الوصف
الإيمان بالقضاء والقدر : اشتمل هذا البحث على مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة. الباب الأول: الاعتقاد الحق في القدر. الباب الثاني: مسائل وإشكالات حول القدر. الباب الثالث: الانحراف في القدر.
الإيمان بالقضاء والقدر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله _ صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً _.
أما بعد، فإن علم العقيدة أشرف العلوم، وأعظمها، وأهمها.
وإن من أجلّ النعم وأوفاها وضوحَ العقيدة الإسلامية، وموافقتَها للفطر القويمة، والعقول السليمة، وسلامتها من التناقض والاضطراب واللبس والغموض؛ فألفاظها سلسة، ومعانيها بينة يفهمها العالم والعامي، والصغير والكبير.
وأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة تسبق إلى الأفهام ببادئ الرأي، وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها؛ فهي مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي والرضيع، والرجل القوي والضعيف؛ فأدلة الكتاب والسنة سائغة جلية تقنع العقول، وتسكن النفوس، وتغرس الاعتقادات الصحيحة الجازمة في القلوب.
ألا ترى أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ] سورة الروم:27، وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمُدبِّرين فكيف في جميع العالم؟! [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] سورة الأنبياء: 22، وأن من خلق علم، ثم خلق كما قال _ تعالى _[ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] سورة الملك:14.
فهذه الأدلة وأمثالها تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي( ).
هذا وإن باب القدر لمن أعظم أبوب العقيدة، وشأنه شأن غيره من الأبواب الأخرى من حيث الوضوح والبيان، بل إن له شأناً عجيباً؛ لأن عامة الناس أعلم به من المتكلمين والفلاسفة؛ لأنه مسألة بديهية، والبديهي كلما زاد التعمق فيه بعد عن الإدراك( )، فالإيمان بالقدر أمر فطري، والعرب في جاهليتها وإسلامها لم تكن تنكر القدر، كما صرَّح بذلك أحد أئمة اللغة وهو أحمد بن يحيى ثعلب بقوله: =ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية وأهل الإسلام+( ).
وإثباتهم للقدر مبثوث في ثنايا أشعارهم وخطبهم _ كما سيمر بنا قريباً عند الحديث عن أدلة القدر _ فهم يثبتون القدر ولا ينكرونه، وإن كان هذا الإثبات قد يشوبه بعض التخبط والجهل في فهم حقيقة القدر.
فنجد _ على سبيل المثال _ زهير بن أبي سلمى يقول في معلقته المشهورة:
فلا تكتُمنَّ الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يُكْتَمِ الله يعلمِ
يؤخر فيوضع في كتاب فَيُدَّخَرْ
ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ( )
ثم تراه في موضع آخر من تلك المعلقة يقول:
رأيت المنايا خبطَ عشوَاءَ من تُصِبْ
تُمِتْهُ ومن تخطىءْ يُعَمَّرْ فيهرمِ( )
فهو لا ينكر القدر، وإنما يرى أن الأقدار كالناقة العشواء _ ضعيفة البصر _ تسير في الطريق، فمن أصابته مات، ومن أخطأته عاش.
وهذا جهل وتخبط في باب القدر؛ ذلك أن المنايا مكتوبة مقدرة، كما صرح بذلك غيره من أهل الجاهلية، كعمرو بن كلثوم أحد شعراء المعلقات حيث قال:
وأنَّا سوف تدركنا المنايا
مقدرةً لنا ومقدرينا( )
وكما قال لبيد بن ربيعة العامري في معلقته المشهورة يصف البقرة الوحشية وحالها مع الوحوش الضارية:
صادفنَ منها غِرَّةً فأصبنها
إن المنايا لا تطيش سهامها( )
وعندما بعث النبي " بيَّن هذا الأمر _ كغيره _ غاية البيان؛ فإن كلماتِه الجوامعَ النوافع في هذا الباب وغيره كفت وشفت، وجمعت وفرقت، وأوضحت وبينت، وحلَّت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده، وتلقوا ذلك عنه، فاتبعوا طريقه القويم، وساروا على نهجه المستقيم، فجاءت كلماتهم كافية شافية، مختصرة نافعة؛ لقرب العهد، ومباشرة التلقي من مشكاة النبوة، التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى؛ فكانوا بذلك أعظم الناس فهماً وفقهاً لهذا الباب، وأكثرهم إيماناً به وعملاً بمقتضاه، فأثَّر ذلك فيهم أيما تأثير، فكانوا _ رضوان الله عليهم _ أتقى الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس بعد الأنبياء _ عليهم السلام_.
ثم سلك أثرهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا إلى ما كانوا عليه( ).
ثم بعد ذلك دبَّ في هذه الأمة داء الأمم، فركبت سنن من كان قبلها، فدخلت الفلسفات اليونانيةُ، والهنديةُ، والفارسيةُ، وغيرُها بلادَ المسلمين، وظهرت بدعة القدرية في البصرة ودمشق، فوقع أول شرك في هذه الأمة، وهو نفي القدر، وكان ذلك في عهد أواخر الصحابة _ رضي الله عنهم _ الذين أنكروا تلك البدعة، وأعلنوا البراءة منها ومن أهلها.
ثم جاء من بعدهم علماء السلف، فتصدوا لتلك البدعة، وبينوا زيفها، وهتكوا سجفها، ودحضوا باطلها، وأظهروا الحق ونشروه، ودعوا الأمة إليه.
ولهذا فإن موضوع هذا البحث هو: (الإيمان بالقضاء والقدر)
أهمية موضوع القدر:
من خلال ما مضى يتبين لنا شيء من شأن القدر، وفيما يلي مزيد بيان لأهميته:
1_ ارتباطه بالإيمان بالله: فالقدر قدرة الله( ) والمؤمن به مؤمن بقدرة الله، والمكذب به مكذب بقدرة الله _ عز وجل _.
ثم إنه مرتبط بحكمة الله _ عز وجل _ وعلمه، ومشيئته، وخلقه.
2_ كثرة وروده في أدلة الشرع: فنصوص الكتاب والسنة حافلة ببيان حقيقة القدر، وتجلية أمره، وإيجاب الإيمان به.
وهذا ما سيتضح في ثنايا هذا البحث.
3_ أنه من الموضوعات الكبرى: التي خاض فيها جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم؛ والتي شغلت أذهان الفلاسفة، والمتكلمين، وأتباع الطوائف من أهل الملل وغيرهم.
4_ ارتباط القدر بحياة الناس وأحوالهم: فهو مرتبط بحياتهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها إرادة أو تأثير.
ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت، وتفاوت الناس في الأعمال والمواهب، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والهداية والإضلال _ لكان ذلك كافياً في أن يفكر الإنسان في القدر.
5_ كونه أعوصَ أبواب العقيدة: فمع أن باب القدر معلوم بالفطرة _كما مر_ وأن نصوص الشرع قد بينته غاية البيان إلا أنه يظل أعوص أبواب العقيدة؛ فدقة تفاصيله، وتشعب مسائله، وكثرة الخوض فيه، وتنوع الشبهات المثارة حوله _ كل ذلك يوجب صعوبة فهمه، وتعسر استيعابه.
فلا غرو أن يحار الناس في شأنه في القديم والحديث؛ فلقد سلك العقلاء في هذا الباب كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وقصدوا إلى الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته؛ فلم يرجعوا بفائده، ولم يعودوا بعائده، لأنهم التمسوا الهدى من غير مظانِّه، فتعبوا وأتعبوا، وحاروا وتحيروا، وضلوا وأضلوا.
6_ ما يترتب على الإيمان به على الوجه الصحيح: فذلك يثمر السعادة في الدنيا والآخرة، ويورث اليقين، ويكسب الأخلاق الفاضلة، والهمم العالية، والإرادات القوية.
7_ ما يترتب على الجهل به: فالجهل به، أو فهمه على غير الوجه الصحيح يورث الشقاء، والعذاب في الدنيا والآخرة.
والواقع يشهد بذلك في أمم الكفر؛ إذ يشيع فيها قلة التحمل، والانتحار، والقلق.
وكذلك الحال في أمة الإسلام؛ فما تخلفت في عصورها المتأخرة إلا لأسباب أبرزُها جهلُ كثير من المسلمين، وانحرافهم في باب العقيدة _ عموماً _ وفي باب القدر _ خصوصاً _.
وذلك عندما اتخذ كثير منهم من الإيمان بالقدر مسوغاً واهياً لعجزهم، وانهيارهم، وإخلادهم إلى الأرض، تاركين الأخذ بالأسباب، ناسين أو متناسين أن أقدار الله إنما تجري وَفْقَ سنته الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحداً كائناً من كان.
فلعل الأمة الإسلامية تفيق من رقدتها، وتتولى قوامة البشرية، وتأخذ مكانها اللائق بها، وذلك بعودتها إلى عقيدتها الصافية النقية التي هي مصدر مجدها، ومنبع عزها.
هذه بعض الأمور التي تبين أهمية موضوع القدر.
أسباب البحث في الموضوع:
وإن مما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمور منها:
1_ أهمية هذا الباب _ كما مر _.
2_ أن هذا الموضوع كان يشغل بالي منذ مدة طويلة؛ فكنت أكثر البحث فيه، والقراءة حوله، وكنت أكتب بعض ما أتوصل إليه، وأعرضه على بعض أهل العلم وعلى رأسهم سماحة الوالد الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز _رحمه الله وأجزل مثوبته_ وكنت أفيد من ملحوظاته في هذا الشأن؛ ومن هنا كانت الرغبة في الكتابة في هذا الباب بصورة أشمل وأوسع.
3_ الرغبة في تيسير فهم القدر، وتقريبه إلى الأذهان.
4_ الرغبة في الإجابة عما يُثار حول هذا الباب من أسئلة تُطرح، وإشكالات تتكرر، وشبهات تُلقى.
هذا ما دفعني للكتابة في باب القدر، فجمعت ما تيسر من متناثره، وحرصت _ قدر المستطاع _ على إيضاح ما دق من مسائله، مستنيراً بأضواء الكتاب والسنة، مستعيناً عليه بفهم سلف هذه الأمة، مستفيداً مما رقمته يراعة العلماء والباحثين في هذا الباب.
الدراسات السابقة:
فالعلماء الأوائل أودعوا مصنفاتهم الحديث عن القدر، وكان ذلك ضمن أبواب العقيدة الأخرى، كما في صنيع الإمام عبدالله بن أحمد في كتابه السنة، والإمام الآجري في الشريعة، والإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وغيرهم.
وَقلَّ أن يفردوا كتاباً يتعلق بالقدر وحده، ومن القليل من ذلك كتابُ القدر للفريابي وهو يعنى _ في غالبه _ بذكر الآثار المروية في القدرِ.
ومن ذلك رسائلُ وفتاوى متعددة لشيخ الإسلام ابن تيمية مبثوثة في كثير من كتبه خصوصاً المجلد الثامن من مجموع الفتاوى، وشفاء العليل لابن القيم.
أما في العصور المتأخرة فظهرت كتب في القدر منها الكبير، ومنها الرسائل الصغيرة، ومنها ما يتناول جزئية معينة من هذا الموضوع، ومن الكتب المؤلفة في ذلك:
1_ القضاء والقدر للعلامة الشيخ محمد بن عثيمين × وهي رسائل صغيرة.
2_ القضاء والقدر للشيخ د.عمر الأشقر، وهو كتاب متوسط نافع.
3_ القضاء والقدر للشيخ د.عبدالرحمن المحمود، وهو مجلد كبير ويكاد يكون أحسن ما كُتب في هذا الباب.
وهناك كتب أخرى كثيرة في هذا الباب، ولا يخلو غالبها من ملحوظات.
أما خطة هذا البحث فقد اشتملت على هذه المقدمة، وعلى تمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة، وذلك كما يلي:
المقدمة
وفيها بيان مجمل لموضوع القدر، وأهميته، والسبب من وراء البحث فيه، كما أن فيها بياناً لخطة البحث.
تمهيد
وفيه الحديث عن مسألة حكم البحث في القدر، وتفصيل القول فيها، ومتى يجوز، ومتى لا يجوز، مع توجيه النصوص الواردة في ذلك.
الباب الأول: الاعتقاد الحق في القدر
وتحته ثلاثة فصول
الفصل الأول: مفهومُ الإيمانِ بالقدر وأدلتُه.
وتحته أربعة مباحث
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، والعلاقة بينهما:
وتحته حديث عن تعريف القضاء والقدر في اللغة والشرع وعن إطلاقات كل واحد منهما، وعن العلاقة والفرق بينهما.
المبحث الثاني: أدلة الإيمان بالقضاء والقدر:
وتحته بيان لأدلة الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
المبحث الثالث: فهم السلف للقدر، وأقوالهم في ذلك:
وتحته، وكلمات توضح معنى القدر، وتحث على الإيمان به، وتدل على إيمان السلف العميق وفهمهم الدقيق لباب القدر.
المبحث الرابع: مجمل الاعتقاد الحق في القدر، والواجب على العبد في باب القدر:
الفصل الثاني: ما يتضمنه الإيمان بالقدر
وتحته ثلاثة مباحث
المبحث الأول: مراتب القدر وأركانه، وخلق أفعال العباد:
وفيه حديث عن مراتب القدر الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق مع ذكر لأدلة كل منها، وفيه _ أيضاً _ بيان لمسألة خلق أفعال العباد، وذكر الأدلة على ذلك.
المبحث الثاني: أقسام التقدير:
وفيه حديث عن أقسام التقدير الخمسة وهي: التقدير العام، والتقدير البشري، والتقدير العمري، والتقدير السنوي، والتقدير اليومي.
المبحث الثالث: الإرادة الربانية:
وفيه تفصيل وتفريق بين الإرادة الكونية والشرعية.
الفصل الثالث: ثمرات الإيمان بالقدر
وتحته ثلاثة مباحث
المبحث الأول: الثمرات الإيمانية العقدية:
المبحث الثاني: الثمرات الأخلاقية
المبحث الثالث: الثمرات النفسية
الباب الثاني: مسائل وإشكالات حول القدر
وتحته ثلاثة فصول
الفصل الأول: مسائل في القدر
وتحته ثلاثة مباحث
المبحث الأول: الإيمان بالقدر ومشيئة العبد واختياره
المبحث الثاني: فعل الأسباب والإيمان بالقضاء والقدر
المبحث الثالث: الاحتجاج بالقدر على فعل المحرمات وترك الواجبات:
وتحته بيان لبطلان الاحتجاج بالقدر على هذا النحو من أوجه عديدة، كما أن فيه بياناً للحالة التي يسوغ فيها الاحتجاج بالقدر.
الفصل الثاني: الحكمة والتعليل في أفعال الله
وتحته تمهيد، وأربعة مباحث:
تمهيد: وفيه حديث عن مسألة تعليل أفعال الله، وإثبات الحكمة فيها.
المبحث الأول: نسبة الشر إلى الله _ تعالى _ وحكم ذلك، والحكمة من إرادة الله لما يحبه.
المبحث الثاني: الحكمة من خلق إبليس، وخلق المصائب والآلام
المبحث الثالث: الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها
المبحث الرابع: الرضا بقدر الله، وحكم ذلك
الفصل الثالث: إشكالات حول القدر
وتحته أربعة مباحث
المبحث الأول: مسألة القدر المثبت، والقدر المعلق، أو المحو والإثبات في القدر، وزيادة العمر ونقصانه.
المبحث الثاني: الإنسان بين التسيير والتخيير
المبحث الثالث: مسألة الهداية والإضلال
المبحث الرابع: التوفيق بين استئثار الله بعلم ما في الأرحام، وبين علم الأطباء بذكورة الجنين في الرحم من أنوثته.
الباب الثالث: الانحراف في القدر
وتحته أربعة فصول
الفصل الأول: أخطاء في باب القدر
وتحته أربعة مباحث
المبحث الأول: أخطاء في مفهوم القدر
المبحث الثاني: أقوال مخالفة في القدر
المبحث الثالث: أخطاء في القدر قبل وقوعه
المبحث الرابع: أخطاء في القدر بعد وقوعه
الفصل الثاني: أقوال الناس في القدر
وتحته تمهيد، وخمسة مباحث:
تمهيد: وفيه حديث عن أقوال الناس في القدر بإجمال
المبحث الأول: قول الهنود والبابليين والمصريين القدماء في القدر
المبحث الثاني: قول الفلاسفة في القدر
المبحث الثالث: قول اليهود في القدر
المبحث الرابع: قول النصارى في القدر
المبحث الخامس: أقوال المفكرين والفلاسفة الغربيين المتأخرين في القدر
الفصل الثالث: القول بالقدر في الإسلام
وتحته ستة مباحث
المبحث الأول: نشأة القول بالقدر في الإسلام
المبحث الثاني: قول القدرية المعتزلة في القدر
المبحث الثالث: قول الجبرية في القدر
المبحث الرابع: قول الصوفية في القدر
المبحث الخامس: قول الأشاعرة في القدر
المبحث السادس: قول الشيعة في القدر
الفصل الرابع: مناقشة أقوال الفرق
وتحته تمهيد وثلاثة مباحث
المبحث الأول: المناقشة الإجمالية لأقوال الفرق
المبحث الثاني: مناقشة قول المعتزلة القدرية
المبحث الثالث: مناقشة قول الجبرية
الخاتمة
وفيها خلاصة لأهم ما ورد في البحث
منهج البحث:
أولاً: اقتضت مادة البحث أن يُستخدم في تناوله المنهجان التاريخي والوصفي؛ فالتاريخي يقوم على رصد موضوع القدر، وتتبع تاريخ الانحراف فيه سواء كان ذلك الانحراف قبل الإسلام أو بعده.
والوصفي وقد تم من خلاله عرض موضوع القدر، وبيان المنهج الصحيح فيه، وكذلك تم عرض أقوال الطوائف المنحرفة في القدر.
ثانياً: حرصت في البحث على:
1_ ترقيم الآيات القرآنية وبيان سورها في أعلى الصفحة حتى لا تكثر الهوامش.
2_ تخريج الأحاديث النبوية، وبيان ما ذكره أهل الاختصاص في شأنها إن لم تكن في الصحيحين أو أحدهما؛ فإن كانت كذلك اكتفيت بالعزو إليهما أو إلى أحدهما، واكتفيت بالعزو إلى رقم الحديث إذا كان الكتاب الحديثي مرقماً؛ فأكتفي برقمه ووضعه بين قوسين، أما إذا كان غير مرقم فأشير إلى الجزء والصفحة إذا كان ثمَّ أجزاء هكذا على سبيل المثال 1/20، أو إلى رقم الصفحة إذا لم يكن ذا أجزاء هكذا ص20.
3_ العناية بإخراج البحث بحلة قشيبة منظمة.
4_ العناية بسلامة الأسلوب، وتيسيره، وسيره على قواعد اللغة العربية، والحرص على جعله حالاً بين حالين: بين الوحشي الغريب، والسوقي القريب.
5_ مراعاة قواعد الإملاء من علامات ترقيم ونحوها مما ييسر فهم المقصود، وإبعاد اللبس.
5_ الترجمة للأعلام غير المشهورين ممن لهم صلة وثيقة بموضوع البحث.
6_ الاقتصار على ذكر اسم الكتاب والمؤلف عند أول ذكره إذا لم يكن هناك اشتباه بين الكتب؛ فإذا خُشي اللبس أُعيد ذكر المؤلف، أما تاريخ الطبعات ورقمها وما جرى مجرى ذلك فيرجئ إلى فهرس المصادر والمراجع.
7_ إلحاق البحث بالفهارس:
أ_ فهرس الآيات القرآنية
ب_ فهرس الأحاديث والآثار
جـ _ فهرس قوافي الأشعار
د _ فهرس الأعلام المترجم لهم
هـ _ فهرس بعض الطوائف والمصطلحات
و _ فهرس المصادر والمراجع
ز_ فهرس الموضوعات
وفي الختام أتوجه بالشكر إلى الله _ عز وجل _ على ما يسر وأعان، وأسأله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ما كان فيه من زلل.
وبعد شكر الله _ عز وجل _ أتوجه بالدعاء لشيخنا العلامة الإمام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز × الذي تكرم بقراءة أصل هذا الكتاب، وتفضل بكتابة مقدمة عليه، وأفاد بملحوظاته القيمة؛ فأسأل الله أن يغفر له وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ثم أتوجه بالشكر الجزيل لجامعة أم درمان الإسلامية في جمهورية السودان التي تكرمت بقبول الالتحاق بها، وأخص بالشكر كلية أصول الدين.
وأشكر فضيلة أستاذي الشيخ الدكتور المشرف محمد إبراهيم أحمد الذي تكرم بقبول الإشراف على هذا البحث، وأفادني بملحوظاته، فجزاه الله خير الجزاء، وبارك في علمه وعمره.
وكما أشكر أصحاب الفضيلة حضرات المشايخ الذين تكرموا بقبول مناقشة الرسالة، وهما الشيخ د. جمال محمد علي تبيدي، والشيخ د. عثمان علي حسن.
والشكر موصول لمن راجع هذه الرسالة وأمدني بملحوظاته.
كما أشكر كل من أعان على إخراج هذه الرسالة من الإخوة الكرام، وعلى رأسهم الأخوان الأستاذ محمد بن عبدالعزيز البحر، والأستاذ عبدالله بن مزعل الجبر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تمهيد مسألة في حكم الحديث عن القدر
قبل الدخول في تفاصيل الحديث عن القضاء _ يحسن الوقوف عند مسألة أُثيرت قديماً، وتثار حديثاً، مفادها: أنه لا ينبغي الحديث في مسائل القدر مطلقاً، بحجة أن ذلك يبعث على الشك والحيرة، وأن هذا الباب زلّت به أقدام، وضلَّت به أفهام.
والكلام هكذا _ على إطلاقه _ غير صحيح، لأمور عديدة منها:
1_ أن الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان: ولا يتم إيمان العبد إلا به، فكيف يُعرف إذا لم يُتحدث عنه، ويُبَيَّن للناس أمره؟!
2_ أن القرآن الكريم مليءٌ بذكر القدر وتفاصيله: والله _عز وجل_ أمرنا بتدبر القرآن وعَقْلِه، كما في قوله _ تعالى _: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] سورة ص: 29، وقوله: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] سورة محمد: 24.
فما الذي يخرج الآيات التي تتحدث في القدر عن هذا العموم؟!
3_ أن الإيمان بالقدر ورد في أعظم حديث في الإسلام: وهو حديث جبريل _عليه السلام_ وكان ذلك في آخر حياة النبي " وقد قال " في آخر الحديث: =فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم+( ).
فمعرفته _ إذاً _ من الدين، وهي واجبة ولو على سبيل الإجمال.
4_ أن الصحابة سألوا النبي " عن أدق الأمور في القدر: كما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم عندما جاء سراقة بن مالك بن جعشم إلى النبي"فقال: يا رسول الله بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت المقادير؟ أم فيما نستقبل؟
قال: =لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت المقادير+ قال: ففيم العمل؟ فقال: =اعملوا فكل ميسر+.
وفي رواية =كل عامل ميسر لعمله+ ( ).
5_ أن الصحابة علَّموا تلاميذهم _ من التابعين _ ذلك: وسألوهم؛ ليختبروهم، وينظروا في فهمهم لهذا الباب، كما جاء في صحيح مسلم أن أبا الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن الحصين: =أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضي عليهم، ومضى عليهم من قَدَرِ ما سبق؟ أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت: بل شيءٌ قُضي عليهم.
قال: فقال: أفلا يكون ظلماً؟
قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، قلت: كل شيء خلق الله، وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
فقال لي: يرحمك الله، إني لم أُرِدْ بما سألتك إلا لأَحْزُر( ) عقلك+( ).
6_ أن أئمة السلف الصالح من العلماء كتبوا في هذا الباب: بل وأطنبوا فيه، فلو قلنا بمنع الحديث عن القدر لضللناهم، وسَفَّهْنَا أحلامهم.
7_ لو تركنا الحديث عن القدر لجهل الناس به: ولربما انفتح الباب لأهل البدعة والضلالة؛ ليروجوا باطلهم، ويَلبسوا على المسلمين دينهم.
8_ فوات العلم والخير: فلو تركنا الحديث عن القدر، وعن ثمراته لفاتنا علم غزير، وخير كثير.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذا وبين ما ورد في ذم الخوض في القدر، كما في قوله " كما في حديث ابن مسعود ÷: =إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا+ ( ).
وكذلك ما ورد أن النبي " غضب غضباً شديداً، عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقيء في وجنتيه حبُّ الرمان، فقال: =أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما أهلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه+( ).
فالجواب عن ذلك: أن النهي الوارد مُنْصَبٌّ على الأمور الآتية:
1_ الخوض في القدر بالباطل وبلا علم ولا دليل: قال _ تعالى _ [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] سورة الإسراء: 36، وقال عن المجرمين: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ] سورة المدثر: 42_45.
2_ الاعتماد في معرفة القدر على العقل البشري القاصر: بعيداً عن هدي الكتاب والسنة؛ ذلك أن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك على وجه التفصيل؛ لأن له حدوداً وطاقاتٍ يجب أن يقف عندها( ).
3_ ترك التسليم والإذعان لله _ تعالى _ في قدره: ذلك لأن القدر غيب، والغيب مبناه على التسليم.
4_ البحث عن الجانب الخفي في القدر: الذي هو سر الله في خلقه، والذي لم يطَّلع عليه مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل، وذلك مما تتقاصر العقول عن فهمه ومعرفته( ).
5_ الأسئلة الاعتراضية التي لا يجوز إيرادها: كمن يقول مُتَعَنِّتاً: لماذا هدى الله فلاناً،وأضل فلاناً؟ ولماذا كلَّف الله الإنسان من بين سائر المخلوقات؟ ولماذا أغنى الله فلاناً، وأفقر فلاناً؟ وهكذا. . .
أما =من سأل مستفهماً فلا بأس به؛ فشفاء العي السؤال، أما من سأل متعنتاً _ غير متفقه ولا متعلم _ فهو الذي لا يحل قليلُ سؤاله ولا كثيرُهُ+ ( ).
6_ التنازع في القدر: الذي يؤدي إلى اختلاف الناس فيه، وافتراقهم في شأنه، فهذا مما نهينا عنه.
ولا يدخل في التنازعِ المذمومِ منازعةُ الفرق الضالة، وردُّ شبههم، ودحض حججهم؛ لأن في ذلك إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل.
ومن هنا يتبين لنا أن النهي عن الحديث في القدر على إطلاقه غيرُ صحيح، وإنما النهي كان عن الأمور الآنفة الذكر.
أما البحث فيما يستطيع العقل البشري أن يجول فيه، ويفهمه من منطلق النصوص _ كالبحث في مراتب القدر، وأقسام التقدير، وخلق أفعال العباد، إلى غير ذلك من مباحث القدر _ فهذا ميسَّر واضح لا يمنع من البحث فيه، على أنه لا يستطيع كل أحد أن يفهمها على وجه التفصيل، إلا أن هناك من يعلمها ويكشف ما فيها.
ومما يؤيد ذلك _ من أن النهي ليس على إطلاقه _ أنه ورد في الحديثِ السابقِ، حديثِ ابن مسعود، مع الأمر بالإمساك عن القدر _ الإمساكُ عن الصحابة.
والإمساكُ عن الصحابة إنما المقصود به الإمساك عما شجر بينهم، والكف عن ذكر مساوئهم، وتنقصهم، وثلبهم.
أما ذكر محاسنهم، والثناء عليهم فهذا أمر محمود بلا أي خلاف؛ فقد أثنى الله عليهم في القرآن الكريم، وزكاهم، وكذلك الرسول ".
ومما يؤيد ذلك _ أيضاً _ أن سبب غضب النبي " كما في الحديث السابق _ حديث الترمذي _ إنما هو بسبب تنازع الصحابة في القدر.
=وهذا يعني أن الكلام في القدر، أو البحث فيه بالمنهج العلمي الصحيح غير محرم أو منهي عنه، وإنما الذي نهى عنه الرسول " هو التنازع في القدر+( ).
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن الحديث عن القدر لا يفتح بإطلاق، ولا يغلق بإطلاق؛ فإن كان الحديث بحق فلا يمنع ولا ينهى عنه، بل قد يجب، وإن كان بباطل فيمنع، وينهى عنه.
وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: مفهومُ الإيمانِ بالقدرِ وأدلتُه
وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما
المبحث الثاني: أدلة الإيمان بالقضاء والقدر
المبحث الثالث: فهم السلف للقدر، وأقوالهم في ذلك
المبحث الرابع: مجمل الاعتقاد الحق في القدر، والواجب على العبد في باب القدر
الفصل الثاني: ما يتضمنه الإيمان بالقدر
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مراتب القدر وأركانه، وخلق أفعال العباد
المبحث الثاني: أقسام التقدير
المبحث الثالث: الإرادة الربانية
الفصل الثالث: ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر
وتحته تمهيد وثلاثة مباحث
المبحث الأول: الثمرات الإيمانية العقدية
المبحث الثاني: الثمرات الأخلاقية
المبحث الثالث: الثمرات النفسية
الفصل الأول مفهومُ الإيمانِ بالقدرِ وأدلتُه
وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر والعلاقة بينهما
المبحث الثاني: أدلة الإيمان بالقضاء والقدر
المبحث الثالث: فهم السلف للقدر، وأقوالهم في ذلك
المبحث الرابع: مجمل الاعتقاد الحق في القدر، والواجب على العبد في هذا الباب
المطلب الأول: القضاء:
1_ تعريف القضاء لغة: القضاء في اللغة مصدر الفعل قضى يقضي قضاءاً.
قال ابن فارس( )× في مادة (قضى): =القاف، والضاد، والحرف المعتل _ أصل صحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه، وإنفاذه لجهته.
قال الله _ تعالى _:[ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ] سورة فصلت:12.
أي أحكم خلقهن، ثم قال أبو ذؤيب الهذلي( ):
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو نَسَجُ السوابغ تبع( )
()
والقضاء: هو الحكم، والصنع، والحتم، والبيان.
وأصله القطع، والفصل، وقضاء الشيء، وإحكامه، وإمضاؤه، والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق( ).
2_ إطلاقات القضاء في القرآن الكريم: يطلق لفظ القضاء في القرآن إطلاقات عديدة منها( ):
أ_ الوصية والأمر: قال الله _ تعالى _: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ] سورة الإسراء:23، أي أمر وأوصى.
ب_ الإخبار: قال _ تعالى _: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ] سورة الإسراء:4.
ج_ الفراغ: [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ] سورة البقرة: 200.
وقال: [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ] سورة النساء:103.
د_ الفعل: قال _ تعالى _: [فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ] سورة طه: 72.
هـ_ الوجوب والحتم: قال _ تعالى _: [وَقُضِيَ الأَمْرُ].
وقال _ تعالى _: [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] سورة يوسف:41.
و_ الكتابة: قال _ تعالى _: [وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً] سورة مريم: 21.
ز_ الإتمام: قال _ تعالى _:[ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ] سورة القصص:29.
وقال _ تعالى _: [أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ] سورة القصص: 28.
ح_ الفصل: قال _ تعالى _: [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ] سورة الزمر: 69.
ط_ الخلق: قال _ تعالى _: [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] سورة فصلت:12.
ي_ القتل: قال _ تعالى _: [فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ] سورة القصص:15.
المطلب الثاني: القدر:
1_ القدر في اللغة: =مصدر الفعل قَدِرَ يقْدَرُ قدَرَاً، وقد تسكن دالُه+( ).
قال ابن فارس× في مادة (قدر): =قدر: القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنه، ونهايته؛ فالقدْر مبلغ كل شيء، يقال: قَدْرُه كذا أي مبلغه، وكذلك القدَرُ، وقدَرْت الشيء أقدِره وأقدُره من التقدير+( ).
والقدَر محركة: القضاء، والحكم، وهو ما يقدِّره الله _عز وجل_ من القضاء، ويحكم به من الأمور.
والتقدير: التروية، والتفكير في التسوية أمر، والقَدَرُ كالقَدْر وجميعها جمعها: أقدار( ).
والفرق بين القدر والتقدير _ كما يقول أبو هلال العسكري( )_ =أن التقدير يُستعمل في أفعال العباد ولا يُستعمل القدر إلا في أفعال الله _ عز وجل _+( ).
2_ إطلاقات القدر في القرآن الكريم: يطلق القدر في القرآن عدة إطلاقات منها( ):
أ_ التضييق: قال _ تعالى _: [وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ] سورة الفجر:16.
ب_ التعظيم: قال _ تعالى _: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] سورة الأنعام:91.
ج_ الاستطاعة، والتغلب، والتمكن: قال _ تعالى _: [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ] سورة المائدة:34.
د_ التدبير: قال _ تعالى _: [فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ] سورة المرسلات:23، أي دبَّرنا الأمور، أو أردنا وقوعها بحسب تدبيرنا.
هـ_ تحديد المقدار، أو الزمان، أو المكان: قال _ تعالى _: [وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ] سورة سبأ: 18، وقال: [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ] سورة فصلت:10.
و_ الإرادة: قال _ تعالى _: [فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] سورة القمر:12، أي دبِّر، وأريد وقوعه.
ز_ القضاء والإحكام: قال _تعالى_: [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ] سورة الواقعة:60.
أي قضينا، وحكمنا.
ح_ التمهل والتَّروي في الإنجاز: قال _ تعالى _: [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ] سورة المدثر:18، أي تمهَّل، وتروَّى؛ ليتبين ما يقوله في القرآن.
وقال: [وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] سورة سبأ: 11.
أي تمهلْ، وتروَّ في السرد؛ كي تحكمه.
ط_ الصنع بمقادير معينة: قال _ تعالى _: [قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً] سورة الإنسان:16.
المطلب الثالث: العلاقة بين القضاء والقدر:
من خلال ما سبق من تعريف القضاء والقدر في اللغة وبيان إطلاقاتهما في القرآن يتبين مدى العلاقةِ بينهما، والعلاقةِ بين المدلول اللغوي والشرعي _ كما سيأتي _.
فكلٌّ مِن القضاء والقدر يأتي بمعنى الآخر؛ فمعاني القضاء تؤول إلى إحكام الشيء، وإتقانه، ونحو ذلك من معاني القضاء.
ومعاني القدر تدور حول ذلك، وتعود إلى التقدير، والحكم، والخلق، والحتم، ونحو ذلك.
ولهذا سيكون التعريف الشرعي شاملاً للقضاء والقدر، ثم بعد ذلك يكون الحديث عن الفروق بينهما.
المطلب الرابع: القضاء والقدر في الاصطلاح الشرعي:
هناك بعض ممن تطرق لتعريف القضاء والقدر يعرفه ببعض أفراده أو بعمومه دون تفصيل، أو إشارة إلى مراتبه وأركانه.
