الوصف
الخلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة : كتاب باللغة العربية؛ للدكتور سعيد القحطاني - أثابه الله - اشتمل على تعريف الخلق الحسن، وفضائله، وأنواعه.
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللَّه عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً. أمّا بعد:
فهذه رسالة مختصرة في ((الخلق الحسن))، بيّنت فيها تعريف الخلق الحسن، وفضائله، وأنواعه، في اثنين وعشرين مبحثاً على النحو الآتي:
المبحث الأول: تعريف الخلق الحسن.
المبحث الثاني: فضائل الخلق الحسن.
المبحث الثالث: طرق اكتساب الخلق الحسن.
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن.
المبحث الخامس: الجود والكرم.
المبحث السادس: العدل.
المبحث السابع: التواضع.
المبحث الثامن: الإخلاص.
المبحث التاسع: الصدق.
المبحث العاشر: القدوة الحسنة.
المبحث الحادي عشر: العلم النافع.
المبحث الثاني عشر: الحكمة.
المبحث الثالث عشر: السلوك الحكيم.
المبحث الرابع عشر: الاستقامة.
المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب.
المبحث السادس عشر: السياسة الحكيمة.
المبحث السابع عشر: إنزال الناس منازلهم.
المبحث الثامن عشر: الحلم والعفو.
المبحث التاسع عشر: الأناة والتثبت.
المبحث العشرون: الرفق واللين.
المبحث الحادي والعشرون: الصبر.
المبحث الثاني والعشرون: الرحمة.
واللَّه أسأل أن يجعل هذا العمل القليل مباركاً، نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وينفع به من انتهى إليه؛ فإنه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلاّ باللَّه العلي العظيم، وصلى اللَّه وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في عصر يوم الخميس 4/3/ 1431هـ
الخُلْقُ لغةً: السجيّة، والطبع، والمروءة، والدين( ).
وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي: نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة: الخَلْق لصورته الظاهرة، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة( ).
فالخلق: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجةٍ إلى فكر ورويّة، وجمعه:أخلاق. والأخلاق: علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح( )،وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر ثم يستمر عليه حتى يكون ملكةً وخلقاً( ).
أما السلوك: فهو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك( ).
والسلوك: عمل إراديٌّ، كقول: الكذب، والصدق، والبخل، والكرم ونحو ذلك.
فاتّضح أن الخلق حالة راسخة في النفس، وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو: السلوك، فالسلوك: هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخصٍ ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دلّ على خلق حسن، وإن كان السلوك سيئاً دلّ على سلوك قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الحسن يعرف بالأعمال الطيبة( ).
أولاً: الخلق الحسن من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته؛ لقوله : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً))( ).
ثانياً: الخلق الحسن من تخلّق به كان من أحبّ الناس إلى النبي وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة: ((إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً))( ).
ثالثاً: الخلق الحسن يجعل المسلم من خيار الناس مطلقاً، ولا يكون كذلك إلا بالتخلّق بهذا الخلق العظيم، قال النبي : ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً))( ).
وقد أحسن الشاعر إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
رابعاً:الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلّ العطايا والهبات، ؛ ولهذا قال النبي : ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن فإنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفاحِشَ البذِيء))( ).
خامساً: الخلق الحسن يدرك المسلم به درجة الصائم القائم، قال النبي : ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))( ).
سادساً: الخلق الحسن خير من الدنيا وما فيها؛ ولهذا قال النبي لعبد اللَّه بن عمرو: ((أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة))( ).
سابعاً:يحصل بالخلق الحسن: جوامع الخيرات والبركات؛ قال النبي : ((البر حسن الخلق))( ).
ثامناً: الخلق الحسن هو وصية رسول الله إلى جميع المسلمين، فقد أوصى به معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن والياً، وقاضياً، وداعياً إلى اللَّه فقال له: ((.. وخالق الناس بخلق حسن))( ).
تاسعاً: الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن اللَّه أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين . قال اللَّه : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ ( )، وقال : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( )، وقال النبي : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))( ).
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ فقالت: ((.. فإن خلق نبيكم كان القرآن))( ).
عاشراً: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين اللَّه أفواجاً بفضل اللَّه تعالى ثم بفضل حسن خلقه ، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم.
فهذا يُسلم ويقول: ((واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ ))( ).
وذاك يقول: ((اللَّهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))( )، تأثر بعفو النبي ولم يتركه على تحجيره رحمة اللَّه التي وسعت كل شيء، بل قال له: ((لقد تحجَّرت واسعاً)).
والآخر يقول: ((فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ))( ).
والرابع يقول: ((يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة ))( ).
والخامس يقول: ((واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليَّ ))( ).
والسادس يقول: بعد عفو النبي عنه: ((جئتكم من عند خير الناس ))، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير( )، وهناك أمثلة كثيرة جداً.
الحادي عشر: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان يقول في استفتاحه لصلاة الليل: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت..))( )، وكان يقول: ((اللَّهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي))( ).
الثاني عشر: الخلق الحسن يحبّب المسلم إلى الناس جميعاً حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن اللَّه تعالى؛ لأن الدعاة إلى اللَّه لا يَسعَون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق( ).
الثالث عشر:من لم يتخلّق بالخلق الحسن من المسلمين ينفِّر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً. قال للنبي الكريم : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَـهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ( ).
وقال :وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِـمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ ( ).
وقال ممتناً على عباده: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ).
وقال اللَّه تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ ( ) الآية.
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( )، وقال : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ( ).
وقال :يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا *وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَـهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا ( ).
ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه قدوة وإماماً لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّـِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( ).
الرابع عشر:إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليماً نقياً إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام المسلمين بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبـــــــع، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل الدعوة إليه، قال اللَّه : يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( )؛ ولهذا أمر اللَّه بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ ( )، وقال:وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( )، فقدَّم العمل قبل الدعوة إلى الحق.
الخامس عشر:الخلق الحسن يجعل المسلم مستنير القلب،ويفتح مداركه، فيتبصَّر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ( ) الآية.
السادس عشر: الخلق الحسن من أعظم الأسباب التي تُنجي من النار وتُورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم، وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى اللَّه ؛ ولهذا عندما سأل النبي رجلاً فقال له: ((ما تقول في الصلاة)) قال: أتشهّد ثم أسأل اللَّه الجنة وأعوذ به من النار. أما واللَّه! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حَوْلها نُدَنْدِنُ))( )، وهذا يدلّ أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى اللَّه .
السابع عشر:تَكَفَّل النبي ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه، فقال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه))( ).
الثامن عشر: الخلق الحسن أكثر ما يدخل به الناس الجنة: فقد سُئل النبي عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى اللَّه وحسن الخلق))( ).
التاسع عشر: الخلق الحسن من أسباب النجاة من النار: فعن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار،-أو بمن تحرم عليه النار؟- على كُلِّ قريب هيّن سهل))( ).
العشرون: صاحب الخلق الحسن خير أمة محمد ؛ لقول النبي : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))( ).
الحادي والعشرون: الخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفّة، والتواضع، والزهد، والكيِّس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص... وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى اللَّه تعالى وما يتفرّع منه.
الثاني والعشرون: أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى في الفتاوى( )، وقال الإمام ابن القيم - رحمه اللَّه تعالى - في مدارج السالكين: ((حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة))( ).
الأسباب والوسائل التي يكتسب بها الخلق الحسن كثيرة، ولكن من أبرزها على سبيل المثال ما يأتي:
1 - التدريب العملي،والممارسة التطبيقية للأخلاق الحسنة ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى؛ فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، والاستعفاف بالتعفّف، قال : ((ومن يستعفف يعفّه اللَّه ومن يستغن يُغنه اللَّه، ومن يتصبّر يُصبِّره اللَّه))( ).
2 - الغمس في البيئة الصالحة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويعيش مع أهلها، فيكتسب ما لديهم من أخلاق، وعادات، وتقاليد، وأنواع سلوك عن طريق المحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة، ولهذا قيل: إن الطبع للطبع يسرق، وأعظم من ذلك توجيه النبي وبيانه أن الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة( ).
ولاشك أن الرجل على دين خليله، فلينظر كل مسلم من يخالل( )؛ ولهذا قال النبي : ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ))( ).
فروع حسن الخلق كثيرة جداً فهو يشمل: العلم، والحلم، والأناة، والحكمة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل... وهذا مفهوم واسع لا يتسع له هذا المبحث، وسيأتي بعض هذه الأخلاق في المباحث الآتية.
الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي:
1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود.
2- الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس.
3 - الجود براحته، فيجود بها تعباً في مصلحة غيره.
4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود،وهو أفضل من المال.
5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة.
7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبّه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم( ).
8 - الجود بالصبر،والاحتمال،وكظم الغيظ،وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر.
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه.
ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، واللَّه سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، واللَّه المستعان( ).
وكل أنواع الجود والكرم ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها في دعوتهم، ومن الصور العظيمة لتطبيق الجود والكرم ما فعله رسول اللَّه ومن ذلك:
عن أنس قال: ما سئل رسول اللَّه على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة ( ).
وهذا الموقف الحكيم العظيم يدلّ على عظم سخاء النبي ، وغزارة جوده( ).
وكان يعطي العطاء ابتغاء مرضاة اللَّه وترغيباً للناس في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولاً للدنيا ثم - بفضل اللَّه تعالى، ثم بفضل النبي ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكّن من قلبه، فيكون أحب إليه من الدنيا وما فيها( ).
ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر اللَّه دينه والمسلمين، وأعطى رسول اللَّه يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ( ).
وقال أنس : ((إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها))( ).
وإذا رأى النبي الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان يجزل له في العطاء، قال : ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه))( )؛ ولذلك كان ((يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل))( ).
ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين( )، فإنه بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه: ((اجمعوا لها))، فجمعوا لها - من بين عجوةٍ، ودقيقةٍ وسويقةٍ - حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها : ((اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين واللَّه ما رزأناك( ) من مائك شيئاً، ولكن اللَّه هو الذي أسقانا)).
وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى اللَّه ذلك الصرم( ) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا( ).
وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام( ).
وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران:
الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئاً، وهذا من معجزات النبي الّتي تدل على صدق رسالته.
الأمر الثاني: كرم النبي حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعاماً كثيراً.
أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سبباً لإسلامهم( ).
وهذه الأمثلة التي سُقْتُها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي ، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى اللَّه إلى الاقتداء بالنبي والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، واللَّه المستعان.
العدل له مجالات كثيرة لا تحصر منها: العدل في الولاية، والعدل في القضاء، والعدل في تطبيق الحدود، والعدل في المعاملات بين الناس، والعدل في الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والعدل مع الأولاد، والعدل بين الزوجات... وغير ذلك.
ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق العدل المثال العظيم الآتي:
قد كان النبي أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يُضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حدٍّ من حدود اللَّه تعالى.
فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول اللَّه ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبّ رسول اللَّه فأُتِيَ بها رسول اللَّه ، فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول اللَّه فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود اللَّه)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول اللَّه! فلما كان العشي قام رسول اللَّه فاختطب فأثنى على اللَّه بما هو أهله، فقال: ((أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى رسول اللَّه ( ).
إن العدل خلاف الجور، وقد أمر اللَّه به في القول والحكم، فقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( )، وقال: وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ( ).
ولاشك أن هذا الموقف الحكيم وغيره من مواقفه مما يوجب على الدعاة تطبيقها أسوة به ( ).
يقال: تواضع: تذلّل وتخاشع( )، والمراد بالتواضع: إظهار التنزل لمن يراد تعظيمه، وقيل: تعظيم من فوقه لفضله( ).
والتواضع صفة عظيمة وخلق كريم يجب على الدعاة إلى اللَّه تعالى، وغيرهم، ولهذا مدح اللَّه المتواضعين فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( )، أي يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين ولا متكبّرين، ولا مرحين، فهم علماء، حلماء، وأصحاب وقار وعفّة( ).
والدعاة إلى اللَّه تعالى إذا تواضعوا رفعهم اللَّه في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد اللَّه عبداً بعفوٍ إلا عزاً، ومن تواضع للَّه رفعه))( ).
