الأسماء والصفات؛ ذلك أن كثيراً من أهل التعطيل اتخذوه مطية لنفي الصفات الإلهية.

ولأجل أن تتضح صورة المجاز إليك هذا العرض المجمل الميسر الذي يبين معالمه، وحقيقة الخلاف فيه وما جرى مجرى ذلك.

وقبل الدخول في ثنايا الحديث عن المجاز يحسن الوقوف عند مصطلح (الحقيقة) ؛ وذلك لأن المجاز عند من يقول به قسيم الحقيقة.

فالكلام ينقسم إلى حقيقة ومجاز؛ فإلى تفصيل الحديث حتى يتبين الأمر.

أولاً: تعريف الحقيقة: هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع. أو هي: استعمال اللفظ فيما وضع له في الأصل.

مثل كلمة (أسد): تدل على الحيوان المعروف، وكلمة (الشمس): تدل على الكوكب العظيم المعروف، وكلمة (البحر) : تدل على الماء العظيم الملح. . وهكذا جميع ألفاظ اللغة.

ثانياً: تعريف المجاز: المجاز في اللغة: اسم مكان كالمطاف والمزاز. والألف فيه منقلبة عن واو، وقيل: هو مصدر ميمي.

وفي الاصطلاح: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل؛ لعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.

ثالثاً: شرح مفردات تعريف المجاز: قوله: (في غير ما وضع له): أي المعنى الوضعي للَّفظ، ويسمى الحقيقي أو الأصلي الذي ذكرته معاجم اللغة، كوضع كلمة الأسد للحيوان المعروف الكاسر، وكذلك القمر.

 قوله: (لِعِلاقة): العلاقة هي الشيء الذي يربط بين المعنى الأصلي للفظ، والمعنى المجازي، كالشجاعة في قولك: رأيت أسداً يكرُّ بسيفه ! فالأسد هنا لا يقصد به الحيوان؛ وإنما يقصد به الرجل الشجاع، إذاً فقد انتقل من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي، والعلاقة هي الشجاعة.

 قوله: (القرينة)؛ القرينة: هي التي تمنع الذهن من أن ينصرف إلى المعنى الوضعي الأصلي للفظ، مثل قولك (يكر بسيفه) في قولك: (رأيت أسداً يكر بسيفه) لأن الأسد لا يكر بالسيف، فعلم أن المقصود باللفظ مجازه لا حقيقته؛ لأن الأسد لا يحمل السيف.

وكذلك قولك في الرجل الكريم: جاء البحر، ونحو ذلك من الأمثلة مما سيأتي ذكره( ).

رابعاً: =تطبيق+: إليك هذا التطبيق الذي يبين لك ما ذكر بصورة أجلى: قال أهل المدينة في استقبالهم للنبي"لما قدم من تبوك هو وأصحابه:

طلع البدر علينا

                   من ثنيات الوداع

فالمجازات في هذا البيت واقع في لفظ (البدر) حيث يريدون به النبي"، وهذا استعمال مجازي؛ ذلك لأن الاستعمال الحقيقي للبدر إنما هو الكوكب العظيم الذي يكون في السماء ليلاً.

والعلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي هي الحسن والإشراق؛ فالبدر حسن مشرق، وكذلك النبي".

والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي هي: (من ثنيات الوداع) فهي التي أثبتت مجازية البدر، والسبب أن البدر الحقيقي لا يظهر بين ثنيات الوداع وهي الجبال الصغيرة وإنما يظهر في السماء كما هو معلوم فعلم بذلك أن اللفظ أريد به مجازه لا حقيقته.

خامساً: =أمثلة لألفاظ يتبين فيها الحقيقة من المجاز+:

 1_الشمس لها دلالتان: إحداهما حقيقية وهي دلالة الكوكب العظيم المعروف.

والأخرى مجازية وهي: الوجه المليح.

2_البحر له دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي دلالته على الماء العظيم الملح.

والأخرى مجازية وهي: دلالته على الرجل الجواد الكثير العطاء أو العالم العزير العلم.