فهذا الجرجاني( ) × يعرف القدر فيقول:
=القدر: خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحد مطابقاً للقضاء.
والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال+( )
وقال × في تعريف القضاء: =القضاء لغة: الحكم.
وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد( )+( ).
وهذا التعريف صحيح، ولكن ينقصه الشمول، واستيعاب جميع الأفراد؛ وهي مراتب القدر الأربع.
ويمكن أن يعرف القضاء والقدر بأحد التعريفات التالية:
أ_ هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه _عز وجل_ قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تقع في الأزل، وعلم _ سبحانه وتعالى _ أنها ستقع في أوقات معلومة عنده _تعالى_ وعلى صفات مخصوصة؛ فهي تقع على حسب ما قدرها+( ).
ب_ وعُرِّف بأنه: تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمُه، واقتضته حكمته( ).
وهو تعريف مختصر لطيف.
ج_ هو تقدير الله _ تعالى _ للأشياء في القِدَم، وعلمه _ سبحانه _ أنها ستقع في أوقات معلومة وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها.( )
وهذا التعريف من أجمع التعاريف، وأشملها.
د_ ويمكن أن يعرف القضاء والقدر تعريفاً مختصراً فيقال:
هو علم الله بالأشياء، وكتابته، ومشيئته، وخلقه لها.
المطلب الخامس: الفروق بين القضاء والقدر:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال، وفيما ذكر لشيء من ذلك:
1_ قيل: =المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء: الخلق كقوله _تعالى_: [فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ] سورة فصلت:12، أي خلقهن.
فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء؛ فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه+( ).
وقال الراغب الأصفهاني( ) ×: =والقضاء من الله أخص من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع.
وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المُعَدِّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل+( ).
2_ وقيل العكس؛ فالقضاءُ هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدرُ هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق( ).
قال الجرجاني ×: =والفرق بين القدر والقضاء هو أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها+( ).
وقال مثل ذلك عند تعريفه للقضاء والقدر _ كما مر _.
3_ أنه لا فرق بين القضاء والقدر؛ فكل واحد منهما بمعنى الآخر؛ فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر؛ ويعبر عن كل واحد منهما كما يعبر عن الآخر؛ فهما مترادفان من هذا الاعتبار، فيقال: هذا قدر الله، ويقال: هذا قضاء الله، ويقال: هذا قضاء الله وقدره( ).
ولعل الأقرب _ والله أعلم _ أنهما إذا اجتمعا افترقا؛ بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول بحسب ما سبق في الأقوال السابقة.
وإذا افترقا اجتمعا؛ بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر( ).
وبالجملة فالأمر يسير، والخلاف فيها لا يترتب عليه شيء.
دلَّ على هذا الركن العظيم من أركان الإيمان _ الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ، والفطرةُ، والعقلُ، والحسُّ.
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم: الأدلة من القرآن الكريم على الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة جداً منها:
1_ قوله _ تعالى _: [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً] سورة الأحزاب: 38.
ومعنى هذه الآية: أن الله _ عز وجل _ قدَّر أن يخلق خلقاً، ويأمرهم وينهاهم، ويجعل ثواباً لأهل طاعته، وعقاباً لأهل معصيته، فلما قدَّره كتب ذلك وغيَّبه، فسماه الغيب وأم الكتاب، وخلق الخلق على ذلك الكتاب: أرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم، وما يصيبهم من الأشياء من الرخاء والشدة، فكان أمر الله الذي مضى، وفرغ منه، وخلق الخلق عليه قدراً مقدوراً( ).
2_ قوله _ تعالى _: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] سورة القمر: 49.
ومعنى الآية: أن الله _ سبحانه _ قدر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه _تعالى_ وقدرته، وإرادته( ).
3_ قوله _ تعالى _: [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] سورة الحجر: 21.
وهذا عام في كل شيء، وذهب قوم من المفسرين إلى أن المراد به المطر خاصة( ).
4_ وقوله _ تعالى _: [إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ] سورة المرسلات: 22_23.
5_ قوله _ تعالى _: [ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى] سورة طه: 40.
6_ قوله _تعالى_: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] سورة الفرقان: 2.
7_ قوله _ تعالى _: [مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] سورة عبس: 19.
8_ قوله _ تعالى _: [وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] سورة الأعلى: 3.
9_ قوله _تعالى_: [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً] سورة الأنفال: 42.
10_ قوله _ تعالى _: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ] سورة الإسراء: 4.
ثانياً: الأدلة من السنة: لقد تظافرت الأدلة من السنة المطهرة على الإيمان بالقضاء والقدر، ومنها:
1_ قال " كما في حديث جبريل _ عليه السلام _: =وتؤمن بالقدر خيره وشره+( ).
2_ عن جابر بن عبدالله ÷ قال: قال رسول الله ": =لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه+( ).
3_ روى مسلم في الصحيح عن طاووس( ) قال: =أدركت ناساً من أصحاب رسول الله "يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبدالله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيْس، أو الكيس والعجز+( ).
4_ قال ": =وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل+( ).
هذا وسيمر بنا في ثنايا الكتاب أدلة كثيرة من الكتاب والسنة زيادةً على ما مضى.
ثالثاً: الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله، قال النووي( ) ×: =وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وأهل الحل والعقد من السلف والخلف _ على إثبات قدر الله _ سبحانه وتعالى _+ ( ).
وقال ابن حجر( ) ×: =ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله _تعالى _+ ( ).
رابعاً: دلالة الفطرة: الإيمان بالقدر يتضمن _ كما مرَّ _ علم الله بالأشياء، وكتابته لها، ومشيئته، وخلقه.
وهذه الأمور معلومة بالفطرة.
وكذلك فإن الإيمان بالقدر معلوم بالفطرة قديماً وحديثاً، ولم ينكره إلا الشواذُّ من المشركين من الأمم، ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره، وإنما وقع في فهمه على الوجه الصحيح؛ ولهذا قال _ سبحانه _ عن المشركين: [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا] سورة الأنعام: 148( ).
فهم أثبتوا المشيئة لله، لكنهم احتجوا بها على الشرك، ثم بيَّن _سبحانه_ أن هذا هو شأنُ من كان قبلهم، فقال: [كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] سورة الأنعام: 148.
وكانت العرب في الجاهلية تعرف القدر ولا تنكره، ولم يكن هناك من يرى أن الأمر مستأنف.
وهذا ما نجده مبثوثاً في أشعارهم كما مر في المقدمة، وكما في قول عنترة:
يا عبلُ أين من المنية مهربي
إن كان ربي في السماء قضاها( )
وكما في قول طرفة بن العبد:
فلو شاء ربي كنت قيسَ بن خالدٍ
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد( )
وقول سويد بن أبي كاهل( ):
كتب الرحمنُ والحمد له
سَعَةَ الأخلاقِ فينا والضَّلَعْ( )
وقول المثَقِّب العبدي( ):
فأيقنت إن شاء الإله بأنه
سَيَبْلُغني أجلادُها وقصيدُها( )
وقول زهير:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ في كتاب فَيُدَّخَرْ
ليوم الحساب أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ( )
كما نجد ذلك _ أيضاً _ في خطبهم، كما في قول هانئ بن مسعود الشيباني( ) في خطبته المشهورة في يوم ذي قار: =إنَّ الحذر لا يُنجي من القدر+ ( ).
ولم يقل أحد منهم بنفيه إطلاقاً، كما صرح بذلك أحد كبار علماء العربية، وهو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب( ) × بقوله: =لا أعلم عربياً قدرياً، قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر؟ قال: معاذ الله، ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام، وكلامهم كثير بيِّن، ثم أنشد:
تجري المقادير على غرز الإبر
ما تنفذ الإبرة إلا بقدر
قال: وأنشد لامرئ القيس:
إن الشقاء على الأشقين مكتوب+ ( ).
وقال لبيد:
إن تقوى ربِّنا خير نفل
وبإذن الله ريثي وعجلْ
أحمد الله فلا ندَّ له
بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبلَ الخير اهتدى
ناعمَ البال ومن شاء أضل( )
وقال كعب بن سعد الغنوي( ):
ألم تعلمي ألا يراخي منيتي
قعودي ولا يدني الوفاة رحيلي
مع القدرِ الموقوفِ حتى يصيبني
حِمامي لو آنَّ النفسَ غيرُ عجولِ( )
خامساً: دلالة العقل: أما دلالة العقل فهي أن العقل الصحيح يقطع بأن الله هو خالق هذا الكون، ومدبره، ومالكه، ولا يمكن أن يوجد على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات هكذا صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس له نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره؟
فإذا تقرر عقلاً أن الله هو الخالق لزم ألا يقع شيء في ملكه إلا ما قد شاءه وقدَّره( ).
ومما يدل على هذا التقرير قوله _ تعالى _: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً] سورة الطلاق: 12.
ثم إن تفاصيل القدر لا ينكرها العقل، بل هي مما يتفق معه تمام الاتفاق، كما سيمر بنا قريباً.
سادساً: دلالة الحس: فنحن نشاهد ونسمع، ونقرأ أن الناس تستقيم أمورهم بالإيمان بالقضاء والقدر، وسيمر شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بالقدر، فالمؤمنون به على الوجه الصحيح هم أسعد الناس، وأصبرهم، وأشجعهم، وأكرمهم، وأكملهم، وأعقلهم.
ولو لم يكن الإيمان بالقدر حقاً لما حصل لهم ذلك.
ثم إن القدر =هو نظام التوحيد+( ) كما قال ابن عباس _رضي الله عنهما_ والتوحيد هو نظام الحياة، فلا تستقيم حياة الناس استقامة حقيقية إلا بالتوحيد، والتوحيد لا يستقيم إلا بالإيمان بالقضاء والقدر.
ثم إن فيما أخبرنا الله ورسوله "من أمور الغيب المستقبلية التي وقعت كما جاء في الخبر _ دليلاً حسيَّاً واضحاً على أن الإيمان بالقدر حق وصدق( ).
ورد عن السلف الصالح أقوال جميلة، وكلمات مضيئة، توضح معنى القدر، وتدل على أهميته، وتحث على الإيمان به، وتوصي بالرضا بما يقدره الله ويقضيه، وتحذر من ضد ذلك، وتبين إيمان السلف العميق، وفهمهم الدقيق لذلك الركن العظيم من أركان الإيمان.
كما ورد شيءٌ من ذلك على ألسنة بعض الشعراء والحكماء.
فمن ذلك مايلي:
1_ قال الوليد ابن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت ÷: =دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني، واجتهد لي.
فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله _ تبارك وتعالى _ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره.
قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وما شره؟
قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله " يقول: =إن أول ما خلق الله _تعالى_ القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة+.
يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار+ ( ).
2_ قال ابن عباس _ رضي الله عنهما _: =القدر نظام التوحيد فمن وحَّد الله _ عز وجل _ وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن وحد الله _ تعالى _ وكذَّب بالقدر نقض التوحيد+( ).
ويُروى هذا الأثر بلفظ: =القدر نظام التوحيد؛ فمن وحَّد الله، وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحّد الله، وكذَّب بالقدر نقض توحيده+ ( ).
3_ وقال _ أيضاً _: =كل شيء بقدر حتى وضْعُكَ يَدَكَ على خدك+( ).
4_ قال عكرمة( ): =سُئل ابن عباس: كيف تَفَقَّدَ سليمانُ الهدهدَ من بين الطير؟
قال: إن سليمان _ صلوات الله عليه _ نزل منزلاً فلم يَدْرِ ما بُعْدُ الماء، وكان الهدهد مهندساً، قال: فأراد أن يسأله عن الماء ففقده.
قلت: وكيف يكون مهندساً؟ والصبي ينصب له الحبالة فيصيده؟
قال: إذا جاء القدر حال دون البصر+ ( ).
5_ قال كعب بن زهير ÷:
لو كنت أعْجَبُ من شيءلأعجبني لأعجبني
سعيُ الفتى وهو مخبوءٌ له القدرُ
يسعى الفتى لأمورٍ ليس يدركها
والنفسُ واحدٌ والهمُّ منتشر
والمرءُ ما عاش ممدودٌ له أمل
لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر( )
6_ قال الحسن( ) ×: =إن الله خلق خلقاً، فخلقهم بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر+ ( ).
7_ وقال _ أيضاً _: =من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام+ ( ).
8_ وقال في مرضه الذي مات فيه: =إن الله قدر أجلاً، وقدر معه مرضاً، وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدرفقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق+ ( ).
9_ وهذه أبيات جميلة للشافعي × تبين حقيقة الإيمان بالقدر، قال عنها الإمام ابن عبد البر( ) × في (الانتقاء): =إنها من شعره الذي لا يختلف فيه، وهو أصح شيء عنه+ ( ).
وقال: =وهذه الأبيات من أثبت شيء في الإيمان بالقدر+ ( ).
والأبيات هي:
وما شئتَ كان وإن لم أشأْ
وما شئتُ إن لم تشأْ لم يكنْ
خلقتَ العباد على ما علمتَ
وفي العلم يجري الفتى والمسنْ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ
وهذا أعنت وذا لم تُعِنْ
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد
ومنهم قبيح ومنهم حسنْ( )
يقول: =وما شئت+ أي أنت يا رب =كان+ أي بأمرك لا محالة؛ لأن مشيئتك نافذة، و=إن لم أشأ+ أنا أيها العبد، و =ما شئتُ+ أنا =إن لم تشأ+ يا رب =لم يكن+؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئتك.
=خلقت العباد على ما علمت+: أي حسب ما سبق من علمك الأزلي، =وفي العلم يجري الفتى والمسن+: أي بمقتضى هذا العلم السابق يجري ويعمل الصغير والكبير، ولا يخرج أحد عن ذلك.
=على ذا مننت+ رحمةً وتفضلاً، =وهذا خذلت+ حكمةً وعدلاً، =وهذا أعنت+ بمنك وفضلك، =وذا لم تعن+ بحكمتك وعدلك؛ =فمنهم شقي+ ممن سبقت له الشقاوة، =ومنهم سعيد+ ممن سبقت له الحسنى والسعادة، =ومنهم قبيح ومنهم حسن+ فالله _ عز وجل _ هو الذي يصورهم في الأرحام كيف يشاء.
10_ قال الإمام أحمد ×: =القدر قدرة الله+ ( ).
قال ابن القيم( ) تعليقاً على هذه الكلمة: =واستحسن ابن عقيل( ) هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتَبَحُّره في معرفة أصول الدين.
وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد، وكتابتها، وتقديرها+ ( ).
11_ وقال مطرِّف بن عبدالله( ) ×:=ليس لأحد أن يصعد، فيلقي نفسه من شاهق، ويقول: قدَّر لي ربي، ولكن يحذر، ويجتهد، ويتقي؛ فإن أصابه شيء علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له+( ).
12_ قال المبرِّد( ) عن أبي عثمان المازني( ) قال:=سُئل علي بن موسى الرضا: أَيُكَلِّف الله العباد ما لا يُطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك، قيل: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال هم أعجز من ذلك+( ).
13_قال محمود الوراق( ):
ليس عندي إلا الرضا بقضاء اللَّــ
ـه فيما أحببتُه أو كرهتُه
لوليِّ الأمور يختار منها
خيرَها لي عواقباً ما عرفته
فأرى أن أردَّ ذاك إلى من
عنده العلم الذي قد جهلته( )
14_ وقال الآخر:
ما قضى الله كائنٌ لا محالهْ
والشقيُّ الجهولُ من لامَ حالَهْ( )
15_ وقال الآخر:
اقنعْ بما ترزقُ يا ذا الفتى
فليس ينسى ربُنا نملهْ
إن أقبل الدهرُ فَقُمْ قائماً
وإن تولى مدبراً نَمْ لَهْ( )
المطلب الأول: مجمل الاعتقاد الحق في القدر:
للسلف الصالح عناية في باب القدر تفصيلاً وإجمالاً، والحديث في هذا المبحث سيكون حول مجمل الاعتقاد الحق في القدر وذلك من خلال النقل عن إمامين عظيمين من أئمة السلف وهما الإمام الصابوني( ) والإمام ابن تيمية( )_رحمهما الله _.
أولاً: أقوال الإمام الصابوني ×:
1_ قال ×:=ويشهدون _ يعني أهل السنة _ أنَّ الله _ تعالى _ يهدي من يشاء لدينه، ويُضل من يشاء عنه، لا حجة لمن أضله عليه، ولا عذر لديه.
قال الله _ عز وجل _:[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] سورة الأنعام:149.
وقال:[ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] سورة السجدة:13.
سبحانه خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم فريقين: فريقاً للنعيم فضلاً، وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، وقريباً من رحمته وبعيداً [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]+( ).
2_ وقال ×:=يشهد أهل السنة، ويعتقدون أنَّ الخيرَ والشرَ والنفعَ والضرَّ بقضاء الله وقدره لا مردَّ لها، ولا محيص ولا محيد عنها لا يصيب المرء إلا ما كتبه ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يقضه لم يَقْدروا+( ).
3_ وقال ×:=ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله _ عز وجل_ مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، ولم يؤمن أحدٌ إلا بمشيئة الله، ولو شاء لجعل الناس أمةً واحدةً، ولو شاء ألا يعصى ما خلق إبليس؛ فكفر الكافرين، وإيمان المؤمنين بقضائه _ سبحانه وتعالى _ وقَدَرِه وإرادته ومشيئته، أراد كلَّ ذلك وشاءه وقضاه.
ويرضى الإيمان والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية.
قال الله _ عز وجل _:[ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ....] سورة الزمر:7+( ).
ثانياً: أقوال الإمام ابن تيمية ×:
1_ سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية × سؤالاً عن القدر، فأجاب عنه إجابة مطولة، ضمنها مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الباب، ومما قاله:
=مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها، من أفعال العباد،وغير أفعال العباد.
وأنه _ سبحانه _ ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته، وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئاً إلا وهو قادر عليه، وأنه _ سبحانه _ يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وقد دخل في ذلك أفعال العباد، وغيرها، وقد قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم؛ قدر آجالهم، وأرزاقهم، وأعمالهم، وكتب ذلك، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة، وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها، وكتابته إياها قبل أن تكون+ ( ).
2_ إلى أن قال:=وسلف الأمة وأئمتها متفقون _ أيضاً _ على أن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم عنه، ومتفقون على الإيمان بوعده، ووعيده الذي نطق به الكتاب والسنة، ومتفقون على أنه لا حجة لأحد على الله في واجب تركه، ولا محرم فعله، بل لله الحجة البالغة على عباده+( ).
3_ وقال:=ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها _ مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يضل من يشاء، ويهدي من يشاء _ أن العباد لهم مشيئة وقدرة، يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه، مع قولهم: إن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، كما قال الله _ تعالى _: [كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ] سورة المدثر: 54_56.( )
المطلب الثاني: الواجب على العبد في هذا الباب:
الواجب على العبد في هذا الباب أن يُؤمن بقضاء الله، وقدره، وأن يُؤمن بشرع الله، وأمره، ونهيه، فعليه تصديق الخبر، وطاعة الأمر( ).
فإذا أحسن حَمِدَ الله، وإذا أساء استغفر الله، وعلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره؛ فإن آدم _ عليه السلام _ لما أذنب تاب، فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصرَّ واحتج فلعنه الله وأقصاه، فمن تاب كان آدمياً، ومن أصرَّ واحتج بالقدر صار إبليسياً، فالسعداء يتبعون أباهم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس( ).
=وبالمراعاة الصحيحة لقدر الله، وشرعه، يصير الإنسان عابداً _حقيقة_ فيكون مع الذين أنعم الله عليهم من أنبياء، وصديقين، وشهداء، وصالحين، وكفى بهذه الصحبة غبطة وسعادة+ ( ).
وبالجملة فعليه أن يؤمن بمراتب القدر الأربع السابقة، وأنه لا يقع شيء إلا وقد علمه الله، وكتبه، وشاءه، وخلقه، ويؤمن _ أيضاً _ بأن الله أمر بطاعته، ونهى عن معصيته، فيفعل الطاعة، ويترك المعصية، فإذا وفقه الله لفعل الطاعة وترك المعصية فليحمد الله، وليستمر على ذلك، وإن خُذِل ووُكل إلى نفسه فَفَعَل المعصية، وترك الطاعة فعليه أن يستغفر ويتوب.
ثم إن على العبد _ أيضاً _ أن يسعى في مصالحه الدنيوية، ويسلك الطرق الصحيحة الموصلة إليها، فيضرب في الأرض، ويمشي في مناكبها، فإن أتت الأمور على ما يريد حمد الله، وإن أتت على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله، وعلم أن ذلك كله واقع بقدر الله _ عز وجل _ وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
=وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلق وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه+( ).
ولا يلزم كل أحد أن يعلم تفاصيل الحديث عن الإيمان بالقدر، بل يكفي هذا الإيمان المجمل، فأهل السنة والجماعة _ كما هو مقرر عندهم _ لا يوجبون على العاجز ما يجب على القادر.
هذا _ ولله الحمد _ مقتضى الأدلة الشرعية، والفطرية، والعقلية، والحسية، لا تناقض فيه، ولا لبس.
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مراتب القدر وأركانه، وخلق أفعال العباد
المبحث الثاني: أقسام التقدير
المبحث الثالث: الإرادة الربانية
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تُسمى مراتب القدرأوأركانه، وهي المدخل لفهم باب القدر، ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلها؛ فبعضها مرتبط ببعض، فمن أقر بها جميعاً اكتمل إيمانه بالقدر، ومن انتقص واحداً منها أو أكثر اختل إيمانه بالقدر، وهذه الأركان هي:
1_العلم. 2_الكتابة.
3_المشيئة. 4_الخلق.
وقد نظمها بعضهم بقوله:
عِلْمٌ كِتابةُ مولانا مشيئَتُهُ
وخَلْقُهُ وهو إيجادٌ وتكوينُ
المرتبة الأولى: العلم: وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، أزلاً، وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده؛ فعلمه محيط بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ويعلم الموجود، والمعدوم، والممكن، والمستحيل، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
وقد عَلِمَ جميع خلقه قبل أن يخلقهم، فعلم أرزاقهم، وآجالهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وجميع حركاتهم، وسكناتهم، وأهل الجنة، وأهل النار.
وهذه المرتبة _ وهي العلم السابق _ اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها جميع الصحابة، ومن تبعهم من هذه الأمة، وخالفهم مجوسُ هذه الأمة _القدرية الغلاة _( ).
والأدلة على هذه المرتبة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً منها:
1_ قوله _ تعالى _: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ] سورة الحشر: 22.
أي عالم ما غاب من الإحساس وما حضر، وقيل: عالم السر والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون، وقيل: الآخرة والدنيا.
وقدم الغيب على الشهادة؛ لكونه متقدماً وجوداً ( ).
2_ قوله _ عز وجل _ :[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ] سورة البقرة:30.
قيل: إنه علم من إبليس المعصية وخلقه لها( ).
وقيل: كان علمه أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة( ).
3_ قوله _ تعالى _ :[أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ] سورة الجاثية: 23.
قال ابن عباس: =علم ما يكون قبل أن يخلقه.
وقال _ أيضاً _ : على علم قد سبق عنده.
وقال _ أيضاً _ : يريد الأمر الذي سبق له في أم الكتاب+( ).
4_ قوله _ تعالى _ :[وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ] سورة الأنعام: 28.
فهذا إضلال ناشئ عن علم الله السابق في عبده أنه لا يصلح للهدى، ولا يليق به، وأن محله غير قابل له؛ فالله أعلم حيث يضع هداه وتوفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته( ).
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، ومنها:
قوله _ تعالى _ :[وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] سورة الأنعام : 59.
وقوله _ تعالى _ :[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً] سورة التوبة: 47.
وقوله _ تعالى _ :[وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] سورة الأنفال: 32.
وأما من السنة فمن ذلك ما يلي:
1_ روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: سُئل النبي "عن أولاد المشركين، فقال: =الله أعلم بما كانوا عاملين+ ( ).
قال ابن حجر × في شرح الحديث: =قال ابن قتيبة( ): معنى قوله =الله أعلم بما كانوا عاملين+: أي لو أبقاهم؛ فلا تحكموا عليهم بشيء، وقال غيره: أي علم أنهم لا يعملون شيئاً، ولا يرجعون فيعملون، أو أَخْبَرَ بعلم شيء لو وجد كيف يكون مثل قوله [وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا]( ).
2_ قال ": =ما منكم من نفس إلا وقد عُلم منزلها من الجنة والنار+( ).
المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.
وقد أجمع الصحابة، والتابعون، وجميع أهل السنة والحديث على أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب( )، التي هي اللوح المحفوظ، والذكر، والإمام المبين، والكتاب المبين.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة من الكتاب والسنة منها:
1_ قال _ تعالى _: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] سورة الحج: 70.
فما كتبه الله _ عز وجل _ وأثبته عنده كان في علمه قبل أن يكتبه، ثم كتبه كما في علمه، ثم وُجِدَ كما كتبه _ عز وجل _( ).
2_ قوله _تعالى_:[وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ] سورة يس 12.
قوله: =وكل شيء+ أي من الأعمال والنيات وغيرها.
=أحصيناه في إمام مبين+ أي في كتاب هو أم الكتاب، وإليه مرجع الكتب التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوح المحفوظ ( ).
3_ قوله: [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] سورة التوبة:51.
أي ما قدره الله، وأجراه في اللوح المحفوظ ( ).
4_ قال _ سبحانه _ عن موسى _ عليه السلام _ دعاءه: [وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً] سورة الأعراف: 156.
أي من علم نافع، ورزق واسع، وعمل صالح ( ).
5_ وقال _ تعالى _ عن محاجة موسى _ عليه الصلاة والسلام _ لفرعون: [قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى] سورة طه:51_52.
أي قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتابه، وهو اللوح المحفوظ، وأحاط به علماً وخُبْراً؛ فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها ( ).
6_ وقال _ عز وجل _: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] سورة الأنبياء:105.
أي كتبنا في الكتاب المزبور، والمراد: الكتب المنزلة كالتوراة ونحوها =من بعد الذكر+ أي كتبناه في الكتب المنزلة بعدما كتبنا في الكتاب السابق، وهو اللوح المحفوظ، وأم الكتاب الذي توافقه جميع التقادير المتأخرة عنه( ).
7_ وقال _ تعالى _: [لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] سورة الأنفال:68.
أي سبق به القضاء والقدر أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن الله قد رفع عنكم _ أيتها الأمة _ العذاب =لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم+( ).
وأما السنة فمن ذلك ما يلي:
1_ روى مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنهما _ قال: سمعت رسول الله " يقول: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء+ ( ).
قال النووي ×:=قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزلي لا أول له+( ).
وقوله: =وعرشه على الماء+ أي قبل خلق السماوات والأرض والله أعلم+.
2_ قال النبي ": =ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة+ ( ).
المرتبة الثالثة: المشيئة: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة، ولا سكون، ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته.
=وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقل والبيان+ ( ).
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً من الكتاب والسنة، منها:
1_ قوله _ تعالى _: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] سورة القصص: 68.
في هذه الآية دليل على عموم خلقه _ تعالى _ لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده _ عز وجل _ باختيار من يختاره ويختصه من الأشخاص، والأوامر، والأزمان، والأماكن، وأن أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيء( ).
2_ قوله _ تعالى _: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] سورة التكوير:29.
3_ قوله _ تعالى _: [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] سورة الكهف: 23_24.
4_ قوله _ تعالى _: [وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله] سورة الأنعام:111.
5_ قوله _ تعالى _: [مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] الأنعام: 39.
ومن الأدلة من السنة ما يلي:
1_ قال ": =إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يُصَرِّفه حيث يشاء+( ).
2_ وعن أبي موسى الأشعري ÷ قال: كان رسول الله " إذا جاءه السائل، أو طلبت إليه حاجة _ قال: =اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء+ ( ).
ومشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان، وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن، ولا هو كائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ كونه فإنه لا يكون؛ لعدم مشيئته له، لا لعدم قدرته عليه.
قال _ تعالى _: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] البقرة:253.
فعدم اقتتالهم ليس لعدم قدرة الله، ولكن لعدم مشيئته ذلك، ومثله قوله _تعالى_: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى] سورة الأنعام: 35، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا] سورة الأنعام: 107، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً] سورة يونس:99( ).
المرتبة الرابعة: الخلق: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، وبأن كل من سوى الله مخلوق مُوْجَدٌ من العدم، كائن بعد أن لم يكن.
وهذه المرتبة دلت عليها الكتب السماوية، وأجمع عليها الرسل _ عليهم الصلاة والسلام _ واتفقت عليها الفطر القويمة، والعقول السليمة( )، والأدلة على هذه المرتبة لا تكاد تحصرمنها:
1_ قوله _ تعالى _: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] سورة الزمر: 62.
2_ قوله _ تعالى _: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ] سورة الأنعام:1.
3_ قوله _ تعالى _: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] الملك:2.
4_ قوله _ تعالى _: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً] سورة النساء: 1.
5_ قوله _ تعالى _: [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] سورة الأنبياء: 33.
6_ قال _ سبحانه _: [هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] سورة فاطر: 3.
ومن الأدلة من السنة ما يلي:
1_ أخرج البخاري في خلق أفعال العباد عن حذيفة ÷ قال: قال النبي ": =إن الله يصنع كل صانع وصنعته+ ( ).
2_ وعن زيد بن أرقم ÷ قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله " يقول، كان يقول: =اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّها، أنت وليها ومولاها+( ).
والشاهد من ذلك قوله " =اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها...+ فالفاعل هو الله _ تعالى _ فهو الذي يطلب منه ذلك.
3_ عن ورَّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إلي ما سمعت النبي " يقول خلف الصلاة، فأملى عليَّ المغيرة، قال: سمعت النبي " يقول خلف الصلاة: =لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد+( ).
والشاهد من ذلك قوله: =اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت+، فالمعطي والمانع هو الله _ تعالى _ فهو الفاعل لذلك، وهذا يدل على أنَّ الخالق هو الله _ عز وجل _( ).
مسألة خلق أفعال العباد:
أفعال العباد داخلة في عموم خلقه _ تعالى _ ولا يخرجها شيء من عموم قوله_تعالى _: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] سورة الزمر: 62، وإنما أفردت هنا لوقوع اللبس فيها.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أفعال العباد كلَّها من الطاعات، والمعاصي، داخلةٌ في خلق الله، وقضائه، وقدره؛ فقد علم الله _ عز وجل _ ما سيخلقه في عباده، وعلم ما هم فاعلون، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وخلقهم الله كما شاء، ومضى فيهم قدره، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، وهدى الله من كتب لهم السعادة، وأضل من كتب عليهم الشقاوة، وعلم أهل الجنة ويسرهم لعمل أهلها، وعلم أهل النار ويسرهم لعمل أهلها.
فأفعال العباد هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فعلاً وكسباً، فالله هو الخالق لأفعالهم، وهم الفاعلون لها، فنؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله، وقدرته على كل شيء من الأعمال والأوصاف، كما نؤمن بنصوص الكتاب والسنة الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقةً للخير والشر، وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة( ).
والنصوص التي مرت بنا في المرتبة الرابعة من مراتب القدر تدل على ذلك، وهناك أدلة أصرح في الدلالة على هذه المسألة كقوله _ تعالى _: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] سورة الصافات: 96.
قال المفسرون: في معنى [ما] في الآية وجهان:
=أحدهما: أن تكون بمعنى المصدر؛ فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم.
والثاني: بمعنى الذي؛ فيكون المعنى، والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم من الأصنام.
وفي هذه الآية دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله+( ).
وبعد بيان الحق في مسألة خلق أفعال العباد ينتهي الحديث في هذا المبحث عن مراتب القدر الأربع التي لا يتم الإيمان بالقدر إلا بها.
يمكن تقسيم التقدير باعتبار نسبته إلى الله _ عز وجل _ إلى خمسة أقسام، وهي كما يلي:
1_ التقدير العام: وهو تقدير الرب لجميع الكائنات، بمعنى علمه بها، وكتابته لها، ومشيئته، وخلقه لها.
ويدل على هذا النوع أدلة كثيرة منها قوله _ تعالى _: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] سورة الحج:70.
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو _ رضي الله عنهما _ أن النبي"قال: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء+ ( ).
2_ التقدير البشري( ): وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على جميع البشر بأنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم بذلك، والذي قدر الله فيه أهل السعادة وأهل الشقاوة.
قال _ تعالى _: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] سورة الأعراف: 172.
وعن هشام بن حكيم أن رجلاً أتى النبي " فقال: أَتُبْدَأُ الأعمال أم قد قُضِيَ القضاء؟ قال رسول الله ": =إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار؛ فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار+ ( ).
3_ التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابةُ شقاوته، أو سعادته.
وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً: =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل المَلَك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ+ ( ).
4_التقدير السنوي: وذلك في ليلة القدر من كل سنة، ويدل عليه قوله _تعالى_: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] سورة الدخان: 4، وقوله: [تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] سورة القدر:4_6.
قيل: يكتب فيها _ أي هذه الليلة _ ما يحدث في السنة من موت وحياة، وعز وذل، ورزق ومطر، حتى الحجاج يُقال: يحج فلان، ويحج فلان.
رُوي هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وكذا الحسن وسعيد ابن جبير( )( ).
5_التقدير اليومي: ويدل عليه قوله _ تعالى _: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] سورة الرحمن: 29.
قيل في تفسيرها: شأنه أن يُعِزَّ ويُذِل، ويرفع ويخفض، ويُعطي ويمنع، ويُغني ويُفقر، ويُضحِكَ ويُبكي، ويُميت ويُحيي، إلى غير ذلك( ).
تنقسم الإرادة الربانية إلى قسمين:
1_إرادة كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة، وهذه الإرادة لا يخرج عن مرادها شيء؛ فالكافر والمسلم تحت هذه الإرادة الكونية سواء؛ فالطاعات، والمعاصي، كلها بمشيئة الرب، وإرادته.
ومن أمثلتها قوله _ تعالى _: [وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ] سورة الرعد: 11، وقوله: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ] سورة الأنعام:125.
2_إرادة شرعية دينية: وتتضمن محبة الربّ، ورضاه.
ومن أمثلتها قوله _ تعالى _: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] سورة البقرة: 185، وقوله: [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ] سورة النساء:27، وقوله: [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ] سورة المائدة: 6( ).