وهذا ما يفتح اللَّه به للداعية قلوب الناس؛ فإن اللَّه يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه في قلوب الناس منزلة ويرفعه عندهم ويجلُّ مكانه( )، أمَّا من تكبر على الناس فقد توعده اللَّه بالذلّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ لأن اللَّه ((العزُّ إزاره، والكبرياءُ رداؤه فمن ينازعه ذلك عذّبه))( ).
وعن أنس قال: كانت ناقة لرسول اللَّه تُسمّى العضباء وكانت لا تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا: سُبِقَتِ العضباء، فقال رسول اللَّه : ((إن حقاً على اللَّه أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه))( ).
ورسول اللَّه هو الأسوة الحسنة للدعاة فقد كان متواضعاً في دعوته للناس، فعن أبي مسعود قال: أتى النبي رجل فكلّمه فجعل ترعُد فرائصه فقال له: ((هوِّن عَليكَ نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)) وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد اللَّه: ((... في هذه البطحاء))، ثم تلا جرير: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ).
أولاً: تعريف الإخلاص:
الإخلاص في اللغة: خَلَصَ يخلص خلوصاً: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصاً: أي نجَّاه، والإخلاص في الطاعة ترك الرياء( ).
وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى اللَّه تعالى وحده.
وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض:
فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة.
وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.
وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه( ).
وعلى ما تقدم: يتضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرب به إلى اللَّه وحده، لا رياءً ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً، وإنما يرجو ثواب اللَّه ويخشى عقابه ويطمع في رضاه.
ولهذا قال القاضي عياض: ((ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك اللَّه منهما))( ).
والإخلاص في حياة الداعية: أن يقصد بإراداته، وأعماله، وأقواله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه اللَّه تعالى وحده لا شريك لـه ولا ربَّ سواه.
ثانياً: أهمية الإخلاص:
لقد خلق اللَّه الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك لـه، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص، قال اللَّه تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ( ).
وقال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا للَّهِ الدِّينُ الْـخَالِصُ( ).
وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَـمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ( ).
وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا( ).
قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا يعلى: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون للَّه، والصواب أن يكون على السنة( ). ثم قرأ قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( ).
وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ( )، فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل للَّه، والإحسان فيه: متابعة رسول اللَّه وسنته))( ).
وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك قال: قال النبي : ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل للَّه، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم))( ).
والإخلاص هو روح عمل الداعية، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهد الداعية وعمله هباءً منثوراً.
والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة اللَّه ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص لـه، والخوف منه، والرجاء لـه، وأعمال الجوارح تبع؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح.
فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً للَّه لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يدعو إلى اللَّه يريد وجه اللَّه - تعالى - كما قال سبحانه: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ( )، وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( ).
والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على الدعاة فيريدوا بدعوتهم وجه اللَّه والدار الآخرة، ويريدوا إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور( ).
ثالثاًً: النية أساس العمل:
النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة( )؛ ولهذا قال النبي : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى...))( ).
وقال اللَّه تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ).
وهذا يدلّ على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى اللَّه وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير والثواب العظيم، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة، ولهذا قال النبي : ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ لـه مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً))( )، وقال : ((ما من امرئٍ تكون لـه صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ لـه أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة))( ).
وقال النبي : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه اللَّه مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً))( ).
وقال الرسول : ((من سأل اللَّه الشهادة بصدقٍ بلّغه اللَّه منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))( ).
وهذا يدل على فضل اللَّه وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه ))، قالوا: يا رسول اللَّه كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العُذر))( ).
وبالنية الصالحة يضاعف اللَّه الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال الرسول لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال: يا رسول اللَّه: أقاتل أو أسلم؟ فقال : ((أسلم ثم قاتل ))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِل، فقال رسول اللَّه : ((عمل قليلاً وأجر كثيراً ))( ).
وجاء رجل إلى رسول اللَّه فدخل في الإسلام، فكان رسول اللَّه يعلّمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خف بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول اللَّه : ((عمل قليلاً وأجر كثيراً)) قالها حماد ثلاثاً( ).
وبالنية الصالحة يبارك اللَّه في الأعمال المباحة فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال رسول اللَّه : ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو لـه صدقة))( )، وقال النبي لسعد بن أبي وقاص : ((إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت عليها حتى ما تجعلُ في فِي امرأتك))( ).
وقال رسول اللَّه : ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه اللَّه مالاً وعلماً فهو يتقي به ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للَّه فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه اللَّه علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه اللَّه مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقاً فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه اللَّه مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء))( ). وقال الرسول فيما يرويه عن ربه: ((إن اللَّه كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنة كاملة...))( ).
رابعاً: طرق تحصيل الإخلاص:
قد عُرِفَ أن الرياء محبط للعمل، وسبب لغضب اللَّه ومقته، وأنه من المهلكات، وأشد خطراً على المسلم من المسيح الدجال.
ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يزيل الرياء، ويحصِّل الإخلاص بإذن اللَّه تعالى ما يأتي:
1 - معرفة أنواع الرياء، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدمت هذه الدوافع والأسباب.
2 - معرفة عظمة اللَّه تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن اللَّه وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويعزّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن اللَّه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له فسيُثمرُ ذلك إخلاصاً وصدقاً مع اللَّه، فلابُدَّ من معرفة أنواع التوحيد كلها معرفة صحيحة سليمة.
3 - معرفة ما أعدَّه اللَّه في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك، وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص.
4 - الخوف من الرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمراً بقي حَذِراً منه فينجو؛ فإن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء بل يجب عليه إذا هاجت رغبته إلى آفة حُبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت اللَّه، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان فلا تفرق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقنع بعلم اللَّه وحده)( ).
وباللَّه وحده ثم بالخوف من حبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد يرفعه إلى النبي : ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ))، قالوا: وما الشرك الأصــغر يا رسول اللَّه؛ قال: ((الرياء، يقول اللَّه لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ))( ).
5- خوف الصحابة ، والتابعين من الرياء؛ ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية:
المثال الأول: قال اللَّه تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ( )، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول اللَّه: أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر ((أو يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه ))( ).
المثال الثاني: قال ابن أبي مُلَيْكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلُّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل))( ).
المثال الثالث: وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّباً))( ).
المثال الرابع: ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق))( ).
المثال الخامس: وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك باللَّه هل سمّاني لك رسول اللَّه منهم - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحداً))( ).
المثال السادس: ويُذكر عن أبي الدرداء أنه قال: ((اللَّهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق)) قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعاً والقلب ليس بخاشع)) ( ).
المثال السابع: ويُذكر عن أبي الدرداء أنه قال: ((لئن أستيقن أن اللَّه تقبَّل لي صلاة واحدة أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن اللَّه يقول: إِنَّـمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ))( ).
المثال الثامن: وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه ، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه))( ).
6 - الفرار من ذمّ اللَّه؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذمّ الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذمّ اللَّه أولى؛ لأن ذمّه شين، كما قال رجلٌ لرسول اللَّه : يا رسول اللَّه إنَّ مدحي زين وذمّي شين، فقال : ((ذاك اللَّه))( )، ولا شك أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط اللَّه سخط اللَّه عليه، وغضب وأسخط الناس عليه، فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فاللَّه أحق أن تخشاه إن كنت صادقاً.
7 - معرفة ما يفرُّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء وأصل البلاء، والشيطان يفر من أمور كثيرة، منها الأذانُ، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة باللَّه منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة( ).
8 - الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خالياً من خشية اللَّه، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في اللَّه بظهر الغيب، واللَّه يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص : سمعت رسول اللَّه يقول: ((إن اللَّهَ يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ))( ).
9 - عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضر ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ اللَّه، والفرح بفضل اللَّه، قال اللَّه : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( )، فيا عبد اللَّه أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص( ).
ويسهِّلُ الزهد في حب المدح والثناء العلم يقيناً أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمّه ويشين إلا اللَّه وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَن كلّ الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب( ).
وانظر إلى من ذمّك فإن يك صادقاً قاصداً النصح لك فاقبل هديته ونصحه فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذباً فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعــــرف، وذكّرك من خطـــاياك ما نسيت، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوت من هذا العيب لم تخلُ من غيره، فاذكر نعمة اللَّه عليك إذ لم يطلع هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفارات لذنوبك إن صبرت واحتسبت، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه وتعرض لمقت اللَّه تعالى، فكن خيراً منه: فاعف واصفح، واستغفر له، قال اللَّه : أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ).
10 - تذكّر الموت وقصر الأمل، قال اللَّه : كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْـمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْـجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ).
قال اللَّه تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ).
11 - الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يبعثون على نياتهم، وخير الأعمال خواتمها.
12 - مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الـجـليس الـمخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله.
13 - الدعاء والالتجاء إلى اللَّه تعالى، وقد علَّمنا رسول اللَّه ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول اللَّه؟ قال: ((قولوا: اللَّهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لِمَا لا نعلمه))( ).
14 - حبّ العبد ذكر اللَّه له، وتقديم حبّ ذكره له على حب مدح الخلق، قال اللَّه : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( )، وقال رسول اللَّه فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))( )، واللَّه المستعان( ).
15 - عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبّة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضبّ والحوت، فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد اللَّه وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه( ).
16 - معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب اللَّه، ورفع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحبّ اللَّه للعبد وحبّ أهل السماء والأرض، والصيت الطيّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، واللَّه الموفق سبحانه( ).
فالداعية الذي يريد نجاح دعوته، والفوز بنجاته ومحبة اللَّه له، عليه أن يعمل جاهداً في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل اللَّه أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير.
أولاً: مفهوم الصدق وأهميته وفضله:
الصدق: مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، وهو ضد الكذب( )، وقيل: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقاً تاماً( )، وقيل: الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه( ).
ولا يخفى ما للصدق من فضل عظيم، وثواب جزيل، ومقام كريم، ومما يدلّ على فضل الصدق، وسموّ منزلته، وعلوّ مكانه أنه من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى: إِنَّ الْـمُسْلِمِينَ وَالْـمُسْلِمَاتِ وَالْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْـخَاشِعِينَ وَالْـخَاشِعَاتِ وَالْـمُتَصَدِّقِينَ وَالْـمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْـحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْـحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَـهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( )، فمن اتصف بهذه الصفات العظام وكانت لباسه وحليته فقد فاز. نسأل اللَّه أن يجعلنا منهم.
ولقد أمر اللَّه عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ويلازموا الصدق في كل الأحوال فهو سبيل النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( ).
ومما يدل على فضل الصدق والصادقين سوء مصير الكذابين وبوارهم، وأن الكذب من علامات النفاق والعياذ باللَّه - تعالى - وفي الصحيحين عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))( )، وفي رواية: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها... )) فذكر الكذب ( ).
والصدق طريق البر والجنة على عكس الكذب الذي هو طريق الفجور والنار والعياذ باللَّه، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: (( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند اللَّه صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كذّاباً))( ).
ثانياً: مجالات الصدق:
أهم مجالات الصدق ثلاثة:
الصدق في القصد بمعنى خلوص النية وصدق العزيمة وثبات الإرادة.
والصدق في القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل واللغو واللَّهو المحرم.
والصدق في العمل بموافقة القول العمل،وموافقتهما هدي الكتاب والسنة.
ومتى بلغ العبد تحقيق الصدق في هذه المجالات كلها على الوجه الأتم الأكمل كان من الصِّدِّيقين، وكانت الحياة حينئذ لا تساوي عنده إلا بقدر ما يتبلغ به المسافر، وكان ما عند اللَّه أحبّ إليه مما في أيدي الناس.
وسأتناول فيما يلي كل واحد من هذه المجالات ببعض البسط.
1 - الصدق في النية والقصد: الصدق في القصد يستلزم إخلاص النية للَّه في الدعوة وفي كل طاعة وقربة، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ولا وجاهة، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه اللَّه والدار الآخرة، يتعلَّم ويعلِّم، ويتوخّى الحق والصدق أينما كان.
2 - الصدق في القول: يستلزم أن لا ينطق الداعي بالباطل أياً كانت صورة هذا الباطل: كذباً، أو شتماً، أو سباباً، أو لعناً، أو فحشاً، أو غيبة، أو نميمة، أو قول الزور.. وبالجملة فهو أبعد الناس عن آفات اللسان. هذا ما يمس حياة الدعاة وسيرتهم الذاتية.