3_اليد لها دلالتان: إحداهما حقيقته، وهي الجارحة المعروفة، كما تقول: كتبت بيدي.

والأخرى مجازية بمعنى النعمة، كما تقول لفلانٍ عليَّ يدٌ، أي: نعمة.

سادساً: كيف يُفرَّق بين الحقيقة والمجاز ؟

يفرق بسياق الكلام، وقرائن الأحوال. ولا يمكن أن يقال: إن كلا الدلالتين الحقيقية والمجازية سواء؛ بحيث إذا أطلق اللفظ دل عليهما معاً، كأن يقال: إن الشمس حقيقية في دلالتها على الكوكب والوجه المليح، وأن البحر حقيقة في الماء العظيم الملح والرجل الجواد؛ بل لابد من قرينة تخصص المعنى المراد( ).

سابعاً: لم سمي المجز بهذا الاسم ؟

لأنه مأخوذ من قولهم: جاز هذا الموضع إلى هذا الموضع، إذا تخطاه إليه.

فالمجاز إذاً اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمزار، والمعاج وأشباههما.

وحقيقته: الانتقال من مكان إلى مكان؛ فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل، كقولنا: زيد أسد؛ فإن زيداً إنسان والأسد هو ذاك الحيوان المعروف. وقد جُزْنا الإنسانية أي: تخطيناها وانتقلنا منها وعبرناها إلى الأسدية؛ لِوُصلة بينهما أي علاقة، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة؛ فهذا هو سبب تسمية المجاز بهذا الاسم.

أما الحقيقة فهي: مأخوذة من كلمة حقَّ وهو الشيء الثابت، ولعلك تشمُّ رائحة التضاد بين هاتين الكلميتين؛ فالحقيقة ثبوت الشيء، والمجاز تَعَدِّية( ).

ثامناً: هل كل مجاز له حقيقة، وكل حقيقة لها مجاز ؟

والجواب: أن كل مجاز له حقيقة؛ لأنه لم يطلق عليه لفظ مجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة.

وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز( ).

تاسعاً: هل الأصل في الكلام الحقيقة أو المجاز ؟

والجواب: أن الأصل فيه الحقيقة، ولا ينصرف الكلام عن حقيقته إلى مجازه إلا بقرينة، كما مر في الأمثلة الماضية.

عاشراً: اختلاف العلماء في أصل وقوع المجاز:

اختلف العلماء في أصل وقوع المجاز وثبوته في اللغة والقرآن، على ثلاثة أقوال:

1_أن المجاز واقع في اللغة والقرآن: وهذا مذهب جماهير العلماء، والمفسرين، والأصوليين، واللغويين، والبلاغيين، وغيرهم؛ بل حكى الإجماع على ذلك يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (الطراز) غير أن في تلك الدعوى توسعاً؛ لوجود المخالف المعتبر.

2_إنكار المجاز مطلقاً في اللغة والقرآن: وقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الاسفراييني، وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

3_أن المجاز واقع في اللغة دون القرآن: وقد ذهب إلى ذلك وارد الظاهري، وابنه محمد، وابن القاصّ الشافعي وابن خويز منداد المالكي، ومنذر بن سعيد البلوطي، ومن المعاصرين الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي.

حادي عشر: حجة القائلين بمنعه:

القائلون بمنع المجاز في اللغة والقرآن، أو في القرآن وحده يحتجون على ذلك بحجج منها:

1_أن كل مجاز كذب يجوز نفيه: فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي_ ×_: =وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر؛ فتقول لمن يقول: رأيت أسداً يرمي: ليس هو بأسد وإنما هو رجل شجاع؛ فيلزم على القول بأن في القرآن مجازاً أن في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن+( ).

2_أن القول بالمجاز ذريعة إلي نفي الصفحات الإلهية وتأويلها، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ×: =وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض الصفات قد شوهدت في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم.

وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك، فقالوا: لا يد، ولا استواء، ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات لأن هذه الصفات لم تُرَدْ حقائقها؛ بل هي عندهم مجازات؛ فاليد مستعملة عندهم في النعمة، أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره ونحو ذلك؛ فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول المجاز.

مع أن الحق الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة إثبات هذه الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه، والإيمان بها من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تمثيل+( ).

فهذا السبب أعني نفي الصفات عن طريق القول بالمجاز هو من أعظم الأسباب التي دعت القائلين بإنكار المجاز إلى ذلك.

3_ادعاء أن الألفاظ كلها حقيقة: والجزم بأن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب: قال شيخ الإسلام ابن تيمية×عن المجاز: =إنه غير معروف عن العرف، ولم تقل الأمة في أول عصورها: هذا اللفظ حقيقة وذاك مجاز.

وإنما هو اصطلاح طارىء على الأمة بعد انقضاء القرون الثلاثة+.

وقد كرر×ذلك في مواضع من كتبه، خصوصاً في كتابه الإيمان، وفي الأسماء والصفات من مجموع الفتاوى.

4_أن إطلاق المجاز في القرآن يفضي ويؤدي إلى وصف الله بالمُتَجَوِّز: وذلك مما لم يرد الإذن به؛ ذلك أن أسماء الله وصفاته توقيفية كما هو معلوم.

ثاني عشر: مناقشة مثبتي المجاز لمنكريه

1_أن القول بأن كل مجاز كذب يجوز نفيه ليس صحيحاً: وإنما يكون المجاز كذباً لو أثبت المعنى على التحقيق لا على المجاز، أي أنه إذا أطلق القمر مثلاً على إنسان بهي الطلعة يكون كذباً لو ادُّعي أنه القمر الذي في السماء حقاً.

ولا ريب أن هذا ليس بمرادٍ في المجاز، وإنما المراد تشبيهه به في البهاء والحسن، فأين الكذب ؟ !

وكذلك قولنا للبليد (حمار) ليس المقصود بأنه حمار في الشكل والخلقة وإلا لصح أن ينفى ويقال: ليس هو بحمار بل هو إنسان؛ فالنفي هنا مُنصب على إرادة الحقيقة لا على المعنى المجازي، وهذا لا يسمى كذباً؛ لأن المتكلم جاء بقرينة تبين مراده، وترفع اللبس، ثم أن البلاغيين حرصوا في مصنفاتهم على أن يبينوا الفرق بين المجاز والكذب؛ فهم متفقون على أن المجاز ليس كذباً؛ لأن التجوُّز يضع بين يدي المجاز قرينة تصرف عن إرادة المعنى الأصلي للفظ.

أما الكذب فإن الكاذب يحرص فيه على إخفاء حاله؛ ترويجاً للكذب الذي يريده.

ولقد عني البلاغيون بالقرائن عناية بالغة، واستنبطوها من كلام العرب، وفصلوا فيها القول تفصيلاً؛ فإذا خلا المجاز من القرائن كان الكلام فاسداً لعدم دلالته.

2_أن القول: بأن المجاز ذريعة إلى نفي الصفات الإلهية، وتأويلها ليس مسوغاً لنفي المجاز؛ ذلك أنه لا حجة لهؤلاء النفاة المعطلة فيما ذهبوا إليه.

وإنما هم أصحاب هوى وضلال، ومن كانت هذه حاله ركبه كل صعب وذلول في سبيل هواه، فاستدلالهم بالمجاز على نفي الصفات استدلال فاسد، فنحن نجعله حجة عليهم لا لهم؛ فيقال لهؤلاء النفاة المعطلة: إن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته وظاهره المتبادر ما لم تقم قرينة توجب صرفه عن هذه الحقيقة، وذلك الظاهر لنا.

ثم إن الناس متعبدون باعتقاد الظاهر من أدلة الكتاب والسنة ما لم يمنع مانع.