الفرق بين الإرادتين( ): بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فروق تُميز كلَّ واحدة منهما عن الأخرى، ومن تلك الفروق ما يلي:
1_ الإرادة الكونية قد يحبها الله ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها.
أما الشرعية فيحبها الله ويرضاها؛ فالكونية مرادفة للمشيئة، والشرعية مرادفة للمحبة.
2_ الإرادة الكونية قد تكون مقصودة لغيرها كخلق إبليس مثلاً، وسائر الشرور؛ لتحصل بسببها محابّ كثيرة، كالتوبة، والمجاهدة، والاستغفار.
أما الشرعية فمقصودة لذاتها؛ فالله أراد الطاعة وأحبها، وشرعها، ورضيها لذاتها.
3_ الإرادة الكونية لابد من وقوعها؛ فالله إذا شاء شيئاً وقع ولابد، كإحياء أحد أو إماتته، أو غير ذلك.
أما الشرعية كالإسلام _ مثلاً _ فلا يلزم وقوعها، فقد تقع وقد لا تقع، ولو كان لابد من وقوعها لأصبح الناس كلهم مسلمين.
4_ الإرادة الكونية متعلقة بربوبية الله وخلقه، أما الشرعية فمتعلقة بألوهيته وشرعه.
5_ الإرادتان تجتمعان في حق المطيع، فالذي أدى الصلاة _ مثلاً _ جمع بينهما؛ وذلك لأن الصلاة محبوبة لله، وقد أمر بها، ورضيها، وأحبها، فهي شرعية من هذا الوجه، وكونها وقعت دلَّ على أنَّ الله أرادها كوناً؛ فهي كونية من هذا الوجه؛ فمن هنا اجتمعت الإرادتان في حق المطيع.
وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي، فكونها وقعت فهذا يدلُّ على أن الله شاءها؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئته، وكونها غير محبوبة ولا مرضية لله دليل على أنها كونية لا شرعية.
وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي، فكونها محبوبة لله فهي شرعية، وكونها لم تقع _ مع أمر الله بها ومحبته لها _ هذا دليل على أنها شرعية فحسب؛ إذ هي مرادة محبوبة لم تقع.
6_ الإرادة الكونية أعمّ من جهة تعلّقها بما لا يحبه الله ولا يرضاه، من الكفر والمعاصي، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر، وطاعة الفاسق.
والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به، واقعاً كان أو غير واقع، وأخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به.
هذه فوارق بين الإرادتين، فمن عرف الفرق بينهما سلم من شُبهات كثيرة، زلَّت بها أقدام، وضلَّت بها أفهام، فمن نظر إلى الأعمال الصادرة عن العباد بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى الشرع دون القدر أو العكس كان أعور( ).
نماذج لأمور شرعية وكونية:
كما أن الإرادة منها ما هو كوني قدري، ومنها ما هو شرعي ديني _ فكذلك الكتابة، والأمر، والإذن، والجعل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والإيتاء، والكره، ونحوها، كل هذه الأمور منها ما هو شرعي ومنه ما هو كوني.
فمن أمثلة الكتابة الكونية قوله _ تعالى _: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] سورة المجادلة: 21، ومن أمثلة الكتابة الشرعية قوله: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] سورة البقرة: 183، والأمر الكوني قوله: [وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ] سورة القمر: 50، والشرعي قوله: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] سورة النحل: 90، والإذن الكوني قوله: [وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] سورة البقرة: 102، والشرعي قوله: [آاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ] سورة يونس: 59 وقوله: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] سورة الشورى: 21، والجعل الكوني قوله: [كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ] سورة الأنعام: 125، والشرعي: [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ] سورة المائدة: 103، أما قوله: [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] سورة المائدة: 97، فهذا يتناول الأمرين، فإن الله جعلها كذلك بقدره وبشرعه.
وكذلك الكلمات منها ما هو كوني كقوله: [كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] سورة يونس: 33، ومنها الشرعي كقوله: [حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ] سورة التوبة: 6، واجتمع النوعان في قوله _تعالى _: [وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا] سورة التحريم: 12، وكذلك البعث منه الكوني كقوله: [بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا] سورة الإسراء: 5، والشرعي كقوله: [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ] سورة البقرة: 213، وقوله: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ] سورة الجمعة: 2، وكذلك الإرسال منه الكوني كقوله: [وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ] سورة الأعراف: 57، ومنه الديني كقوله: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى] سورة الصف: 9، والتحريم الكوني كقوله: [وحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ] سورة القصص: 12، والشرعي: [وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً] سورة المائدة: 96، والإيتاء الكوني كقوله: [وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ] سورة البقرة: 247، والديني كقوله: [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ] سورة البقرة: 93، وقوله: [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ] سورة البقرة: 269، يشمل النوعين؛ فإنه يؤتيهما أمراً وديناً وتوفيقاً وإلهاماً.
والكره _ كذلك _ منه ما هو كوني كما في قوله _ تعالى _: [وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ] سورة التوبة: 46، ومنه ما هو شرعي كما في قوله _ تعالى _: [كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً] سورة الإسراء: 38.
والفروق بين هذه الأمور _ من جهة أن منها ما هو شرعي ديني، ومنها ما هو كوني قدري _ كالفروق بين الإرادتين الكونية القدرية، والشرعية الدينية( ).
وتحته تمهيد وثلاثة مباحث
المبحث الأول: الثمرات الإيمانية العقدية
المبحث الثاني: الثمرات الأخلاقية
المبحث الثالث: الثمرات النفسية
تمهيد
الإيمان بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح يثمر ثمراتٍ جليلة، وأخلاقاً جميلة، وعبودياتٍ متنوعةٍ، يعود أثرها على الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، وسيتضح ذلك من خلال المباحث التالية، علماً بأنَّ بعضها قريب من بعض داخل في بعض( ).
للإيمان بالقدر ثمرات إيمانية عقدية تعود على إيمان العبد بالزيادة، وعلى عقيدته بالثبات، ومن ذلك:
1_ أداء عبادة الله _ عز وجل _: فالإيمان بالقدر مما تعَبَّدنا الله به، وكمال المخلوق في تحقيقه العبودية لربه، وكلما ازداد تحقيقاً للعبودية ازداد كمالُه، وعلت درجتُه، وكان كل ما يجري عليه مما يكرهه خيراً له، وحصل له من جرَّاء ذلك الإيمانِ عبودياتٌ كثيرة، سيأتي ذكرٌ لشيء منها( ).
2_ الخلاص من الشرك: فالمجوس( ) زعموا أن النورَ خالقُ الخيرِ، والظلمةَ خالقةُ الشرِّ، والقدرية قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد، بل العباد يخلقون أفعالهم؛ فأثبتوا خالِقِينَ مع الله _ جل وعلا _.
وهذا الضَّلال شركٌ، والإيمان بالقدر على الوجه الصحيح توحيد لله _عز وجل _.
ثم إن المؤمن بالقدر يعلم أن جميع الكائنات واقعة تحت قهر الله، محكومة بقدره، وليس لها من الأمر شيء، فلا تملك لنفسها _ فضلاً عن غيرها _ نفعاً أو ضرّاً، كما يعلم علم اليقين بأن أزمَّة الأمور بيد الله؛ فهو المعطي لمن شاء، المانع لمن شاء، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه.
وهذا يبعثه إلى إفراد الله بالعبادة وحده دون من سواه، فلا يتقرب لغير الله، ولا يتمسح بأتربة القبور وعتبات الصالحين.
3_ حصول الهداية وزيادة الإيمان: فالمؤمن بالقدر على الوجه الصحيح يتحقق توحيده، ويزيد إيمانه، ويسير على هُدى من ربه؛ ذلك أن الإيمان بالقدر من الاهتداء، والله _ عز وجل _ يقول: [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] سورة محمد: 17.
ويقول: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ] سورة التغابن: 11.
قال علقمة( ) × في هذه الآية: =هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قِبِلِ الله _ تعالى _ فيسلِّم ويرضى+ ( ).
4_ الإخلاص: فالإيمان بالقدر يحمل صاحبه على الإخلاص، فيكون الباعث له في جميع أعماله امتثال أمر الله؛ ذلك أن المؤمن بالقدر يعلم أن الأمر أمر الله، وأن الملك ملكه، وأن ما شاءه الله كان، وما لم يشأه لم يكن، لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، فيقوده ذلك إلى إخلاص العمل لله، وتصفيته من كل شائبة تشوبه؛ لأن الحامل على عدم الإخلاص أو قِلَّتِه مراءاةُ الناس، أو طلب التزيُّن في قلوبهم، أو طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم أو محبتهم، أو نحو ذلك من الشوائب والعلل التي يجمعها إرادة ما سوى الله في العمل( ).
فإذا أيقن العبد أن هذه الأمورَ لا تُنال إلا بتقدير الله _ عز وجل _ وأن الناس ليس لهم من الأمر شيء في أنفسهم ولا في غيرهم _ لم يعد يبالي بالناس، ولم يَسْعَ إلى إرضائهم بسخط الله، فينقاد إلى إيثار الحق على الخلق، وإلى الإخلاص والتفريد، بعيداً عن كل رياء وتنديد.
ومن هنا ينال فضيلة الإخلاص وأكرم بها من فضيلة؛ فالإخلاص يرفع شأن الأعمال حتى تكون مراقيَ للفلاح، وهو الذي يحمل الإنسان على مواصلة عمل الخير، وهو الذي يجعل في عزم الرجل متانة، ويربط على قلبه، فيمضي حتى يبلغ الغاية.
5_ صحة التوكل وتمامه: فالتوكل على الله هو لُبُّ العبادة، ولا يصح التوكل ولا يستقيم إلا لمن آمن بالقدر على الوجه الصحيح.
قال ابن القيم ×: =قال شيخنا( ) ÷: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم _ أيضاً _ من الجهمية النفاة لصفات الرب _ جل جلاله _ ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات+ ( ).
والتوكل في لسان الشرع إنما يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده؛ فذلك سر التوكل وحقيقته.
والشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه مطوياً على سراج التوكل والتفويض.
والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عطَّلها لم يصحَّ توكله.
فإذا توكل العبد على ربه، وسلَّم له، وفوض إليه أمره أمده الله بالقوة، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عُرْضَةُ اختيارِ العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
وهذا يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منه في عقبة، وينزل في أخرى( ).
6_ الخوف من الله: فالمؤمن بالقدر تجده دائماً على خوف من الله، وعلى حذر من سوء الخاتمة؛ إذ لا يدري ما يُفعل به، ولا يأمن مكر الله.
ومن هنا يستقل عمله، ولا يغتر به مهما كان؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، والخواتيم علمها عند الله _ عز وجل _.
قال النبي ": =فوالله إن أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها+( ).
وقال ": =إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار؛ وإنما الأعمال بالخواتيم+ ( ).
7_ قوة الرجاء وإحسان الظن بالله: فالمؤمن بالقدر حَسَنُ الظن بالله، قويُّ الرجاء به؛ لعلمه بأن الله لا يقضي قضاءً إلا وفيه تمام العدل والرحمة والحكمة.
فلا يتهم ربه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده، كما يوجب له انتظار الفرج وترقبه، وذلك يخفف حمل المشقة، ولاسيما مع قوة الرجاء، أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعَجَّل( ).
8_ الرضا: فالمؤمن بالقدر قد تسمو به الحال، فَيَصِلُ إلى منزلة الرضا، فمن رضي عن الله رضي الله عنه، بل إن رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه؛ فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه.
ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين( ).
قال ابن القيم ×: =من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنىً، وأمناً، وقناعةً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه.
ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه+ ( ).
=وقيل ليحيى بن معاذ( ): متى يبلغ العبد مقام الرضا؟
فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه؛ فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت+ ( ).
وقال بعضهم: =ارض عن الله في جميع ما يفعله بك؛ فإنه ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه+ ( ).
ومما ينبغي أن يُعْلم أنه ليس من شرط الرضا ألا يحس العبد بالألم والمكاره، بل ألا يعترض على الحكم، ولا يتسخطه( ).
قال أحد الحكماء:
إذا اشتدت البلوى تخفف بالرضا
عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية
على الناس تخفى والبلايا مواهب( )
ومع هذا فلا خروج للعبد عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود، مشكور، ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدورِ العطفُ عليه، واللطف فيه، فيصير بين عطفه ولطفه؛ فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهَوِّنُ عليه ما قدر له.
9_الشكر: فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فهي من الله وحده، وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة، فيبعثه ذلك على إفراد الله بالشكر؛ فإذا نزل به ما يحب شكر الله عليه؛ إذ هو المنعم المتفضل، وإذا نزل به ما يكرهه شكر الله على ما قدَّره عليه، كظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم؛ فإن العلم بالله والأدب مع الله يأمران بشكر الله على المحاب والمكاره، وإن كان الشكر على المكاره أشقَّ وأصعبَ؛ ولذلك كان الشكر أعلى من الرضا.
فإذا لزم الإنسان الشكر قرت نعمه ودرَّت؛ فالشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة، والله _ تبارك وتعالى _ يقول: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] سورة إبراهيم: 7.
فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر( ).
قال ابن ناصر الدين الدمشقي( ) ×:
يجري القضاءُ وفيه الخيرُ نافلة
لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ
في الحالتين يقول: الحمد للهِ( )
10_ الفرح: فالمؤمن بالقدر يفرح بهذا الإيمان الذي حرم منه أكثر الخلق، قال _ تعالى _: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] سورة يونس: 58.
ثم إن المؤمن بالقدر قد يرتقي به الحال من الرضا بقضاء الله والشكر له فيما يقدره حتى يصل إلى منزلة الفرح، فيفرح بكل ما يقدره الله ويقضيه عليه.
قال ابن القيم ×: =والفرح أعلى نعيم القلب، ولذته وبهجته، فالفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه.
والفرح بالشيء فوق الرضا به؛ فإن الرضا طمأنينة، وسكون، وانشراح.
والفرح لذة، وبهجة، وسرور؛ فكلُّ فَرِحٍ راضٍ، وليس كلُّ راضٍ فَرِحاً؛ ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضا ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه، والسخط لا يؤلمه إلا ما كان مع العجز عن الانتقام، والله أعلم+( ).
11_ العلم بحكمة الله _ عز وجل _: فالإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله _ عز وجل _ فيما يقدره من خير أو شر، فيعلم أن وراء تفكيره، وتخيلاته من هو أعظم وأعلم، وأحكم.
ولهذا كثيراً ما يقع الشيء فنكرهه وهو خير لنا؛ وكثيراً ما نرى الشيء مصلحة ظاهرة فنحبه، ونرغب فيه، ولكن الحكمة لا تقتضيه؛ فالمدبر للإنسان أعلم بمصالحه وعاقبة أمره، كيف وقد قال: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] سورة البقرة: 216.
ومن أسرار هذه الآية وحِكَمها أنها تقتضي من العبدِ التفويضَ إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن عاقبته.
ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم؛ فلعل مضرتَه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختاره له، فلا أنفع له من ذلك.
ولهذا من لطف الله بعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن أن بها إدراكَ بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهاً، ولم يَدْرِ أن الله قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار( ).
فكم من الناس _ على سبيل المثال _ من يندم ويتحسر إذا فاته موعد إقلاع الطائرة، وما هي إلا مدة يسيرة، ثم يُعْلَن عن سقوط الطائرة، ووفاة جميع ركابها.
وكم من الناس من يتبرم ويضيق صدره؛ لفوات محبوب، أو نزول مكروه.
وما إن ينكشف الأمر، ويستبين سرُّ القدر إلا وتجده جذلاً مسروراً؛ لأن العاقبة كانت حميدة بالنسبة له.
وما أجمل قول من قال:
كم نعمةٍ لا تستقل بشكرها
لله في طي المكاره كامنهْ( )
وقول الآخر:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي
طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرني ما كنت أحذره
وربما ساءني ما كنت أرجوه( )
12_ تحرير العقول من الخرافات والأباطيل: فمن بدهيات الإيمان بالقدر الإيمانُ بأن ما جرى وما يجري، وما سيجري في هذا الكون إنما هو بقدر الله _ عز وجل _ وأن قدر الله سر مكتوم، لا يعلمه إلا هو، ولا يُطلع عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً.
ومن هذا المنطلق تجد المؤمن بالقدر لا يعتمد على الدجَّالين والمشعوذين، ولا يذهب إلى الكهان والمنجمين والعرافين، فلا يعتد بأقوالهم، ولا ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش سالماً من زيف هذه الأقاويل، متحرراً من جميع تلك الخرافات والأباطيل( ).
وقال لبيد بن ربيعة ÷:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن إن كذبتموني متى الفتى
يذوق المنايا أو متى الغيث واقع( )
للإيمان بالقدر ثمرات أخلاقية تعود على المؤمن به بحسن الخلق، وطيب النفس، وحسن المعشر، ولين العريكة، وتكسبه عند الله شكوراً، وتزداد بها صحيفة أعماله نوراً، ومن تلك الثمرات ما يلي:
1_ الصبر: فالإيمان بالقدر يثمر لصاحبه عبودية الصبر على الأقدار المؤلمة، والصبرُ من جميل الخلال، ومن محمود الخصال، له فوائده الجمة، وعوائده الكريمة، وله عواقبه الجميلة، وآثاره الحميدة.
وكل أحد من الناس لابد له من الصبر على بعض ما يكره، إما اختياراً وإما اضطراراً؛ فالكريم يصبر اختياراً؛ لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأنه إن لم يصبر لم يردَّ عليه الجزع فائتاً، ولم ينتزع منه مكروهاً؛ فمن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوَّ البهائم( ).
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ÷: =وجدنا خير عيشنا بالصبر+( ).
وقال أمير المؤمين علي بن أبي طالب ÷: =الصبر مطية لا تكبو+ ( ).
وقال الحسن ×: =الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده+( ).
وصدق من قال:
والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقتهُ
لكنْ عواقبه أحلى من العسل
ولهذا تجد المؤمن بالقدر صبوراً متجلداً، يتحمل المشاق، ويقوم بالأعباء.
بخلاف ضعيف الإيمان بالقدر، الذي لا يقوى على احتمال، ولا يصبر على أدنى شيء يعترضه؛ بسبب ضعف إيمانه، ورخاوة نفسه، وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إن يصاب بالتافه من الأمر حتى تراه حَرِجَ الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي وأكبر منها لو حدثت لمن هو أقوى منه إيماناً واحتمالاً _ لم يُلقِ لها بالاً، ولم تحرك منه نفساً، ولَنَامَ ملء جفونه، رضيَّ البال، قرير العين.
2_ التواضع: فالإيمان بالقدر يحمل صاحبه على التواضع مهما أوتي من مال، أو جاه، أو علم، أو شهرة، أو نحو ذلك؛ لعلمه بأن ما أوتيه إنما هو بقدر الله، وأنه _ عز وجل _ لو شاء لانتزعه منه.
ومن هنا يتواضع لله _ عز وجل _ ويتواضع لبني جنسه، وينأى بنفسه عن الكبر والخيلاء.
وإذا تواضع الإنسان كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، وعظم في القلوب وقاره، وزاده الله شرفاً ورفعة؛ فمن تواضع لله رفعه، وإذا رفع الله عبداً فمن ذا الذي سيخفضه؟
وأحسن أخلاق الفتى وأتمها
تواضعه للناس وهو رفيع( )
3_ الكرم والسخاء: ذلك أن المؤمن بالقدر يعلم علم اليقين بأن الله هو الرزاق، وهو الذي قسم بين الخلق معيشتهم؛ فكلٌ له نصيبه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، ولن يفتقر أحد إلا بقدر الله _عز وجل _.
وهذا الإيمان يشرح صدر صاحبه للإنفاق في وجوه الخير، فيؤثرها بجانب من ماله ولو كان به خصاصة؛ ثقة بالله، واستجابة لأمره _ عز وجل _ بالإنفاق، وشعوراً بأن للحياة الفاضلة مطالبَ يبذل في سبيلها المال غير مأسوف عليه، ولعلمه بأن المال مال الله؛ فَتَعَيَّنَ وَضْعُه حيث أمر اللهُ وَضْعَهُ( ).
ثم إن الإيمان بالقدر يطفئ حِدَّةَ الشَّرَهِ من قلب المؤمن، فلا يتكالب على الدنيا، ولا يتَتَبَّعُها إلا بمقدار الحاجات، فلا يريق ماء وجهه طلباً لها، بل يتكرم ويسخو عما في أيدي الناس؛ فمن أنواع السخاء سخاءُ الإنسان عما في أيدي الناس.
وهذا يثمر له عزة النفس والشجاعة، وإنما يخسر الإنسان الشجاعة وعزة النفس بشدة حرصه على متاع الدنيا.
4_ الشجاعة والإقدام، واطراح الخور والجبن: فالإيمان بالقدر يملأ قلب صاحبه شجاعةً وإقداماً، ويُفْرِغهُ من كل خور وجبن؛ لأن المؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت قبل يومه، ولن يصيبه إلا ما كُتب له، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروه لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله له.
ومما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ قوله:
أي يوميَّ من الموت أفِرْ
يوم لا يُقْدَرُ أو يوم قدِرْ
يوم لا يُقْدَرُ لا أرهبه
وإذا قدِّر لا ينجي الحذر( )
وكان معاوية ÷ يتمثل بهذين البيتين:
كأن الجبانَ يرى أنه
سيقتل قبل انقضاء الأجلْ
وقد تدرك الحادثاتُ الجبان
ويسلم منها الشجاعُ البطلْ( )
قال ابن القيم ×: =الذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله؛ فمن سلَّم لله، واستسلم له، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له _ لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضع؛ فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب، وأن ما كتب لها _ أيضاً _ لابد أن يصيبها؛ فلا معنى للخوف من غير الله بوجه.
وفي التسليم _ أيضاً _ فائدة لطيفة، وهي أنه إذا سلمها لله فقد أودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يدُ عدوٍّ عادٍ، ولا بغيُ باغٍ عاتٍ+ ( ).
5_ علو الهمة: فعلو الهمة يعني استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، ودنو الهمة بالعكس من ذلك؛ فهو إيثار الدَّعة، والرضا بالدون، والقعود عن معالي الأمور.
والإيمان بالقدر يحمل أهله على علو الهمم، وينأى بهم عن القعود، والإخلاد إلى الأرض، والاستسلام للأقدار.
ولهذا تجد المؤمن بالقدر _ حقيقة _ عالي الهمة، كبير النفس، متطلباً للكمالات، مترفعاً عن السفاسف والمحقرات، فلا يرضى لنفسه بالدون، ولا يقنع بالواقع المر الأليم، ولا يستسلم للمعائب محتجاً بالقدر على وقوعها.
بل إن إيمانه يُحتِّم عليه أن يسعى سعيه للنهوض بنفسه، ولتغيير الواقع المر الأليم إلى الأفضل بالطرق المشروعة، وإلى التخلص من المعائب والنقائص؛ فالاحتجاج بالقدر إنما يكون عند المصائب لا المعائب( ).
6_ الحزم والجد في الأمور: فالمؤمن بالقدر حازم في أموره، منتهز للفرص التي تمر به، حريص على كل خير ديني أودنيوي؛ إذ الإيمان بالقدر يدعو إلى ذلك؛ فلم يكن داعية إلى البطالة، والإقلال من العمل البتة.
بل لقد كان له عظيم الأثر في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال، التي يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم، وما لديهم من الأسباب الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها.
قال النبي ": =احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت ،كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل+ ( ).
7_ السلامة من الحسد والاعتراض: فالإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بينها، وذلك مثل رذيلة الحسد؛ فالمؤمن بالقدر لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم، وقدر لهم أرزاقهم، فأعطى من شاء،ومنع من شاء، ابتلاءً، وامتحاناً، وأنه حين يحسد غيره إنما يعترض على قدر الله.
فإذا آمن بالقدر سَلِمَ من الحسد، وسَلِمَ من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية، وسَلَّم لله في جميع أموره( ).
للإيمان بالقدر ثمرات نفسية جميلة تعود على صاحبها بالراحة، والطمأنينة والسكينة، وتُضفي عليه أمناً، وهدوءَ بال، ومن ذلك ما يلي:
1_ محاربة اليأس: فالذي لا يؤمن بالقدر يصيبه اليأس، ويدِبُّ إلى روُعه القنوط؛ فإذا أصيب ببلية ظن أنها قاصمة ظهره، وإذا نزلت به نازلة حسب أنها ضربة لازب لن تبارحه.
وكذلك إذا رأى ما عليه الباطل من صولة وجولة، وما عليه أهل الحق من ضعف وتخاذل ظن أن الباطل سيستمر، وأن الحق سيضمحل؛ فاليأس سم قاتل، وسجن مظلم، يُعَبِّسُ الوجه، ويصد النفس عن الخير، ولا يزال بالإنسان حتى يهلكه، أو ينغص عليه حياته.
أما المؤمن بالقدر فلا يعرف اليأس، ولا تراه إلا متفائلاً في جميع أحواله، منتظراً الفرج من ربه، عالماً بأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.
وتراه موقناً تمام اليقين بأن العاقبة للتقوى، وللمتقين، وأن قدر الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يتسلل إليه اليأس مهما احلولكت ظلمة الباطل؛ فاعتماد القلب على قدرة الله، ولطفه، وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباعَ الضاريةَ في فلواتها( ).
2_ قوة الاحتمال: فالمؤمنون بالقدر حقاً هم أقوى الناس نفوساً، وأكثرهم احتمالاً، وأقلهم جزعاً _ كما مر في المبحث الثاني _ والذين لا يؤمنون بالقدر يجزعون لأتفه الأسباب، بل ربما أدى بهم الجزع إلى الجنون، والوسوسة، وتعاطي المخدرات، وقتل النفس.
ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقضاء والقدر، كأمريكا والسويد، والنرويج، وغيرها، بل لقد وصل الأمر ببعض البلاد إلى فتح مستشفيات للانتحار!
ولو بحثنا عن أسباب انتحارهم لوجدناها تافهةً جداً، لا تستدعي سوى التغافل وغض البصر عنها؛ فبعضهم ينتحر؛ لتخلي خطيبته عنه، وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان، وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو الشخص الذي يعجبه، أو بسبب هزيمة الفريق الذي يميل إليه وهكذا. . .
وقد يكون الانتحار جماعياً، والعجيب في الأمر أن غالبية المنتحرين ليسوا من طبقة الفقراء حتى يقال: انتحروا؛ لضيق معيشتهم.
بل إنهم من الطبقة الغنية المغرقة في النعيم، بل ويقع الانتحار من المشاهير، بل ومن الأطباء النفسيين الذي يُظَنُّ أنهم يجلبون السعادة، ويحلون المشكلات! ( ).
ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد، وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
ومن الأشياء التي استحدثوها للتخفيف من الانتحارات المتزايدة إنشاء مراكز تتلقى مكالمات المقدمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلات عاطفية، أو الذين يعانون ضيق الصدر.
والعجيب أن يكون للانتحار مؤيدون؛ حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كتيباً، وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.
وقد نص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة، وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم! ( ).
ترى لو كانوا يؤمنون بالله وبقدره، هل يكون هذا مصيرهم؟
3_ القناعة وعزة النفس: فالمؤمن بالقدر يعلم بأن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفيه، وأن الرزق لا يجلبه حرص حريص، ولا يمنعه حَسَدُ حاسدٍ، وأن الخلق مهما حاولوا إيصال الرزق إليه، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله له.
ومن هنا ينبعث إلى القناعة بما أوتي، وإلى عزة النفس والإجمال في الطلب، وإلى التحرر من رق الخلق ومنَّتِهم.
ولا يعني ذلك أن نفسه لا تطمح إلى المعالي، وإنما يعني القناعة بما يأتيه من عرض الدنيا بعد فعل الأسباب، بعيداً عن الشح، والهلع والتكالب، وإراقة ماء الوجه.
وإذا رزق العبد القناعة أشرقت عليه شمس السعادة.
وإن كان بعكس ذلك تنغصت حياته، وزادت آلامه وحسراته، بسبب نفسه الجشعة الشرهة، ولو مسَّتها القناعة لقلَّت مصائبه؛ لأن الشَّرِهَ سجين المطالب، أسير الشهوات.
ثم إن القناعة تضفي على صاحبها عزة النفس، وتحرز له وقاراً في العيون، وجلالة في القلوب، وترفعه عن مواضع الذل والمهانة، فيبقى مهيب الجناب، موفور الكرامة، مرفوع الرأس، مرتاح الضمير، سالماً من الهوان، متحرراً من رق الأهواء ومن ذل الطمع، فلا ينطلق في مجاري التملق والمداهنة، ولا يسير إلا وَفْقَ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله( ).
وبالجملة فالذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من القلب هو الرضا بقسم الله _عز وجل_ فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق موضع في قلبه.
ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷قوله:
أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ
وهل عزٌّ أعزُّ من القناعهْ
فَصَيِّرْها لنفسِك رأسَ مالٍ
وصَيِّر بعدها التقوى بضاعهْ
تَحُزْ ربحاً وتَغْنى عن بخيلٍ
وتنعم في الجنان بصبر ساعهْ( )
ْ
وقال الشافعي ×:
رأيت القناعة كنز الغنى
فصرت بأذيالها مُمْتَسك
فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنياً بلا درهمٍ
أمُرُّ على الناس شبه الملك( )
وقال الثعالبي( ): =ومن أحسن ما سمعت في القناعة قول ابن طباطبا العلوي( ):
كن بما أوتيته مقتنعاً
تَسْتَدِم عسر القنوع المكتفي
إن في نيل المنى وشْكَ الردى
وهلاك المرء في ذا السرف( )
4_ الاعتدال حال السراء والضراء: فالإيمان بالقدر يحمل على الاعتدال في سائر الأحوال؛ ذلك أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يتقلب في أحوال عديدة؛ فقد يبتلى بالفقر، وقد ينال نصيباً وافراً من الدنيا، وقد ينعم بالصحة، وقد يبتلى بالأمراض، وقد ينال ولايةً وشهرةً وبُعْدَ صيتٍ، وقد يعقب ذلك عزلٌ، وذلٌٌّ، وخمولُ ذكرٍ.
ولهذه الأمور وأمثالها أثر على النفس؛ فالفقر قد يقود إلى الذلة والخنوع، والغنى قد تتغير به أخلاق اللئيم بطراً، وتسوء طرائقه أشراً.
والمرض قد يتغير به الطبع، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يقدر معه المرء على احتمال.
وكذا الولاية قد تحدث في الأخلاق تغيراً، وعلى الخلطاء تنكراً، إما من لؤم طبع، وأما من ضيق صدر.
وفي مقابل ذلك العزلُ؛ فقد يسوء به الخلق، ويضيق به الصدر؛ إما لشدة أسف، أو لقلة صبر.
وهكذا لا تستقيم الأحوال على حد الاعتدال؛ لأن في العباد قصوراً، وجهلاً، وضعفاً، ونقصاً.
إلا من آمن بالقدر حقيقة؛ فلا تبطره النعمة، ولا تُقَنِّطه المصيبة؛ فلا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة، ولا يحمله الغنى على الأشر والبطر، ولا ينحط به الفقر إلى الذلة والخضوع( ).
فالمؤمنون بالقدر يتلقون المسارَّ والمحابَّ بقبول لها، وشكر لله عليها، واستعانة بها على أمور الدين والدنيا، فيحصل لهم من جرَّاء ذلك من الخيرات والبركات ما تتضاعف به مسراتهم.
ويتلقون المكاره بالرضا، والاحتساب، والتحمل، والمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكنهم تخفيفُه، وبالصبر الجميل لما لابد لهم منه، فيحصل لهم بسبب ذلك خيرات عظيمة تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة( ).
يقول عمر بن عبدالعزيز ×: =أصبحت والسراء والضراء مطيتان على بابي؛ لا أبالي أيهما ركبت+ ( ).
5_ سكون القلب وطمأنينة النفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقدر، وهي داخلة في كثير مما مضى ذكره من الثمرات، وهي مطلبٌ مُلِحٌ، وهدف منشود، وغاية مُبْتَغاةٌ؛ فكل من في الأرض يبتغيها، ويبحث عنها، ويسعى لها سعيها، ولكن كما قيل:
كل من في الوجود يطلب صيداً
غير أن الشباك مختلفاتُ
فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمراتها _ إلا من آمن بالله وقضائه وقدره؛ فالمؤمن بالقدر ساكن القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إن وقع لم يطِرْ له قلبه شَعاعاً، بل يتحمل ذلك بثبات وصبر؛ إن مرض لم يضاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف حدته؛ فمن الحكمة ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر.
بل يسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت قابلها بشجاعة واعتدال.
وإنك لتجد عند خواصِّ المسلمين من العلماء العاملين، والعباد القانتين المتبعين من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال؛ فلهم في ذلك الشأن القِدْحُ المعلى، والنصيب الأوفى( ).
فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز × و÷ يقول: =أصبحت وما لي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر+ ( ).
وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية × يقول: =إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة+ ( ).
ويقول مقولته المشهورة عندما زُجَّ به في غياهب السجن: =ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة+( ).
بل إنك واجدٌ عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار المفكرين والكتاب والأطباء من غير المسلمين( )؛ فكم من الأطباء من غير المسلمين _ على سبيل المثال _ من يعجب، ويذهب به العَجَبُ كل مذهب إذا أشرف على علاج مريض مسلم، وتبين له أنه مصاب بداء خطير _ كالسرطان مثلاً _ فترى هذا الطبيب يحتار في كيفية إخبار المريض بِعلَّته، فتجده يقَدِّم رجلاً ويؤَخِّر أخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشيةً من شدة تأثر المريض بسماع هذا الخبر.
وما أن يُعْلِمَُهُ بمرضه، ويصارحه بعلته _ إلا ويفاجأ بأن هذا المريض يستقبل الخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة عجيبة.
لقد أدهش كثيراً من غير المسلمين إيمانُ المسلمين بالقضاء والقدر، فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهادتهم بقوة عزائم المسلمين، وكبر نفوسهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة.
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله، وبقضائه وقدره.
ومليحةٍ شهدت لها ضراتها
والفضل ما شهدت به الأعداءُ
ومن هؤلاء الذين كتبوا في هذا الشأن ذلك الكاتب المشهور =ر.ن.س.بودلي+ مؤلف كتابَي: =رياح على الصحراء+ و=الرسول+ وأربعة عشر كتاباً آخر، والذي أورد رأيه =ديل كارنيجي( )+ في كتابه =دع القلق وابدأ الحياة+ في مقالة بعنوان =عشت في جنة الله+.