أما في مجال الدعوة فالحال كذلك، فلا يدعو إلا على بصيرة، ومعرفة بالحق ودليله، وبعد تبصّر وتفقّه، فالدعوة لا تصحّ إلا على بصيرة... ولا يعظ الناس إلا بالصادق من القصص والأمثال، ويبتعد عن الكذب، والدجل، والأحلام، والرؤى التي لا يُعرف مصدرها ولا صدقها ولا عدالة صاحبها ولا ثبوتها عنه.. فدين اللَّه مصدره الكتاب والسنة وفهم السلف لهما لا غير، ومتى استبدل الداعي هذين المصدرين بغيرهما - أعني الكتاب والسنة - فقد ضلّ سواء السبيل.
وبالجملة فرائد الدعاة الصادقين توخّي الحق والحق هو ما في الكتاب والسنة منهما يستمدون، ومنهما ينهلون، وعلى هداهما يسيرون، وإليهما يدعون، وفي ساحتهما يتحاكمون.
نسأل اللَّه أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعلنا من أهل الصدق والرشد إنه سميع مجيب.
3 - وأما صدق العمل: فهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه، وقد تقدم في مبحث العمل بالعلم.
ثالثاً: أثر الصدق في حياة المسلم:
الصدق له الآثار الحميدة في حياة المسلمين، ونجاح الدعوة، ومن هذه الآثار الآثار الآتية:
1 - لا يخفى أن للصدق أثره البالغ في مسيرة الدعاة، إذ يظهر الصدق في كلام الداعي، وسمته، ولهجته، وحرارة عاطفته، فيؤثر ذلك في المدعوين، ويترك فيهم انطباعاً عميقاً بمصداقية الفكرة التي يدعو إليها ويؤمن بها.
ولقد كان النبي يحدث الذين يلقونه أول مرة فيقولون: واللَّه ما هذا بوجه كذّاب ولا بكلام كذاب! وإذا كان المسلم مطالباً بالصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد؛ فإن الدعاة إلى اللَّه تعالى من باب أولى وأوجب.
2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد وتقارب القلوب، على عكس الكذب الذي يغرس الضغينة ويرفع الثقة، ويورث الريبة بفعل التلوّن والتغيّر وعدم الثبات الذي يتصف به الكاذب، ومن هذا المنطلق كان من لوازم الصدق ترك كل آفات اللسان: كالهمز، واللمز، والقيل، والقال، وكثرة السؤال.. ومتى تآلفت القلوب وتصافت واجتمعت على محبة اللَّه سرت الدعوة في المجتمع سريان الماء في الزرع، فأمدته بالحياة والنماء والبقاء، ونما في المجتمع - كذلك – الإيمان، واستوثقت عراه وارتفعت أعلامه.
3 - الصدق يزرع في النفوس الثقة والطُّمأْنينة والراحة والأنس، فيركن الناس إلى الدعاة الصادقين، ويثقون فيهم وبهم ويأمنونهم، وتقوية هذه الوشائج بين الدعاة والمدعوين من أهم أسباب نجاح الدعوة، ولا يتحقق ذلك إلا بالصدق.. على عكس الكذب الذي يزرع في النفوس بذور الريبة والشك والحذر، فليس أمر أهل الكذب من الوضوح والثبات بالمكان الذي يألفه الناس ويحبذونه.
ومتى وثق الناس في الداعي لصدقه فتحوا له القلوب فاستمعوا إليه إذا تحدّث وقبلوا إرشاده وتوجيهه إذا وجّه وأرشد وبيّن وحدّث، وتوجهوا إليه يسألون ويستفتون.. وحصل التواصل بينه وبينهم وهي نعمة لا تُقدَّر بثمن ولم تحصل إلا بفضل اللَّه، ثم بفضل الصدق، ونقاء الصفحة، وخلو السيرة من مساوئ الأعمال والأخلاق( ).
أولاً: تعريف القدوة الحسنة:
الأُسوةُ: والإِسوةُ كالقِدوة، والقدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً؛ ولهذا قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّـِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا( )، فوصفها بالحسنة( )، ويقال: فلان قُدوةٌ إذا كان يُقتدى به( ).
والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة: فالأُسوة الحسنة الأسوة بالرسول ، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَــلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( ).
والمقصود من الأُسوة أو القدوة أن يكون الداعية المسلم قدوةً صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قولُهُ فِعلَهُ، ولا فعله قوله.
ثانياً: أهمية القدوة الحسنة:
لا شـــك أن الداعية إلـى اللَّه تعالـى بحاجة شديدة جــداً إلى تطبيق ما يقول ويدعو إليه حتى يقتدي به الناس؛ ولهذا بيّن ابن القيم رحمه اللَّه تعالى هذه المسألة، وشدّد في عدم التزامها حيث قال: ((علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقاً، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء، وفي الحقيقة قطّاع طرق))( ).
ويمكن إجمال أهمية القدوة العملية في الأمور الآتية:
1 - إن المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلّع إلى مراتب الكمال ويأخذ يحاول، ويعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال والاستقامة.
2 - إن القدوة الحسنة المتحلِّية بالفضائل تُعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال( ).
3 - إن الأتباع والمدعوّين الذين يربّيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فرُبّ عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر؛ لأنهم يعدُّونه قدوة لهم( )، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع أو محرم فيظن أنه على حق، ولا شك أن الأمر خطير، والنجاة من ذلك أن يعمل الدعاة بالعلم، وليتقوا اللَّه تعالى.
4 - إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، ومما يدل على ذلك أن البخاري بوّب باباً قال فيه: ((باب الاقتداء بأفعال النبي ))، ثم ساق الحديث: ((اتخذ النبي خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب)) فقال النبي : ((إني اتخذت خاتماً من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسه أبداً))، فنبذ الناس خواتيمهم( ).
قال ابن بطّال: ((فدلّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول))( ).
ولهذا أمثلة كثيرة؛ فإنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم في هذه القصة، ونزع نعله في الصلاة حينما أخبره جبريل أن فيهما أذىً فنزعوا، ولَمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فتابعوه مسرعين ( )، فدلّ ذلك كله على أهمية القدوة وعظيم مكانتها.
5 - إن النبي قد حذّر الدعاة من المخالفة لِمَا يقولون، فبيّن في الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم، قال: ((أتيت ليلة أُسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلَّما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباءُ أمتكَ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب اللَّه ولا يعملون به))( ).
ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه، بل يتعدّى إلى كل من يدعوهم.
وإن مما يذكر في هذا الشأن، أن انحراف الداعية وخروجه عن النهج الصحيح هو في الوقت نفسه سببٌ في انحراف كل من تأثر به أو سمع منه، وما ذلك إلا بسبب أن سلوك الداعية وتصرفاته كلها مرصودة من قبل الناس، وجميع أفعاله وأقواله موضوعة تحت المجهر.
فليحتطِ الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله.. وليرِ اللَّه تعالى من نفسه خيراً.
6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قُـِدوةً حسنةً لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَم وأهمية القدوة الحسنة؛ ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( ).
7 - إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لِمَا يقول، وهذا يفيد ويبيّن أن الداعية كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يُقوِّم أهل بيته وأسرته، ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه؛ ولهذه الأهمية كان عمر بن الخطاب إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: ((إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم باللَّه لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة ))( ).
ولقد تنبه لخطورة هذا الأمر الفقيه أبو المنصور الدمياطي فأخذ يحذر القدوات قائلاً:
واحذرِ الهفوةَ، فالخطبُ جلَلْ
أيها العالِم إياك الزلل
إن هفا أصبح في الخلق مَثَلْ
هفوة العالِم مستعظمة
فبها يحتجّ من أخطأ وزَلّْ
وعلى زلَته عمدتهم
بلْ بها يحصل في العلم الخلَلْ
لا تقلْ يستر علمي زلَّتي
فهي عند الله والناس جَبَلْ
إن تكن عندك مستحقرةً
وجلُ الخلقُ لها كل الوَجَلْ
فإذا الشمس بدت كاسفةً
في انزعاجٍ واضطرابٍ وزجَلْ
وترامت نحوها أبصارُهم
فغدت مُظلمةً منها السُّبُلْ
وسرى النقص لهم من نقصها
يفتن العالم طُرّاً ويضِلّْ
وكذا العالِم في زلَّته
لا بما استعصم فيه واستَقَلّْ
يُقتدى منه بما فيه هفا
إن بدا فيه فسادٌ وخَلَلْ( )
فهو ملحُ الأرض ما يصلحه
ثالثاً: وجوب القدوة الحسنة:
من الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ باللَّه من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاةالحق يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال اللَّه - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( )، وقال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ ( ).
هذه الآية العظيمة تُبيِّن لنا أن الداعي إلى اللَّه ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى اللَّه بلسانه، ويدعو إلى اللَّه بأفعاله أيضاً؛ ولهذا قال بعده: وَعَمِلَ صَالِـحًا ، فالداعي إلى اللَّه يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى اللَّه بأقوالهم الطيبة، وهم يوجِّهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم( ).
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى اللَّه بالأقوال والأعمال، والسيرة وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيما العامّة وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى اللَّه من أهمّ المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل حتى يُقتدى بأفعاله وأقواله( ).
ولهذا قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ
صَالِـحًا ، الآية. وهذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى اللَّه هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثّر الناس بدعوتـهم، وينتفعون بها ويـحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، فإنهم لا حظّ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، إنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من اللَّه - سبحانه - والسب من الناس، والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم.
قال اللَّه موبِّخاً اليهود: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( )، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لِمَا يقول أمر يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل( ).
وصحّ عن النبي، أنه قال: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))( ).
هذه حال من دعا إلى اللَّه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ باللَّه من ذلك، فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته( ).
فأنت يا عبد اللَّه في أشدّ الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى من الامتحان، ولو أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء اللَّه، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة( ).
والمؤمن الداعي إلى اللَّه قويّ الإيمان، البصير بأمر اللَّه يصرِّح بحق اللَّه، وينشط في الدعوة إلى اللَّه، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلـى ما يدعو إليه، ومن أبعـــد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرّح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( )، فالفرح برحمة اللَّه فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع( ).
وينبغي للدعاة إلى اللَّه تعالى: أن يُعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وعملاً بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسِّرة لكتاب اللَّه، كما قال اللَّه : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( )، وقال : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَـهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ).
والعلم هو ما قاله اللَّه في كتابه الكريم، أو قاله الرسول في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني الداعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر اللَّه به وما نهى اللَّه عنه، ويعرف طريقة الرسول في دعوته إلى اللَّه وإنكاره المنكر وطريقة أصحابه ( ).
فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب اللَّه حتى يستقيموا عليه، وحتى يكون لهم خلقاً ومنهجاً يسيرون عليه أينما كانوا، يقول : إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( )، فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها.
فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يُعنوا بهذا الخُلُق، وأن يُقبلوا على كتاب اللَّه قراءةً، وتدبُّراً، وتعقّلاً، وعملاً، يقول : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ( ).
أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم اللَّه التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب اللَّه والعناية به: تلاوةً، وتدبراً، وتعقلاً، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالاً لأهل العلم عمَّا أشكل عليه من الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب اللَّه قراءة وتدبراً وعملاً( ).
أولاً: أهمية العلم النافع:
العلم أعظم الأخلاق الحميدة، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر اللَّه به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( ).
وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه اللَّه تعالى لهذه الآية بقوله: ((بابٌ: العلم قبل القول والعمل))( ).
وذلك أن اللَّه أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، ثم أعقبه بالعمل في قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ، فدلّ ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل( ).
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول ، وقد يكون علم من غير الرسول ، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة( ).
ولا يكون الداعية إلى اللَّه مستقيماً حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين.
ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وَشُرَطه( ). وقد مدح اللَّه أهل العلم وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( )،
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ( )، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ( )، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( )، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا( )؛ ولهذا قال النبي : ((من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين))( ).
وقال: ((مثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فَقُهَ في دين اللَّه ونفعه ما بعثني اللَّه به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى اللَّه الذي أُرسلت به))( ).
وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى اللَّه تعالى، وأنه من أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة.
فيجب أن يكون الداعية على بيّنة في دعوته؛ ولهذا قال سبحانه: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( )، والعلم الصحيح مرتكز على كتاب اللَّه وسنة رسوله ؛ لأن كلّ علم يُتلقَّى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قُبل، وإن كان مخالفاً وجب ردّه على قائله كائناً من كان( ).