وبناء على ذلك يقال لهؤلاء النفاة: إن النصوص الصحيحة القطعية أثبتت صفات الكمال لله تعالى كصفة الكلام، واليد، والاستواء، والنزول، والعلو، والساق، والقَدم، والضحك، والأصابع.

والنصوص الواردة في ذلك لا تظفر فيها بأي قرينة تنقلها عن معانيها الحقيقية التي دلت عليها؛ فهي صفات حقيقية ثابتة للرب سبحانه على ما يلين به.

وادعاء هؤلاء المعطلة أن إثبات الصفات يلزم منه التمثيل، وأن القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي هي تنزيه الله سبحانه عن مماثلة المخلوقين ادعاء باطل متهافت، ظاهر السقوط؛ إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله تمثيله وتشبيهه بخلقه؛ فللخالق سبحانه صفات تليق به، وللمخلوق صفات تليق به.

ثم إن مجيء نصوص الصفات متكاثرة يقطع بأن المراد منها معانيها الحقيقية ويدرأ عن تلك النصوص أن تكون مجازية أنها لا تقبل دعوى المجاز من جهة اللغة نفسها، وتراكيب الكلم فيها؛ فهي تأبى أن تبارح المعنى الحقيقي.

ونمثل بهذا المثال وهو قوله سبحانه: [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً] (النساء:164).

فلا يجوز أبداً أن يقال: إن الكلام في هذه الآية مجازي، لأن الفعل (كلَّم) أُكِّد بالمصدر (التكليم) الدال على النوع.

وقد نقل أبو جعفر النحاس (ت 338) إجماع النحاة على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً، بل هو حقيقة قطعاً.

وكيف وقل قال تعالى: [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ](الأعراف:143) ؟ !

ومما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية×في قوله سبحانه وتعالى:[ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيََّ] (ص: 75) أنه قال: =لا يجوز أن تفسر بالقدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يُعَبَّر بالاثنين عن الواحد، ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله تعالى لا تحصى.

وإذا أضيف الفعل إلى الفاعل، وعُدِّي الفعل إلي اليد بحرف الباء كقوله تعالى: [لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ](ص: 75) فإنه نصٌّ على أنه فعل الفعل بيديه.

فإذا قال القائل: بنيت الحجرة بيدي فلابد أن يكون باشر البناء بنفسه. إذا قال: هذا البيت بَنَتْه يداي يفهم منه أنه بناه بماله، وفرق بين التركيبين+ ا. ه.

وبالجملة، فالأمثلة على هذا النحو كثيرة جداً أو من خلالها يظهر أن نصوص الصفات لا تقبل المجاز من جهة نظمها، وتركيبها، وإضافتها إلى الله عز وجل.

كيف وأهل السنة مجمعون على الإقرار بأسماء الله تعالى وصفاته وحملها على الحقيقة لا المجاز ؟ !

3_أما القول بأن الألفاظ كلها حقيقة أو أن تقسيمها إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث لم تعرفه العرب فذلك يحتاج إلي نظر.

فإن أريد بذلك أن العرب لم يضعوا هذا المصطلح فنعم.

وإن أريد نه لا يوجد في كلامهم مجاز فهذا غير صحيح، بل الشواهد من كلامهم على استعمال المجاز أكثر من أن تحصر، وذلك مما استفاض به النقل عن علماء اللغة.

ثم إن القول إن هذا الاصطلاح لم يعرف إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة غير مُسَلَّم به ؟ فقد تلكم بالمجاز غير واحد من علماء اللغة في أوقات القرون المفضلة ؟ ومن هؤلاء أبو زيد القرشي المتوفي سنة 170هـ.

ومن أهل اللغة من يعبر عن المجاز ب: (التوسع والسعة في الكلام).

4_وأما القول بأن إطلاق المجاز يفضي إلى وصف الله بالمتجوز وذلك لا يصح فيجاب عنه: بأنه لا يلزم ذلك لأن هذا الإطلاق لا يكون إلا بدليل.