يقول بودلي: =في عام 1918 ولَّيت ظهري العالمَ الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، أتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى إنني ألفت كتاباً عن محمد " عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحَّل من أمتع سني حياتي، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأَخْذِ الحياة مأخذاً سهلاً هَيِّنَاً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلاَّ+.
ثم أردف قائلاً: =ودعني أضرب لك مثلاً لما أعنيه: هَبَّتْ ذات يوم عاصفةٌ عاتيةٌ حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت العاصفة حارةً شديدةِ الحرارة، حتى أحسست كأن رأس شعري يتزعزع من منابته؛ لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.
ولكنَّ العربَ لم يشْكُوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: =قضاء مكتوب+.
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء.
فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.
قال رئيس القبيلة _ الشيخ _: لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وفي استطاعتنا أن نبدأ عملنا من جديد+.
ثم قال بودلي: =وثمة حادثة أخرى، فقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، فانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟.
فذكروني بأن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، ولكنها ما لَبِثَتْ أن كفَّت عن السير، وعَلِمْتُ أن البنزين قد نفد.
وهنالك _ أيضاً _ لم تَثُرْ ثائرةُ أحدٍ من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام+.
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: =قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرُّحل _ أن الملتاثين، ومرضى النفوس، والسِّكِّيرين الذي تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها.
إنني لم أعانِ شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا+.
وأخيراً ختم كلامه بقوله: =وخلاصة القول: أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء _ ما زلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسكينة.
ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلاف المسكِّنات والعقاقير الطبية+ ( ).
وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: مسائل في القدر
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الإيمان بالقدر ومشيئة العبد واختياره
المبحث الثاني: فعل الأسباب والإيمان بالقضاء والقدر
المبحث الثالث: الاحتجاج بالقدر
الفصل الثاني: الحكمة والتعليل في أفعال الله
وتحته تمهيد، وأربعة مباحث:
المبحث الأول: نسبة الشر إلى الله _ تعالى _ وحكم ذلك، والحكمة من إرادة الله لما لا يحبه
المبحث الثاني: الحكمة من خلق إبليس، وخلق المصائب والآلام
المبحث الثالث: الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها
المبحث الرابع: الرضا بقدر الله، وحكم ذلك
الفصل الثالث: إشكالات حول القدر
وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: مسألة القدر المثبت، والقدر المعلق، أو المحو والإثبات في القدر، وزيادة العمر ونقصانه
المبحث الثاني: الإنسان بين التسيير والتخيير
المبحث الثالث: مسألة الهداية والإضلال
المبحث الرابع: التوفيق بين استئثار الله بعلم ما في الأرحام وبين علم الأطباء بذكورة الجنين في الرحم من أنوثته؟
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الإيمان بالقدر ومشيئة العبد واختياره
المبحث الثاني: فعل الأسباب والإيمان بالقضاء والقدر
المبحث الثالث: الاحتجاج بالقدر
الإيمان بالقدر _ على ما مرَّ _ لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وأن يكون له قدرة عليها، فقد دل على ذلك الشرع والواقع.
أما الشرع: فالأدلة على ذلك كثيرة جداً ومنها قوله _ تعالى _: [فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا] سورة النبأ: 39، وقوله: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] سورة البقرة:223، وقوله: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] سورة البقرة: 286، وقوله: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] سورة آل عمران: 133، وقوله: [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] سورة الكهف: 29.
أما الواقع: فكل إنسان يعلم أن له مشيئةً، وقدرةً يفعل بهما ويترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته، كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش( ).
لكنَّ مشيئته، وقدرته واقعتان بمشيئة الله وقدرته، لقوله _ تعالى _: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] سورة التكوير:28_29.
وتوضيح ذلك كما قال العلامة ابن سعدي( ) ×: =أن العبد إذا صلى، وصام، وعمل الخير، أو عمل شيئاً من المعاصي _ كان هو الفاعل لذلك العمل الصالح، والعمل السيِّئ.
وفعله المذكور _ بلا ريب _ واقع باختياره، وهو يحس _ ضرورة _ أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل.
وكما أن هذا هو الواقع، فهو الذي نص الله عليه في كتابه، ونص عليه رسوله" حيث أضاف الأعمال صالحها، وسيَّئها إلى العباد، وأخبر أنهم هم الفاعلون لها، وأنهم محمودون عليها إذا كانت صالحة، ومثابون عليها، ومذمومون إذا كانت سيئة، ومعاقبون عليها.
فقد تبين بهذا واتضح أنها واقعة منهم وباختيارهم، وأنهم إن شاؤوا فعلوا، وإن شاؤوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحساً، وشرعاً، ومشاهدة.
ومع ذلك إذا أردت أن تعرف أنها _ وإن كانت كذلك _ واقعة منهم، كيف تكون داخلة في القدر؟ وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال:بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرهاُ وشرُها؟ فيقال: بقدرتهم، وإرادتهم.
والذي خلق ما تقوم به الأفعال هو الذي خلق الأفعال؛ فهذا الذي يحل الإشكال، ويتمكن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر، والقضاء، والاختيار.
ومع ذلك فهو _ تعالى _ أمد المؤمنين بأسباب، وألطاف، وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع، كما قال ": =وأما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة+ ( ).
وكذلك خذل الفاسقين، ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يتوكلوا عليه، فولاَّهم ما تولوه لأنفسهم+ ( ).
فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إن مباشرتها من تمام الإيمان بالقضاء والقدر.
=ولهذا يجب على العبد _ مع الإيمان بالقدر _ الاجتهادُ في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله _ تعالى _ بأن ييسر له أسباب السعادة، وأن يعينه عليها+ ( ).
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة؛ فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدد لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار، وغير ذلك.
قال _ تعالى _: [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ] سورة الجمعة:10، وقال: [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا] سورة الملك: 15، وقال: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] سورة الأنفال:60، وأمر المسافرين للحج بالتزود، فقال: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] سورة البقرة: 197، وأمر بالدعاء والاستعانة، فقال: [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] سورة غافر: 60، وقال: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ] سورة البقرة: 45.
وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه، وجنته، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
وحياةُ الرسول "وأصحابه، بل حياة المسلمين جميعاً، والسائرين على نهجهم _ كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد، والاجتهاد( ).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي ×: =ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، وهذا غلط فاحش جدّاً، وهو عائد على القدر بالإبطال، وهو إبطال _أيضاً _ للحكمة.
وكأن هذا الظَّانَّ يقول ويعتقد أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وجود الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية، وهذا نفي للوجود لها، فإنها _كما ذكرنا_ أن الله ربط الكون بعضه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض، فهل تقول أيها الظَّان جهلاً: إن الأولى إيجاد البناء من دون بنيان؟ وإيجاد الحبوب، والثمار، والزروع من دون حرث وسقي؟ وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح؟ وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح؟ وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟
بهذا الظن أبطلت القدر، وأبطلت معه الحكمة، أما علمت أن الله بحكمته، وكمال قدرته جعل للمسببات أسباباً؟ وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها؟ وقرر هذا في الفطر، والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفذه في الواقع؛ فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي، والحركة، والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد _ أولاً _ لله بكمال القدرة، وكمال الحكمة، وأشهد العباد _ ثانياً _ أن بهذا التنظيم، والتيسير، والتصريف وجّه العاملين إلى أعمالهم، ونشطهم على أشغالهم+.
إلى أن قال ×: =فطالِبُ الآخرة إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدِّها _ جدَّ واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة، واجتهد في كل عمل صالح يوصله إلى الآخرة، واجتنب في مقابلة ذلك الكفر، والعصيان، وبادر للتوبة النصوح من كل ما وقع منه من ذلك.
وصاحب الحرث إذا علم أنه لا يُنَال إلا بحرث وسقي وملاحظة تامة جد واجتهد في كل وسيلة تنمي حراثته، وتكملها، وتدفع عنها الآفات.
وصاحب الصناعة إذا علم أن المصنوعات على اختلاف أنواعها، ومنافعها لا تحصل إلا بتعلم الصناعة، وإتقانها، ثم العمل بها جد في ذلك.
ومن أراد حصول الأولاد، أو تنمية مواشيه عمل وسعى في ذلك، وهكذا جميع الأمور+( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وإذا ترك العبد ما أُمِرَ به متكلاً على الكتاب كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شَقِيَّاً، وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول: أنا لا آكل، ولا أشرب؛ فإن كان الله قضى بالشبع والريِّ حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول: لا أجامع امرأتي فإن كان الله قضى لي بولد، فإنه يكون.
وكذلك من غلط فترك الدعاء، أو ترك الاستعانة، والتوكل ظانَّاً أن ذلك من مقامات الخاصة، ناظراً إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي"أنه قال: =احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان+( ).
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر، ويسلم الأمر لله؛ فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك، كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه+( ).
ومما يقال لهؤلاء الذين يتركون العمل اعتماداً على القدر _ إن الذي قال: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة+( )، والذي قال: =ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار+( ) هو الذي قال: =اعملوا فكل ميسر لما خلق له+( )، [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] سورة البقرة: 85.
الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو فَعَلَ من المعاصي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال، وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفس المحتجّ بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول+ ( ).
وبما أن هذا الأمر مما يعمّ به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية والعقلية، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات( ).
1_ قال الله _ تعالى _: [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ] سورة الأنعام: 148، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه.
ولهذا قال الله لهم:[هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا] أي هل عندكم دليل صحيح، فتخرجوه لنا؛ لننظر فيه، ونتدبره.
والمقصود من هذا التبكيت لهم؛ لأنه قد عَلِم أنه لا عِلْم عندهم يصلح للحجة، ويقوم به البرهان، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون، التي هي محل الخطأ، ومكان الجهل( ).
2_ قال _ تعالى _: [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] سورة النساء: 165.
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل؛ فلم يبق للخلق على الله حجة بعد إرساله الرسل تترى يبينون للناس أمر دينهم، ومراضي ربهم( ).
3_ أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلِّفه إلا ما يستطيع، قال _تعالى_: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] سورة التغابن: 16، وقال: [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] سورة البقرة: 286.
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلَّفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه _ فلا إثم عليه لأنه معذور.
4_ أن القدر سرٌّ مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علمٍ بقدر الله، فادعاؤه أن الله قدَّر عليه كذا وكذا ادِّعاءٌ باطل؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، فحجَّته إذاً داحضة؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
5_ أننا لو سلَّمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطَّلنا الشرائع.
6_ لو كان الاحتجاج بالقدر _ على هذا النحو _ حجة لقُبل من إبليس الذي قال: [فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ] سورة الأعراف: 16.
7_ ولو كان حجة هؤلاء مقبولة _ أيضاً _ لتساوى فرعون عدو الله، مع موسى كليم الله _ عليه السلام _.
8_ الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكفار، وهذا لازم لهذا المحتج، لا ينفكّ عنه.
9_ ولو كان حجة لاحتجَّ به أهل النار، إذا عاينوها، وظنوا أنهم مواقعوها، كذلك إذا دخلوها، وبدأ توبيخهم وتقريعهم، هل يحتجون بالقدر على معاصيهم وكفرهم؟
الجواب: لا؛ بل إنهم يقولون كما قال _ عز وجل _ عنهم: [رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ] سورة إبراهيم: 44، ويقولون: [رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا] سورة المؤمنون: 106، وقالوا: [لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] سورة الملك: 10، وقالوا: [لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ] سورة المدثر: 43، إلى غير ذلك مما يقولون.
ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لاحتجوا به؛ فهم بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من النار.
10_ ومما يردُّ هذا القول _ أيضاً _ أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر.
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
11_ ومما يمكن أن يرد به على هذا المحتج _ بناء على مذهبه _ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك، وإلا فلن، ولا تأكل ولا تشرب؛ فإن قدَّر الله لك شبعاً وريَّاً فسيكون، وإلا فلن، وإذا هاجمك سَبُعٌ ضَارٍ فلا تفر منه؛ فإن قدَّر الله لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ؛ فإن قدَّر الله لك شفاءً شفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا؟ إن وافقنا علِمْنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
12_ المحتج بالقدر على المعاصي شبَّه نفسه بالمجانين، والصبيان؛ فهم غير مكلفين، ولا مؤاخذين، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي.
13_ لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للاستغفار، والتوبة، والدعاء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
14_ لو كان القدر حجَّة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس، ولعمَّت الفوضى، ولما كان هناك داعٍ للحدود، والتعزيرات، والجزاءات؛ لأن المسيء سيحتج بالقدر، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظَلَمة، وقطَّاع الطرق، ولا إلى فتح المحاكم، ونصب القضاة؛ بحجة أن كل ما وقع إنما وقع بقدر الله، وهذا لا يقول به عاقل.
15_ أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول: لا نؤاخذ؛ لأن الله كتب ذلك علينا؛ فكيف نؤاخذ بما كُتِبَ علينا؟
يُقال له: إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة، إنما نؤاخذ بما فعلناه، وكسبناه، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا، أو كتبه علينا، وإنما نحن مأمورون بالقيام بما يأمرنا به؛ فهناك فرق بين ما أريد بنا، وما أريد منا، فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده منه أمرنا بالقيام به.
ومما تجدر الإشارة إليه _ أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة؛ ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه: =أنت عند الطاعة قدري؛ وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به+( ).
يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك إلى نفسه، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر.
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية × عن المحتجين بالقدر: =هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى+( ).
الصورة الجائزة المسوغة للاحتجاج بالقدر:
يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛ فهذا من تمام الرضا بالله ربَّاً، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب، لا المعائب، =فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال _ تعالى _:[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] سورة غافر:55.
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب+( ).
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ، ثم لامه من لامه، واحتج القاتل بالقدر، لكان احتجاجه مقبولاً، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ.
ولو قَتَلَ رجلٌ رجلاً عن طريق العمد، ثم قُرِّع القاتل، ووُبِّخ على ذلك، ثم احتج بالقدر لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً؛ ولهذا حجَّ آدم موسى _ عليهما السلام _ كما في قوله " في محاجتهما: =احتج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدّر عليَّ قبل أن أخلق؟ فحجَّ آدم موسى+( ).
فآدم _ عليه السلام _ لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك بعض الطوائف، وموسى _ عليه السلام _ لم يلُمْ آدم على الذنب؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب، فاجتباه ربه، وتاب عليه، وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه: إنني أذنبت فتبت، فتاب الله عليَّ، ولقال له: أنت يا موسى _ أيضاً _ قتلت نفساً، وألقيت الألواح إلى غير ذلك، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجَّه آدم بالقدر( ).
=فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله ربَّاً، أما الذنوب فليس لأحد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب+( ).
وممن يسوغ له الاحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر.
فلو قيل لأحد التائبين: لم فعلت كذا وكذا؟ ثم قال: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت، لقُبل منه ذلك الاحتجاج( ).
ثم إنه لا يسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب؛ فالعبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية.
وتحته تمهيد، وأربعة مباحث:
المبحث الأول: نسبة الشر إلى الله _ تعالى _ وحكم ذلك، والحكمة من إرادة الله لما لا يحبه
المبحث الثاني: الحكمة من خلق إبليس، وخلق المصائب والآلام
المبحث الثالث: الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها
المبحث الرابع: الرضا بقدر الله، وحكم ذلك
تمهيد
مسألة تعليل أفعال الله، وإثبات الحكمة فيها من أجل مسائل التوحيد المتعلقة بالخلق والأمر، والشرع والقدر.
والحديث في هذا المقام لا يسمح بالتفصيل.
وقد اختلف الناس فيها على أقوال شتى، ولكنَّها ترجع إلى قولين.
أحدهما: قول نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم ممن يرى أن الله _ عز وجل _ قدر المقادير، وشرع الشرائع لغير علة، أو حكمة، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة.
الثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة، وأنَّ لله في كل ما يقضيه حكمةً ورحمة.
وهذه الحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه _ تعالى _ يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، فهي نعمة عليهم يفرحون، ويلتذون بها.
وهذا يكون في المأمورات، والمخلوقات( ).
يقول ابن القيم × مقرراً حكمة الله _ تبارك وتعالى _ فيما يقدره ويشرعه: =ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالُنا من حكمة الله في خلقه لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها، وتلاشي علوم الخلائق جميعهم كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك+( ).
وقال ×: =وكيف يتوهم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك، وهذا الوجود شاهد بحكمته، وعنايته بخلقه أتم عناية، وما في مخلوقاته من الحكمة، والمصالح، والمنافع، والغايات المطلوبة، والعواقب الحميدة _ أعظم من أن يُحيطَ به وصفٌ، أو يحصرَه عقل؟!+( ).
وقال ×:= وجماع ذلك أن كمال الرب _ تعالى _ وجلاله، وحكمته، وعدله، ورحمته، وإحسانه، وحمده، ومجده، وحقائق أسمائه الحسنى _ تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة، ولا لغاية مطلوبة.
وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك، وتشهد ببطلانه+( ).
وبعد هذا التمهيد ينتقل الحديث إلى المباحث التالية التي تقرر هذا المعنى.
المطلب الأول: نسبة الشر إلى الله _ تعالى _ وحكم ذلك:
إذا سأل سائل فقال: نحن نؤمن بالقدر خيره وشره من الله، فهل تصح نسبة الشر إلى الله _ تعالى _؟ وهل يقع في أفعاله شر؟
فالجواب: أن يُقال: إن الله _ سبحانه وتعالى _ منزَّه عن الشر، ولا يفعل إلا الخير، والقدر من حيث نسبته إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ فإنه علم الله، وكتابتُه، ومشيئته، وخلقُه، وذلك خير محض، وكمال من كل وجه، فالشر ليس إلى الرب بوجه من الوجوه، لا في ذاته، ولا في أسمائه ولا صفاته، ولا في أفعاله.
ولو فَعَلَ الشر _ سبحانه _ لاشتُق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه من الشر حكمٌ _ تعالى وتقدس _.
وإنما الشر يدخل في مخلوقاته، ومفعولاته، فالشر في المقضي، لا في القضاء، ويكون شرَّاً بالنسبة إلى محل، وخيراً بالنسبة إلى محل آخر، وقد يكون خيراً بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه، كما هو شر من وجه آخر، بل هو الغالب، وهذا كالقصاص، وإقامة الحدود، وقتل الكفار؛ فإنه شرٌ بالنسبة إليهم لا من كل وجه، بل من وجه دون وجه، وخير بالنسبة إلى غيرهم لما فيه من مصلحة الزجر، والنكال، ودفع الناس بعضهم ببعض.
وكذلك الأمراض _ وإن كانت شروراً من وجه _ فهي خيرٌ من وجوهٍ عديدة.
والحاصل أن الشر لا يُنسب إلى الله _ تعالى _ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي " كان يثني على ربه بتنزيهه عن الشر بدعاء الاستفتاح في قوله: =لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت+ ( ).
قال الإمام الصابوني × في معنى هذا الحديث:=ومعناه _والله أعلم_ والشر ليس مما يُضاف إلى الله إفراداً أو قصداً حتى يُقال: يا خالق الشر، ويا مقدر الشر وإن كان الخالق والمقدر لهما جميعاً؛ لذلك أضاف الخضر _ عليه السلام _ إرادة العيب إلى نفسه فقال _فيما أخبر الله عنه في قوله_:[أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا] سورة الكهف:79.
ولمَّا ذكر الخير والبر والرحمة أضاف إرادتها إلى الله _ عز وجل _ فقال:[فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ] سورة الكهف: 82.
ولذلك قال مخبراً عن إبراهيم _ عليه السلام _ أنه قال:[وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] سورة الشعراء: 80.
فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه، وإن كان الجميع منه+( ).
قال ابن القيم تعليقاً على هذا الحديث: =فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه، بل كل ما نسب إليه فهو خير، والشر إنما صار شرَّاً لانقطاع نسبته وإضافته إليه؛ فلو أُضيف إليه لم يكن شرَّاً، وهو _ سبحانه _ خالق الخير والشر، فالشر في بعض مخلوقاته، لا في خلقه وفعله.
وخلقُهُ، وفعلُه، وقضاؤه، وقدره خيرٌ كله؛ ولهذا تنزَّه _ سبحانه _ عن الظلم، الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر وضع الشيء في غير محله، فإذا وُضِع في محله لم يكن شرَّاً، فعُلم أن الشر ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك+ ( ).
وقال _ أيضاً _: =فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر، والسوء، والظلم إليه، مع أنه _ سبحانه _ الخالق لكل شيء؛ فهو الخالق للعباد، وأفعالهم، وحركاتهم، وأقوالهم، والعبد إذا فعل القبيحَ المنهيَّ عنه، كان قد فعل الشرَّ والسوءَ.
والربُّ _ سبحانه _ هو الذي جعله فاعلاً لذلك، وهذا الجَعْل منه عدلٌ وحكمةٌ، وصوابٌ، فَجَعْلُهُ فاعلاً خيرٌ، والمفعولُ شرٌّ قبيح؛ فهو _ سبحانه _ بهذا الجعل قد وضع الشيء في موضعه؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها، فهو خير وحكمة، ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيباً، ونقصاً، وشرَّاً+ ( ).
=والحاصل أن الله _ تعالى _ لا يُنسب إليه الشر؛ لأنه إن أريد بالشر وضع الشيء في غير موضعه _ فهو الظلم، ومقابله العدل، والله منزَّه عن الظلم.
وإن أُريد به الأذى اللاحق بالمحل بسبب ذنب ارتكبه _ فإيجاد الله للعقوبة على ذنب لا يُعد شرَّاً له؛ بل ذلك عدلٌ منه _ تعالى _.
وإن أُريد به عدم الخير، وأسبابه الموصلة إليه _ فالعَدَمُ ليس فعلاً حتى ينسب إلى الله، وليس للعبد على الله أن يوفقه، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنع الفضل ليس بظلم ولا شر+ ( ).
ثم إن على العبد إذا عرف ما يضره وينفعه أن يَذلَّ لله _ عز وجل _ حتى يعينه على فعل ما ينفعه، ولا يقول: أنا لا أفعل حتى يخلق الله فيَّ الفعل، كما أنه لو هجم عليه عدو أو سبع فإنه يهرب ويفر ولا يقول: سأنتظر حتى يخلق الله فيَّ الهرب( ).
ومن هنا يتبين لنا أن الشر لا ينسب إلى الله _ عز وجل _.
وهذا ما سيتضح في المباحث التالية.
المطلب الثاني: الحكمة من إرادة الله لما يحبه:
إذا قيل: كيف يريد الله أمراً، وفي الوقت نفسه لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يجمع بين إرادته له وبغضه وكراهته؟
قيل: إن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير؛ فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة بالنظر إلى ذاته _ وإن كان وسيلة إلى مقصوده، ومراده _ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه، وإيصاله إلى مراده؛ فيجتمع الأمران: بغضه، وإرادته، ولا يتنافيان، فيبغض من وجه، ويحب من وجه آخر.
وهذا أمر معلوم عند الخلق؛ فهذا الدواء الكريه الطعم والرائحة إذا علم الإنسان أن فيه شفاءَه أبغضه من وجه، وأحبه من وجه آخر؛ فيكرهه من جهة تألمه به، ويحبه من جهة إفضائه إلى ما يحب.
وقل مثل ذلك في العضو المتآكل إذا عَلِم أن في قطعه بقاءً لجسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا عَلِم أنها توصل إلى مراده، ومحبوبه، كالذي يقطع الفيافي، والمفاوز، والقفار، قاصداً البيت العتيق.
ومن هنا يتبين لنا أن الشيء يجتمع فيه الأمران: بغض من وجه، وحب من وجه آخر، ولا يتنافيان، هذا في شأن المخلوق، فكيف بالخالق الذي لا تخفى عليه خافية، الذي له الحكمة البالغة؟ فهو _ سبحانه _ يكره الشيء، ولا يتنافى ذلك مع إرادته له لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر محبوب( ).
وهذا ما سيتضح من خلال الأمثلة التالية في المبحثين التاليين.
المطلب الأول: خلق إبليس والحكمة من ذلك:
الله _ عز وجل _ خلق إبليس الذي هو مادة الفساد التي تمد كل فساد في هذه الدنيا، في الأديان، والاعتقادات، والشهوات، والشبهات، وهو سبب لشقاوة العباد، وعَمَلِهم ما يغضب الله _ عز وجل _ وهو مع ذلك كله وسيلة إلى محابَّ كثيرةٍ، وحكم عظيمة.
إذا تقرر ذلك فهذه بعض الحكم التي تلمسها العلماء من خلق إبليس:
1_ أن يَظهر للعباد قدرةُ الرب _ تعالى _ على خلق المتضادات والمتقابلات: فخلق هذه الذات _ إبليس _ التي هي أخبث الذوات، وهي سبب كل شر، وخَلَق في مقابلها ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأزكاها، والتي هي مادة كل خير، فتبارك من خلق هذا وهذا، كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والحر والبرد، والماء والنار، والداء والدواء، والموت والحياة، والحسن والقبيح، فالضد يظهر حسنه الضد، وهذا أدلُّ دليل على كمال قدرته، وعزته، وملكه، وسلطانه؛ فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وسلط بعضها على بعض، وجعلها محل تصرفه، وتدبيره، وحكمته، فخلوُّ الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه، وتدبير مملكته( ).
2_ أن يُكَمِّلَ الله لأوليائه مراتب العبودية: وذلك بمجاهدة إبليس وحزبه، وإغاظته بالطاعة لله، والاستعاذة بالله منه، واللجوء إلى الله أن يعيذهم منه ومن كيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية، والأخروية ما لا يحصل بدونه.
ثم إن المحبة، والإنابة، والتوكل، والصبر، والرضا، ونحوها أحب أنواع العبودية لله، وهذه إنما تتحقق بالجهاد، وبذل النفس، وتقديم محبته _ عز وجل _ على كل من سواه، فكان خلق إبليس سبباً لوجود هذه الأمور( ).
3_ حصول الابتلاء: ذلك أن إبليس خُلق ليكون محكَّاً يمتحن به الخلق؛ ليتبين به الخبيث من الطيب؛ فإن الله _ سبحانه _ خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها الطيب والخبيث؛ فلا بد أن يظهر فيهم ما هو من مادتهم( ).
4_ ظهور آثار أسمائه _ تعالى _ ومقتضياتها، ومتعلقاتها: فمن أسمائه: الرافع، الخافض، المعز، المذل، الحكم، العدل( ).
وهذه الأسماء تستدعي متعلقاتٍ يظهر فيها أحكامُها، فكان خلق إبليس سبباً لظهور آثار هذه الأسماء، فلو كان الخلق كلهم مطيعين، ومؤمنين لم تظهر آثار هذه الأسماء.
5_ استخراج ما في طبائع البشر من الخير والشر: فالطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فَخُلق الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل؛ فاستخرج أحكم الحاكمين ما في هؤلاء من الخير الكامن فيها؛ ليترتب عليه آثاره، وما في أولئك من الشر؛ ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوماً له، مطابقاً لعلمه السابق( ).
6_ ظهور كثير من آيات الله وعجائب صنعه: فلقد حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكفَّارة الظالمة ظهور كثير من الآيات والعجائب، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم برداً وسلاماً، والآيات التي أجراها الله على يد موسى، وغير ذلك من الآيات؛ فلولا تقدير كفر الكافرين وجحد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلاً بعد جيل إلى الأبد.
أما كونه _ سبحانه وتعالى _ أنظر إبليس إلى يوم القيامة _ فليس ذلك إكراماً له بل إهانة له ليزداد إثماً، فتعظم عقوبته، ويتضاعف عذابه، إضافة إلى ذلك فالله جعله محكَّاً ليميز به الخبيث من الطيب _ كما سبق _ وما دام أن الخلق مستمر إلى يوم القيامة _ فإن هذا يقتضي بقاءه ببقاء خلق البشر، والله أعلم( ).
المطلب الثاني: خلق المصائب والآلام والحكمة من ذلك:
وكذلك خلقُ الآلام، والمصائب فيه من الحكم ما لا يحيط بعلمه إلا الله _ عز وجل _ تلك الحكم التي تنطق بفضل الله، وعدله، ورحمته.
قال ابن القيم ×: =فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولِّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن تكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان؛ فتكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلت ملزوماتها فات بتعطيلها خيرٌ أعظمُ من مفسدة تلك الآلام.
والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك؛ فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله:[إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ ] سورة النساء: 102.
وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات.
وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها، ومتولدة منها.
بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم، والشجاعة، والزهد، والعفة، والحلم، والمروءة، والصبر، والإحسان كما قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يُفْقرُ والإقدام قتَّالُ
وإذا كانت الآلام أسباباً لِلَذَّاتٍ أعظم منها وأدوم ـ كان العقل يقضي باحتمالها+( ).
إلى أن قال ×: =وقد حجب الله _ سبحانه _ أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعله جسراً موصلاً إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسراً موصلاً إليها.
ولهذا قالت العقلاء قاطبة: إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة، وإن مَنْ آثر اللذات فاتته اللذات؛ فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم؛ إذ هي أسباب النِّعم.
وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمورٌ جداً بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر الصيف، وبرد الشتاء، وحبس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك.
ولكن لذاتها أضعافُ أضعافِ آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام؛ فسُنَّتُه في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمالُ علمه وحكمته وعزته.
ولو اجتمعـت عقول العقلاء كلهم علـى أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكلٍّ منهم: ارجع بصر العقل فهل ترى من خلل؟
[ثُمَّ ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ] سورة الملك:4، فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها؛ فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب؛ فكذلك أنشأ اللذاتِ من الآلامِ، والآلامَ من اللذات؛ فأعظم اللذاتِ ثمراتُ الآلام ونتائجها، وأعظم الآلامِ ثمراتُ اللذات ونتائجها.
وبعدُ فاللذةُ والسرورُ، والخيرُ والنعمُ، والعافيةُ والصحةُ والرحمةُ في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء ـ أكثرُ من أضدادها بأضعافٍ مضاعفة؛ فأين آلام الحيوان من لذته؟ وأين سقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريِّه وتعبه من راحته؟! +( ).
هذا وفي الآلام والمصائب حكم عظيمة غير ما ذُكِرَ، وفيما يلي ذكرٌ لبعضها على سبيل الإيجاز؛ إذ المقام لا يتسع للتفصيل:
1_ استخراج عبودية الضراء وهي الصبر: قال _ تعالى _: [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] سورة الأنبياء: 35.
فالابتلاء بالسراء والخير يحتاج إلى شكر، والابتلاء بالضراء والشر يحتاج إلى صبر.
وهذا لا يتم إلا بأن يقّلِّبَ الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله _ تعالى _.
قال ": =عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له+ ( ).
2_ طهارة القلب، والخلاص من الخصال القبيحة: ذلك أن الصحة قد تدعو إلى الأشر، والبطر، والإعجاب بالنفس، لما يتمتع به المرء من نشاط، وقوة، وهدوء بال، ونعيم عيش.
فإذا قُيِّد بالبلاء والمرض انكسرت نفسه، ورق قلبه، وتطهر من أدران الأخلاق الذميمة، والخصال القبيحة من كبر، وخيلاء، وعجب، وحسد، ونحوها، وحلَّ محلَّها الخضوعُ لله، والانكسار بين يديه، والتواضع لخلق الله، وترك الترفع عليهم.
قال المنبجي( ) ×: =وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر، والعجب، والفرعنة، وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً؛ فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب؛ تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة، الرديئة، المهلكة؛ فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه، كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فلولا أنه _ سبحانه وتعالى _ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا، وبغوا، وعتوا، وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد؛ فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر، ونهي، وصحة، وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها _ تمردت، وسعت في الأرض فساداً، مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟
ولكن الله _ سبحانه وتعالى _ إذا أراد بعبده خيراً سقاه دواء الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ منه الأدوية المهلكة، حتى إذا هذبه، ونقاه، وصفَّاه أهَّلَه لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة، وهي رؤيته+( ).
3_ تقوية المؤمن: ذلك أن في المصائب تدريباً للمؤمن، وامتحاناً لصبره، وتقوية لإيمانه.
4_ النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية: فإنه ليس لأحد مفر عن أمر الله، وقضائه، ولا محيد عن حكمه النافذ وابتلائه؛ فنحن عبيد الله، يتصرف فينا كما يشاؤه ويريده، ونحن إليه راجعون في جميع أمورنا، وإليه المصير يجمعنا لنشورنا.
5_ حصول الإخلاص في الدعاء، وصدق الإنابة في التوبة: ذلك أن المصائب تُشعر الإنسان بضعفه، وافتقاره الذاتي إلى ربه، فيبعثه ذلك إلى إخلاص الدعاء له، وشدة التضرُّع والاضطرار إليه، وصدق الإنابة في التوبة والرجوع إليه.
ولولا هذه النوازل لم يُرَ على باب اللجأ والمسكنة؛ فالله _ عز وجل _ علم من الخلق اشتغالهم عنه، فابتلاهم من خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به؛ فهذا من النعم في طي البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عن ربك.
قال سفيان بن عيينة ×: =ما يكره العبد خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه+( ).
6_ إيقاظ المبتلى من غفلته: فكم من مبتلى بفقد العافية حصلت له توبة شافية، وكم من مبتلى بفقد ماله انقطع إلى الله بحسن حاله، وكم من غافل عن نفسه، معرضٍ عن ربه أصابه بلاء فأيقظه من رقاده، ونبهه من غفلته، وبعثه لتفقد حاله مع ربه.
7_ معرفة قدر العافية: لأن الشيء لا يعرف إلا بضده، فيحصل بذلك الشكرُ الموجب للمزيد من النعم؛ لأن ما مَنَّ الله به من العافية أتم وأنعم، وأكثر وأعظم مما ابتلى وأسقم، ثم إن حصول العافية والنعمة بعد ألم ومشقة أعظم قدراً عند الإنسان.
8_ أن من الآلام ما قد يكون سبباً للصحة: فقد يصاب المرء بمرض ويكون سبباً للشفاء من مرض آخر، وقد يبتلى ببلية فيذهب لعلاجها فيكتشف أن به داءً عضالاً لم يكتشف إلا بسبب هذا المرض الطارئ، قال أبو الطيب المتنبي:
لعلَّ عَتْبَك محمودٌ عواقِبُه
وربما صحت الأبدان بالعلل( )
قال ابن القيم ×: =وكثيراً ما تكون الآلام أسباباً للصحة لولا تلك الآلام لفاتت.
وهذا شأن أكبر أمراض البدن؛ فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله، وفيها من إذابة الفضلات، وإنضاج المواد الفَجَّة وإخراجها ما لا يصل إليه دواءٌ غيرها.
وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب+( ).
9_ حصول رحمة أهل البلاء: فالذي يبتلى بأمر ما _ يجد في نفسه رحمة لأهل البلاء، وهذه الرحمة موجبة لرحمة الله وجزيل العطاء؛ فمن رَحِمَ من في الأرض رَحِمَهُ من في السماء.
10_ حصول الصلاة من الله والرحمة والهداية: قال _تعالى_: [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] سورة البقرة: 155_157.
11_ حصول الأجر، وكتابة الحسنات وحط الخطيئات: قال ": =ما من شيء يصيب المؤمن، حتى الشوكةِ تصيبه، إلا كتب الله له بها حسنة، أو حُطت عنه بها خطيئة+ ( ).
قال بعض السلف: =لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس+ ( ).
بل إن الأجر والثواب لا يختص به المبتلي فحسب، بل يتعداه إلى غيره؛ فالطبيب المسلم إذا عالج المريض واحتسب الأجر كتب له الأجر _ بإذن الله _؛ فمن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
وكذلك الذي يزور المريض المبتلى يكتب له الأجر، وكذلك من يقوم على رعايته.
12_ العلم بحقارة الدنيا وهوانها: فأدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه، وتنغص حياته، وتنسيه ملاذَّه، والكَيِّسُ الفَطِنُ لا يغتر بالدنيا، بل يجعلها مزرعة للآخرة.
13_ أن اختيار الله للعبد خير من اختيار العبد لنفسه: وهذا سر بديع، يحسن بالعبد أن يتفطن له؛ ذلك أن الله _ عز وجل _ أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين؛ فهو أعلم بمصالح عباده منهم، وهو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم.
وإذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزل بهم؛ نظراً منه لهم، وإحساناً إليهم، ولطفاً بهم.
ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم، لكنه _عزوجل_ تولى تدبير أمورهم بموجب علمه، وعدله، وحكمته، ورحمته أحبوا أم كرهوا.
14_ أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره: فربما طلب ما لا تحمد عقباه، وربما كره ما ينفعه، والله _ عز وجل _ أعلم بعاقبة الأمر.
قال ابن القيم ×: =فقضاؤه للعبد المؤمن عطاء وإن كان في صورة المنع، ونعمة وإن كان في صورة محنة، وبلاؤه عافية وإن كان في صورة بلية.
ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائماً لطبعه.
ولو رزق من المعرفة حظَّاً وافراً لعدَّ المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكراً من حال الكثرة+( ).
15_ الدخول في زمرة المحبوبين لله _ عز وجل _: فالمبتلون من المؤمنين يدخلون في زمرة المحبوبين المُشَرَّفين بمحبة رب العالمين؛ فهو _سبحانه_ إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد جاء في السنة ما يشير إلى أن الابتلاء دليل محبة الله للعبد؛ حيث قال النبي ": =إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط+( ).
16_ أن المكروه قد يأتي بالمحبوب والعكس: فإذا صحت معرفة العبد بربه علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به أنها تحمل في طياتها ضروباً من المصالح والمنافع لا يحصيها علمه، ولا تحيط بها فكرته.
بل إن مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب؛ فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامَّة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، قال_تعالى_: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] سورة النساء: 19.
وقال: [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] سورة البقرة: 216.
فإذا علم العبد أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، وأن المحبوب قد يأتي بالمكروه _ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة( ).
إلى غير ذلك من الحكم التي قد يعلمها بعض الناس وقد لا يعلمها.
ومن هنا يتضح لنا أنه لا تنافي بين إرادة الله لأمر من الأمور مع بغضه له؛ لما له _ عز وجل _ من الحكم العظيمة الباهرة.
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في المبحث الآتي عند الحديث عن الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها، وعند الحديث عن مسألة الهداية والإضلال.
قد مر بنا أن الله _ عز وجل _ له الحكمة البالغة فيما يقدره ويقضيه، كما مر ذكر لبعض الأمثلة الدالة على حكمة الله _ عز وجل _.
والحديث في هذا المبحث إنما هو إتمام لما مضى ذكره، وأفرد هاهنا لكثرة الشبهات حوله، ولقلة الحديث عنه، ولكونه مرتبطاً بكثير من مباحث هذا الكتاب؛ فهل هناك من حكم لخلق المعاصي وتقديرها؟
والجواب عن هذا الإشكال أن لخلق المعاصي وتقديرها حِكَماً عظيمة، وأسراراً بديعة، باهرة، ولكن الحديث عن ذلك قليل جداً.
قال الإمام ابن القيم ×: =وهذا باب عظيم من أبواب المعرفة قلَّ من استفتحه من الناس، وهو شهود الحكمة البالغة من قضاء السيئات وتقدير المعاصي.
وإنما استفتح الناس باب الحكم في الأوامر والنواهي، وخاضوا فيها، وأتوا بما وصلت إليه علومهم.
واستفتحوا _ أيضاً _ بابها في المخلوقات _ كما قدمناه _ وأتوا بما وصلت إليه قواهم.
وأما هذا الباب فكما رأيت كلامهم فيه، فقلَّ أن ترى لأحدهم ما يشفي، أو يلم.
وكيف يطَّلع على حكمة هذا الباب من عنده أن أعمال العباد ليست مخلوقة لله ولا داخلة تحت مشيئته أصلاً؟ وكيف يتطلب لها حكمة، أو يثبتها، أم كيف يطلع من يقول: هي خلق الله، ولكن أفعاله غير معللة بالحكم؟+( ).
إلى أن قال: =والمقصود أن مشاهدة حكمة الله في أقضيته وأقداره التي يجريها على عباده باختياراتهم وإراداتهم هي ألطف ما تكلم فيه الناس، وأدقُّه، وأغمضه، وفي ذلك حِكَمٌ لا يعلمها إلا الحكيم العليم _سبحانه_ ونحن نشير إلى بعضها+( ).
ثم شرع × في ذكر العديد من الحكم في هذا الشأن، فمن الحكم من خلق المعاصي وتقديرها ما يلي( ):
1_ أن الله يحب التوابين: حتى إنه ليفرح بتوبة أحدهم أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه، وشرابه في الأرض الدوية المهلكة إذا فقدها وأيس منها.
وليس من أنواع الفرح أكمل وأعظم من هذا الفرح؛ فالله _عز وجل_ يقضي على عبده بالذنب، ثم إن كان ممن سبقت له الحسنى قضى له بالتوبة، وإن كان ممن غلبت عليه الشقاوة أقام عليه حجة عدله، وعاقبه بذنبه.
قال ": =لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله.
قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده+( ).
قال ابن القيم × تعليقاً على هذا الحديث: =ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبِه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه.
وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيباً لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد المفتن التواب+( ).
2_ أن الله _ عز وجل _ يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة، والأفعال الحميدة، وهو أولى بها منهم وأحق، وكان في تقدير أسبابها من الحكم والعواقب الحميدة ما يبهر العقول.
هذا ولو شاء الله ألا يُعصى في الأرض طرفة عين لم يُعْصَ، ولكن اقتضت مشيئته ما هو موجب حكمته _ سبحانه _( ).
3_ أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله له، ومعونته، وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونَه، ويعينه فهو هالك ولابد( ).
قال ابن القيم ×:=وقد مدَّت الشياطين أيديها إلى العبد من كل جانب، تريد تمزيق حاله كله، إفساد شأنه كله، وأن مولاه إن وكله إلى نفسه وكله إلى ضيعة وعجز وذنب وخطيئة وتفريط؛ فهلاكه أدنى إليه من شراك نعله؛ فقد أجمع العلماء بالله على أن التوفيق ألا يكل اللهُ العبدَ إلى نفسه، وأجمعوا على أن الخذلان أن يخلي بينه وبين نفسه+( ).
4_ استجلاب العبوديات المتنوعة من العبد إذا أذنب: من استعاذة، واستعانة، ودعاء، وتضرع، مما هو من أعظم أسباب سعادته وفلاحه؛ فيحصل للروح بذلك قرب خاص لم يكن يحصل بدون هذه الأسباب، ويجد العبد نفسه كأنه ملقى على باب مولاه بعد أن كان نائياً عنه؛ فهو لا يرى نفسه إلا مسيئاً، ولا يرى ربَّه إلا محسناً، قد كسر إزراؤه على نفسه قلبَه، وذلل لسانُه جوارحَه؛ فلو لم يكن من ثمرات ذلك القضاء والقدر إلا هذا لكفى به حكمة وكفى( ).
5_ استخراج تمام العبودية: وذلك بتكميل مقام الذل والانقياد؛ فأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلاً لله، وانقياداً، وطاعة( ).
6_ أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة، وتقوى فهو من ربها الذي زكاها به، وأعطاها إياه.
فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونَقْصَها؛ فَرُتِّبَ له على ذلك حِكَمٌ ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها ويحفظها ( ).
7_ تعريف العبد بكرم الله، وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد، فلم يَطِبْ له عيشٌ معهم أبداً.
ولكنه _ عز وجل _ جلَّله بستره، وغشاه بحلمه، وقيَّض له من يحفظه وهو في حالته هذه، بل كان شاهداً عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام( ).
8_ تعريف العبد بكرم الله في قبول التوبة: فلا سبيل إلى النجاة إلا بعفو الله وكرمه ومغفرته، فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها، ثم قبلها منه، فتاب عليه أولاً وآخراً ( ).
9_ إقامة الحجة على العبد: فإذا أصابه ما أصابه فلا يقل: من أين أُتيت، ولا بأي ذنب أُصبت؛ فما أصاب العبد من مصيبة قط دقيقة أو جليلة إلا بما كسبت يده، وما يعفو الله أكثر( ).
10_ أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به: فيعامل بني جنسه في زلاتهم وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله في إساءته، وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفى عفى الله عنه، ومن سامح أخاه سامحه الله، ومن استقصى استقصى الله عليه، وهكذا. . .
ثم إذا علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعظم عنده إساءة الناس إليه؛ فليتأمل حاله مع ربه، كيف هو مع فرط إحسانه إليه، وحاجته هو إلى ربه، وهو هكذا له؛ فإذا كان العبد هكذا لربه فكيف ينكر أن يكون الناس له بتلك المنزلة؟( )
11_ إقامة المعاذير للخلائق: فإذا أذنب العبد أقام المعاذير للخلائق، واتسعت رَحمته لهم، واستراح من الضيق والحصر، وأَكْلِ بعضه بعضاً، واستراح العصاة من دعائه عليهم، وقنوطه من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسه واحداً منهم، فهو يسأل الله لهم المغفرة، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
ومع هذا فيقيم أمر الله فيهم؛ طاعةً لله، ورحمةً بهم، وإحساناً إليهم؛ إذ هو عين مصلحتهم، لا غلظة، ولا قوة، ولا فظاظة( ).
12_ أن يخلع العبد صولة الطاعة من قلبه: وينزع داء الكبر والعظمة الذي ليس له، ويلبس رداء الذل، والانكسار، والفقر والفاقة؛ فلو دامت تلك الصولة والعزة في قلبه لخيف عليه مما هو أعظم الآفات؛ فكم بين آثار العجب والكبر وصولة الطاعة، وبين آثار الذلة والمسكنة والانكسار؟( )
قال ابن القيم ×:=وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات _ في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها؛ فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم وصولة طاعتهم، ومنَّتهم على الخلق بلسان الحال، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعتهم اقتضاءاً لا يخفى على أحد غيرهم، وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله، وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك؛ فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها؛ ليكسِر بها نفسه، ويعرفه قدره، ويُذله بها، ويخرج بها صَوْلة الطاعة من قلبه _ فهي رحمة في حقه، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح، وإقبال بقلوبهم إليه _ فهو رحمة في حقهم، وإلا فكلاهما على خطر+( ).
ثم إن التذلل والانكسار والخضوع لب العبودية؛ إذ هذه الأعمال القلبية أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة، وحصول ذلك للمذنب التائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يُذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد جاء في الأثر الإسرائلي: =يا رب أين أجدك؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي+( ).
ولأجل هذا كان =أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد+( ).
لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تُحْدِثُ عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السَّبُعية الحيوانية.
13_ هياج العبوديات القلبية وانبعاثها: ذلك أن لله على القلوب أنواعاً من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل، وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة وتوابعها.
وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها وتبعث عليها؛ وكلما قيَّض الرب _تعالى_ لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له فهو من أسباب رحمته، ورُبَّ ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف، والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة، والفرار إلى الله ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سبباً لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي( ).
14_ أن يعرف العبد نعمة معافاة الله وفضله، وتوفيقه له، وحفظه إياه: فإن من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية؛ فلو عرف أهل الطاعة أنهم هم المنعم عليهم في الحقيقة لعلموا أن لله عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم وإنْ توسَّدوا التراب، ومضغوا الحصى، فهم أهل النعمة المطلقة، وأنَّ من خلَّى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه.
فإذا طالبت العبدَ نَفْسُه بما تطالبه من الحظوظ والأقسام، وأَرَتْهُ أنه في بلية وضائقة تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبته نفسه من الحظوظ، فحينئذٍ يكون أكثر أمانيه وآماله العودَ إلى حاله، وأن يمتعه الله بعافيته( ).
15_ أن التوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها: فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه، فَرُتِّبَ له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها، وآثارها ما لم ينقضها، أو يفسدها ( ).
16_ استكثار القليل من النعم: فإذا شهد العبد ذنوبه، ومعاصيه، وتفريطه في حق ربه استكثر القليل من نعم ربه عليه _ ولا قليل منه _ لعلمه أن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، واستقل الكثير من عمله؛ لعلمه أن الذي ينبغي أن يغسل به أوضاره أضعافُ ما أتى به؛ فهو دائماً مستقل لعمله كائناً ما كان، مستكثر لنعمة الله عليه وإن دقَّت.
قال ابن القيم × عن هذا الوجه: =وهو من ألطف الوجوه؛ فعليك بمراعاته؛ فله تأثير عجيب، ولو لم يكن من فوائد الذنب إلا هذا لكفى؛ فأين حال هذا من حال من لا يرى لله عليه نعمة إلا ويرى أنه ينبغي أن يعطى ما هو فوقها وأجل منها+( ).
إلى أن قال عن هذا الضرب من الناس: =وهذا الضرب من الناس من أبغض الخلق إلى الله، وأشدهم مقتاً عنده، وحكمةُ الله تقتضي أنهم لا يزالون في سفال؛ فهم بين عتب على الخالق وشكوى له، وذلٍّ لخلقه وحاجة إليهم، وخدمة لهم+( ).
17_ أن الذنب يوجب لصاحبه التحرز والتيقظ من مصائد عدوه ومكائده: فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص والقطاع ومكامنهم، ومن أين يخرجون عليه، وفي أي وقت يخرجون؛ فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنَّه مرَّ عليهم على غِرَّةٍ وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة( ).
18_ مراغمة الشيطان وإغاظته ومجاهدته: فالقلب يذهل عن عدوه، فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حرَّاً كريماً.
كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجاً، طالباً، مقداماً.
والقلب المهين كالرجل الضعيف المهين إذا جرح ولَّى هارباً، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدوٍّ له.
فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدوَّ أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جدَّ في أخذ الثأر، وغاظ عدوَّه كل الغيظ، وأضناه( ).
كما جاء عن بعض السلف: =إن المؤمن لَيُنْضِي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره+( ).
19_ معرفة الشر؛ حذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفاً فحسب.
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة _ رضي الله عنهم _ أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبةً له، وجهاداً لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل _ كان أحرى أن تدوم له النعمة ما لم يؤثر أسباب زوالها على علم، وفي مثل هذا قال القائل:
عرفتُ الشرَّ لا للشرْ
رِ لكنْ لتوقِّيه
ومن لا يعرف الشرَّ
من الناس يقعْ فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه؛ فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالَطْتَهُ، وعرفت طويته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بُليَ بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه من الناس، ومن لم يستنصحه( ).
20_ ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله _ عز وجل _ يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره _ علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به.
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتَقَلَّقَ تَقَلُّقَ المكروب، ودعاه دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقَّاً، فهو يهتف بربه أن يرد عليه ما لا حياة له بدونه _ علم أنه موضعٌ لما أُهِّلَ له، فردَّ عليه أحوج ما هو محتاج إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذٍ مقداره، فعضَّ عليه بالنواجذ، وثنَّى عليه بالخناصر؛ فالعبد إذا بُليَ بَعْدَ الأنْسِ بالوحشة، وبعد القرب بنار البعاد _ اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنَّتْ، وأنَّتْ، وتصدَّعت، وتعرضت لنفحات مَنْ ليس لها عنه عوضٌ أبداً، ولاسيما إذا تذكر برَّه، ولطفه، وحنانه، وقربه( ).
21_ أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان: وهاتان القوتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية التي لا ينفك عنهما، وبهما وقعت الفتنة والابتلاء.
وتركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولابد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلابد من وقوع الذنب، والمخالفات والمعاصي.
ولو لم تُخلق في الإنسان لم يكن إنساناً، بل كان مَلَكاً، فأما من اكتنفته العصمة، وضُرِبَتْ عليه سرادقاتُ الحفظ _ فهم أقل أفراد النوع الإنساني، بل هم خلاصته ولبه( ).
22_ أن الله إذا أراد بعبد خيراً أنساه رؤية طاعاته، ورفعها من قلبه ولسانه: فإذا ابتلي العبد بالذنب جعله نصب عينيه، وجعل همه كله بذنبه، فلا يزال ذنْبه أمامه إن قام أو قعد، أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف: =إن العبد ليعمل الخطيئةَ فلا تزال نصبَ عينيه كلما ذكرها بكى، وندم، واستغفر، وتضرع، وأناب إلى الله، وذل وانكسر، وعمل لها أعمالاً فتكون سبباً للرحمة في حقه.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه، يمن بها، ويراها، ويعتد بها على ربه، وعلى الخلق، ويتكبر بها، ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه، ويكرمونه، ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار+( ).
23_ لزوم التواضع وترك الترفع: فإذا شهد العبد ذنوبه وخطاياه أوجب له ذلك ألا يرى لنفسه على أحد فضلاً، ولا له على أحد حقَّاً، فلا يظن أنه خير مسلم يؤمن بالله ورسوله، وإذا شهد ذلك من نفسه لم يرَ لها على الناس حقوقاً من الإكرام، فاستراح هذا في نفسه، وأراح الناس من شكايته وغضبه على الوجود وأهله؛ فما أطيب عيشه، وما أنعم باله؛ فأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق، شاكياً تركَ قيامهم بحقه، ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟ ( ).
24_ الاشتغال بعيوب النفس، والإمساك عن عيوب الناس: فالذنب يوجب له الإمساك عن عيوب الناس، والفكر فيها؛ فإنه في شغل بعيب نفسه، وهذا من أمارات السعادة( ).
25_ الاستغفار للخطائين: فإذا وقع الذنب من العبد شهد نفسه مثل إخوانه الخطائين، وشهد أن المصيبة واحدة، وأنهم مشتركون في الحاجة، بل الضرورة إلى مغفرة الله، وعفوه، ورحمته؛ فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم _ كذلك هو أيضاً يجب أن يستغفر لأخيه المسلم( ).
هذه بعض الحكم من خلق المعاصي، وتقدير السيئات، يتضح بها شيء من حكمة العليم الحكيم فيما يقدره ويقضيه.
وبعد أن ساق الإمام ابن القيم × كلاماً طويلاً نفيساً في الحِكَمِ من خلق المعاصي قال في آخره: =فهذه الأثمار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه، ومتى اجتنى منه أضدادها، وأوجبت له خلاف ما ذكرناه فهي والله علامة الشقاوة+( ).
لسائل أن يسأل فيقول: ما حكم الرضا بقضاء الله؟ وهل نحن مأمورون بالرضا بكل ما يقضيه الله _ عز وجل _؟
الجواب عن ذلك أن يُقال: =نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتابٌ ولا سنةٌ+( ).
بل إن الأمر فيه تفصيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قصيدته التائية في القدر:
وأما رضانا بالقضاء فإنَّما
أُمِرْنا بأن نرضى بمثل المصيبةِ
كسُقمٍ وفقرٍ ثم ذلٍّ وغربةٍ
وما كان من مؤذٍ بدون جريمةِ
فأما الأفاعيل التي كُرِّهت لنا
فلا نصَّ يأتي في رضاها بطاعةِ
وقد قال قومٌ من أولي العلم لا رضاً
بفعل المعاصي والذنوب الكبيرةِ
وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ
ولا نرتضي المقضيَّ أقبحَ خصلةِ
وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ
إليه وما فينا فنلقى بسخطةِ
كما أنها للرب خلقٌ وأنها
لمخلوقه ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه
ونسخط من وجه اكتساب الخطيئةِ( )
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي × في شرح هذه الأبيات:
=يعني إذا أورد المورد علينا: أنه يجب الرضا بقضاء الله _ يعني والمعاصي من قدر الله _ فقد أجاب الشيخ _ يعني شيخ الإسلام _ بأربعة أجوبة، كل واحد منها كافٍ شافٍ، فكيف إذا اجتمعت؟
* أحدها: أن الذي أُمرنا أن نرضى به: المصائب دون المعائب، فإذا أُصبنا بمرض أو فقر، أو نحوهما من حصول مكروه أو فقد محبوب فيجب علينا الصبر، واختُلف في وجوب الرضا، والصحيح استحبابه؛ لأنه لم يثبت ورود الأمر به على وجه الوجوب؛ لتعذره على أكثر النفوس؛ لأن الصبر حبس النفس عن التسخط، واللسان عن الشكوى، والأعضاء عن عملها بمقتضى السخط؛ من نتف الشعر، وشق الجيوب، وحثوِ التراب على الرؤوس، ونحوها، وذلك واجب مقدور.
أما الرضا الذي هو مع ذلك طمأنينةُ القلب عند المصيبة، وأن لا يكون فيه تمني أنها ما كانت _ فهذا صعب جدَّاً على أكثر الخلق؛ فلهذا لم يوجبه الله، ولا رسوله، وإنما هو من الدرجات العالية، وهو مأمور به أمرَ استحباب.
وأما الرضا بالذنوب والمعائب، فلم نؤمر بالرضا بها، ولم يأتِ نصٌّ صحيحٌ، أو ضعيفٌ في الأمر بها، فأين هذا من ذاك؟
* الجواب الثاني: ما قاله طائفة من أهل العلم: أن الله لم يرض لنا أن نَكْفُرَ، ونعصي؛ فعلينا أن نوافقَ ربَّنا في رضاه، وسخطه، قال _ تعالى _ [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] سورة الزمر: 7.
فالدين: موافقة ربنا في كراهة الكفر، والفسوق، والعصيان، مع تركها، وموافقته في محبة الشكر والإيمان، والطاعة لنا مع فعلها.
* الجواب الثالث: أن القضاء غير المقضي، فنرضى بالقضاء؛ لأنه فعله _ تعالى _ وأما المقضي، الذي هو فعل العبد فينقسم إلى أقسام كثيرة: الإيمان، والطاعة علينا الرضا بها، والكفر، والمعصية لا يحل لنا الرضا بها، بل علينا أن نكرهها، ونفعل الأسباب التي ترفعها من التوبة، والاستغفار والحسنات الماحية، وإقامة الحد والتعزير على من فعلها، والمباحاتُ مستويةُ الطرفين.
* الجواب الرابع: أن الشر والمعاصي تختلف إضافتها، فهي من الله خلقاً وتقديراً وتدبيراً، وهي من العبد فعلاً وتركاً، فحيث أضيفت إلى الله _ قضاءاً وقدراً _ نرضى بها من هذا الوجه، وحيث أُضيفت إلى العبد _ نسخطها، ونسعى بإزالتها بحسب مقدورنا.
فهذه الأجوبة عن الأمر بالرضا بالقضاء قد اتضح أنها لا تدل على شيء من مطلوب المعترض+( ).
وتحته أربعة مباحث:
المبحث الأول: مسألة القدر المثبت، والقدر المعلق، أو المحو والإثبات في القدر، وزيادة العمر ونقصانه
المبحث الثاني: الإنسان بين التسيير والتخيير
المبحث الثالث: مسألة الهداية والإضلال
المبحث الرابع: التوفيق بين استئثار الله بعلم ما في الأرحام وبين علم الأطباء بذكورة الجنين في الرحم من أنوثته؟
قد يشكل على بعض الناس مواضعُ في كتاب الله، وأحاديث رسول الله"فيقول بعضهم: إذا كان الله قد علم كل ما هو كائن، وكتب ذلك كله عنده في كتاب _ فما معنى قوله: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] سورة الرعد: 39.
وإذا كانت الأرزاق مكتوبة، والآجال مضروبة، لا تزيد ولا تنقص فما التوجيه لقوله ": =من سرَّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه+( )( ).
والجواب أن القدر قدران:
أحدهما: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في أم الكتاب _اللوح المحفوظ _ فهذا ثابت لا يتغير، ولا يتبدل.
وثانيهما: القدر المعلق، أو المقيد: وهو ما في كتب الملائكة، فهذا هو الذي يقع فيه المحو الإثبات، فالآجال والأرزاق والأعمار، وغيرها مثبتة في أم الكتاب لا تتغير، ولا تتبدل، أما ما في صحف الملائكة فيقع فيه المحو والإثبات، والزيادة والنقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، وبهذا يتبين معنى قوله ": =من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره _ فليصل رحمه+.
فإن الله أمر الملَك أن يكتب له أجلاً وقال: إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملَك لا يعلم أيزداد أم لا؟ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر+( ).
وقال في موطن آخر عندما سئل عن الرزق: هل يزيد وينقص؟
=الرزق نوعان: أحدهما ما علمه الله أنه يرزقه، فهذا لا يتغير.
والثاني: ما كتبه، وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب+( ).
قال ابن حجر ×: =كأن يقال للملَك _ مثلاً _ إنَّ عُمُرَ فلان مائة عامٍ _ مثلاً _ إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملَك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله: [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] سورة الرعد: 39.
فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملَك.
وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله _ تعالى _ فلا محو فيه البتة، ويُقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلَّق+( ).
ثم إن =الأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأن يرزق العبد بسعيه واكتسابه ألهمه السعي، والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب، كموت مُوَرِّثه يأتيه بغير اكتساب+( ).
فلا مخالفة في ذلك =لسبق العلم بل فيه تقيد المسببات بأسبابها، كما قدر الشبع والروي( )، بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق، أو ينافيه بوجه من الوجوه+؟( )
هذا وقد سبق الحديث في أن الإيمان بالقدر لا ينافي فعل الأسباب( ).
يرد كثيراً في كتب الفلسفة، وعلم الكلام، وفي كتابات بعض المتأخرين: هل الإنسان مسير أو مخير؟
وهناك من يجيب على هذا السؤال بأن الإنسان مسير لا مخير، كما أن هناك من يجيب بأنه مخيَّر لا مُسَيَّر.
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال بهذا الإطلاق خطأ؛ ذلك أن الإجابة تحتاج إلى بعض التفصيل.
ووجه الخطأ في الإجابة بأن الإنسان مسيَّر لا مخير تكمن فيما يرد على هذه الإجابة من إشكال؛ فإذا قيل: إنه مسيَّر بإطلاق قيل: كيف يحاسب وهو مسيَّر؟ وكيف يكون مسيراً ونحن نرى أن له مشيئة وقدرة واختياراً؟ وما العمل بالنصوص التي تثبت له المشيئة، والقدرة، والاختيار؟
أما إذا أجيب بأنه مخير لا مسير فيقال: كيف يكون مخيَّراً ونحن نرى أنه قد ولد بغير اختياره؟ ويمرض بغير اختياره؟ ويموت بغير اختياره؟ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن إرادته.
فإذا قيل: إنه مخير في أفعاله التي تقع بإرادته واختياره قيل: وأفعاله الاختيارية كذلك؛ فقد يريد أمراً، ويعزم على فعله، وهو قادر على ذلك فيفعله، وقد لا يفعله؛ فقد يعوقه ما يعوقه؛ إذاً فليس كل ما أراد فِعْلَه فَعَلَهُ؛ وهذا شيء مشاهد.
ومن هنا يتبين لنا وجه الخطأ في هذا الجواب؛ فلو كان الإنسان مُسَيَّراً بإطلاق لما كان له قدرة ومشيئة، ولو كان مخيَّراً بإطلاق لفعل كل ما شاءه؛ فمن قال بالتسيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب الجبرية الذين قالوا: إن العبد مجبور على فعله، وأنكروا أن يكون له قدرة ومشيئة وفعل.
ومن قال بالتخيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب القدرية النفاة الذين قالوا: بأن الأمر أنف، وأن العبد هو الخالق لفعله، وأنه مستقل بالإرادة والفعل.
فما الجواب _ إذاً _ عن هذا السؤال؟ وما المخرج من هذا الإشكال؟
الجواب: أن الحق وسط بين القولين، وهدى بين هاتين الضلالتين؛ فيقال _وبالله التوفيق_: إن الإنسان مخير باعتبار، ومسير باعتبار؛ فهو مخير باعتبار أن له مشيئةً يختار بها، وقدرةً يفعل بها؛ لقوله _ تعالى _: [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] سورة الكهف: 29، وقوله: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] سورة البلد:10، وقوله: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ] سورة البقرة:223، وقوله: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] سورة آل عمران: 133.
ولقوله ": =احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. . .+( )
وقوله: =صلوا قبل صلاة المغرب+ قال في الثالثة: =لمن شاء+( )، إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى.
وهو مسير باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل في القدر، راجع إليه؛ لكونه لا يخرج عما قدَّره الله له؛ فلا يخرج في تخييره عن قدرة الله؛ لقوله _ تعالى _: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] سورة يونس: 22، وقوله: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] سورة القصص: 68.
ولقوله ": =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة+( ).
إلى غير ذلك من الأدلة في هذا المعنى.
ولهذا جمع الله بين هذين الأمرين _كون الإنسان مخيراً باعتبار ومسيراً باعتبار_ كما في قوله _ تعالى _: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] سورة التكوير: 28_29.
فأثبت _ عز وجل _ أن للعبد مشيئة، وبَيَّنَ أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، واقعة بها.
وكذلك الرسول " كما في قوله: =ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار.
قالوا: يا رسول الله: فَلِمَ نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: =لا، اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له+( ).
فهذا الحديث دليل لما سبق؟ فهو يدل على أن الإنسان مخير؛ لقوله": =اعملوا+ وعلى أنه لا يخرج في تخييره عن قدر الله؛ لقوله: =فكل ميسر لما خلق له+.
هذا مقتضى أدلة الشرع والواقع في هذه المسألة( ).
فلعل في هذا التقرير إجابة شافية، وجمعاً بين النصوص في هذه المسألة.
ومما يستحسن في هذا الأمر أن يصحح السؤال؛ فبدلاً من أن يقال: هل الإنسان مسير أو مخير؟ كان الأولى أن يقال: هل للإنسان مشيئة وقدرة أوْ لا؟
والجواب _ كما تقدم _ وتلخيصه أن يقال: إن للإنسان مشيئةً يختار بها، وقدرةً يفعل بها، وقدرته ومشيئته تابعتان لمشيئة الله، واقعتان بها.
وبهذا يزول الإشكال، ويجاب عن هذا السؤال.
ومن هنا يتبين خطأ بعض من يكتبون عن القدر، وذلك حينما يصدِّرون كتاباتهم عن القدر بذلك السؤال: هل الإنسان مسير أو مخير؟ ويطنبون في الخوض فيه، والحديث عنه، دون خروج بنتيجة صحيحة _ في الغالب _ وكأن باب القدر لا يفهم إلا بالإجابة عن هذا السؤال( ).
وكان الأولى بهؤلاء _ إذا أرادوا أن يكتبوا عن القدر _ أن يصدِّروها بتوضيح القدر من أصله من خلال نصوص الكتاب والسنة، لا من خلال العقول القاصرة، فيوضحوا القدر بمراتبه الأربع، ويبينوا أنَّ الله أمر ونهى، وأنَّ على العبد أن يؤمن بالقدر ويؤمن بالشرع، فعليه تصديق الخبر، وطاعة الأمر، فإن أحسن فليحمد الله، وإن أساء فليستغفر الله.
وكذلك يبينون أن على العبد أن يسعى في مصالحه الدنيوية، ويأخذ بالأسباب المشروعة والمباحة، فإذا حصل على مراده حمد الله، وإن أتت الأمور على خلافه تعزى بقدره، وهكذا. . .
ففي ذلك الغنيةُ عن كثرة الخوض في مثل هذا السؤال؛ فالإنسان إذا فهم باب القدر على هذا النحو سلم من تلك الإيرادات والشبهات.
مسألة الهداية والإضلال مسألة عظيمة، وقد مرَّت إشارات إليها فيما مضى من مباحث، وإنما أُفردت هاهنا؛ لأهميتها، ولكونها تترد كثيراً في الأذهان، وربما ظهر على بعض الألسنة أحياناً أسئلة في شأنها، فيقال: إذا شاء الله من الإنسان المعصية، ولم يشأ منه الطاعة، فَلِمَ يحاسبُه على ما يشاء منه؟
ولِمَ لم يشأ منه الطاعة كما شاءها من غيره؟
والجواب أن يُقال: إن الهداية والإضلال والطاعة والمعصية بمشيئة الله، والإنسان سبب في وقوعها، ومسؤول عنها؛ فذلك من الأصول القطعية عند أهل السنةِ، والقاعدةُ التي يتفق عليها العقلاء أن القطعيات لا تتناقض في نفسها وإن بدت لنا متناقضة؛ لقصور إدراكنا؛ فحسبنا أن نقف عند هذه القطعيات، ونؤمن بها جميعاً، ولا نرد منها شيئاً ولو لم نحط بها علماً؛ لأن مسألة القضاء والقدر لها تعلق بصفات الله؛ فالقدر قدرة الله، وقدرة الله كعلمه وحكمته وإرادته وسائر صفاته من جهة كونها معلومة المعنى مجهولة الكيفية؛ فكما أننا نعجز عن الإحاطة بصفات الله فكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القدر الإلهي، ومن أسراره أن أضل الله وهدى، وأسعد وأشقى، وأمات وأحيا، وغير ذلك؛ لحكمة يعلمها ولا نعلمها، وهو العليم الحكيم.
ولا يضير المرء في إيمانه عجزه عن معنى الإحاطة بسر القدر؛ لأن ذلك ليس بمستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولكن الذي يضيره أن يبني على عجزه أحكاماً، ويتصرف على غير هدى، ويرد بعض الأصول القطعية، ويضرب النصوص بعضها ببعض.