وهذا معنى كلام الشافعي رحمه اللَّه:
كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ
إلاّ الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين( )
ومقصوده - رحمه اللَّه - بوسواس الشياطين العلوم التي تخالف الكتاب والسنة، أو التي ليس فيها نفع للمسلمين.
ثانياً: أقسام العلم:
وقد قسّم الإمام ابن تيمية رحمه اللَّه العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه اللَّه: ((والعلم الممدوح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورّثه الأنبياء)) كما قال النبي : ((إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))( ).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم باللَّه، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل اللَّه سورة الإخلاص، وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر اللَّه به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل اللَّه آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر اللَّه به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان باللَّه من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وُجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة؛ فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين.
وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه اللَّه إلى هذه الأقسام بقوله:
العلم أقسام ثلاثة ما لها
من رابع والحقّ ذو تبيان
عِلمٌ بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أُوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجّة، ريحها طيبّ، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ))( ).
فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمنٌ حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته( ).
ثالثاً: العمل بالعلم:
والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر اللَّه المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( ).
وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم اللَّه لا يُكلف اللَّه نفساً إلا وسعها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْـهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ ( ).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل اللَّه من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل اللَّه، والغش لعباد اللَّه، لعنه اللَّه، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة اللَّه، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة اللَّه، فَجُوزيَ من جنس عمله( ).
وقد بين النبي أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار))( ).
فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان( ) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم للَّه))( ).
وقال رحمه اللَّه: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر))( ).
وقال الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود : ((تعلّموا، تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا))( ).
وقال : ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه))( ).
وقال علي بن أبي طالب : ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللَّه ))( ).
وقال أبو الدرداء : ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً))( ).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه
فإن كنت قد أُوتيت علماً فإنما
يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه( )
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي - مقروناً بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه اللَّه مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها))( ).
وقد دعا النبي لعبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال : ((اللَّهم علمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللَّهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللَّهم فقهه في الدين))( ).
فكان رضي الله عنهما حَبْراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي .
رابعاً: طرق تحصيل العلم:
والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها:
1- أن يسألَ العبد ربّه العلمَ النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر اللَّه نبيه بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه( )، فقال تعالى: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا( )، وقد كان النبي يقول: ((اللَّهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علماً))( ).
2- الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه،والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى،وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة( ).
وقد جاء رجل إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة : ((كفى بتركك له تضييعاً))( ).
ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما تعلّمت] ( ).
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ
سأنبئك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ،وحرصٌ،واجتهادٌ، وبُلغةٌ
وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان( )
3- اجتناب جميع المعاصي بتقوى اللَّه تعالى؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( )، وقال تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً( ).
وهذا واضح بيِّن أنَّ من اتقى اللَّه جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل( )؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود : ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله))( ).
وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه اللَّه -: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة( ) كانت فيه وصمةً ( ) أن يكون: فَهِماً، حليماً، عفيفاً، صليباً( )، عالماً سؤولاً عن العلم))( ).
وقال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى:
شَكوتُ إلى وكيعٍ( ) سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن علم اللَّه نور
ونور اللَّه لا يُهدى لعاصي( )
وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما اللَّه تعالى: ((إني أرى اللَّه قد جعل في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) ( ).
4- عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين))( ).
وقالت أم سُليم رضي الله عنها: يا رسول اللَّه، إن اللَّه لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي : ((إذا رأت الماء))( ).
وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر))( ).
5- الإخلاص في طلب العلم والعمل به، بل أعظمها ولُبُّها، قال النبي : ((من تعلّم علــــــماً ممّا يُبتغى به وجه اللَّه ، لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة))( ) يعني ريحها.
فيظهر مما تقدم أن العلم لا بدَّ فيه من العمل والإخلاص والمتابعة.
أولاً: تعريف الحكمة لغة وشرعاً:
تعريف الحكمة في اللغة:
جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
1- تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل.
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد( ).
2- والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم( ).
3- والحكيم:المتقن للأمور،يقال للرجل إذا كان حكيماً:قد أحكمته التجارب( ).
4- والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى:الحاكم،والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل( ).
5- والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل( ).
6- والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزدد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير( ).
7- والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل( ).
8- والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسمّيت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد( ).
ومما تقدّم يتّضح ويتبيّن أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معانٍ تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحِلْمُ: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير اللَّه، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها اللَّه تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
ومن فسّر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه))( ).
تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح، وقيل: الخشية للَّه، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين اللَّه، وقيل: العلم والعمل به، ولا يُسمَّى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه [بإحكامٍ، وإتقانٍ]، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة( ).
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهِماً، خاشياً للَّه، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه... والحكمة أعمّ من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور( ).
والحكمة في كتاب اللَّه نوعان( ): مفردة، ومقرونة بالكتاب.
فالمفردة كقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ). وقوله تعالى: يُؤتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا( ). وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( ).
وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة وهذا النوع كثير في كتاب اللَّه تعالى.
وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة( ).
((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب اللَّه حكمة، وسنة نبيه حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السَّفَه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح...)) ( ).
وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضمّ جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، والإرادات، والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه)).
أما الحكمة المقرونة بالكتاب،فهي السنة من:أقوال النبي وأفعاله، وتقريراته،وسيرته،كقوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الـْحـَكِيمُ ( ).
وقوله : وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْـحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ).
قال اللَّه لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ( ).
وقال : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ( )، وغير ذلك من الآيات.
وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي، والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة( ).
ثانياً: أهمية الحكمة:
1- قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى اللَّه تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى اللَّه ، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه محمداً بالدعوة إلى اللَّه تعالى بالحكمة، فقال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( ).
2- من تتبّع سيرة النبي وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى اللَّه ، فأقبل الناس ودخلوا في دين اللَّه أفواجاً بفضل اللَّه تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم الذي ملأ اللَّه قلبه بالإيمان والحكمة، فعن أنس قال: كان أبو ذر يُحدّث أنَّ رسول اللَّه قال: ((فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست ( ) من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي..)) الحديث( ).
وهذا يُثبِتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى اللَّه تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول اللَّه وهو صاحب الدعوة، مع الإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكّد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة؛ ليمتلئ بها صدر محمد رسول اللَّه وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله.
كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى اللَّه تعالى أمرها عظيم، وشأنها كبير، وقد قال تعالى: وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ( ).
ثم سار أصحاب رسول اللَّه على طريقه وهديه في الدعوة إلى اللَّه بالحكمة، فانتشر الإسلام في عهدهم انتشاراً عظيماً، ودخل في الإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا اللَّه تعالى، وجاء التابعون، وكمّلوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى اللَّه بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فأظهر اللَّه الإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه.
3- ومن الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم.. فحسب، وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون:
• باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات، وأهواء تصدّه عن اتّباع الحق.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بِحُسنِ خُلُقٍ، ولُطفٍ، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، وردّ الباطل بأقرب طريق، وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرّد المجادلة والمغالبة وحبّ العلوّ، بل لابدّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل اللَّه تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين، مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل ردّه ووقف في طريقه( ).
وما أحسن ما قاله الشاعر:
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب
له أسلموا واستسلموا وأنابوا( )
فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ
وصدق هذا القائل فقد قال: قولاً صادقاً مطابقاً للحق( )؛ ولهذا قال النبي : ((إن من الشِّعرِ حكمة))( ).
4- الحكمة تجعل الداعي إلى اللَّه يُقدِّر الأمور قدرها، فلا يُزَهِّد في الدنيا، والناس بحاجة إلى النشاط والجدّ والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة.
5- الحكمة تجعل الداعية إلى اللَّه يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبيّن لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشقّ بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى اللَّه بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلِّم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى اللَّه بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح( ).
تعريف السلوك لغة وشرعاً:
السلوك لغة: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاً( )، وسلكه غيره.
والسلوك اصطلاحاً: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك( ).
أما الخُلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروِيَّة، وجمعه: أخلاق.
والأخلاق عِلْمٌ موضوعه أحكام قَيِّمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح( )، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير مَلَكَة وخُلقاً( ).
والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك.
فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلّنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخُلق الطيّب يعرف بالأعمال الطيبة( ).
والحكمة تتفرّع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم( ).
والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق اللَّه له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك من قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يُتَّهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذّات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عَرَضٍ أو مالٍ، أو شهرة، أو جاهٍ.
أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل اللَّه رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه.
ولاشك أن اللَّه يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والمسلم إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم( ) نجح في أمور دينه ودنياه بإذن اللَّه تعالى.
الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ( ). وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( )، وقال تعالى للنبي : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ).
وعن سفيان بن عبد اللَّه قال:قلت:يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: ((قل:آمنت باللَّه، ثم استقم))( ).
والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى اللَّه: الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع.
فعن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ اللَّه برحمةٍ منه وفضل))( ).
فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللَّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي اللَّه على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات.
والداعية إلى اللَّه يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن اللَّه تعالى - لا يُخيِّب اللَّه سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان( ).
وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند اللَّه ، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ ( ).
إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل للَّه وحده، والاعتزاز بالإسلام.
وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً:
الشرط الأول: دعوته إلى اللَّه - تعالى - بأن يُعبد اللَّه وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
الشرط الثاني:عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم،والقيام بالمستحبات،والابتعاد عن المكروهات،فهو مع دعوته الخلق إلى اللَّه يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه( ).
ولكن قد يحصل للداعية ما يصدُّه عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبيّن اللَّه أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللِّين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم.
أما شياطين الجن فلا مَنْجَى منهم إلا بالاستعاذة منهم باللَّه وحده( )، قال اللَّه تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ).
التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل اللَّه يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهّاب وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ( )؛ ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه.
والتجربة في العلم: اختبار مُنظِّم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجةٍ ما، أو تحقيق غرضٍ معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيءٍ وإصلاحه( )، ويُقال: جَرَّبَهُ تَجرِبَةً: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُـــلـِيَ ما كان عنده، ومجرِّب: عرف الأمور( )، تقول، جربت الشيء تجريباً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب( ).
وعن معاوية قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
ومن المعلوم أن الحكيم لابد لـه من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره.
وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل( ).
والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها( ).
والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنيَّة على المران والتجارب؛ ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم( ).
وبهذا يعلم أن الداعية إلى اللَّه إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جرّبهم، فالتجارب تنمّي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجِّع الجبان، وتسخِّي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه فهو من الحمقى الذين لا يفقهون( ).
وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم اللَّه وربّاهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث اللَّه من نبي إلا رعى الغنم، كما قال النبي : ((ما بعث اللَّه نبيّاً إلاّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))( ).
وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاّ وقد رعاها))( ).
والحكمة من ذلك - واللَّه أعلم - أن اللَّه يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال النبي : ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم))( )؛ ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سبعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدّة تفرّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها( ).
ثم بعد رعيهم الغنم جرّبوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم؛ ولهذا قال موسى لمحمد عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يومٍ، وإني واللَّه قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك...)) فما زال النبي يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمسٍ صلواتٍ كل يوم( ).
فموسى قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقلّ منهم قوةً، والعادة أن ما عجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى( ).
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون لـه الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى اللَّه، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته؛ ولهذا قال النبي : ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين))( )، وقال: ((كلّكم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون))( ).
وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد لـه - لإصلاح المتديِّنين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسِّياسيين، ويتعرَّف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كُرْهِ نفسٍ واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى اللَّه، ويحرم الناس من علمه( )، وهذا يؤهِّله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدِّثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي : ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ اللَّه ورسوله))( ).
وقال ابن مسعود : ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))( ).
وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يُمكِّنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ).
إذا سلك المسلم مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى اللَّه تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن اللَّه تعالى.
والنبي هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى اللَّه، وقد سلك هذا المسلك، فنفع اللَّه به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يُعرَف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أيِّ أمةٍ من الأمم كان لـه مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرِّزين - سواء كان قائداً مُحنَّكاً، أو مربِّياً حكيماً - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول اللَّه ؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، ( ).
فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق، وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى اللَّه مكتسباً عظيماً.
وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى اللَّه كثيرة،منها الطرق الآتية:
الطريق الأول: تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملُّوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي أنه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد اللَّه بن مسعود قال: ((كان النبي يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا))( ).