ثم إن إطلاق المجاز على اللفظ في بعض استعمالاته اصطلاح، ولا يلزم إضافة المعاني الاصطلاحية إلى الله تعالى وإلا ففي القرآن سجع، وأمثال، فهل يقال في حق الله تعالى: الساجع، والممثل ؟

هذه بعض حجج القائلين بمنعه ورد القائلين به على سبيل الإيجاز.

ثالث عشر: خاتمة الحديث عن المجاز: وبعد أن وقفت عن شيء من أمر المجاز وما جاء في الخلاف حول إثباته أو نفيه يتبين لك أن أعظم الأسباب التي دعت إلى نفيه وإنكاره أن أهل التعطيل اتخذوه مطية لتحريف بعض نصوص الشرع لاسيما في باب الصفات.

فهذا هو الذي دعا بعض العلماء أن يشدد في النكير على القائلين بالمجاز.

وإلا لو كان الأمر مجرد اصطلاح لغوي لا يترتب عليه خوض في مسائل الشريعة لهان الخطب، ولا حصل فيه كبير خلاف ولكن لما أدرك بعض العلماء خطورة ذلك وكثرة المبتدعين به سارعوا إلى إنكاره؛ سداً للذريعة، وعلي رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية×في مواطن كثيرة من كتبه، وإن كان قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره.

يقول الشيخ عبدالمحسن العسكر حفظه الله في مقدمة مخطوطة له عن المجاز: =وأحسب أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال بالمجاز في إحدى مراحل عمره، فقد رأيت في (محاسن التأويل) لجمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) ما هذا نصه:

 =قال ابن تيمية في بعض فتاواه: نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله، وبالتأويل الجاري على نهج السبيه، ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا أنا لا نقول بالمجاز والتأويل، والله عند لسان كل قائل، ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب، وما فتح به الباب إلى هدم السنة والكتاب، واللحاق بمُحرِّفة أهل الكتاب.

والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه أن القرآن مشتمل على المجاز، ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة.

وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم، كأبي بكر بن أبي داود، وأبي الحسن الخرزي، وأبي الفضل التميمي، وابن حامد وغيرهم إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز.

وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز، قابلوا الضلال بحسم المواد، وخيار الأمور التوسط، والاقتصاد.

وبعد أن نقل الشيخ العسكر هذه الفتوى قال: =ومع أنني لم أهتد إلى هذه الفتوى في حظانها من المطبوع من مؤلفات شيخ الإسلام وفتاواه فإن عدم اهتدائي هذا لا ينفي وجودها في كتابات الشيخ مطلقاً.

بَيْدَ أني مطمئن غير مرتاب في نسبة هذا الكلام إلى شيخ الإسلام×وذلك لما يلي:

1_أن المطبوع من أعمال شيخ الإسلام لا يمثل إلا القليل مما كتب في حياته كلها.

وأنت خبير أنه صاحب قلم سيال، ومكثر من الكتابة جداً، حتى قال الذهبي: =جاوزت فتاوى ابن تيمية ثلاثمائة مجلد+.

2_أن من له أدنى صلة بتراث شيخ الإسلام لا ينازع في أن هذا النَّفَسَ نَفَسُه، والأسلوب أسلوبه، وقد وقفت على هذه الفتوى بعض العلماء فأجابوا بذلك منهم فضيلة الشيخ محمد العثيمين×وشيخنا عبدالرحمن البراك أحسن الله إليه.

3_أن الذي نقل هذه الفتوى من أعظم الناس اطلاعاً في هذا العصر على كتابات الشيخ وتلميذه ابن القيم، وكان يعيش في بلاد الشام بلاد الشيخين، ومؤلفات القاسمي وخاصة تفسيره طافحة بالنقولات الكثيرة عنهما.

ثم إنه أحد القلة في عصره الذين نهضوا بالمنهج السلفي، ومناصرته، وأوذي في ذلك أذىً كثيراً.

وما كان الشيخ ليلصق بشيخ الإسلام قولاً يتطرق الشك في نسبته إليه+.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.