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يلزم ليكون تصرفه سليماً أن يُدرك غيرُه الحكمة في تصرفاته، وليس لأحد حق الاعتراض عليه في تصرفه إذا لم يعلم السر في أفعاله.
ولا نزاع بينهم أن البارع في علم من العلوم، أو فن من الفنون، أو صنعة من الصنائع أنه قد يعمل أعمالاً لا تدركها عقول الذين لم يقفوا على أسرار ذلك العلم، أو الفن، أو الصنعة.
ولا يعني عدمُ إدراكهم لذلك القدحَ في ذلك العلم، أو الفن، أو الصنعة.
هذا بالنسبة للبشر القاصرين في علمهم وحكمتهم، فكيف بأحكم الحاكمين، وبمن وسع كل شيء رحمة وعلماً؟!
فإن حاولنا كشف ما طُوي عنا من أسرار القدر مما استأثر الله بعلمه كان ذلك تكلفاً بلا نتيجة، ومن حاول إدراك غير المستطاع فنتيجة محاولته أن يكون( ):
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ( )
قال شيخ الإسلام ×: =والله _ تعالى _ غني عن العباد، إنما أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم، محسن لهم بإعانتهم على الطاعة.
ولو قُدِّر أن عالماً صالحاً أمر الناس بما ينفعهم، ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به، ولم يعن آخرين لكان محسناً إلى هؤلاء إحساناً تامَّاً، ولم يكن ظالماً لمن لم يحسن إليه.
وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان _أيضاً_ محموداً على هذا وهذا.
وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين؟! فأمره لهم إرشاد، وتعليم، وتعريف بالخير، فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور، وهو مشكور على هذا وهذا.
وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى+( ).
وقال ×:=وليس اطلاع كثير من الناس _ بل أكثرهم _ على حكم الله في كل شيء نافعاً لهم، بل قد يكون ضارَّاً، قال _ تعالى _: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] سورة المائدة:101.
وهذه المسألة: مسألة غايات أفعال الله، ونهاية حكمته مسألةٌ عظيمة، لعلها أجل المسائل الإلهية+ ( ).
وقال ابن قتيبة ×: =وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل، لا يجور: كيف خلق؟ وكيف قدَّر؟ وكيف أعطى؟ وكيف منع؟ وأنه لا يخرج من قدرته شيء، ولا يكون في ملكوته من السماوات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دين لأحد عليه، ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل+ ( ).
وخلاصة القول في هذه المسألة أن الهداية والإضلال لله وحده؛ فالله أعلم حيث يجعل هدايته كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته.
ولا يعني ذلك تعطيل الأسباب؛ فالله _ عز وجل _ نصب أسباباً، وجعلها طريقاً للوصول إلى الهدى، وحذَّر من أسباب الإضلال، وبيَّن أنها موصلة للردى، ويبقى بعد ذلك أن نستحضر أن ذلك كله بيد الله _ عز وجل _ فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون عما يفعلون.
هذا وقد مرت إشارات إلى هذه المسألة خصوصاً عند الحديث عن نسبة الشر إلى الله _ عز وجل _ وعن الحكمة من إرادة الله لما لا يحبه، وعن الحكمة من خلق إبليس والمصائب والآلام وتقدير المعاصي.
فهذا الإشكال يَرِدُ، ويلبس على كثير من الناس، وخلاصتة قولهم: إذا كان الله _ عز وجل _ يقول في سورة لقمان: [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] سورة لقمان:34، وإذا كان الرسول " يقول _ كما في الصحيحين، وغيرهما عن ابن عمر _: =في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ: [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ]. الآية( ).
فكيف نوفق بين ذلك، وبين ما نراه من علم الأطباء بذكورة الجنين من أنوثته؟
والجواب عن هذا الإشكال يسير بحمد الله، وقبل الدخول في ثنايا الإجابة لابد من تبيان مسألة مهمة، ألا وهي: =أنه لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وأنه إذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن الكريم، وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً+( ).
وهذا ما قرره العلماء في القديم والحديث، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية× بنى كتابه العظيم _ درء تعارض العقل والنقل _ على هذه القاعدة.
بل قد صرح بذلك كثير من الكتاب الغربيين المنصفين، ومنهم الكاتب الفرنسي(موريس بوكاي) كما في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآنُ والعلم)؛ حيث بين في هذا الكتاب أن التوراة المحرفة، والإنجيل المحرَّف الموجودَين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تَفَوُّق للقرآن الكريم سبق بها القرآنُ العلمَ الحديث.
وأثبت من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل إنه يتفق معها تمام الاتفاق( ).
وإذا تقرر ذلك نأتي إلى حل ذلك الإشكال فيقال:
1_ أن اختصاص علم الله _ تعالى _ بما في الأرحام لا يقتصر على علمه بما فيها من ذكر أو أنثى فحسب، بل هو أعم من ذلك؛ فيشمل ما في الرحم من ذكر أو أنثى منذ اللحظة الأولى قبل التخليق، ويشمل ماذا في الرحم في كل لحظة وفي كل طور، من فيض وغيض وحمل، حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم، ويشمل العلم بملامح الجنين، وخواصه، واستعداداته( ).
ويشمل _ أيضاً _ العلم برزقه هل هو قليل أو كثير؟ وصفة ذلك الرزق هل هو حرام أو حلال؟ ويشمل العلم بأجله أقصير هو أم طويل؟ ويشمل العلم بعمله هل هو صحيح أو فاسد؟ ويشمل العلم بشقاوته من سعادته( ).
فهذا من علم ما في الأرحام، وهو مما اختص الله _ تبارك وتعالى _ بعلمه، فلا يُظْهِر عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول أو ملَك أو غيرهما.
=وليس في الآية تصريح بذكر العلم بالذكورة والأنوثة، وكذلك لم تأت السنة بذلك+( ).
2_ أن معرفة ما في الرحم هل هو ذكر أو أنثى لا يعلم إلا بعد تخليق الجنين.
أما المدة التي لم يُخَلَّق فيها الجنين فلا يعلم أحد فيها ذكورة الجنين من أنوثته؛ لأن ذلك من علم الغيب.
وقد =اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر+( ).
ونفخ الروح في الجنين لا يكون إلا بعد تمام صورته، أي بعد تخليقه( ).
وبعد تخليقه لا يكون العلم بذكورته أو أنوثته من علم الغيب؛ =لأنه بتخليقه صار من علم الشهادة، إلا أنه مستتر في الظلمات التي لو أزيلت لتبين أمره.
ولا يبعد أن يكون فيما خلق الله _ تعالى _ من الأشعة أشعة قوية تخترق الظلمات حتى يتبين الجنين ذكراً أو أنثى+( ).
ولذلك فلا غرابة أن يعرف الجنين بعد أن يتخلق من خلال الأشعة الصوتية؛ فهذا من علم الشهادة، ومن العلم بظاهر من الحياة الدنيا، والله _ عز وجل _ لم ينفِ ذلك عن البشر، بل أثبته لهم كما في قوله: [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الروم: 7.
قال ابن كثير( ) × في تفسير آية لقمان 34: [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] : =وكذلك لا يعلم مما يريد أن يخلقه _ تعالى _ سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى، أو شقيَّاً أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء من خلقه+( ).
فهذا مقتضى دلالة الشرع والواقع.
أما دلالة الشرع فكما جاء في الصحيحين عن أنس ÷ أن النبي " قال: =وكل الله بالرحم ملَكاً يقول: أي ربِّ! نطفة، أي ربِّ! علقة، أي ربِّ! مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه+ ( ).
أما دلالة الواقع فكما مر من أن الجنين يعرف بعد أن يُخَلَّق عن طريق الأشعة الصوتية.
وتحته أربعة فصول:
الفصل الأول: أخطاء في باب القدر
وتحته أربعة مباحث
المبحث الأول: أخطاء في مفهوم القدر
المبحث الثاني: أقوال مخالفة في القدر
المبحث الثالث: أخطاء في القدر قبل وقوعه
المبحث الرابع: أخطاء في القدر بعد وقوعه
الفصل الثاني: أقوال الناس في القدر
وتحته تمهيد، وخمسة مباحث
المبحث الأول: قول الهنود والبابليين والمصريين القدماء في القدر
المبحث الثاني: قول الفلاسفة في القدر
المبحث الثالث: قول اليهود في القدر
المبحث الرابع: قول النصارى في القدر
المبحث الخامس: قول المفكرين والفلاسفة الغربيين المتأخرين في القدر
الفصل الثالث: القول بالقدر في الإسلام
وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: نشأة القول بالقدر
المبحث الثاني: قول القدرية المعتزلة في القدر
المبحث الثالث: قول الجبرية في القدر
المبحث الرابع: قول الصوفية في القدر
المبحث الخامس: قول الأشاعرة في القدر
المبحث السادس: قول الشيعة في القدر
الفصل الرابع: مناقشة أقوال الفرق
وتحته تمهيد، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المناقشة الإجمالية لأقوال الفرق
المبحث الثاني: مناقشة قول المعتزلة القدرية
المبحث الثالث: مناقشة قول الجبرية
وتحته أربعة مباحث
المبحث الأول: أخطاء في مفهوم القدر
المبحث الثاني: أقوال مخالفة في القدر
المبحث الثالث: أخطاء في القدر قبل وقوعه
المبحث الرابع: أخطاء في القدر بعد وقوعه
هناك أخطاء عديدة يقع فيها كثير من الناس في باب القدر، وهذه الأخطاء منها ما هو في الأقوال، ومنها ما هو في الأفعال، ومنها ما هو في الاعتقادات، ومنها ما هو في ذلك كله، وسيتضح ذلك من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: الاحتجاج بالقدر على المعائب: قد مر بنا قريباً أن الاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب لا المعائب.
وهناك من يحتج بالقدر على المعائب، فيحتج بالقدر على استمراره بفعل المعاصي أو ترك الطاعات.
فإذا قيل له _ مثلاً _ لِمَ لا تصلي؟ قال: ما أراد الله لي ذلك! وإذا قيل له: متى ستتوب؟ قال: إذا أراد الله لي ذلك!
وهذا خطأ وضلال وانحراف؛ لأنه إن كان يقصد بالإرادة هنا الإرادة الشرعية التي هي بمعنى المحبة فقد أعظم الفرية على الله؛ لأن الله _ عز وجل _ أحبَّ الطاعة، ورضيها، وأمر بها، وشرعها.
وإن كان يقصد بها الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة، وأن الله لم يُقَدِّر له كذا وكذا من الطاعات، أو قدَّر له كذا وكذا من المعاصي فهذا خطأ _ أيضاً _ ذلك أن قدر الله سر مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد سابقة لفعله؛ فتكون إرادته غير مبنية على علم بقدر الله؛ فادعاؤه مردود، واحتجاجه باطل؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله؛ فحجَّته _إذاً_ داحضة؛ لأنه لا حجة للمرء فيما لا يعلم.
هذا وقد سبق تفنيد الاحتجاج بالقدر على المعائب مفصلاً فيما سبق.
المطلب الثاني: التخلي عن مساعدة المحتاجين والمنكوبين؛ بحجة أن ما حل بهم إنما هو بمشيئة الله: فمن الناس من يرى إخوانه المسلمين تنزل بهم النوازل، وتحل بهم القوارع، فلا يتحرك لنصرتهم، ولا ينبعث لمساعدتهم، ولا يحث غيره على ذلك؛ بحجة أن ذلك إنما وقع بمشيئة الله، وأنه لا يسوغ لنا أن نساعدهم، والله _ عز وجل _ يعاقبهم!
وكذلك ما يوجد عند بعض الناس إذا قيل لهم: أحسنوا إلى الفقراء والمحتاجين _ قال قائلهم: كيف نحسن إليهم، والله قد شاء لهم ذلك؟ الله يفقرهم وأنت تغنيهم؟ أو يقول: إن الله لو شاء إغناءهم لأغناهم بدون مساعدتنا ورفدنا!.
فهذا الكلام وأمثاله باطل بلا ريب، وهو يدل على جهل عظيم، أو تجاهل وخيم؛ ذلك أن المشيئة ليست حجة لفعل المعاصي أو ترك الطاعات أبداً.
ثم إن هذا جهل بحكمة الله _ تبارك وتعالى _ حيث رفع بعض الناس على بعضه، وابتلى بعضهم ببعض، ودفع بعضهم ببعض.
ثم إن المال مال الله، ولو شاء لسلبك إياه يا من تقول هذا القول، فهل سترضى حينئذ _ إذا اشتدت ضرورتك إلى ما تقيم به أودَك _ أن يقال لك مثل ما قلت؟
فهذا القول خطأ عظيم، وضلالة كبرى، وقائلوه فيهم شَبَهٌ ممن قال الله _ عز وجل _ فيهم: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] سورة يس:47.
المطلب الثالث: ترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله، والتسليم لقضائه وقدره: فهناك من يترك الأخذ بالأسباب، بحجة أنه متوكل على الله، مؤمن بقضائه وقدره، وأنه لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته.
وذلك كحال بعض الصوفية الذين يرون أن ترك الأخذ بالأسباب أعلى مقامات التوكل.
فهذا الأمر مما عمت به البلوى، واشتدت به المحنة، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة.
فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة، وفترات عسيرة، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير، والنظرة الثاقبة،والتصور الصحيح،فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب، وتلج البيوت من الأبواب، فتجتاز _ بأمر الله _ تلك الأزمات، وتخرج من تلك النكبات، فتعود لها عزتها، ويرجع لها سالف مجدها.
هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية.
أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب، وشاعت فيها البدع والضلالات _ فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين؛ فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأةً للإخلاد إلى الأرض، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور، وسبل العزة والفلاح، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء.
فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر، وأن الله هو الفعَّال لما يريد، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن؛ فلتمض إرادته، ولتكن مشيئته، وليجرِ قضاؤه وقدره، فلا حول لنا ولا طول، ولا يدَ لنا في ذلك كله.
هكذا بكل يسر وسهولة، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة.
فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا جهاد لأعداء الله، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك!
والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى، وضلالة عظمى، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط، وسببت لها تسلط الأعداء، وجرت عليها ويلاتٍ إثرَ ويلاتٍ.
وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إنه من تمامه؛ فالله _ عز وجل _ أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا قتالهم وإن كان يعلم أننا سنُهزم أمامهم، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا، وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا. . .
فالخلط بين ما أريد بنا، وما أريد منا هو الذي يُلبس الأمر، ويوقع في المحذور.
ثم لا ريب أن الله _ عز وجل _ هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي له مقاليد السماوات والأرض، ولكنه _ تبارك وتعالى _ جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها؛ وقوانين ينتظم بها، وإن كان هو _ عز وجل _ قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، وإن كان _ أيضاً _ لا يخرقها لكل أحد.
فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين _ لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب؛ لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، ولأنه منافٍ لحكمةِ الله، وقُدْرَتُِه _ عز وجل _ متعلقةٌ بحكمته.
فكون الله قادراً على الشيء، لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرة عليه؛ فقدرة الله صفة خاصة به، وقدرة العبد صفة خاصة به، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب( ).
وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان، فقال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة: =طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار.
وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء.
وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية+( ).
المطلب الرابع: ترك الدعاء بحجة أن الله يعلم حاجة العبد قبل أن يسأل، وأنه لو شاء لأعطاه مسألته بغير سؤال، وأنه لن يصيب العبد إلا ما كتب له: فهناك من يستهين بشأن الدعاء، ويرى أنه لا داعي له، ولا جدوى من ورائه؛ طالما أن الله _ عز وجل _ يعلم حاجة العبد، وأنه لن يصيب العبد إلا ما قُدِّر له.
وربما قال قائلهم: لا حاجة لنا بالدعاء إذا نزل البلاء.
وهذا القول قول باطل؛ لأنه مناف للإيمان بالقدر، وتعطيل للأسباب، وترك لعبادة هي أكرم العبادات على الله _ عز وجل _.
فالدعاء أمره عظيم، وشأنه جلل؛ فبه يرد القدر، وبه يرفع البلاء؛ فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
قال ": =ولا يرد القدر إلا الدعاء+( ).
وقال: =من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سُئل الله شيئاً يعطى أحبَّ إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل؛ فعليكم عباد الله بالدعاء+( ).
وقال: =لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقي البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة+( ).
وربما استشهد بعض من يترك الدعاء _ كبعض الصوفية _ بحديث: =حسبي من سؤالي علمه بحالي+.
وهذا الحديث باطل لا أصل له، وقد تكلم عليه العلماء، وبينوا بطلانه.
فقد ذكره البغوي( ) في تفسير سورة الأنبياء مشيراً إلى ضعفه فقال: =وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال _حين أوثقوه؛ ليلقوه في النار_: =لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك+ ، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، واستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم، لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي+( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا الحديث: =وأما قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي _ فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، من دعائهم لله، ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة+( ).
قال الشيخ الألباني( ) × عن هذا الحديث: =لا أصل له؛ أورده بعضهم من قول إبراهيم _ عليه الصلاة والسلام _ وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع+( ).
وقال بعد ذلك عن الحديث: =وقد أخذ هذا المعنى بعضُ من صنَّف في الحكمة على الطريقة الصوفية فقال: سؤالك منه _ يعني الله تعالى _ اتهام له+( ).
ثم قال × تعليقاً على تلك المقولة: =هذه ضلالة كبرى؛ فهل كان الأنبياء _ صلوات الله عليهم _ مُتَّهِمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟+( ).
هناك أقوال تجري على الألسنة وهي مخالفة للإيمان بالقدر، ومن ذلك ما يلي:
1_ الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه: فهذا الدعاء يجري كثيراً على الألسنة، وهو دعاء لا ينبغي؛ لأنه شرع لنا أن نسأل الله ردَّ القضاء إذا كان فيه سوءٌ.
ولهذا بوَّب الإمام البخاري × باباً في صحيحه قال فيه: =باب من تعوذ بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، وقوله _ تعالى _: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] + سورة الفلق: 1_2.
ثم ساق قول النبي ": =تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء+( ).
2_ قول: شاءت الظروف، أو شاءت الأقدار كذا وكذا: فهذه من الألفاظ التي لا تنبغي؛ لأنه ليس للظروف ولا الأقدار مشيئة.
وقد سئل الشيخ العلامة محمد ابن عثيمين × عن هذه الألفاظ فقال: =شاءت الأقدار، وشاءت الظروف ألفاظ منكرة؛ لأن الظروف جمع ظرف، وهو الزمن، والزمن لا مشيئة له، وكذلك الأقدار جمع قدر، والقدر لا مشيئة له.
وإنما الذي يشاء هو الله _ عز وجل _ نعم لو قال الإنسان: اقتضى قدر الله كذا وكذا فلا بأس، أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار؛ لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف، وإنما هي للموصوف+( ).
3_ قول: ما شاء الله وشاء فلان: فهذا القول شرك بالله _عز وجل_ لوجود التسوية في العطف بالواو؛ فمن سوَّى العبد بالله _ ولو في الشرك الأصغر _ فقد جعله ندَّاً لله _ عز وجل _ لما رواه ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن رجلاً قال للنبي ": ما شاء الله وشئت، فقال: =أجعلتني لله ندَّاً؟ بل ما شاء الله وحده+( ).
ولقوله ": =لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان+. ( )
ومن هنا يتبين لنا أنه لا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان.
والأولى من ذلك أن يقال: ما شاء الله وحده؛ لأن فيه التصريحَ بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، والبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص( ).
4_ قول: إن الله على ما يشاء قدير إذا قام بالقلب أن الله لا يقدر إلا على ما يشاؤه فحسب: وقد أشار إلى خطأ هذا التعبير بعض العلماء منهم الشيخ العلامة عبدالرحمن بن حسن( ) ×.
يقول المؤرخ عثمان بن بشر( ) ×: =كتبت له مرة _ يعني عبدالرحمن ابن حسن _ ودعوت له في آخر الكتاب، وقلت في ختام الدعاء: إنه على ما يشاء قدير.
فكتب إليَّ وقال في أثناء جوابه: إن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير إذا دعا الله _ تعالى _ =وهو القادر على ما يشاء+ ويقصد بها أهل البدع شرَّاً، وكل ما في القرآن [وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر] سورة المائدة:102، وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلاً؛ لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم صفتان شاملتان، تتعلقان بالموجودات والمعدومات، وإنما قصد أهل البدع هو القادر على ما يشاء، أي أن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة+( ).
وقال الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم( ) × في جواب له عن هذا التعبير: =الأولى أن لا يطلق، ويقال: إن الله على كل شيء قدير؛ لشمول قدرة الله _ جل جلاله _ لما يشاؤه ولما لا يشاؤه+( ).
وقال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد( ) _ حفظه الله _: =فإن إطلاق هذا اللفظ له حالتان:
الأولى على وجه العموم، فهذا ممتنع لثلاثة وجوه:
1_لأن فيها تقييداً لما أطلقه الله.
2_لأنه موهم بأن ما لا يشاؤه لا يقدر عليه.
3_لأنه موحٍ بمذهب القدرية.
والحالة الثانية على وجه التقييد كما ذكر+( )، أي يجوز مقيَّداً بأفعال معينة.
والأظهر _ والله أعلم _ أن هذا التعبير _ إن الله على ما يشاء قدير _ تعبير صحيح، ولا يعد خطأ، إلا إذا قام بقلب القائل أن قدرة الله لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة، مع أن الأولى أن يقال: إن الله على كل شيء قدير؛ لما سبق.
ومما يدل على صحة هذا التعبير _ ما جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود ÷ عن النبي " فيما يرويه عن ربه، ولفظ أحمد: =ولكني على ما أشاء قدير+( )، ولفظ مسلم: =ولكني على ما أشاء قادر+( ) كلاهما من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس عن ابن مسعود÷( ).
5_ القول بأن إرادة الشعب من إرادة الله: هذا القول يطلقه بعض الملاحدة، ويريدون به تسويغ ما يروجونه من ضلال وفساد؛ فهو بهذا الاعتبار إطلاق لا يجوز، وقد سئل الشيخ عبدالرحمن الدوسري( ) × عن هذا الإطلاق فأجاب قائلاً:
=هذا افتراء عظيم تجرأ به على الله بعض فلاسفة المذاهب ومنفذيها جرأةً لم يسبق لها مثيل في أي محيط كافر في غابر القرون؛ إذ غاية ما قص الله عنهم التعلق بالمشيئة بقولهم: [لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ] سورة الأنعام: 148.
فكذبهم الله، وهؤلاء جعلوا للشعب الموهوم إرادة الأمر؛ لتبرير خططهم التي ينفذونها.
ويلزم من هذا الإفك إفساد اللوازم المبطلة له، والدافعة لمن قاله؛ إذ على قولهم الفاسد يكون للشعب أن يفعل ما يشاء، ويتصرف في حياته تصَرُّف مَنْ ليس مقيداً بشريعة وكتاب، بل على وفق ما يهواه، وعلى أساس المادة والشهوة، والقوة، كالشعوب الكافرة التي لا تدين بدين يقبله الله، ولا ترعى خلقاً ولا فضيلة.
فهذا الإفك العظيم لم يجرؤ عليه أبو جهل ومن على شاكلته مع خبثه وعناده؛ لأن قبحه معروف ببداهة العقول؛ حيث إن أذواق الشعوب ونزعاتها تختلف، فإذا جعلت إرادة الشعب من إرادة الله صارت نزعات الوجودية( )، والشيوعية( )، والنازية( )، والصهيونية( )، ووحشية الغاب وغيرها من إرادة الله التي أمر بها، وصار كل ما تهواه النفوس الشريرة، ويعشقه مرضى القلوب من التهتك، والانحلال ومعاقرة الخمر، ودغدغة الغرائز، وإشباع الشهوات على حساب الغير _ من أمر الله.
فعلام ينتقدون غيرهم، ويصيحون عليه إذا كانت إرادة الشعوب ورغباتها من إرادة الله في حكمه الذي يرتضيه؟ ولأي شيء يرسل الله الرسل، وينزل الكتب، ويشرع الجهاد، والأمر والنهي على الناس إذا كانت إرادتهم من إرادته التي يرتضيها؟
هذا هو عين المحال، ومنتهى الفجور والضلال، والذين تزعموا هذا الإفك لا يطبقونه على أنفسهم، بل يسمحون لها بغزو الشعب الذي لا يخضع لسلطانهم، ولا يسير وفق أهدافهم.
فكأن الشعب الذي يحكمونه هم بقوة الحديد والنار هو الشعب الذي إرادته ألوهيةً من إرادة الله.
والباطل لابد أن يتناقض، وينادي على نفسه بالبطلان؛ فقد أشركوا بالله شركاً عظيماً؛ إذ جعلوا الشعب ندَّاً من دون الله، وأهواءَه أنداداً لشريعته وحكمه، بدلاً من أن يكون محتكماً إلى الله، ملتزماً لحدوده، متكيفاً بشريعته، منفذاً لها+( ).
6_ قول بعض العامة: =هذه طَشَّةٌ ما وُزِنَتْ+: ويَعْنُون بذلك المطر، فإذا ازداد تهطاله وحصل الضرر من جرَّاء ذلك قال بعضهم: =هذه طَشَّةٌ ما وُزِنَتْ+ !
فهذا التعبير تعبير خاطئ، ومناف للإيمان بالقدر؛ إذ كيف يظن أن قطرة مطر نزلت من السماء لم توزن؟! والله _ عز وجل _ يقول: [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] سورة الحجر: 21، ويقول: [وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ] سورة المؤمنون: 18، ويقول: [وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ] سورة الرعد: 8.
7_ قول بعضهم: إن العقرب تسابق القدر والحية مأمورة: فبعض العامة يطلق هذا القول، ويُفَرِّعُ عليه أقوالاً أخر، فيقول: إذا مرت بك العقرب وأنت تصلي، أو كنت قاعداً في مكان ما فاقطع الصلاة، وقم من مكانك، واحترز منها؛ لأن غائلتَها لا تؤمن؛ فهي تسابق القدر!
بخلاف ما إذا مرت بك الحية، فلا تقطع الصلاة إن كنت تؤديها، ولا تتحرك من مكانك إن كنت جالساً أو مستلقياً، فلا تحترز منها، بل دعها فإنها مأمورة !
وهذا الكلام مردود، فقولهم: إن العقرب تسابق القدر، قول باطل مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، ولما تقرر بالعقل والإجماع من أنه لا يقع شيءٌ إلا بقدر الله _ عز وجل _ وقد مرَّت بنا الأدلة قريباً؛ فما الذي يخرج العقرب من عموم قدر الله _ عز وجل _ وأَخْذِه بناصية كل دابة؟!
قال ": =العين حق ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين+( ).
ثم إن قولهم: إن الحية مأمورة لا شك في ذلك، أما ألا نحترز منها؛ بحجة أنها مأمورة فهذا كلام باطل مخالف لتمام الإيمان بالقدر، لأن من تمامه الأخذَ بالأسباب، والتحرزُ من الحية من جملة الأسباب التي أمرنا بتعاطيها والأخذ بها، وإلا فكل شيء بأمر الله فهل نترك الأسباب بالكلية؟
1_ الجزم بفعل الشيء أو وقوعه في المستقبل دون تقييد ذلك بالمشيئة: كحال من يقول: سأفعل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، دون أن يقيد ذلك بالمشيئة.
فهذا خطأ ينبغي للمسلم تجنبه، لقوله _ تعالى _: [وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] سورة الكهف: 23_24.
وقل مثل ذلك في حق من يجزم بوقوع أمر ما في يوم كذا وكذا في المستقبل دون تقييد ذلك بالمشيئة.
2_ قلة اليقين بأن العاقبة للتقوى والمتقين: فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم _ أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق.
فهذا الأمر جد خطير، وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي رق إيمانها، وقل يقينها.
فهذا مما ينافي الإيمان بالقدر، وهو دليل على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.
وإلا كيف يظن هذا الظن والله _ عز وجل _ قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟
فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة والغلبة للمشركين.
فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته؛ فلا يجوز في حقه _ عز وجل _ لا عقلاً ولا شرعاً أن يظهر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق( ).
أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم _ فإنما هو استعلاء استثنائي، وذلك استدراجٌ وإملاءٌ من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.
ثم إن سنة الله ماضية فـ [مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ] سورة النساء: 123، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوبات متنوعة منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها، فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا، حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يغفر لها بسبب ما أصابها من بلاء.
3_ التألي على الله _ عز وجل _: والتألِّي على الله هو الإقسام عليه _عز وجل_ كأن يقول شخص لآخر: والله لا يغفر الله لفلان.
فهذه المقولة قد تصدر من بعض من ينتسب للخير، ممن قل فقهه وعلمه، فتراه _ مثلاً _ يحرص على دعوة عاصٍ من العصاة، فإذا رأى منه إعراضاً عن النصح، وصدوداً عن الخير، وتمادياً في المعاصي أيس منه، وأقصر عن نصحه، وربما قال: والله لن يغفر الله لك، هكذا بصيغة الجزم.
وهذه المقولة خطيرة، ولها آثار وخيمة؛ فهي سبب لحبوط العمل، وهي مما يتنافى مع الإيمان بالقدر؛ ذلك أن الهداية بيد الله، والخواتيم علمها عند الله.
فمن ذا الذي أخبر هذا القائل بأن الله لا يغفر لذلك العاصي؟ وما الذي سوَّغ له أن يحجر رحمة الله _ عز وجل _؟!
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن جندب ÷ أن رسول الله " حدَّث: =أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله _ تعالى _ قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني غفرت لفلان وأحبطت عملك+( ).
ومعنى يتألَّى عليَّ: أي يقسم ويحلف عليَّ، والأليَّة _ بالتشديد _ هي الحلف( ).
4_ استطلاع المستقبل عند الكهان والمنجمين: فالذهاب إلى الكهان والمنجمين، واستطلاع المستقبل عندهم والأخذ بكلامهم، وتصديقهم فيما يخبرون به _ كل ذلك ضلال في باب القدر؛ لأن القدر غيب، والغيب علمه عند الله _ وحده _.
وكذلك الحال بالنسبة لمن يصدقون بتأثير الأسماء والأبراج، فيما يجري للإنسان في حياته.
فتجد من الناس من يذهب لأولئك الذين ينظرون في النجوم والأسماء؛ ليستطلعوا من خلالها أسرار القدر؛ فتجدهم يقولون: إذا وُلد فلان في البرج المعين، أو كان فلان من الناس يحمل ذلك الاسم المعين فسيصيبه كذا وكذا في يوم كذا وكذا.
ومما يقوله ألئك الدجالون: من اسمك تعرف حظك، ومن شهر ميلادك تعرف حظك، وتجدهم يؤلفون كتباً في هذا الشأن( )، إلى غير ذلك من الهذيان، والتخرص، والرجم بالغيب؛ فهذا ضلال في باب القدر، وتكذيب بما أنزل الله على محمد "؛ لأن القدر غيب لا يعلمه إلا الله _ عز وجل _.
ثم إن القائلين بذلك متناقضون؛ فلو قدِّر للقارئ أن يطلع على كتابين، أو موضعين مختلفين، وكل واحد منهما يتحدث عن خصائص الأبراج لرأى التناقض، والاختلاف.
ثم هب أن إنساناً غير اسمه في منتصف العام، هل سيترتب على ذلك تغير حظه، وقدره؟!
1_ الاعتراض على الأقدار: فما أكثر الاعتراض على الأقدار، وما أقل المسلِّمين لله فيها.
ومن صور الاعتراض على الأقدار قول بعضهم إذا أصيب بمصيبة: ماذا فعلتُ يا ربي؟ أو أنا لا أستحق ذلك!
وكذلك ما يقال إذا أصيب شخص بمصيبة: فلان مسكين لا يستحق ما جرى له، لقد ظلمته الأقدار، وجارت في حقه، وقست عليه!
فمثل تلك الأقوال مما يكثر على الألسنة، وذلك من الاعتراض على قدر الله، ومن الجهل بحكمته _ عز وجل _ فلا يجوز إطلاقها؛ لأن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وله الحكمة البالغة في شرعه، وخلقه، وفعله [لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] سورة الأنبياء: 23.
2_ قول كلمة =لو+ عندما تحل المصيبة: وذلك إذا كان الحامل عليها الحزن، والضجر، والجزع، وضعف الإيمان بالقدر كحال من يقول إذا نزلت به مصيبة كخسارة مالٍ، أو تلف زرع، أو فقد أنفس، أو غير ذلك: لو أني فعلت كذا وكذا لما كان كذا وكذا، أو لكان كذا وكذا.
فهذه المقولة خطأ وخطل، وسفه وجهل، ونقص في العقل، ذلك أن العبد مأمور عند المصائب بالصبرِ، والاسترجاعِ، والتوبةِ، وقولُ =لو+ لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر، مع ما يخاف على توحيده من نوع المعاندة للقدر، الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا، إلا ما شاء الله( ).
ولهذا نعى الله _ عز وجل _ على المنافقين مقولتهم: [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] سورة آل عمران: 154، ومقولة: [الَذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] سورة آل عمران: 168، فرد الله عليهم وعلى أمثالهم بقوله: [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] سورة آل عمران: 168.
هذا وقد أرشدنا النبي "إذا أخذنا بالأسباب، وحرصنا على ما ينفعنا، وأتت الأمور على خلاف ما نريد _ ألا يقول أحدنا: =لو أني فعلت كذا وكذا+ ولكن يقول: =قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان+( ).
ففي هذا الحديث ملمح من ملامح الكمال في الشريعة؛ فالإسلام ينأى بالمسلم أن يسترسل مع أحزانه، وَيَرْبَأ به أن يعيش على اجترار ماضيه؛ لأن ذلك لا يجدي عليه شيئاً، كما أنه يرشده إلى ما هو أنفع وأولى وهو التعزِّي بالقدر، والسعي فيما ينفع مستقبلاً.
3_ قول كلمة =ليت+ كذلك: وهي من جنس كلمة =لو+ فهما لا يجديان بعد حصول الأمر المقدر، بل حينئذ التسليم لله، والإيمان به، والتعزي بقدره، مع حسن الظن به، والرغبة في ثوابه؛ فذلك عين الفلاح في الدنيا والآخرة( ).