ولهذا طبَّق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد اللَّه بن مسعود يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال لـه رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدْتُ أنك ذكرتنا في كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي يتخوّلنا بها مخافة السآمة علينا( ).
وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((يسّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تُنفِّروا))( ).
الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألاَّ يدعو، فقد ترك النبي هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم اجتناباً لفتنة قومٍ كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فَهُدِمَ، فأَدْخَلْتُ فيه ما أُخْرِجَ منه، وألزقته بالأرض، وجعلت لـه بابين: بـابـــاً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم))( ).
وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قــــــلوبهم أن أُدْخِلَ الجَدْرَ في البيــت، وأن أُلصِقَ بابه بالأرض))( ).
وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها لدفع هذه المفسدة( ).
الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض،فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه،للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع اللَّه للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة،وقد كان رسول اللَّه يسلك هذا المسلك،فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال،إذا ظهر لـه أن الإيمان لم يرسخ؛ولذلك أشار بقوله:((إني لأعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه))( ).
وقد كان يعطي النبي أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة( ).
وصدق النبي حيث قال: ((تهادوا تحابّوا))( ).
وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه ( ).
الطريق الرابع: التأليف بالجاه من السياسة الحكيمة؛ ولهذا قال النبي للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول اللَّه فواللَّه لما تنقلبون به خير ما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول اللَّه قد رضينا( ).
وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شِعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شِعباً لسَلكتُ وادي الأنصار أو شِعب الأنصار))( ).
فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة - بإذن اللَّه تعالى -.
الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت.
وهذا أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته.
وقد مدح اللَّه رسوله ، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين بقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَـهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ ( ).
وقال : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ).
الطريق السادس: عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يُؤدِّبه أو يزجره مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة؛ ولهذا كان النبي يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله : ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخَّع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبل فيتنخّع في وجهه، فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض( ).
وفقد النبي ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً يؤمُّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ [يتخلّفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم))( ).
وقال :((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة))، فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال:((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفنَّ أبصارُهم))( ).
وصنع النبي شيئاً فرخّص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي فخطب، فحمد اللَّه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزَّهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه، وأشدُّهم لـه خشية))( ).
وقال النبي : ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))( ).
وبلغه شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناسٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللَّه، من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللَّه فليس لـه، وإن شرط مائة مرة، شرط اللَّه أحقُّ وأوثقُ))( ).
وهذا يدلّ الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم، ورفقاً بهم، وتلطُّفاً.
والداعية يستطيع أن يُوجِّه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعوّ المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب( ).
الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله : ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله))( ).
فقد صوَّر النبي الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه.
وكقوله : ((من جهَّز غازياً فقد غزا))( ).
وقال : ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قيل: يا رسول اللَّه: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمَّه))( ).
وهذا أصل في سدّ الذرائع، ويُؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم( )، كما قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ).
فقد أعطى النبي من يسبُّ أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبَّب في سبِّهما.
الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله...)) ( ).
فأجاب بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفر لك، أو نحوها( ).
وقال لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته))( ).
فأجاب السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حلّ ميتة البحر، فعندما عرف اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكمٍ كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته، مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً( ).
الطريق التاسع: ضرب الأمثال، قال : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه))( ).
وقد مثل النبي المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالسهر والحمى))( ).
المسلم الفطن الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، ويُنزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم، وأفهامهم، وطبائعهم، وأخلاقهم، ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب : ((حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذَّب اللَّه ورسوله))( ).
وذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرنا رسول اللَّه أن نُنْزِلَ الناس منازلهم))( ).
وقال عبد اللَّه بن مسعود : ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))( ).
وقد بيّن النبي ذلك للدعاة إلى اللَّه ، فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن - داعياً ومعلماً وقاضياً -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب...)) الحديث( ).
فبين لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعدّ لهم، ويقدّم لهم ما يناسبهم، وما يُصلح أحوالهم.
وقال النبي لعائشة رضي الله عنها:((يا عائشة،لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس،وباب يخرجون))( ).
فترك هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد( ).
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً؛ فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشُّبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم( ).
والدّاعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدّراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم.
والداعية إلى اللَّه - تعالى - لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في تبلغيه ولا مسدّداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والمادّيين والدهريّين؟ أم من الوثنيين المشركين؟.
فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدّم معهم؟وماذا يؤخّر؟وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟
وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يُشخِّصُ المرض، ويعرف الداء ويُحدّده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا فالداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويُحدّد الدّاء، ويعرف الدّواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة( ).
أولا: تعريف الحِلْم:
الحِلْم: بالكسر: العقل( )، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند الغضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وعقل( )، ومن أسماء اللَّه - تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفّه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه( ).
والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب( ).
والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقّل ولا تبصّر كان على رذيلة، وإن تبلّد، وضيّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلّى بالحلم مع القدرة وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.
وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، واللَّه أعلم( ).
وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( ).
ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ( ).
ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ( )، وهذا يفيد - واللَّه أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم مقومات الداعية الناجح، ومن أعظم أركان الحكمة( ).
ثانياً: أهمية الحِلْم:
الحلم من أعظم أخلاق المسلم، وهو أيضاً من دعائم
الحكمة، فلا يكون الداعية ناجحاً حتى يكون: حكيماً، فالحكمة تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وكل خلل في الداعية إلى اللَّه فسببه الإخلال بالحكمة وأركانها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلّهم منها ميراثاً، ومعاول هدم الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، وطائش، ولا عجول( ).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم مقومات الداعية ومن أركان الحكمة التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه - تعالى - مدح النبي للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه ، قال النبي للأشجِّ( ): ((إن فيك خصلتين يحبِّهما اللَّه: الحلم والأناة))( ).
وفي رواية قال الأشجّ: يا رسول اللَّه، أنا تخلَّقت بهما أم اللَّه جبلني عليهما؟ قال: ((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خُلُقيْن يحبهما اللَّه ورسوله( ).
وسبب قول النبي ذلك للأشجّ ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي فقرّبه النبي وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي : ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم)) فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول اللَّه، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبَّعَنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين...)) الحديث.
فالأناة: تربُّصُه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحّة عقله، وجودة نظره للعواقب( ).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خُلُق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزَّر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد ولم يكن غريباً أن يوجهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول لـه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ).
وقال : وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( ).
وقال : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).
ثالثاً: أمثلة الحلم:
المثال الأول: مع من قال هذه قسمة ما عُدِلَ فيها:
عن ابن مسعود قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: واللَّه إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه اللَّه، فقلت: واللَّه لأُخبرنَّ النبي ، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدلْ إذا لم يعدلِ اللَّه ورسولُه؟! رحم اللَّه موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ))( ).
وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى اللَّه - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكِّل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه( ).
المثال الثاني: مع من قال: كنا أحقَّ بهذا:
عن أبي سعيد الخدري قال بعث علي بن أبي طالب إلى رسول اللَّه من اليمن بذهيبة ( ) في أديم مقروظ( ) لم تُحصِّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر( )، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل( )، والرابع إما علقمة( ) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبيَّ فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول اللَّه! اتّقِ اللَّه، قال: ((ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي اللَّه))، قال: ثم ولَّى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول اللَّه! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول اللَّه : ((إني لم أُومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم))، قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍّ فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب اللَّه رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))( ).
وهذا من ظواهر حلم النبي ، فقد أخذ بالظاهر، ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي لم يقتله، لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلّى( ).
المثال الثالث: مع الطفيل:
من مواقف الحلم ما فعله رسول اللَّه مع الطفيل بن عمرو الدوسي ، فقد أسلم الطفيل قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى اللَّه فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول اللَّه وذكر لـه أن دوساً هلكت وكفرت وعصت وأبت.
فعن أبي هريرة قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول اللَّه فقال: إن دوساً قد عصت وأبت، فادع اللَّه عليهم، فاستقبل رسول اللَّه القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: ((اللَّهم اهد دوساً، وائت بهم، اللَّهم اهد دوساً، وائت بهم))( ).
وهذا يدلّ على حلم النبي وصبره، وتأنِّيه في الدعوة إلى اللَّه ؛ فإنه لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من ردّ الدعوة؛ ولكنه دعا لهم بالهداية، فاستجاب اللَّه دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتاً من دوس، ثم لحقوا بالنبي بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين( ).
اللَّه أكبر! ما أعظمها من حكمة أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة.
وهذا مما يوجب على الدعاة إلى اللَّه العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل اللَّه ثم معرفة هدي النبي في دعوته.
المثال الرابع: مع من أراد قتل النبي :
روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول اللَّه قِبَلَ نجد( )، فأدركنا رسول اللَّه في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول اللَّه تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلّون بالشجر، قال: فقال رسول اللَّه : ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً( ) في يده، فقال لي: من يمنعنك مني؟ قال: قلت: اللَّه، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: اللَّه، قال: فشام( ) السيف، فها هو ذا جالس))، ثم لم يعرض لـه رسول اللَّه ( ).
اللَّه أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! أعرابي يريد قتل النبي ثم يعصمه اللَّه منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخُلُقٌ عظيم، وصدق اللَّه العظيم إذ يقول للنبي : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( )، وهذا الخلق العظيم قد أثَّر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير( ).
المثال الخامس: مع زيد الحبر:
كان النبي يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار( ).
جاء زيد بن سعنة إلى رسول اللَّه يطلبه ديناً لـه، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ لـه القول، ونظر إلى النبي بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدّد لـه في القول، فنظر إليه عمر وعنياه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو اللَّه، أتقول لرسول اللَّه ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول اللَّه ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: ((أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ))، فكان هذا سبباً لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وكان زيد قبل هذه القصة يقول: ((لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً))( ).
فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر( ).
فقد أقام محمد براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق.
المثال السادس: مع ثمامة:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال: بعث رسول اللَّه خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال لـه ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول اللَّه فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال:عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم ( )، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؛ فتركه رسول اللَّه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟ )) فقال: ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت؟ فتركه رسول اللَّه حتى كان من الغد، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة))، فقال: عندي ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؟ فقال رسول اللَّه : ((أطلقوا ثمامة)), فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: ((أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، واللَّه ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشّره رسول اللَّه ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال لـه قائل: أصبوت؟ فقال: [لا واللَّه]، ولكني أسلمت مع رسول اللَّه ، ولا واللَّه لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه ))( ).
((ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول اللَّه : إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول اللَّه إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل ))( ).
وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ( ).
وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتدّ أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين( ).
اللَّه أكبر، ما أحلم النبي محمداً ، وما أعظمه من موقف، فقد كان يتألف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير.
وهكذا ينبغي للدعاة إلى اللَّه أن يعظّموا أمر الحلم والعفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي إليه من الحلم والعفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه( )؛ ولهذا قال:
إلى القول إنعامُ النّبيّ محمّدِ
أهمّ بترك القول ثم يردّني
رأيت خيالاً من حسامٍ مهنّدِ( )
شكرتُ لـه فكّي من الغلِّ بعدما
المثال السابع: مع من جذب النبي بردائه:
عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع النبي وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول اللَّه فضحك، ثم أمر لـه بعطاء( ).
وهذا من روائع حلمه وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسّى به الدعاة إلى اللَّه، والولاة بعده في حلمه، وخُلُقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن( ).
المثال الثامن: اللَّهم اغفر لقومي:
ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم اللَّه، ويدمرهم، ولكنه حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم؛ ولهذا قال عبد اللَّه بن مسعود : كأني أنظر إلى رسول اللَّه يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات اللَّه وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))( ).
المثال التاسع: مع من سبّ:
ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى اللَّه والصالحون من أتباعهم، وإذا كان اللَّه قد جعل محمداً مثلاً عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول اللَّه - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( ).
فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول اللَّه لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً( ).
فعن النعمان بن مقرن المزني ، قال: قال رسول اللَّه وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول اللَّه : ((أما إنَّ ملكاً بينكما يذبّ عنك كلما يشتمك هذا، قال لـه: بل أنت وأنت أحقّ به، وإذا قال لـه: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به ))( ).
فهؤلاء الدعاة إلى اللَّه والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردّون المعروف من القول على من جهل عليهم( )؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلّقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم يُنفِّذُوه، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ( )، فترتّب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير( )، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِـيٌّ حَمِيمٌ ( ).
المثال العاشر: مع عيينة:
ومما يُبيّن حلم أصحاب النبي من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن لـه عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فواللَّه ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به، فقال لـه الحر: يا أمير المؤمنين، إن اللَّه - تعالى - قال لنبيّه : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ ( )، وإن هذا من الجاهلين، واللَّه ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب اللَّه( ).
وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.
أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.
والثاني: قوله: واللَّه ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.
والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.
ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح بعدما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية: ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، وأرضاه( )، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول اللَّه فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخُلُقه.
وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة؛ ولهذا قال النبي : ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))( ).
ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال لمن قال أوصني: ((لا تغضب ))( ).
والداعية إلى اللَّه يستطيع أن يتّصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك بعلاج الغضب( )، إذا حلّ به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه اللَّه، وبينه نبيه ، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية وعملية حتى يكونوا حلماء، حكماء.
أولاً: تعريف الأناة والتثبت:
الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة( ).
ويقال: تأنَّى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله( ).
وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبّت، وتأنّى فيه ولم يعجل( ).
ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصّر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ( ).
وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ( ).
والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلاّن على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همّته للقيام بالأعمال التي تحقّق لـه ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب.
ثانياً: أهمية الأناة والتثبت:
والأناة عند المسلم الصادق تسمح لـه بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها( ).
والداعية مطلوب منه أن يتخلّق بخُلُق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خُلُقٌ مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن اللَّه تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة.
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم بالأعمال وتصريف الأمور( ).
قال اللَّه - تعالى - للنبي تربية لـه وتعليماً: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ).
فأمر اللَّه سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل اللَّه لـه أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبيِّنه لـه ويفسِّره( ).
وقال تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الـمَلِكُ الـحـَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( ).
وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى اللَّه - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( )، قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثبَّتوا)، والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر( ).
والدعاة إلى اللَّه أولى بامتثال أمر اللَّه - تعالى - وبالتأنِّي والتثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس( ).
والداعية إلى اللَّه - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض لـه، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح لـه الحق.
والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتّهم هذا، أو يسبّ ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنَّى، وتبيَّن، وتثبَّت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء لـه، ولا يضيف إلى أعداءه عدواً جديداً منهم.
ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه،وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف( )، قال :وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْـخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ( ).
ولعظم أمر الأناة والتبين التي أمر اللَّه بها حتى في جهاد الكفار في سبيل اللَّه الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى اللَّه تعالى، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِـمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا( ).
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبيت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين؛ فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكفّ عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعرفُ دين العبد وعقله ورزانته( ).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما وَلاَ تَقُولُواْ لِـمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا قال: كان رجل في غُنَيمة لـه فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل اللَّه في ذلك إلى قوله: عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام( ).
ثالثاً: أمثلة الأ ناة والتثبت:
المثال الأول: مع أسامة:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول اللَّه إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا اللَّه، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه)) قال: قلت: يا رسول اللَّه، إنما كان متعوِّذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللَّه))، قال، فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم( ).
وفي رواية: قال: قلت يا رسول اللَّه: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ( ).
وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة))، قال: يا رسول اللَّه: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة)). قال فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا اللَّه إذا جاءت يوم القيامة))( ).
ولهذا كان النبي أعظم الناس أناةً وتثبُّتاً، فكان لا يُقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك : ((أن النبي كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم...)) ( ).
المثال الثاني: قبل القتال:
كان النبي يُعلِّم ويربِّي أصحابه على الأناة والتثبُّت في دعوتهم إلى اللَّه - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعوَ عدوَّه قبل القتال إلى ثلاث خصال:
الخصلة الأولى: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
الخصلة الثانية: فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
الخصلة الثالثة: فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم( ).
المثال الثالث: في الصلاة:
ومن تربيته لأصحابه على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا ))( ).
وقوله :((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت))( ).
ولِسُمُوِّ الأناة أحبها اللَّه ، قال رسول اللَّه للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما اللَّه: الحلم، والأناة))( ).
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظاً محمد .
المثال الرابع: في الغزو:
عن أنس قال: كان رسول اللَّه يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر فقال رسول اللَّه : ((على الفطرة ))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال رسول اللَّه : ((خرجت من النار))( ).
وعنه أن النبي كان إذا غزا بنا قوماً لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانـــــاً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم...( ).
وهذا يدل على تثبته وعدم عجلته، وهو أسوة الدعاة إلى اللَّه تعالى وقدوتهم.
وعن عبد اللَّه بن سرجس المزني ،أن النبي قال:((السَّمْتُ الحسن( )، والتُّؤَدَةُ، والاقتصاد( )، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة))( ).
وبهذا يُعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها اللَّه حتى تكون المسارعة مما يحبه اللَّه تعالى( ).
أولاً: تعريف الرفق واللين:
الرفق لغة: اللطف ولين الجانب( )، وهو ضد العنف( )، واللين: ضد الخشونة( )، قال اللَّه تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).
ومعنى لِنتَ لَـهُمْ: سهَّلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم( ).
فظهر من هذه التعريفات اللغوية أن الرفق واللين يتضمن: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف( ).
ويُطلق الرفق واللين على المداراة إذا كان في ذلك دفع برفق، يُقال: ((دَارَأهُ)) أي لاينه واتقاه( )، ودفعه( )، ولاطفه ولاينه اتقاءً لشرِّه( )، وفي الحديث: ((أن رسول اللَّه كان يصلي فجاءت بهمة تمرّ بين يديه فمازال يُدارئُها)) أي يدافعها( )، وقد بوّب البخاري - رحمه اللَّه - باباً في صحيحه فقال: (باب المداراة مع الناس) ثم أورد حديث عائشة أنه استأذن على النبي رجل فقال: ((ائذنوا لـه فبئس ابن العشيرة)) - أو بئس أخو العشيرة ))، فلما دخل ((ألان لـه الكلام )). قالت عائشة: فقلت لـه: يا رسول اللَّه قلت ما قلت ثم ألنت لـه في القول. فقال: ((أي عائشة إن شر الناس منزلة عند اللَّه من تركه - أو ودعه - الناس اتِّقاء فُحشه))( )، ويذكر عن أبي الدرداء : ((إنا لنكشِرُ( ) في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم))( ).
فظهر أن المداراة هي: الدفع برفق ولين.
والمداراة ليست من المداهنة: قال ابن بطال - رحمه اللَّه -: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه.
والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل لاسيما إذا احتيج إلى تألفّه ونحو ذلك( ).
وقد قال اللَّه تعالى لموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( )، ومعنى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا: يقول: دارياه وارفقا به( )، وقد استدل بهذه الآية المأمون عندما عنّفه واعظ وشدّد عليه القول، فقال: يا رجل ارفق، فقد بعث اللَّه من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى( )، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّه لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).
ولهذا قال القائل:
وامزح لـه إن المزاحَ وفاقُ
وإذا عجزت عن العدوِّ فداره
تُعطي النِّضاح وطبعُها الإحراقُ
فالنارُ بالماء الذي هو ضدُّها
فظهر مما تقدم:
1- أن الرفق واللين: لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة والخشونة.
2- أن المداراة تطلق على الرفق واللين إذا كان فيها مدافعة، كتعليم الجاهل، ونهي الفاسق عن فسقه. والمداراة من أخلاق المؤمنين.
3- أن المداهنة مذمومة محرمة، وهي: معاشرة الفاسق ومخاللته مع الرضى بما هو عليه من المعاصي وعدم الإنكار عليه، واللَّه الموفق.
ثانياً: أهمية الرفق واللين:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها: ((إنه من أُعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار))( ).
فقد عظّم النبي شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى اللَّه ؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرّفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلّق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذمّ العنف وذمّ من تخلَّق به.
فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده( ).
وقد حذّر النبي من العنف، وعن التشديد على أمته ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول اللَّه يقول في بيتي هذا: ((اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ))( )، وكان إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير.
فعن أبي موسى قال:كان رسول اللَّه إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال:((بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا،ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا))( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه : ((إذا أراد اللَّه بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق))( ).
وقال النبي لأبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا))( ).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه : ((يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا ))( ).
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقتٍ والتعسير في وقت، ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر، فلو اقتصر على يسّروا لصدق ذلك على من يسِّر مرّة أو مرّات، وعسّر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه،وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في يسّرا ولا تعسرا،وبشرا ولا تنفرا،وتطاوعا ولا تختلفا؛لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي قد حثّ في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل اللَّه وعظيم ثوابه،وجزيل عطائه، وسعة رحمته،ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير،وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه،وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان،ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً،وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة،أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها( )، وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم( ).
فصلوات اللَّه وسلامه عليه فقد دلّ أمته على كل خير، وحذّرهم من كل شرّ، ودعا على من شقّ على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة، وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم( ).
ثالثاً: أمثلة الرفق واللين:
المثال الأول: مع شاب استأذن في الزنا:
عن أبي أمامة قال: إن فتىً شاباً أتى النبي فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا لـه: مه مه! فقال لـه: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: ((أتحبّه لأمك)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: ((ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم)). قال: ((أفتحبّه لابنتك؟)) قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)). قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)). قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)). قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللَّهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء( ).
وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى اللَّه أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم.
وكما يبين لنا الرسول الرّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله.
المثال الثاني: مع اليهود:
عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول اللَّه فقالوا: السامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة. قالت: فقال رسول اللَّه : ((مهلاً يا عائشة إن اللَّه يُحبّ الرفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول اللَّه أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول اللَّه : ((قد قلت وعليكم))( ).
وقال رسول اللَّه : ((يا عائشة إن اللَّه رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه))( ).
وقال النبي : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه))( ).
وبين رسول اللَّه أن من حُرِمَ الرفق فقد حرم الخير، قال : ((من يحرم الرفق يحرم الخير))( ).
وعن أبي الدرداء عن النبي قال: ((من أٌعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير))( )، وعنه يبلغ به قال: ((من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن))( ).
المثال الثالث: مع من بال في المسجد:
عن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللَّه إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللَّه : مَهْ مَهْ( )، قال: قال رسول اللَّه : ((لا تزرموه( )، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللَّه دعاه فقال لـه: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه، والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه .
قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه( ) عليه( ).
وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: ((اللَّهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))، فعن أبي هريرة قال: قام رسول اللَّه وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي قال للأعرابي: ((لقد حجّرت واسعاً)) يريد رحمة اللَّه( ).
وتُفسّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة قال: دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول اللَّه فقال: ((لقد تحجّرت واسعاً))، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه، فقال لهم رسول اللَّه : ((إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلواً من ماء، أو سجلاً من ماء))( ).
قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: ((فقام النبي إليّ بأبي وأمي فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب))( ).
النبي أحكم خلق اللَّه، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك.
وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب، وتسبّب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي أن يقطعوا عليه بوله.
وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال لـه حينما قال: ((اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)): ((لقد حجّرت واسعاً))، يريد رحمة اللَّه، فإن رحمة اللَّه قد وسعت كل شيء، قال : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( )، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة اللَّه على خلقه.
وقد أثنى اللَّه من فعل خلاف ذلك حيث قال: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ( ).
وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي بالحكمة( ).
وحينما بال في المسجد أمر النبي بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه بعد ذلك لدار بين أمرين:
1- إما أن يقطع عليه بوله فيتضرّر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2- وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه،أو ثوبه،أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر النبي بالكفّ عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما( ).
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدّم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب( ).
فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل( ).
المثال الرابع: مع معاوية بن الحكم:
عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول اللَّه إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكنّي سكتُّ، فلما صلى رسول اللَّه فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فواللَّه ما كهرني( ) ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه .
قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء اللَّه بالإسلام، وإنا منا رجالاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم)).
قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم))( )، (قال ابن الصلاح: فلا يصدّنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطّه فذاك))( ).
قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية( )، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول اللَّه فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول اللَّه! أفلا أعتقها، قال: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين اللَّه؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول اللَّه. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))( ).
وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي ، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية ؛ لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية : ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه.