وصدق من قال:
ليت شعري وأين مني ليت
إن ليتاً وإن لوّاً عناء( )
وما أجمل قول نابغة جعدة( ):
خليليَّ عوجا ساعةً وتَهَجَّرا
ولُومَا على ما أحدث الدهرُ أو ذرا
ولا تجزعا إن الحياة قصيرةٌ
فَخِفَّا لروعات الحوادث أو قِرا
وإن جاء أمرٌ لا تطيقان دفْعَه
فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا
ألَمْ تريا أن الملامة نَفْعُها
قليلٌ إذا ما الشيءُ ولى وأدبرا
تهيج البكاء والندامةَ ثم لا
تُغَيِّر شيئاً غير ما كان قُدِّرا( )
4_ القيام بفعل ما يشعر بالاعتراض على الأقدار: كفعل بعض الجهال عند المصيبة من شق الجيوب، ولطم الخدود، والنياحة، وحلق الشعر، والدعاء بالويل والثبور، وغير ذلك من أعمال الجاهلية الأولى التي تنافي الإيمان بالقدر، والتسليم لله _ عز وجل _( ).
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود ÷ قال: قال النبي ": =ليس منَّا من لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية+( ).
قال الحافظ ابن حجر × في شرح الحديث: =قوله (لطم الخدود) خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك.
قوله: (وشق الجيوب) جمع جيب بالجيم الموحدة وهي ما يُفتح من الثوب؛ ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه: إكمال فتحه إلى آخره وهو من علامات التسخط+( ).
وقوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =هو ندب الميت+( ).
وقال ابن حجر ×: =أي من النياحة ونحوها، وكذا الندبة كقولهم: وا جبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور+( ).
5_ الحسد: فالحسد داء عضال، وسمٌّ قتَّال، لا يسلم منه إلا من سلَّمه الكبير المتعال؛ ولهذا قيل: =لا يخلو جسد من حسد؛ ولكن اللئيم يبديه، والكريم يخفيه+( ).
والحسد هو تمني الحاسد زوال نعمة المحسود، أو هو كراهة الحاسد وصول النعمة إلى المحسود.
والحسد في حقيقته إنما هو اعتراض على قدر الله؛ لأن الحاسد لم يرض بقضاء الله، ولم يُسلِّم لقدره.
فلسان حال الحاسد يقول: إن فلاناً أُعطي وهو لا يستحق، وفلاناً منع وهو يستحق العطاء.
فكأنه بحسده هذا يقسم رحمة ربه بين العباد، وكأنه يقترح على ربه ما يراه ملائماً في نظره! فهو بصنيعه هذا يقدح في حكمة الله _ عز وجل _ وَوَضْعِهِ الأشياء في مواضعها اللائقة بها؛ فمن تمام الإيمان تركُ الحسدِ، والتسليمُ لله في جميع الأمور، فالمؤمن الحق لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم، وقدر لهم معايشهم؛ فأعطى من شاء لحكمة، ومنع من شاء لحكمة، وأنه حين يحسد غيره إنما يعترض على قدر الله، ويقدح في حكمته( ).
ولهذا قيل: =من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يَدْخُلْهُ حسد+( ).
6_ تمني الموت: فهناك من إذا ابتلي ببلاء، واشتدت به اللأواء تمنى الموت؛ ليتخلص _ بزعمه _ مما ألمَّ به! كما قال أحدهم:
ألا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه
فهذا خطأ؛ فلا يجوز للمؤمن أن يتمنى الموت؛ فإن كان لابد متمنياً للموت فليدعُ بالدعاء المأثور في ذلك.
قال ": =لا يتمنين أحدكم الموت؛ لضرٍّ نزل به، فإن كان لابد متمنياً للموت فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي+( ).
قال ابن حجر × في شرح الحديث: =لأنَّ في التمني المطلق نوعَ اعتراض، ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء+( ).
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي × في شرح هذا الحديث: =هذا نهي عن تمني الموت للضر الذي ينزل بالعبد، من مرض، أو فقر، أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء؛ فإن في تمني الموت لذلك مفاسدَ، ومنها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر، والقيام بوظيفته، ومعلوم أن تمني الموت ينافي ذلك.
ومنها: أنه يضعف النفس ويحدث الخور، والكسل، ويوقع في اليأس.
والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعي في إضعافها، وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به، وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعي النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.
ومنها: أن تمني الموت جهل وحمق؛ فإنه لا يدري ما يكون بعد الموت؛ فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه، من عذاب البرزخ وأهواله.
ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها والقيامِ بها، وبقيةُ عُمُرِ المؤمن لا قيمة له، فكيف يتمنى انقطاعَ عملٍ الذَّرَّةُ منه خيرٌ من الدنيا وما عليها؟+( ).
7_ الإقدام على قتل النفس _ الانتحار _: فهناك من إذا ضافته الغموم، وحضرت رحلَه الهمومُ، ولم يجد من كُرَبِه متنفساً، ولا من مضايقه مخرجاً _ أقدم على قتل نفسه؛ رغبة في الخلاص من الدنيا، والراحة من عنائها ولأوائها.
فهذا الصنيع منافٍ للإيمان بالقدر، والتسليم لله _ عز وجل _ في كل أمر، وهو من الأمور التي حرمها الله، وحذَّر من فعلها، وتوعد مرتكبها بالوعيد الشديد، قال _ تعالى _: [وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] سورة النساء:29_30.
ثم إن الذي يقدم على هذه الفعلة _ إنما أقدم عليها؛ رغبة في الراحة والخلاص من العناء _ بزعمه _!.
فمن أوحى إليه أنه سيجد الراحة وسيتخلص من العناء، وهذا الوعيد الشديد بانتظاره إذا هو أقدم على تلك الفعلة؟
8_ التسخط بالبنات: فبعض المسلمين _ هداه الله _ إذا رزقه الله بنتاً تسخط بها، وضاق ذرعاً بمقدمها.
فهذا الصنيع _ ولا شك _ من أعمال الجاهلية الأولى، وأخلاق أهلها الأجلاف، الذين ورد ذمهم، والتشنيع عليهم في الكتاب والسنة.
وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فلو زرت مستشفى للولادة في بلاد المسلمين، وقلبت طرفك في وجوه الحاضرين ممن ولد لهم بنات، وراقبت كلامهم، وسبرت أحوالهم لرأيت توافقاً عجيباً، وتطابقاً غريباً بين حال كثير من هؤلاء وحال أهل الجاهلية الذين قص الله _ تبارك وتعالى _ علينا خبرهم، وأنهم [إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ] سورة النحل: 58_59( ).
ومن مظاهر التسخط بالبنات أن يُكتَشفَ في بعض المستشفيات ما برحم المرأة من ذكر أو أنثى، وذلك عبر الأشعة الصوتية، فإن كان ذكراً بَشَّرُوا، وإن كان أنثى أقصروا، بل ربما عزَّوا !
وهذا الأمر جد خطير، ويترتب عليه عدة محاذير، منها:
أ_ أنه اعتراض على قدر الله _ عز وجل _.
ب_ أنه ردٌّ لهبته _ سبحانه وتعالى _ بدلاً من شكرها، وكفى بذلك مقتاً وتعرضاً للعقوبة.
ت_ أن فيه إهانةً للمرأة، وحطَّاً من قدرها، وتحميلاً لها ما لا تطيق.
ث_ أنه دليل على السفاهة والجهل، والحماقة، وقلة العقل.
جـ _أن فيه تشبهاً بأخلاق أهل الجاهلية( ).
فما أحرى بالمسلم أن يتجنب هذه المسالك، وأن ينجو بنفسه من تلك المهالك؛ فالتسليم لقدر الله أمر واجب، والرضا به من صفات المؤمنين.
ثم إن فضل البنات لا يخفى؛ فهن الأمهات، وهن الأخوات، وهن الزوجات، وهن نصف المجتمع، ويلدن النصف الآخر؛ فكأنهن المجتمع بأكمله( ).
ومما يدل على فضلهن أن الله _ عز وجل _ سمى إيتاءهن هبةً، وقدمهن على الذكور في قوله: [يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ] سورة الشورى: 49.
وكذلك الرسول " بَيَّنَ فضلهن، وحث على الإحسان إليهن، كما في قوله: =من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار+( ).
ولقد أحسن من قال:
حبذا من نعمة اللـ
ـه البناتُ الصالحاتُ
هن للأُنس وللنسـ
ــل وهن الشجراتُ
وبإحسان إليهـ
ـن تكون البركاتُ( )
9_قول بعضهم إذا سمع بوفاة شخص: هل مات بسبب أو قضاءً وقدراً؟: فهذا خطأ، ذلك أن الموت بسبب أو بغير سبب كله بقضاء الله وقدره.
وكان الأولى أن يقال: هل مات بسبب أو بغير سبب؟ أو هل مات بسبب ظاهر أو بسبب غير ظاهر؟
10_ قول بعضهم عند التعزية: البقية في حياتك: فمن الناس من إذا أراد التعزية في الميت قال: البقية في حياتك، أو ما شابه ذلك.
وهذا خطأ؛ فأي بقية بقيت، والله _ عز وجل _ يقول: [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ] سورة الأعراف: 34.
فالميت يموت وقد استوفى أجله تماماً، ولم يتقدم ولم يتأخر فأين تلك البقية؟!.
ثم إن في ذلك مخالفةً للسنَّة في التعزية، فالسنة أن يقال: لله ما أخذ ولله ما أعطى،أوأعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك، وهكذا( ).
وتحته تمهيد، وخمسة مباحث
المبحث الأول: قول الهنود والبابليين والمصريين القدماء في القدر
المبحث الثاني: قول الفلاسفة في القدر
المبحث الثالث: قول اليهود في القدر
المبحث الرابع: قول النصارى في القدر
المبحث الخامس: قول المفكرين والفلاسفة الغربيين المتأخرين في القدر
تمهيد
القدر _ كما مر في مقدمة البحث _ من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها الناس، وشغلت أذهانهم في القديم والحديث؛ لأنه مرتبط بحياتهم وما فيها من تقلبات الأحوال من صحة ومرض، وفقر وغنى، وموت وحياة، وسعادة وشقاء، وما جرى مجرى ذلك.
ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها الفلاسفة المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم ممن سبقهم، ويقول بها بعض علماء أوربة، وفلاسفة الغرب عموماً( ).
والأقوال في القدر _ بإجمال _ لم تتغير قبل أو بعد، فهي ترجع إلى ثلاثة أقوال:
1_ قول أهل الجبر: الذين يقولون: إن الإنسانَ مجبورٌ على أفعاله، وليس له إرادة ولا قدرة.
ويمثل هذا في الفرق الإسلاميةِ الجهميةُ ومَنْ وافقهم، وهو ما يُسمَّى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي( ).
2_ قول أهل حريَّةِ الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأنَّ الإنسانَ له إرادة مستقلة عن إرادة الله، وأنه هو الذي يخلق أفعاله.
ويمثل هذا المذهبَ المعتزلةُ( ) القدرية، ومن وافقهم.
3_ وهناك قولٌ وسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ حيث يثبت القائلون به القدر، وأنَّ الله خالق كلِّ شيء، ويقولون _ مع ذلك _: إنَّ للإنسان قدرةً يفعل بها، ومشيئةً يختار بها، وقدرته ومشيئته واقعتان بقدرة الله، ومشيئته تابعتان لهما.
وهذا هو قول السلف، وأتباع الأنبياء.
وبين هذه الطوائف الثلاثة قد تنشأ فرق أخرى تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة أخرى، ويكون الحكم عليها بحسب ما يغلب على مذهبها، وهذا ما تقرر بعضه فيما مضى، وسيتقرر بعضه بما سيأتي.
أولاً: قول الهنود القدماء في القدر: الهنود الأقدمون يجعلون للقدر الحكمَ الذي لا حكم غيره في جميع الموجودات، ومنها الآلهة، والناس، والأحياء، والنبات، والجماد.
ولا فكاك من قبضة (الكارما)( ) في أدوارها التي تتعاقب بين الوجود والفناء إلى غير انتهاء.
ولا اختيار للإنسان في الحالة التي يولد عليها؛ لأنها مقدورة عليه من قبل ميلاده من أزل الآزال إلى أبد الآباد حتى ينفصل دولاب الخلق باجتناب الولادة، واللياذ بعالم الفناء، أو عالم =النرفانا+( ) المطلق من قيود الوعي، والشعور بالشقاوة والنعيم( ).
ثانياً: قول البابليين القدماء في القدر: البابليون كانوا أصحاب نجوم وأرصاد، فعرفوا الإيمان بالقدر على ما يظهر من طريق الإيمان بالتنجيم؛ لأنهم آمنوا بسيطرة الكواكب على مقادير الأحياء وغير الأحياء؛ فكل مولود يولد فإنما تكون ولادته تحت طالع من الطوالع التي تتعلق بكوكب من كواكب السماء.
والأرض نفسُها وُجدت تحت طالع من هذه الطوالع؛ فلا يجري حدث من الأحداث إلا بحساب مرقوم في سجل الأفلاك والبروج.
وكانوا يعتقدون بالسعود والنحوس؛ فيزعمون أنَّ من النجوم ما يسعد ويعطي، ومنها ما يُشقي ويَحْرِم، وأنه لا مهرب للإنسان من طالعه الذي يلاحقه بالسعد، أو بالنحس مدى حياته.
ولكن المنجمين قد يعلمون مجرى هذه الطوالع فيعالجونها بالحساب( ).
ثالثاً: قول المصريين القدماء في القدر: كان المصريون القدماء وسطاً بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب؛ لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر؛ فكان إيمانهم هذا كالإيمان بأنَّ الإنسان يعمل وأنَّ الأرباب تتولى جزاءَه عن عمله بعد ذلك؛ فهي _ أي الأرباب _ قادرة لا شك في قدرتها، ولكنَّ الإنسان قادر على عمل ما يرضيها، فيستحق ثوابَها، أو يغضبها فيستحق عقابها( ).
عامة الفلاسفة يقولون: إنَّ الله فاعل العالم، وصانعه، والمشهور عنهم قولهم إنَّ الله يعلم الأشياء على وجه كلي ثابت لا يدخل تحت الزمان، وإنه لا يعلم الجزئيات التي تُوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم كما قال ذلك ابن سينا( ).
وإثبات العلم له على هذا الوجه يدل على الإيمان بسبق علمه _تعالى_ للحوادث، لإحاطة علمه بها.
ومع ذلك أنكروا علم الله _ تعالى _ بالجزئيات.
وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئاً؛ فإن كل ما في الخارج هو جزئي( ).
ويكفي في بطلان ذلك قوله _ تعالى _: [وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] سورة الأنعام:59.
أما بالنسبة للجبر والاختيار فيختلف ذلك من فيلسوف إلى فيلسوف، فهذا أفلاطون( ) _ على سبيل المثال _ يرى أنَّ نسبة الشر تكون إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرف، بل يُساق إليه بجهله، أو بعوارض المرض والفساد فيه.
ولكنه لا يُساق بتقدير الآلهة؛ لأنَّ الآلهة _ كما يرى _ خيرٌ لا يصدر عنها إلا الخير؛ فالشر موجود في هذا العالم ولكنه ليس من تقدير الآلهة.
أما أرسطو( ) فيرى أنْ لا قدر، ولا تقدير؛ فكلُّ إنسان حرٌّ فيما يختاره لنفسه؛ فإن لم يستطع أن يفعل فهو _ في الأقل _ مستطيع أن يمتنع.
وبالجملة فلفلاسفة اليونان غير أفلاطون وأرسطو مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما في القول بالاضطرار، أو القول بالاختيار( ).
كان اليهود في الأصل على الدين الذي جاء به موسى _ عليه السلام _ وهو التوحيد والإسلام وهو دين جميع الرسل، وهو الدين الحق في شرائعه وعقائده، ومنه القدر.
وبعد موسى _ عليه السلام _ تفرق اليهود شيعاً وأحزاباً، وصاروا فرقاً كثيرة كما أشار إلى ذلك الرسول " في الحديث المشهورة: =تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة+( ).
واليهود أمة جبلت على التقلب، والتفرق، والاختلاف، ولبس الحق بالباطل خاصة بعد أنبيائهم.
أما بالنسبة للكلام على القدر الإلهي فإنه قديم في الكتب الإلهية، وقد وردت الإشارة إليه من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على درجات في أساليب التقدير تختلف باختلاف الاعتقادات التي يفرضونها للإله، وباختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.
والقدر عنهم مشيئة حاكم يأمر وينهى، ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان.
وإنما كان =يَهْوَه+ إله اليهود يجري فيه على حكم، ثم يندم عليه، ويبدله تارة على حسب الحالة التي تطرأ بغير حساب( ).
وبالجملة فقد اشتهر عن اليهود في القدر مذهبان:
الأول: مذهب الربانيين: وهم فرقة من فرق اليهود ويسمون بـ =الفريسيين+، ومعناها: المنعزلون، أو المنشقون.
وقد أطلق أعداؤهم عليهم هذه التسمية؛ لذلك فهم يكرهونها، ويسمون أنفسهم: الربانيين، أو الإخوة في الله.
وكان هؤلاء موجودين قبل الميلاد، وهؤلاء ينفون القدر
الآخر: مذهب القرَّائين: وهو من فرق اليهود.
وهؤلاء لا يعترفون إلا بالتوراة _ العهد القديم _ كتاباً مقدساً، وليست عندهم روايات شفوية؛ ولذلك فهم يعترفون بالتلمود.
ومذهب هؤلاء: هو القول بالجبر( ).
للنصارى في القدر قولان:
فالمسيحيون الشرقيون، ويسمون بـ =اليعاقبة+، أو اليعقوبية وهم أتباع يعقوب البراذعي، فهؤلاء يقولون: إن الإنسان مخير.
والآخرون وهم النساطرة، أو النسطوريون؛ نسبة إلى نسطور الذي كان بَطْرِيَرْك القسطنطينية سنة 431 فهؤلاء يقولون بالجبر.
وهناك تشابه كبير بين آراء بعض النصارى كالنساطرة والشرقيين وبين آراء بعض المعتزلة؛ مما حدا بكثير من الباحثين إلى القول بأنَّ آراء المعتزلة مستقاة من النصارى السابقين.
ويؤيد هذا أن أول من أشاع القدر وهو معبد الجهني( ) قد أخذ عن سوسن النصراني كما أشار إلى ذلك الإمام الأوزاعي( ) كما سيأتي عند الحديث عن نشأة القول بالقدر( ).
يقول المستشرق الإيطالي نيلينو: =كان بعض المتكلمين الأولين قد بدأوا تحت تأثير اللاهوت المسيحي في الشرق بطريقة غير مباشرة يبحثون هذا القَدَر، ويحاولون أن يفسروه، بمعنى يوافق اختيار الإنسان وحريته في أفعاله؛ حتى يُمْكِنَ تبريرُ وجود الثوابِ والعقاب في الدارِ الآخرة تبريراً تاماً( ).
وهناك من النصارى من يقرب مذهبه من القول بالتوسط بين الجبر والاختيار، والاعتقاد بعلم الله السابق.
ومن هؤلاء القديس =أوغسطين+( ) الذي لقي عنتاً شديداً من جراء التفكير في موضوع القدر، ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض.
وكان مدار راحته النفسية أنَّ سَبْقَ العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفةٌ لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأنَّ الله عَلِم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدره تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات( ).
ويوافقه على هذا الرأي القديسُ =توماس ألاكويني+( ) ويرى أنَّ الإنسان يقود نفسه، ولا يُقاد كما تُقاد الدواب، وأنَّ الإرادة تتبع العقل، والعقل نعمة من نعم الله على الإنسان.
وغاية التقدير عند توماس ألاكويني كفاية التقدير عند أستاذه القديم أوغسطين( ).
لا يزال فلاسفة العصر يخوضون في مباحث موضوع القدر على تفاوت كبير بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية، ومنهم من يقول بأن الإنسان يشترك في التقدير ويخضع له؛ لأنه _ كما يرون _ جزء من عناصر الطبيعة التي تفعل فعلها في الأحداث الكونية، ولا يقتصر أمرها كله على الانفصال( ).
وحلت الحتمية محل الجبرية القديمة في اصطلاح العلماء.
فالقائلون بالحتمية يقولون بها لأنهم يؤمنون بالنظم الإلهية وحدها، ولا يؤمنون بإرادة إلهية تتعرض لتلك النظم بالتبديل والتحويل.
ومن ثم أصبح القول بالحتمية مناقضاً للجبرية في كلام علماء الأديان؛ لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها في الإله المعبود، أما الحتمية فهي _ في الأقل _ لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التي يفسرون بها حركات الوجود.
ومما يوضح الفرق بينهما أن ضرورة حدوث الأشياء عند الجبريين ضرورة متعالية بمبدأ أعلى منها يسير كما يشاء، وهو قضاء الله وقدره على حين أن هذه الضرورة في نظر الحتميين كامنة في الأشياء سارية فيها وهي الطبيعة بعينها.
وإذا كان بعض الفلاسفة الحتميين يثبتون الحرية الإنسانية فَمَرَدُّ ذلك إلى محاولتهم التوفيق بين حتمية الحوادث النفسية وتلقائية الموجود العاقل( ).
وفيما يلي ذكر لبعض أقوال أكابر الفلاسفة والمفكرين الغربيين المـتأخرين.
1_ ديكارت( ): يقول: إن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة من هذه القوانين، وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد.
ومن تلاميذه من يقول: إن كلَّ شيء حُرٌّ في كل فعل من أفعاله، لكن الله يعلم منذ الأزل ما سيفعله كل أنسان؛ لأنه عليم خبير( ).
2_ سبنيوزا( ): يرى أنَّ كلَّ شيءٍ يقع في الدنيا فلابد أن يقع كما وقع، ولا يتخيل العقل وقوعه على نحو آخر؛ لأنَّ كلَّ شيء يصدر من طبيعة الجوهر السرمدي( ) _ ويعني به الله _.
وما في الدنيا من خير وشر على السواء هو من إرادة الله، ولكنه يبدو لنا شراً؛ لأننا محدودون، وننقص من ناحية، ونتلقى الشر من حيث ننقص.
أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص.
3_ عمانويل كانت( ): كان يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى هنالك عالماً أعلى من عالم المحسوس، هو عالم الحقائق الأبدية.
وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عند الفيلسوف؛ فإن لم نجد لها برهاناً من ترابط الأسباب في التجارب الحسية فيكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية، والتكاليف الأدبية.
ولزوم هذا هو أقوى دليل نستمده من الحس على صدق الإيمان بها، ووجوب العمل على مقتضى هذا الإيمان( ).
4_ هيجل( ): ويتلخص مذهبه كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر أن تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع مِنْ ثَمَّ لقاعدة كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية( ).
5_ شوبنهور( ): ويقوم مذهبه على الإرادة والفكر، ولكن الإرادة _ في نظره _ هي مصدر الشر كلِّه في الكون وفي الإنسان.
والإرادة في الكون توحي إلى إرادة الإنسان أن يستأثر لنفسه بالمتعة ويعاني ما يعانيه من الطلب والكفاح، ولا يزال أسيراً لهذه الإرادة التي تعزله عن ما حوله حتى يخلص إلى عالم الفكرة، فينجو من الأثرة الفردية، وينتقل إلى عالم السكينة والعموم الذي لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.
فكلما كانت هناك إرادة فهناك شر، وكل تقدير _ في رأيه _ فهو على هذا تقديرُ شرورٍ لا يتأتى الفكاك منه بغير الخروج من عالم التقدير( ).
6_ سارتر( ): يرى سارتر وغالب الوجوديين أن الإنسان متفرد بنفسه، وأنه صاحب حرية وإرادة واختيار، ولا يحتاج إلى موجه.
والوجودية عند سارتر هي طاعة النفس، والوجودي في مذهبه هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج.
ويرى أن الوجودية لا تتحقق إلا إذا أطلق لنفسه الرغبات بحيث يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء غير مبالٍ بعرف أو دين.
ومن أقواله في ذلك: =إنك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة من له الحق في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شر وخير إلا إذا خلقتها+( ).
وتحته ستة مباحث:
المبحث الأول: نشأة القول بالقدر
المبحث الثاني: قول القدرية المعتزلة في القدر
المبحث الثالث: قول الجبرية في القدر
المبحث الرابع: قول الصوفية في القدر
المبحث الخامس: قول الأشاعرة في القدر
المبحث السادس: قول الشيعة في القدر
مر بنا أن الإيمان بالقدر أمر فطري، وأنه لم يكن في العرب من ينكر القدر لا في الجاهلية ولا في الإسلام.
وهكذا كان الأمر بعد البعثة النبوية؛ فلم يقع في عهد رسول الله " أي افتراق، أو ابتداع في أمور العقيدة ومنها القدر.
وهذا لا ينافي وقوع بعض الأسئلة التي يأتي جوابها حاسماً من الرسول ".
كما لا ينافي وقوع المخاصمة من جانب اليهود أو المشركين.
وقد مرَّ شيءٌ من ذلك عند الحديث عن مسألة حكم الحديث في القدر.
وبعدما انطوى عهد النبوة، وكثرت الفتوحات، واختلط المسلمون بغيرهم _ ظهرت بدعة القدرية التي تُعد أول شرك في الإسلام.
وكان أول ظهورها في البصرة ودمشق، ولم تظهر في مكة ولا المدينة؛ لانتشار العلم.
وقد ظهرت في أواخر عهد الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبدالله _ رضي الله عنهم _ فاشتد نكيرهم على تلك البدعة وأصحابها( ).
وتكاد مصادر أهل السنة تجمع على أن أول من تكلم بالقدر رجل من أهل البصرة يعمل بقالاً ويقال له: =سنسويه+، وبعضهم يسميه =سيسويه+، وبعضهم يسميه =سوسن+.
ثم تلقفها عنه معبد الجهني، وأخذ عن معبد غيلان الدمشقي( ).
قال الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام ×: =أو من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: =سوسن+ كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد+( ).
وبعد معبد وغيلان ظهر رؤوس الاعتزال كواصل بن عطاء( )، وعمرو ابن عبيد( )، فنقلوا هذه المقالات ونشروها _ كما سيأتي بيان ذلك عند الحديث عن القدرية _.
والمقصود بالكلام في القدر في بداية الأمر إنما هو نفي القدر.
هذا هو المشهور من الأقوال في بداية القول بالقدر، ويشهد على ذلك ما جاء في قصة الحديث المشهور _ حديث جبريل _ في صحيح مسلم، فقد روي عن يحيى بن معمر قال: =كان أول من قال في القدر معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله " فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد؛ فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سَيَكِل الأمر إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتَقَفَّرون( ) العلم (وذكر من شأنهم) وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأنَّ الأمرَ أُنف.... + الحديث( ).
وهذا يفيد أن معبداً هو أول من قال بالقدر، وقبل ذلك تبين من كلام الأوزاعي أن معبداً أخذه عن النصراني سنسويه، أو سيسويه، أو سوسن.
وقد يكون من المحتمل أن أساس الفكرة كان عند ذاك الرجل النصراني الذي تظاهر بالإسلام، ولكنه لم يستطع أن يجاهر بها؛ لعدم ثقة الناس به، فتلقاها عنه معبد ونشرها، فاشتهرت عنه( ).
فهذا هو القول الأرجح في نشأة القول بالقدر.
وهناك قولان آخران في هذا الشأن:
أحدهما: أن أول ما حدث القول بالقدر بالحجاز قبل معبد الجهني، وأن ذلك وقع لما احترقت الكعبة لما كان عبدالله بن الزبير _ رضي الله عنهما _ محصوراً بمكة؛ فقال أناس: احترقت بقدر الله _ تعالى _ وقال أناس: لم تحترق بقدر الله( ).
والقول الآخر: أن أول من نادى بالقدر في الشام عمرو المقصوص وكان عمرو هذا معلماً لمعاوية الثاني، وهو معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فأثر فيه كثيراً، فاعتنق أقواله في القدر، حتى إنه لما تولَّى الخلافة كان عمرو هذا هو الذي أثر فيه؛ فاعتزلها حتى مات، ووثب بنو أمية على عمرو المقصوص، وقالوا: أنت أفسدته، ودفنوه حياً.
وهذا القول _ كما يقول د. عبدالرحمن المحمود حفظه الله _: =ضعيف؛ لأن معاوية بن يزيد كان رجلاً صالحاً، وعمرو المقصوص لم أجد مَنْ ذكر قصته من المؤرخين غير ابن العبري+( ).
وهكذا نشأ القول بالقدر، وضل بسببه فرق شتى، وكان منشأ ضلالهم كثرة الجدل، وتقديم العقل على النقل، والنظر إلى النصوص بعين عوراء.
وكردَّة فعل للقدرية النفاة ظهر أناس غلو في الإثبات؛ حيث نشأ في آخر عهد بني أمية أقوام قالوا بالجبر، وزعموا أنَّ العبد ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة.
وأول من أظهر هذا القول الشنيع: الجهم بن صفوان( )، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة، وضلال كبير( ).
هذه هي بدايات القول بالقدر، وقبل الدخول في تفاصيل أقوال الفرق في القدر يحسن تحديد الخلاف في القدر بإيجاز، فالخلاف فيه يدور حول أمرين:
أحدهما: ما يتعلق بالله _ تعالى _ وذلك في مراتب القدر الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق التي يثبتها أهل السنة لله _ تعالى _.
الثاني: ما يتعلق بالعبد: هل له إرادة ومشيئة أَوْ لا؟ وهل له قدرة أَوْ لا؟ وهل هو فاعل لفعله حقيقة أَوْ لا؟
والطوائف ما بين غالٍ في إثبات القدر لله إلى حد أن قالوا بالجبر ونفي القدرة والإرادة عن العبد، ومُفرطٍ في القدر إلى حدِّ نفي بعضه عن الله، وإثباته للعبد.
وأهل السنة وسط بين هاتين الطائفتين( ).
وهذا ما سيتبين في المباحث التالية، حيث سَيَرِد ذكرٌ لأقوال بعض الفرق التي ضلت في هذا الباب.
القدرية: هم أتباع معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وأتباع واصل ابن عطاء، وعمر بن عبيد من المعتزلة، ومن وافقهم، هؤلاء هم القدرية.
وسموا قدرية _ كما يقول ابن قتيبة × _: =لأنهم أضافوا القدر إلى أنفسهم، وغيرهم يجعله له _ تعالى _ دون نفسه، ومُدَّعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره+( ).
وقولهم في القدر: إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله_ تعالى _ وقدرته في ذلك أثر.
ويقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقةً لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ويقولون: إن الذنوب الواقعة من العباد ليست واقعة بمشيئة الله.
وقالوا: =نحن نفعل ما لا يريد الله _ تعالى _ ونقدر على ما لا يقدر+( ).
وغلاتهم ينكرون أن يكون الله قد علمها، فيجحدون مشيئته الشاملة، وقدرته النافذة، ولهذا سموا مجوس هذه الأمة؛ لأنهم شابهوا المجوس الذين قالوا: إن للكون إلهين: إلهَ النور: وهو خالق الخير، وإلهَ الظلمة: وهو خالق الشر.
=وقد وردت أحاديث في السنن وغيرها عن النبي " في ذم القدرية، ووصفهم بأنَّهم مجوس هذه الأمة.
وهي وإن كانت لا تخلو من مقال إلا أن بعضها يصل إلى درجة الحسن، وبعضها يقوي بعضاً+( ).
ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله " قال: =لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يحشرهم معه+( ).
وما جاء عن جابر بن عبدالله _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله" =إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم+( ).
كما وردت آثار كثيرة من السلف في ذم القدرية، وكتب العقيدة مليئة بذلك، ومنها كتاب القدر للفريابي؛ حيث ساق آثاراً كثيرة في هذا الصدد، منها ما أخرجه بسنده عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال: =ما غلا أحد في القدر إلا وخرج من الإيمان+( ).
وأخرج بسنده عن أبي الزبير المكي أنه قال:= كنت أنا وطاووس نطوف بالبيت، فذكر أن معبداً الجهني تكلم في القدر، وكان أول من تكلم في القدر فعدلت إليه، فقال له طاووس: أنت المفتري على الله، فقال: إنه يُكْذَب علي، قال، فانصرفنا إلى عبدالله بن عباس، فذكر ذلك له، فقال ابن عباس: أروني منهم إنساناً، فوالله لا تُرونيه إلا جعلت يدي في رأسه فلا أفارقه حتى أدق عنقه+( ).
وروى بسنده عن أرطاة بن المنذر قال: =سمعت أنه يُقال: ما فتشت قدرياً إلا وجدته ملطوماً بحمقه+( ).
والقدرية جعلوا لله شريكاً، بل شركاء في خلقه، فزعموا أن العباد يخلقون أفعالهم.
ومنشأ ضلال هؤلاء في البداية أنهم أرادوا تنزيه الله _ عز وجل _ عن الشر، ورتبوا على نفيهم الأفعالَ القبيحةَ عن الله قولهم: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم؛ فوقعوا في نفي القدر.
وقد استدلوا على مذهبهم استدلالاً أعور ببعض الآيات، ومن ذلك ما يلي:
1_ استدلالهم بالآيات الدالة على إثبات المشيئة للعباد: كقوله _تعالى_: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ] سورة التكوير:28، وقوله: [فمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] سورة الكهف:29.
وقوله _ عز وجل _: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] سورة المدثر:37.
وغيرها من الآيات الدالة على إثبات المشيئة للعباد، فقالوا: لو لم تكن أفعالهم لما علق مشيئتهم عليها.
2_ واستدلوا بالآيات التي تبين أن العباد هم الذين يؤمنون ويكفرون، ويطيعون ويعصون، كما في قوله _ تعالى _:[وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى] سورة الإسراء:94، وقوله _ تعالى _:[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ] سورة البقرة:28، وقوله _ تعالى _:[وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] سورة النساء:39، وقوله _ تعالى _:[لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] سورة آل عمران:71.
قالوا: كيف يكون الله خالقاً لأفعال العباد مع أن هذه الآيات تنص على أنهم هم الذين يؤمنون، ويكفرون، ويلبسون الحق بالباطل؟
فلو لم تكن أفعالهم حقيقة لما عاتبهم، وذمهم على ترك الإيمان، وفعل الكفر.
3_ وكذلك استدلوا على آيات الجزاء كما في قوله _ تعالى _:[جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] سورة السجدة:17، وقوله _ تعالى _:[جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] سورة التوبة:82.
قالوا: ولو لم يكن العباد هم العاملين والخالقين لأفعالهم، والصانعين لها لكان هذا الكلام كذباً، وكان الجزاء على ما يخلقه فينا ضعيفاً.
4_ واستدلوا بمثل قوله _ تعالى _:[صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] سورة النمل:88.
ووجه استدلالهم أن الله بين في هذه الآية أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الإحكامَ، والحسنَ جميعاً، ومعلومٌ أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود، والتنصر، والتمجس، وليس شيء من ذلك متقناً؛ فلا يجوز أن يكون الله خالقاً لها( ).
ومن أقوالهم في هذا قول عبدالجبار الهمذاني( ):=اتفق أهل العدل على أن أفعال العباد مِنْ تصرفهم، وقيامهم، وقعودهم حادثةٌ من جهتهم، وأن الله _ جلَّ وعزَّ _ أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا مُحدثَ سواهم، وأن من قال: إن الله _ سبحانه _ خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه+( ).
والإنسان عند المعتزلة =يجوز أن يُفْني فعل الله _ تعالى _ الذي هو القدرة بفناء الحياة بأن يقتل نفسه، ويجوز أن يبطل فعل الغير للسكون بتحريك المحل+( ).
هذا هو خلاصة مذهب المعتزلة مع ملاحظة أنهم يختلفون في بعض التفصيلات حول القدر، ولكنَّ ما ذُكِرَ هو ما أجمعوا عليه.
والمتأمل في كلامهم، وأقوالهم يجد من التناقض، والتعارض، وقِصَرِ النظرِ الشيءَ الكثير( ).
هذا وقد مر بنا شيء من الرد على ذلك عند الحديث عن مرتبتي الخلق والمشيئة، وعند الحديث عن خلق أفعال العباد، وعند الحديث عن أن الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وعند خلق الشر والحكمة منه، وعند الحديث عن الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها، ويكفي في الرد عليهم قوله _ تعالى _: [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] سورة الصافات:96.
فأفعال العباد خلق لله، وكسب للعباد؛ فهي من الله خلقاً وإيجاداً، وهي من العباد فعلاً وكسباً( ).
هذا وسيأتي _ إن شاء الله _ مزيد بيان لبطلان مذهب القدرية عند مناقشة قولهم وأدلتهم في المبحث الثاني من الفصل الرابع.
الجبرية أو المجبرة: هم الذين غلوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعباد قدرة، أو إرادة، أو اختيار؛ فيرون أن العباد مجبورون على أفعالهم، وأن العبد كالريشة في مهب الريح، وإنما تنسب إليه الأفعال مجازاً، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح؛ فأنكروا قدرة العباد، واختيارهم، واتهموا ربهم بالظلم، وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتهموه بالعبث، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي( ).
وأهم الفرق التي حملت لواء الجبر، حتى كاد يصير علماً عليها فرقة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الذي استقى تعاليمه من أستاذه الجعد ابن درهم( ) الذي كان يقول بالجبر.
ولكن ذلك اشتهر عن تلميذه الجهم( ).
وقد نقلت كتب المقالات أقوال الجهم في القدر، فيقول البغدادي( ) عن الجهم: =وقال: لا فعل، ولا عمل لأحد غير الله _ تعالى _.
وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال: طلعت الشمس، ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين، أو مستطيعين لما وُصِفتا به+( ).
ويقول الشهرستاني( ) عن الجهم: =ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار.
وإنما يخلق الله _ تعالى _ الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجماد، وتنسب إليه الأفعال مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الشجر، وطلعت الشمس، وغربت، وتغيمت السماء، وأمطرت، واهتزت الأرض، وأنبتت إلى غير ذلك.
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر.
قال: وإذا أثبت الجبر فالتكليف _أيضاً_ كان جبراً+( ).
هذا هو مذهب الجهم، وواضح ما في مذهبه من جبر خالص يجعل الإنسان في أعمال كورقة الشجر التي تحركها الرياح.
لكن مع هذا فإن الأشعري( ) في المقالات يذكر رأي الجهم في القدر لكن مع اختلاف يسير عما ذكره البغدادي والشهرستاني.
يقول الأشعري عن الجهم بأنه زعم =أنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز.
كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس.
وإنما فعل ذلك بالشجر والفلك والشمس _ سبحانه _ إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل، واختياراً له منفرداً بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً، ولوناً كان به متلوناً+( ).
هذا هو مذهب الجهمية الجبرية ومن وافقهم.
وقد استدلوا بآيات من القرآن الكريم، وبالعقل، وأهمها( ):
1_ الآيات التي تدل على أن الله خالق كل شيء: مثل قوله _تعالى_: [ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] سورة الأنعام:102.
وقوله _تعالى_: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]سورة الزمر:62.
وقوله: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ] سورة فاطر:3.
فهذه الآيات تدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه لا خالق إلا هو، وأفعال العباد شيء؛ فالله خالقها وحده، ومن ثم فلا قدرة، ولا إرادة للعباد في أفعالهم؛ فهم مجبورون غير مختارين( ).
2_ الآيات التي تثبت المشيئة لله وحده، وأنه لا مشيئة للإنسان إلا تحت مشيئة الله: كقوله _تعالى_: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] سورة القصص:68.
وقوله _تعالى_: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً] سورة الإنسان:30.
وقوله _عز وجل_: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] سورة التكوير:29.
وقوله _تعالى_: [كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] سورة المدثر:31.
وغيرها من الآيات في هذا السياق؛ فهم يرون أن الإنسان إذا كان مسلوب الإرادة، والله هو الذي يشاء ويريد، ويهدي ويضل _ فهو الخالق لأعمال العباد، وهم مجبورون لا إرادة لهم، ولا مشيئة، ولا خلق( ).
3_ ويستدلون بالآيات التي تنفي الفعل عن العبد، وتثبته لله: كقوله _تعالى_: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى].
وقوله _ عز وجل _: [إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً] سورة النساء:78.
فهذه الآيات وما جرى مجراها _ عندهم _ نص في أنَّ الإنسان لا إرادة له ولا فعل( ).
4_ واستدلوا بالعقل فقالوا: إن الله عَلِمَ وأراد أزلاً وجود أفعال العباد، وتعلقت قدرته بوجودها فيما لا يزال؛ فما وقع من أفعال العباد فهو بقضاء الله وقدرته، والعباد مجبورون عليها( ).
الصوفية وخصوصاً غلاتهم غلوا في الجبر خصوصاً =ممن يزعمون الترقي في مقام الشهود للحقيقة الكونية، والربوبية الشاملة، فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم، وكفر، وفسوق هو طاعة محضة؛ لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره، وكل ما قضاه وقدَّره فهو محبوب لديه، مرضي عنه؛ فإذا كان قد خالف أمر الشرع بارتكابه هذه المحظورات فقد أطاع إرادة الله ونَفَّذَ مشيئته، فمن أطاع الله وقضاءَه وقدرَه هو كمن أطاعه في أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله+( ).
=ومِنْ ثَمَّ فلا لوم، ولا تثريب، بل الكل مطيع بفعله لإرادة ربِّه، فصححوا بذلك إيمان فرعون وعبدة العجل، واليهود، والنصارى، والمجوس+( )، كما صرح بذلك ابن عربي( ) الصوفي بقوله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلان وديرٌ لرهباني
وبيتٌ لأوثان وكعبةُ طائفٍ
وألواح توراةٍ ومصحفُ قرآن
أدين بدين الحبِّ أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني( )
وكقول عبدالكريم الجيلي( )، وهو من أهل وحدة الوجود:
وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى
ومالي عن حكم الحبيب تنازعُ
فطوراً تراني في المساجد راكعاً
وأني طوراً في الكنائس راتعُ
إذا كنتُ في حكم الشريعة عاصياً
فإني في علم الحقيقة طائعُ( )
وكما قال أحدهم:
أصبحت منفعلاً بما يختاره
مني ففعلي كله طاعاتُ
وهذا المذهب من أخبث المذاهب، ولا يُشَك بكفر أصحابه، بل هو من أقبح أنواع الكفر.
قال شيخ الإسلام: =فإن من احتج بالقدر، وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات، ولم يفرق بين المأمور، والمحظور، والمؤمنين، والكفار، وأهل الطاعة، وأهل المعصية _ لم يؤمن بأحد من الرسل، ولا بشيء من الكتب، وكان عنده إبليس وآدم سواء، ونوح وقومه سواء، وفرعون وموسى سواء، والسابقون الأولون وكفار مكة سواء+( ).
يرى جمهور الأشاعرة ومتأخروهم أن الله _ عز وجل _ خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكنهم يقولون: =إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله _تعالى_ وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله _سبحانه_ أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً؛ فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما؛ فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد.
والمراد بكسبه إياه: مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك من تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له+( ).
فهم _ إذاً _ يرون أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله _تعالى_ وهي كسب للعباد.
وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل.
وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة؛ لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين من قول الجبرية الجهمية؛ فهم أرادوا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية؛ فجاءوا بنظرية الكسب، وهي في مآلها جبرية خالصة؛ لأنها _كما مر_ تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير( ).
ولهذا اشتهر المذهب الأشعري _ بناءاً على مقالتهم تلك _ بنظرية الكسب التي صارت علماً عليهم، فما معنى الكسب عندهم؟
للكسب عندهم تعريفات أهمها:
1_ أنه ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به( ).
2_ أنه ما يقع به المقدور في محل قدرته( ).
3_ أنه ما وجد بالقادر، وله عليه قدرة محدثة( ).
ويضرب بعضهم للكسب مثلاً =في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ، ويقدر آخر على حمله منفرداً به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك من كونه حاملاً.
كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله، ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد قدر عليه، وَوُجِدَ مقدوره؛ فوجوده على الحقيقة بقدرة الله _تعالى_ ولا يخرج _ مع ذلك _ المُكْتَسبُ من كونه فاعلاً، وإن وجد الفعل بقدرة الله _تعالى_+( ).
وهكذا تؤول هذه النظرية جبرية خالصة _كما مر_، ويبقى الخلاف بينهم وبين الجبرية خلافاً لفظياً بل طريقتهم أكثر غموضاً.
أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة عن فهمها فضلاً عن إفهامها غيرهم، ولهذا قيل:
مما يقال ولا حقيقة تحته
معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عنـ
ـد البهشمي وطفرة النَّظَّام( )
وقد دار حول الكسب جدال طويل، ولم ينته الأشاعرة فيه إلى قول مستقيم( ).
ومن الأشاعرة من يرى أن الفعل واقع بقدرة العبد، وأن العبد له كسب، وليس مجبوراً، وهذا هو قول الباقلاني( ).
يقول ×:= ويجب أن يعلم أن العبد له كسب، وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية؛ لأنه _ تعالى _ قال: [لَهَا مَا اكْتَسَبَتْ] سورة البقرة: 286، يعني من ثواب طاعةٍ، [وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] سورة البقرة: 286، يعني من عقاب معصية.
وقوله: [ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس] الروم:41، وقوله: [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيْبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] سورة الشورى:30، وقوله: [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً] سورة فاطر: 45.
ويدل على صحة هذا أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبراً، وسائر بدنه عند وقوع الهم به، أو الارتعاش وبين أن يحرك هو عضواً من أعضائه قاصداً إلى ذلك باختياره؛ فأفعال العباد هي كسب لهم، وهي خلق الله _ تعالى _ فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يُقال لله _ تعالى _ إنه مكتسب، كذلك لا يُقال للعبد: إنه خالق+( ).
ليس للشيعة مذهب خاص بهم,وإنما أفردوا في هذا البحث لأن كثيراً منهم وممن يكتب عنهم يخطؤون في نقل مذهبهم في القدر؛نظراً لاختلاف متقدمي الشيعة عن متأخريهم.
وأفضل من وضح حقيقة مذهبهم شيخ الإسلام ابن تيمية × فقد قال في معرض رده على صاحب =منهاج الكرامة+ عند عرضه لمذهب أهل السنة والإمامية في الإمامة( ): =إن إدخال مسائل القدر والتعديل, والتجوير في هذا الباب كلام باطل من الجانبين؛ إذ كل من القولين قد قال به طوائف من أهل السنة والشيعة؛ فالشيعة فيهم طوائف تثبت القدر, وتنكر مسائل التعديل والتجوير, والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فيهم طوائف تقول بما ذكره من التعديل والتجوير كالمعتزلة وغيرهم+( )
ويقول:=ولكن هذه مسألة القدر, والنزاع فيها معروف بين المسلمين؛ فأما نفاة القدر _ كالمعتزلة _ وغيرهم, فقولهم هو الذي ذهب إليه متأخرو الإمامية.
وأما المثبتون للقدر, وهم جمهور الأمة وأئمتها, كالصحابة والتابعين لهم بإحسان, وأهل البيت وغيرهم _ فهؤلاء تنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته, والظلم الذي يجب تنزيهه عنه, وفي تعليل أفعاله وأحكامه ونحو ذلك+( )
=وهذا الكلام الدقيق الذي ذكره ابن تيمية يؤيده ما في كتب الشيعة,وما في كتب المقالات من بيان لمذهبهم في القدر.
وخلاصة أقوالهم أن متقدميهم منهم من يوافق أهل السنة,وفيهم من يوافق المعتزلة.
أما متأخروهم فأغلبهم معتزلة سواء كانوا رافضة,أو زيدية+( )
وأبوالحسن الأشعري × ذكر في =مقالات الإسلاميين+:أن الرافضة اختلفوا في أعمال العباد هل هي مخلوقة؟ على ثلاثة فرق:
=فالفرقة الأولى منهم، وهو هشام بن الحكم( ):يزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله.
وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول:إن أفعال الإنسان اختيار له من وجهٍ، اضطرار من وجه؛ اختار( ) من جهة أنه أرادها واكتسبها, واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليها.
الفرقة الثانية منهم: يزعمون أنه لاجبر كما قال الجهمي, ولا تفويض كما قالت المعتزلة؛ لأن الرواية عن الأئمة _ زعموا _ جاءت بذلك,ولم يتكلفوا أن يقولوا في أعمال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئاً.
والفرقة الثالثة منهم: يزعمون أن أعمال العباد غير مخلوقة لله, وهذا قول قوم يقولون بالاعتزال والإمامية+( )
ويعلق شيخ الإسلام ابن تيمية × على ما نقله الأشعري من أقوال الرافضة في القدر فيقول:=والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك؛ لتنازع سائر الناس.
لكنهم فرع على غيرهم في هذا أو غيره ؛ فإن مثبتيهم تبع للمثبتة, ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة؛ فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشاركهم فيه أحد من طوائف الأمة.
وأما ما يتكلمون به في سائر مسائل العلم: أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس,فيتكلمون به,وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع؛ إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين+( )
وهذا الكلام العلمي الدقيق الرصين العادل تشهد له كتب الشيعة نفسها؛ فهذا الشيخ المفيد( )يقول في أوائل المقالات في المذاهب المختارات:=أقول: إن الخلق يفعلون, ويُحْدثون, ويخترعون, ويصنعون, ويكتسبون, ولا أطلق عليهم القول بأنهم يَخْلُقون, ولا لها خالقون....
وعلى هذا القول إجماع الإمامية, والزيدية, والبغداديين من المعتزلة والمرجئة, وأصحاب الحديث+( )
ويقول محمد رضا المظفر _ وهو شيعي معاصر _:=واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار _ عليهم السلام _ وأن الأمر بين الأمرين, والطريق الوسط بين القولين الذي يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام, ففرط منهم أقوام, وأفرط آخرون....
فقد قال إمامنا الصادق _ عليه السلام _ لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: =لاجبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين+.
ما أجل هذا المغزى, وما أدق معناه, وخلاصته أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة, ونحن أسبابها الطبيعية, وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله _ تعالى _ وداخلة في سلطانه+( )
ويلحظ أن كلام المظفر هذا موافق لأهل السنة, مخالف لغيره من الشيعة.
أما الزيدية فهم _ كما يقول د.عبد الرحمن المحمود _ في الغالب معتزلة, وكبار المعتزلة منهم, والمذهب المعتزلي عُثر على كثير من تراثه عند الزيدية في اليمن مثل مؤلفات عبد الجبار الهمذاني, وغيرها.
يقول أحد أئمتهم وعلمائهم: =فصل:فإن قيل:أَرَبُّك عدل حكيم؟ فقل:أجَلْ؛ فإنه لايفعل القبح, ولا يخل بالواجب عليه من جهة الحكمة.
فإن قيل: هل ربك خلق أفعال العباد؛ فقل: لايقول ذلك ألا أهل الضلال والعناد+( ) .
وخلاصة القول أن الشيعة عموماً فيهم من يقول بقول أهل السنة وإن كانوا في الغالب على مذهب المعتزلة, وهذا يكثر في الرافضة الزيدية خاصة المتأخرين منهم, علماً بأن المعتزلة يخالفون الشيعة في بعض المسائل كالإمامة.
وعلى هذا فمقالات الشيعة داخلة ضمن المقالات الأخرى التي سبق عرضها( ).
وتحته تمهيد، وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: المناقشة الإجمالية لأقوال الفرق
المبحث الثاني: مناقشة قول المعتزلة القدرية
المبحث الثالث: مناقشة قول الجبرية
تمهيد
قبل الشروع في مناقشة أقوال الفرق يحسن التنبيه على الأمور التالية:
1_ أن الأقوال في القدر ترجع إلى قولي: القدرية والجبرية، وإن كان هناك بعض الاختلاف اليسير كنظرية الكسب عند الأشعرية.
2_ أن فهم القدر على الوجه الصحيح يغني عن كثرة التفصيل في الرد.
3_ أن تصور بعض الأقوال المخالفة في القدر كافٍ في الرد عليها؛ إذ فسادها يغني عن إفسادها.
4_ أن أدلة بعض الفرق تكفي في هدم بعضها بعضاً _ في الغالب _( ).
5_ أن كثيراً من أوجه الرد التي تبين بطلان هذه المذاهب قد مرت عرضاً في كثير من المباحث.
6_ وبناء على ما مضى فإن مناقشة الأقوال لن تطول وستتركز على قولي القدرية والجبرية.
أولاً: جاءت أدلة الجبرية؛ لتثبت أن الله خالق أفعال العباد، وأن العباد لا قدرة لهم، بل هم مجبورون على أعمالهم.
وهذا فيه حق من جانب، وباطل من جانب، وأدلتهم تؤيد ما في مذهبهم من حق وهو أن الله خالق أفعال العباد.
أما دعوى الجبر فمردودة بالأدلة الأخرى التي استدل بها المعتزلة.
ثانياً: جاء المعتزلة _ بالمقابل _ بأدلة؛ لتثبت أن العباد خالقون لأفعالهم، وأن الله غير خالق لأفعال العباد.
وهذا _ أيضاً _ فيه حق وباطل؛ فإثبات أن العباد لهم إرادة ومشيئة داخلة تحت مشيئة الله، وأن أعمالهم هي أفعالهم حقيقة _ هذا حق تؤيده أدلتهم.
وأما دعوى أن الله غير خالق لأفعال العباد فذلك باطل ترده أدلة الجبرية.
ثالثاً: كل دليل من أدلة الجبرية هو رد على أدلة المعتزلة القدرية، وكل دليل من أدلة المعتزلة القدرية هو رد على أدلة الجبرية.
لذلك حاول الأشاعرة أن يتوسطوا بين الفريقين، فقالوا: إن الله خالق أفعال العباد، وهي منهم كسب.
لكنهم _ وإن قربوا أكثر من أهل السنة _ لم يحالفهم التوفيق في مذهبهم هذا؛ لأنهم أثبتوا للعبد قدرة غير مؤثرة، وسموها كسباً؛ فمال مذهبهم إلى الجبرية كثيراً.
رابعاً: أن المذهب الحق الذي يؤيده العقل، ومجموع الأدلة _ هو خلاصة القول الحق في كل مذهب من هذه المذاهب( ).
1_ أن استدلالهم بالآيات التي تثبت المشيئة للعباد حق، ولكن هذه الآيات وغيرها كثير يدل على إثبات المشيئة لله _ عز وجل _.
فأدلتهم معارضة بأدلة الجبرية التي ساقوها لإثبات مشيئة الله.
ونحن نثبت للعبد مشيئة وإرادة يختار بها، وقدرة يفعل بها، ولكنها خاضعة لمشيئة الله وإرادته وقدرته.
قال _ تعالى _:[لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] سورة التكوير:28_29
2_ أن الآيات التي ساقوها في بيان أن العباد هم الذين يؤمنون، ويكفرون، ويطيعون، ويعصون حق لا مرية فيه؛ فالعبد فاعل لفعله حقيقة.
ولكن ذلك لا يدل على استقلاله في الفعل؛ فالزعم بأنَّ ذلك يدل على أن لا يكون الله هو الخالق لأفعال العباد هو الباطل الذي نرده ونمنعه؛ لأنه لا تعارض بين الأمرين؛ فالعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم؛ فهي من الله خلق وإيجاد، وهي منهم فعل وكسب.
ولهذا يذمون على القبيح ويعاقبون، ويحمدون على الحسن ويثابون.
3_ أما استدلالهم بالآيات التي تدل على ترتيب الجزاء على الأعمال _ فإن ذلك قد ضلت فيه القدرية والجبرية، وهدى الله له أهل السنة؛ فإن الباء المنفية في قوله ":=واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله+( ) غير الباء المثبتة في قوله _تعالى_:[جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]سورة السجدة:17.
فالأولى المنفية هي باء العوض والثمنية وهي أن يكون العمل كالثمن لدخول الجنة كما زعمت المعتزلة؛ حيث يرون أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله.
وليس الأمر كذلك، بل برحمة الله وفضله.
والثانية المُثْبَتة هي الباء السببية؛ فالعاملون يدخلون الجنة بسبب أعمالهم، والله _ عز وجل _ خالق الأسباب والمسببات؛ فرجع ذلك كله إلى محض فضله ورحمته.
4_ وأما استدلالهم بقوله _ تعالى _ [صُنعَ اللهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ] سورة النمل:88، على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله بحجة ما يقع منهم من الفساد والمخالفة فباطل؛ ذلك أن معنى الآية أن الجبال صنع الله _تعالى_ وهو _ سبحانه _ أتقن كلَّ شيء، أي أتقن كلَّ ما خلق، وأحكمه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع؛ [إِنَّهُ خَبِيْرٌ بِمَا تَفْعَلُوْن] سورة النمل:88، تعليلٌ لما قبلها من كونه صنع ما صنع، وأتقن كلَّ شيء.
ومعناها: أنه عليم بما يفعل عباده من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.
أما ما يقع من الكفر والمعاصي والقبائح فقد قدرها _ سبحانه _ أزلاً، ولو شاء ألا توجد ما وجدت.
والعباد هم الفاعلون لها، وهي منسوبة إليهم، وهي مخلوقة لله، ولكنه _ عز وجل _ لم يجبرهم عليها، وهم يدركون ذلك من أنفسهم.
والكفر، والتهود، والتنصر، والتمجس وإن كان غير متقن في ذاته، بل هو أعظم الباطل إلا أن الله شاءه لحكم عظيمة مرَّ شيءٌ منها عند الحديث عن الحكمة من خلق المعاصي وتقديرها.
ووجه غلط المعتزلة القدرية وغيرهم في هذا الباب _ كما مر _ هو الخلط بين ما هو خلق لله ينسب إليه، وبين ما هو من مخلوقاته، أو بعبارة أخرى بين فعله ومفعولاته؛ فكونها مقدرة من الله فذلك خير، والله لا يفعل إلا الخير، والشر ليس إليه _ عز وجل _ لأن فعلَه حكمة، وعدل، ورحمة، ولكنها شر من جهة وقوعها من البشر.
وهذا ما تقرر عند الحديث عن نسبة الشر إلى الله _ عز وجل _.
قال ابن حزم( ) ×:=ومن زعم أن الله _ تعالى _ لم يخلق أعمالنا فقد ألحد؛ إذ قد ردَّ قول الله _ عز وجل _:[خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ] سورة الأنعام:101، فزعم أن أشياء كثيرة لم يخلقها الله _ عز وجل _ وهذا تكذيب للقرآن+( ).
وبالجملة فإنَّ مذهب القدرية باطل في الشرع، والعقل والفطر السوية؛ ولهذا لم يستطع منطق القدرية أن يقف في مجال الحجاج مع عوام أهل السنة فضلاً عن علمائهم( ).
1_ أن الآيات التي استدلوا بها على أنَّ الله خالق كلِّ شيء _ دلالتها حق.
ولكن أنَّى لهم أن يثبتوا أن العبد غير قادرٍ ولا مريدٍ ولا فاعلٍ بمشيئته وقدرته ومن أين يفهم من الأدلة التي ساقوها أن العبد ليس هو الفاعل حقيقة، أو أن أفعاله ليست قائمة به؟!
فليس لدى الجبرية دليل صحيح ينفي أن يكون العباد فاعلين لأفعالهم، بل غاية أدلتهم أنها تثبت أن الله خالق، وهذا حق لا يُنكر.
2_ أن استدلالهم بآيات المشيئة، وأنها تثبت المشيئة لله وحده _ حق.
ولكن الآيات نفسها وغيرها كثير تدل على إثبات المشيئة للعباد؛ ولذلك استدل بها المعتزلة على مذهبهم.
وبناء على ذلك فكل من الجبرية والمعتزلة ترد أدلتهم أدلة الطرف الآخر، وبمجموع تلك الأدلة يتبين الحق، وهو إثبات المشيئة للعباد، وكونها واقعة بمشيئة الله تابعة لها.
3_ أما استدلالهم بقوله _ تعالى _:[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] سورة الأنفال:17، وما جرى مجرى هذه الآية، وزَعْمُهم أن ذلك نص في أنَّ الإنسان لا قدرة له ولا إرادة _ فذلك جهلٌ وضلال.
فقوله _ تعالى _:[وَمَا رَمَيْتَ ....] الآية، خطاب للمؤمنين في وقعة بدر؛ حيث أنزل الله ملائكته فقتلوا أعداءه، فلم ينفرد المسلمون بقتلهم، بل قتلتهم الملائكة.
وكذلك لما أخذ الرسول " حفنة من تراب، فرمى بها وجوه المشركين؛ فما من المشركين أحدٌ إلا وأصاب عينيه وفمَه ومنخريه ترابٌ من تلك القبضة، فولوا مدبرين، فقال _ تعالى _[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى].
فأثبت للرسول الرمي وهو الحذف والإلقاء.
أما إيصال ما رمى إلى الوجوه مع بعدها عنه، وإيصال ذلك إلى وجوههم جميعاً _ فلم يكن من فعله، ولكنَّه فعلُ الله وحده.
4_ أما دليلهم العقلي فهو مردود بأن تعلق علم الله وإرادته بأفعال العباد لا يجعلهم مجبورين في أفعالهم؛ لأن علمَ الله أزلاً بأفعالهم، وبأنَّ العبدَ يختارها _ ليس سلباً لاختيار العبد، وإنما هو محقِّق لاختياره.
وهذا معلوم عند كافة العقلاء.
كما أنَّ تعلقَ قدرته _ سبحانه _ بوجودها لا ينافي أن تكون أفعال العباد واقعة بقدرتهم، وأنهم الفاعلون لها.
وبالجملة فكما أنَّ مذهب القدرية المعتزلة مخالفٌ للشرع والعقل والفطرة فكذلك مذهب الجبرية( ).
ولهذا وردت حكايات عن الجبرية تبين أن المعاند في القدر، والقائل في الجبر مغلوب، وحجته داحضة، بل ربما صار أضحوكة لمن قرأ عنه، أو سمع له( ).
وبعد هذا التطواف في مباحث القضاء والقدر _ هذا إجمال لأهم ما ورد في تلك المباحث، وذلك من خلال النقاط الآتية:
1_ الإيمان بالقدر من أهم مباحث العقيدة، فهو ركن من أركان الإيمان، والإيمان به تمام التوحيد، وكتب السلف الصالح في العقيدة اهتمت به، وأطنبت في ذكره، والناس على اختلاف طبقاتهم يشغلهم موضوع القدر؛ لارتباطه بحياتهم اليومية.
2_ الإيمان بالقدر أمر فطري، ومع ذلك فهو أعوصُ أبواب العقيدة، لدقة مسائله، وتشعبها، وكثرة الشبهات المثارة حوله؛ ولهذا لا يمكن أن يفهم إلا بفهم السلف الصالح _ أهل السنة والجماعة _ ولا يمكن لكل أحد أن يفهمه على وجه التفصيل.
3_ القدر هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمُه، واقتضته حكمتُه.
أو: هو علم الله، وكتابته للأشياء، ومشيئته وخلقه لها.
4_ الحديث عن القدر لا يُمنع بإطلاق، ولا يُفتح بإطلاق، بل إن الأمر فيه تفصيل، فإن كان الحديث عن القدر بالمنهج العلمي الصحيح المعتمد على الكتاب والسنة، وكان الحديث عنه مراداً به الوصول إلى الحق _ فإنه لا يمنع ولا يُنهى عنه، بل قد يجب.
وإن كان الحديث عنه خوضاً بالباطل، واعتماداً في فهمه على العقل المجرد أو كان للاعتراض أو التنازع أو التعنت فإنه لا يجوز البتة.
5_ الإيمان بالقدر على الوجه الصحيح يثمر ثمرات جليلة على الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة.
6_ الإيمان بالقدر دلَّ عليه الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
7_ الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى: مراتب القدر وهي العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.
8_ أفعال العباد داخلة في عموم خلقه _ عز وجل _ ولا يخرجها عن ذلك العموم شيء.
9_ التقدير ينقسم إلى خمسة أقسام وهي:
أ_ التقدير العام لجميع الكائنات.
ب_ التقدير البشري: وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على جميع البشر بأنه ربهم، وأنه أشهدهم على أنفسهم بذلك، والذي قدَّر الله فيه أهل السعادة وأهل الشقاوة.
جـ _التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد من لدن نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله.
د _ التقدير السنوي: وهو تقدير ما يجري كل سنة، وذلك ليلة القدر من كل السنة.
هـ _التقدير اليومي: وهو تقدير ما يجري كل يوم، كما قال _تعالى_: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] سورة الرحمن: 29.
10_ الواجب على العبد في باب القدر أن يؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بشرع الله وأمره ونهيه، فعليه تصديق الخبر وطاعة الأمر، فإذا أحسن حمد الله_تعالى _ وإذا أساء استغفر الله _ تعالى _ وعلم أن ذلك بقدر الله، فهذا هو الواجب على العبد، ولا يلزم كل أحدٍ أن يعرف مباحث القدر على وجه التفصيل، كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة؛ فهم لا يوجبون على العاجز ما يوجبون على القادر.
11_ الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وأن يكون له قدرة عليها، بل له مشيئة وقدرة، وهما تابعتان لمشيئة الله وقدرته، واقعتان بها.
12_ فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، بل إن ذلك من تمام الإيمان به.
13_ الاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب لا المعائب.
14_ الإرادة الربانية تنقسم إلى قسمين:
1_ كونية قدرية: وهي مرادفة للمشيئة ولا يخرج عن مرادها شيءٌ أبداً ولابد أن تقع.
2_ شرعية دينية: وتتضمن محبة الرب ورضاه، ولا يلزم وقوعها، فقد تقع وقد لا تقع.
15_ الشر لا ينسب إلى الله _ عز وجل _ فهو منزه عن الشر، ولا يفعل إلا الخير، والقدر من حيث نسبتُه إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ فإنه علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه، وذلك خيرٌ محضٌ، فالشر إنما هو في المقضي لا في القضاء، وفي مفعولات الله لا في أفعاله _عز وجل_.
16_ قد يريد الله أمراً، ويشاؤه، وفي الوقت نفسه لا يحبه؛ لأن المراد نوعان:
1_ مراد لنفسه إرادة الغايات مثل خلق جبريل _ عليه السلام _.
2_ مراد لغيره: فهو وسيلة إلى غيره مثل خلق إبليس، فهو مكروه لله من حيث نفسه وذاته، مراد له _ عز وجل _ من حيث قضاؤه وإيصاله إلى مراده، فهو سبب لحصول محابَّ كثيرة، فيجتمع الأمران بُغْضُه له، وإرادتُه له، ولا يتنافيان.
17_ لله _ عز وجل _ الحكمة البالغة في كل فعل من أفعاله، وقد تظهر لنا الحكمةُ، وقد تخفى، ولا يلزم أن ندرك حكمته _ عز وجل _ في كل شيء، أو أن يدرك ذلك كل أحد.
18_ وجوب الرضا بقضاء الله _ عز وجل _ فيه تفصيل؛ فإن كان ما قُضي وقُدِّر مرضيَّاً لله محبوباً له _ كالإيمان وسائر الطاعات _ رضينا به، وإن كان غير مرضي لله ولا محبوب له _ كالمعاصي والكفر _ فلا نرضى به، فعلينا موافقة ربنا في رضاه وفي سخطه؛ فالدين موافقة ربنا في كراهة الكفر والفسوق والعصيان مع تركها، وموافقته في محبة الشكر والطاعة مع فعلها.
أو يقال: نرضى بالقضاء الذي هو فعل الله _ تعالى _.
وأما المقضي الذي هو فعل العبد _ ففيه تفصيل؛ فإن كان مرضياً لله رضينا به، وإن كان غير مرضي لله لم نرض به.
19_ القدر قدران أحدهما: القدر المثبت أو المبرم؛ وهو ما في أم الكتاب، فهذا لا يتغير ولا يتبدل،والثاني:القدر المعلق أو المقيد وهومافي كتب الملائكة فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات.
20_ الإنسان مخير باعتبار ومسير باعتبار؛ فهو مخيَّر باعتبار أن له قدرة ومشيئة واختياراً، ومسيَّر باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل في القدر راجع إليه، ولكونه لا يخرج عما قدره الله له.
21_ ورد في البحث ذكر لبعض الأخطاء التي تقع في باب القضاء والقدر.
22_ إنكار القدر لم يكن معروفاً عند العرب لا في جاهليتها ولا في إسلامها، وإنما أتاهم ذلك من الأمم الأخرى.
23_ ورد في البحث ذكر لبعض أقوال الطوائف والملل في القدر.
24_ أول من قال بالقدر في هذه الأمة رجل يقال له: سوسن، أو سيسويه، أو سنسويه، وكان نصرانيَّاً فأسلم ثم تنصَّر، وأخذ عنه هذه البدعةَ مَعْبَدُ الجهني، وأخذها عن معبدٍ غيلانُ الدمشقي، ثم تلقفها بعد ذلك رؤوس الاعتزال ونشروها.
25_ ظهرت هذه البدعة أول ما ظهرت في عهد صغار الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وجابر _ رضي الله عنهم _ وقد اشتد نكيرهم على هذه البدعة، وأعلنوا براءتهم منها.
26_ ضل في باب القدر فِرَقٌ عديدة، وقد ورد في هذا البحث ذكر أقوالهم وبيان ضلالهم.
هذا ملخص ما ورد في هذا البحث، وفي الختام أسأل الله _ تبارك وتعالى _ أن ينفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.