المثال الخامس: مع من كانت يده تطيش:
عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاماً في حجر رسول اللَّه وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول اللَّه : ((يا غلام سم اللَّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك))، فمازالت تلك طعمتي بعد( ).
المثال السادس: مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة:
عن سلمة بن صخر الأنصاري قال في حديثه: ((... خرجت فأتيت النبي فأخبرته خبري فقال لي: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: نعم ها أنذا فامضِ فيَّ حكمك فإني صابر لـه، قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ((فصم شهرين)) قال: قلت: يا رسول اللَّه وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فتصدق)) قال: فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل لـه فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك))، قال فرجعت إلى قومي فقلت:وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي،ووجدت عند رسول اللَّه السعة والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي،قال:فدفعوها لي)) ( ).
المثال السابع: مع من بكت عند القبر:
عن أنس قال: مرَّ النبي بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقِ اللَّه واصبري)) قالت: إليك عنّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ، فأتت النبي فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))( )، وهذا فيه الدلالة على رفق النبي بالجاهل، وترك المؤاخذة.
المثال الثامن: من رفق صلة بن أشيم:
ومن المواقف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم - رحمه اللَّه - حين مر رجل قد أسبل ثيابه يسحبها ويجرّها على الأرض، فأخذ الناس يسبّونه ويُغلظون لـه في القول، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي إنّ لي إليك حاجة. قال: ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم ونعمى عيني - أي أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك - فرفع إزاره. فقال: صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم( ).
أولاً: تعريف الصبر:
الصبر لغة: الحبس والمنع، وهو ضدّ الجزع، ويقال: صبر صبراً: تجلَّد ولم يجزع، وصبر: انتظر، وصبّر نفسه: حبسها وضبطها، وصبر فلاناً: حبسه، وصبرت صبراً: حبست النفس عن الجزع، وسُمّي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح( ).
فتبين بذلك أن الصبر هو:منع وحبس النفس عن الجزع،واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن التشْويش:كلطم الخدود،وشقّ الجيوب ونحوهما( ).
وحقيقة الصبر: هو خُلُقٌ فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يَحْسُنُ، ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها( ).
وهذه القوة تمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب، والمشاق، والآلام( ).
والصبر ينبغي: أن يُبيَّن مفهومه، وأهميته في حياة المسلم، ومجالاته، وأنواعه، وحكمه، وطرق تحصيله، وأمثلة تطبيق الصبر والشجاعة، وقد بيَّنت ذلك كله في رسالة مستقلة، وللَّه الحمد، فأغنى عن التفصيل هنا( ).
وسأقتصر في هذا المبحث على رحمة النبي ؛ لأنها جامعة مانعة:
أولاً:عموم رحمته للإنس والجن،والمؤمنين والكافرين والحيوان:
قال اللَّه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( )، فالمؤمنون به قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وغيرهم كفرها، وبدَّلوا نعمة اللَّه كفراً، وأبوا رحمة اللَّه ونعمته( ). قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ((من آمن باللَّه واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن باللَّه ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف))( ).
قال الإمام الطبري رحمه اللَّه: ((أولى القولين في ذلك بالصواب القول الذي رُوي عن ابن عباس: وهو أن اللَّه أرسل نبيه محمداً رحمة لجميع العالم: مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن اللَّه هداه به وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء به من عند اللَّه الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله))( ).
ومما يدل على أن رحمة النبي عامة للعالم؛ حديث أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه! ادعُ على المشركين، قال: «إني لم أُبعث لَعَّاناً وإنما بُعِثْتُ رحمةً»( ).
وحديث حذيفة عن النبي أنه قال: «أيُّما رجل من أمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي؛ فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة»( ).
وجاء في الحديث عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: «إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ»( ).
وقد قال : «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»( ).
ثانياً : الأمثلة التطبيقية وأنواعها :
النوع الأول: رحمته لأعدائه :
المثال الأول: رحمته لأعدائه في الجهاد :
وقد شملت رحمته الأعداء حتى في قتالهم ومجاهدتهم؛ فإن قوة الجهاد في سبيل اللَّه تعالى في شريعته لها ضوابط ينبغي أن يلتزم بها المجاهدون في سبيل اللَّه – تعالى – ومن ذلك قوله تعالى: وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ( )، فيدخل في ذلك ارتكاب المناهي: من المثلة، والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرُّهبان، والمرضى، والعُمي، وأصحاب الصّوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفّار برأيه قتل( ).
ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزّروع والثّمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت( )، وقد «وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول اللَّه ، فنهى رسول اللَّه عن قتل النساء والصبيان»( )؛ ولهذا كان إذا أمَّر أميراً على جيش أوسريّة أوصاه في خاصته بتقوى اللَّه ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا بسم اللَّه في سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال...»( )، ثم بيّنها كالآتي:
( أ ) الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
(ب) فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
(ج) فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان باللَّه وقاتلهم( ).
المثال الثاني: وفاؤه بالعهد مع أعدائه :
من أعظم الضوابط في الجهاد الوفاء بالعهد وعدم الخيانة؛ لقول اللَّه تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ( ).
فإذا كان بين المسلمين والكفار عهد أو أمان فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانةً، بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة، فيحنئذٍ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك.
ودلّت الآية على أنه إذا وُجِدَت الخيانة المحققة من الأعداء لم يحتج أن يُنبذ إليهم عهدهم؛ لأنه لم يُخَف منهم بل عُلم ذلك.
ودلّ مفهوم الآية أيضاً أنه إذا لم يُخف منهم خيانة؛ بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته( ).
ولهذا قال سليم بن عامر:كان بين معاوية وبين الروم عهد،وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم غزاهم،فجاء رجل على فرس أو بِرْذَونٍ وهو يقول:اللَّه أكبر،وفاء لا غدر.فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول اللَّه يقول: «من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشدُّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضيَ أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية( ). وهذا كلُّه يدلُّ على أن الهدف والمراد من الجهاد هو إعلاء كلمة اللَّه .
المثال الثالث: دفعه نزول العذاب على أعدائه :
ومن الأمثلة العظيمة على هذه الرحمة التي شملت حتى أعدائه قصّته مع مَلَك الجبال حينما بعثه اللَّه إليه؛ ليأمره بما شاء عندما آذاه المشركون، فجاء ملك الجبال وسلَّم عليه وقال: (يا محمد إن اللَّه قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت( )؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) [والأخشبان جبلان عظيمان في مكة، تقع مكة بينهما]، فقال رسول اللَّه لملك الجبال: «بل أرجو أن يخرج اللهُ من أصلابهم من يعبُد اللَّه وحده لا يُشرك به شيئاً»( ).
المثالث الرابع: سلامة قلبه ، وحُبّه الخير لليهود وغيرهم:
ومن الأمثلة العظيمة لرحمته حديث أنس قال: (كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي فمرض فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: له أطع أبا القاسم، فأسلم، [وفي رواية النسائي فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه]، فخرج النبي وهو يقول: «الحمد للَّه الذي أنقذه من النار» [وفي رواية أبي داود: أنقذه بي من النار]( ). وغير ذلك كثير.
النوع الثاني: رحمته للمؤمنين:
قال اللَّه تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( )، فقد بعث اللَّه تعالى النبي للناس كافة، وهو من أنفس المؤمنين خاصة، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، وهو في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جاهداً في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان، ويكره لهم الشر، وهو شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم؛ ولهذا كان حقُّهُ مُقدّماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره( ).
وقال اللَّه : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ( )، أقرب ما للإنسان نفسه، فالرسول أولى به من نفسه؛ لأنه بذل لهم النصح والشفقة والرأفة؛ فلذلك وجب على العبد إذا تعارض مراد نفسه مع مراد الرسول أن يُقدّم مُراد الرسول ، وأن لا يُعارض قول الرسول بقول أحد من الناس، كائناً من كان، وأن يُقدّم محبّته على محبّة الناس كلهم( ).
وقال : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( ). وقد قال : «اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به»( )، وقال : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً فعلينا قضاؤُهُ، ومن ترك مالاً فهو لورثته»( ).
النوع الثالث: رحمته للناس جميعاً :
1 - عن جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه : «من لا يَرحَم الناس لا يَرحَمُه اللَّه »( ).
2 - وعن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم يقول: «لا تُنزعُ الرحمة إلاّ من شقي»( ).
3 - وعن عبد اللَّه بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول اللَّه : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرحمن، فمن وصلها وصله اللَّه ومن قطعها قطعه اللَّه»( ).
النوع الرابع: رحمتهُ للصبيان :
1 - عن أنس بن مالك قال: جاء شيخٌ يريد النبي فأبطأ القوم عنه أن يُوسِّعوا له فقال النبي : «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّرُ كبيرنا»( ).
2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه : «ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا»( ).
النوع الخامس: رحمتهُ للبنات :
1- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه : «لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان فيتقي اللَّه فيهنَّ ويحسن إليهنَّ إلا دخل الجنة»( ).
2 - وعن أنس قال: قال رسول اللَّه : «مَن عال بنتين أو ثلاثاً، أو اختين أو ثلاثاً حتى يَبِنَّ( ) أو يموت عنهن كُنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين» وأشار بأصبعه الوسطى والتي تليها( ).
النوع السادس: رحمتهُ للأيتام :
1 - عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى( ).
2- عن أبي هريرة : أن رجلاً شكا إلى رسول اللَّه قسوة قلبه، فقال له: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين»( ).
النوع السابع: رحمتهُ للمرأة والضعيف :
1 - عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : «اللَّهم إنِّي أُحَرِّج( ) حقّ الضعيفين: اليتيم والمرأة»( ).
2 - وعن عامر بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول اللَّه فحمد اللَّه وأثنى عليه، وذَكّر ووعظ ثم قال: «استوصوا بالنساء خيراً؛ فإِنهنَّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك»( ).
3 - وعن أنس قال: إن النبي لم يكن يدخل بيتاً بالمدينة غير بيتِ أُمّ سُليم إلا على أزواجه، فقيل له. فقال: «إني أرحمها، قُتل أخوها معي»( ).
النوع الثامن: رحمتهُ للأرملة والمسكين :
1 - عن أبي هريرة قال: قال النبي : «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه، أو القائم الليل الصائم النهار»، ولفظ مسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللَّه، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر»( ).
2 - عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: كان رسول اللَّه يُكثِرُ الذّكر، ويُقِلُّ اللّغْوَ، ويُطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي له الحاجة( ).
3 - عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجهِ رسول اللَّه على المنبر، فما نزل حتى جيّش( ) كل ميزاب بالمدينة، فأذكر قول الشاعر:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه
ثِمَالُ( ) اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب( ).
والأرملة: المرأة التي مات زوجها، والأرمل الرجل الذي ماتت زوجته، وسواء كانا غنيين أو فقيرين، ويُقال لكلِّ واحدٍ من الفريقين على انفراده: أراملُ، وهو بالنساء أخصّ وأكثر استعمالاً( )؛ ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : (لئن سلّمَني اللَّه تعالى لأَدَعَنَّ أرامل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبداً)( ).
فاتضح من الأحاديث آنفة الذكر أن رسول اللَّه كان يرحم الأرامل والمساكين، ويَحُثّ على العناية بهم، وسدِّ حاجاتهم، فصلوات اللَّه وسلامه عليه.
4 - عن أمِّ بُجيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أنها قالت: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك: إن المسكين ليقومُ على بابي فما أجد له شيئاً أُعطيه، فقال لها رسول اللَّه : «إن لم تجدي له شيئاً تُعطينه إيّاه إلا ظلفاً مُحرَّقاً فادفعيه إليه في يده»( )، وهذا فيه رحمة النبي بالمساكين وحثّه على إطعامهم، على حسب القدرة والاستطاعة رحمةً بهم، وشفقةً عليهم.
النوع التاسع: رحمته لطلاب العلم والشفقة عليهم:
1 - عن أبي سعيد عن رسول اللَّه قال: «سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا: مرحباً مرحباً بوصية رسول اللَّه ، وأقنوهم» قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علّموهم( ).
2 - عن مالك بن الحويرث قال: أتينا إلى النبي ونحن شَبَبَةٌ متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول اللَّه رحيماً رفيقاً، فلما ظّنّ أنّا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا [وفي رواية: فلما رأى شوقنا إلى أهالينا] سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه، قال: «ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلّموهم، ومروهم،... وصلُّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذّن لكم أحدُكم وليؤمُّكم أكبَرُكُم»( )، وهذا فيه شفقة النبي ورحمته لطلاب العلم.
النوع العاشر: رحمة النبي للأسرى :
عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه : «فُكُّوا العاني -يعني الأسير- وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض»( )، وهذا الحديث فيه رحمة النبي للأسرى المسلمين، والأمر بفَكِّهم، والأمر بإطعام الجائع، وعيادة المريض.
النوع الحادي عشر: رحمة النبي للمرضى والشفقة عليهم:
1 - عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه يقول: «حقّ المسلم على المسلم ستّ» قيل: ما هُنّ يا رسول اللَّه؟ قال: «إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللَّه فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»( ).
2 - عن ثوبان قال: قال رسول اللَّه : «من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع» قيل: يا رسول اللَّه! وما خرفة الجنة؟ قال: «جناها»( ).
3 - عن علي قال: سمعت رسول اللَّه يقول: «ما من مسلم يعودُ مسلماً غدوة إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح، وكان له خريفٌ في الجنة»( ).
4 - عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عن النبي قال: «مَن عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلاّ عافاه اللَّه من ذلك المرض»( ).
وهذه الأحاديث فيها الرحمة الظاهرة من النبي بالمرضى، ورغبته العظيمة في نفعهم وشفائهم، وترغيبه لأمته في العناية بالمرضى وإدخال السرور عليهم.
النوع الثاني عشر: رحمتهُ للحيوان، والطير، والدواب:
1 - في حديث أبي هريرة أن رجلاً وجد كلباً يأكل الثرى من العطش، فسقاه فغفر اللَّه له، قالوا: يا رسول اللَّه! وإنَّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: «في كُلِّ كبدٍ رطبة أجر» وفي لفظ للبخاري: «فشكر اللَّه له فأدخله الجنة»( ).
2 - عن أبي هريرة عن النبي قال: «غُفِرَ لامرأة مومسةٍ مرَّت بكلبٍ على رأس ركيٍّ كاد يقتله العطش، فنزعت خُفَّها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك»( ).
3 - عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رسول اللَّه قال: «عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولاسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»( ).
4 - عن أنس ، عن النبي أنه قال: «ما من مسلم يغرس غرساً أو زرعاً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة»( ).
5 - عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رجلاً أضجع شاةً وهو يحدُّ شفرته،فقال النبي :«أَ تُريدُ أن تُميتَها موتاتٍ هَــــــلاَّ أحددتَ شفرتك قبل أن تُضْجِعَهَا؟»( ).
6 - وعن شداد بن أوس ، قال: قال رسول اللَّه : «إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِبْحَةَ، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»( ).
7 - وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يرفعه قال: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقِّها [إلا سأله] اللَّه عنها يوم القيامة» قيل: يا رسول اللَّه فما حقُّها؟ قال: «أن تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فَيُرمى بها»( )، وسمعت سماحة شيخنا ابن باز رحمه اللَّه يقول: ((قتل العصفور لا يجوز إذا كان للتلاعب، أما من قتله؛ لأكله أو الصدقة به فلا بأس))( ).
8 - وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنه مرَّ بصبيانٍ من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجةً يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كلَّ خاطئةٍ من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرَّقَوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن اللَّه من فعل هذا؛ إن رسول اللَّه : «لعن من اتخذ شيئاً فيه الروحُ غرضاً»( ) ( ).
9 - وعن ابن مسعود قال: كنا مع رسول اللَّه في سفرٍ، فانطلق لحاجته فرأينا حُـمَّرةً( ) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَفرش [أي تُرَفرِفُ بجناحيها وتقرب من الأرض] فجاء النبي فقال: «من فَجعَ هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها» ورأى قرية نملٍ( )قد حرَّقناها فقال: «مَن حرَّق هذه؟» قلنا: نحن، قال: «إنه لا ينبغي أن يُعَذِّب بالنار إلا ربُّ النار»( ).
10 - وعن جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النبي مَرَّ على حمارٍ قد وُسِمَ في وجهِهِ فقال: «لعن اللَّه الذي وسمه»( ) [الوسم الكي بحديدة].
11- وعنه : نهى رسول اللَّه عن الضرب في الوجهِ، وعن الوسم في الوجه( ).
12 - وعن عبد اللَّه بن جعفر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أردفني رسول اللَّه ذات يوم خلفه، وفيه: فدخل رسول اللَّه حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ فلمَّا رأى النبيَّ حَنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي فمسح ذفراه( ) فسكت، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟» فجاء فتىً من الأنصارِ فقال: لي يا رسول اللَّه، فقال: «أفلا تتقي اللَّه في هذه البهيمةِ التي ملَّكَكَ اللَّه إيَّاها؛ فإنه شكا إليَّ أنَّك تُجيعه وتُدئبُهُ»( ). ( )
وهذه نماذج يسيرة من أنواع رحمة النبي ؛ لأعدائه، وأحبابه، والمسلم، والكافر، والذكر والأنثى، والصغير، والكبير، والإنس، والحيوان، والطير، والنمل، وغير ذلك كثير لا يحصر في مثل هذا المقام. فصلوات اللَّه وسلامه عليه ما تتابع الليل والنهار.
النوع الثالث عشر: رقة قلبه وبُكاؤه في مواطن كثيرة:
لم يكن النبي يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية اللَّه تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ( ).
ومن الحالات التي بكى فيها النبي ما يأتي:
1 - بكاؤه من خشية اللَّه في صلاة الليل، فقال بلال: يا رسول اللَّه لِـمَ تبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»( ).( )
2 - بكاء النبي في الصلاة من خشية اللَّه تعالى، فعن عبد اللَّه بن الشخِّير قال: أتيت رسول اللَّه وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاءِ ( ).
3 - بكاء النبي عند سماع القرآن، فعن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال لي رسول اللَّه : «اقرأ عليَّ القرآن» فقلت: يا رسول اللَّه! أقرأ عليك؛ وعليك أُنزل؟ فقال: «نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري» قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا( )، فإذا عيناه تذرفان( ).
4 - بكاء النبي عند فقد الأحبة، بكى النبي عند موت ابنه إبراهيم، فجعلت عيناه تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول اللَّه؟ فقال: «يا ابن عوف! إنها رحمة... إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»( ).
5 - بكاء النبي عند وفاة إحدى بناته، قيل: هي أُمُّ كلثوم زوجة عثمان بن عفان رضي اللَّه عن الجميع، فعن أنس قال: شهدنا بنتاً للنبي قال: ورسول اللَّه جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم أحد لم يُقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها» قال: فنزل في قبرها فقَبَرها( ).
6 - وبكى عند موت ابنة له أيضاً، فعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أخذ رسول اللَّه ابنة له تقضي( ) فاحتضنها فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه، فصاحت أُمُّ أيمن، فقال: يعني رسول اللَّه : «أتبكين عند رسول اللَّه؟» فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إني لست أبكي إنما هي رحمة، إن المؤمن بكل خير على كلِّ حال، إنَّ نفسه تُنزع من بين جنبيه وهو يحمد اللَّه »( ).
7 - وبكى عند وفاة أحد أحفاده، فعن أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أرسلَتْ بنتُ النبيِّ ( ): إنَّ ابني قد احتُضِرَ فاشْهَدنا، فأرسل يُقرِئُ السلام ويقول: «إنّ للَّه ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب» فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأُبَيّ ابن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال ، فرُفِعَ إلى النبي الصبيُّ، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، قال: كأنها شَنّ، وفي رواية: (تقعقع( ) كأنها في شنٍّ( )، ففاضت عيناه) فقال سعد: يا رسولَ اللَّه ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب عباده» وفي رواية: «هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب مَن شاء من عباده، إنما يرحم اللَّه من عباده الرُّحماءُ»( ).
8 - بكى النبي عند موت عثمان بن مظعون،فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: رأيتُ رسولَ الله يُقَبِّل عثمان بن مظعون وهو ميِّتٌ حتى رأيت الدموع تسيل. ولفظ الترمذي: (أن النبي قَبّل عثمانَ بن مظعون، وهو ميِّتٌ وهو يبكي، أو قال: عيناه تذرفان)( ).
9 - بكى على شهداء مؤتة، فعن أنسٍ أن النبي نعى زيداً وجعفراً للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الرّايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف اللَّه حتى فُتِح عليهم»( ).
10- بكى عند زيارة قبر أمه، فعن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أَزورَ قبرها فَأذِنَ لي، فزورُوا القبور فإنها تذكركم الموت»( ).
11 - بكى عند سعد بن عبادة وهو مريض، فعن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي يعوده مع عبد الرحمن بن عوف،وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن مسعود ، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله( )، فقال: «قد قضى؟» قالوا: لا يا رسول اللَّه، فبكى النبي ، فلما رأى القوم بكاء النبي بَكَوْا، فقال: «ألا تسمعون؟ إن اللَّه لا يُعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذب بهذا»( ) – وأشار إلى لسانه – «أو يرحم...»( ) الحديث( ).
12 - بكى عند القبر، فعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كُنّا مع رسول اللَّه في جنازة فجلس على شفير القبر فبكى حتى بَلَّ الثَّرى ثم قال: «يا إخواني! لِـمِثْلِ هذا فأعِدُّوا»( ).
13 - بكى في ليلة بدر وهو يصلي يناجي ربه ويدعوه حتى أصبح، فعن علي بن أبي طالب ، قال: ما كان فينا فارس يوم بدرٍ غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللَّه تحت شجرةٍ يُصلّي ويبكي حتى أصبح( ).
14 - بكى في صلاة الكسوف، فعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: انكسفتِ الشمس يوماً على عهد رسول اللَّه ، فقام رسول اللَّه يُصلّي، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، فجعل ينفخ ويبكي، وذكر الحديث، وقال: فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: «عُرِضَتْ عليَّ النار فجعلت أنفخها، فخفت أن تغشاكم» وفيه: «ربِّ ألم تعدني ألا تُعذّبهم»( ).
15 - بكى لقبوله الفداء في أسرى معركة بدر، ففي حديث عبد اللَّه بن عباس عن عمر بن الخطاب : (... فلما أسروا الأسارى قال رسول اللَّه لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء؟» فقال أبو بكر: يا نبي اللَّه! هم بنوا العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار، فعسى اللَّه أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللَّه : «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه ما أرى الذي رأى أبو بكرٍ، ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم، فتُمكِّن علياً من عقيلٍ فيضربُ عُنقه، وتُمكِّنِّي من فلانٍ - نسيباً لعمر - فأضربَ عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها، فَهَوِيَ رسولُ اللَّه ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قُلْتُ، ولَـمّا كان مِنَ الغَدِ جئتُ فإذا رسول اللَّه وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول اللَّه! أخبرني من أيّ شيءٍ تبكي أنت وصاحبُك؟ فإن وجدتُ بُكاءً بكيت، وإن لم أجد بُكاءً تباكيتُ لبكائكما؟ فقال رسول اللَّه : «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» شجرةٍ قريبةٍ من نبيّ اللَّه ، وأنزل اللَّه : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ( ) فِي الْأَرْضِ إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ( )، فأحلّ اللَّه الغنيمة لهم)( ).
16 - بكى النبيُّ شفقة على أمته، فعن عبد اللَّه بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أنّ النبيَّ تلا قول اللَّه في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ( ) الآية، وقال عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ) الآية، فرفع يديه وقال: «اللَّهم أُمّتي أُمّتي» وبكى، فقال اللَّه : «يا جبريل اذهب إلى محمد وربُّك أعلم فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول اللَّه بما قال وهو أعلم، فقال اللَّه: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوءك»( ).
ثالثاً: تلطفه بالأطفال وإدخال السرور عليهم
وَصَلَ النبيُّ إلى الدرجة العليا في الكمال البشري في جميع المجالات، ومن هذه الأخلاق العظيمة أخلاقه مع الأطفال التي ضرب فيها المثل الأعلى، ولا يصل إلى درجته أحد من خلق اللَّه تعالى، لا علماء النفس، ولا غيرهم؛ ولكن مع ذلك المسلم يُلْزِمُ نفسه على حسب قدرته بالاقتداء بالنبي ، ومن هذا تلطفه ومداعبته الكريمة للأطفال، ومن ذلك على سبيل المثال والإيجاز ما يأتي:
المثال الأول: مداعبته محمود بن الرُّبيع :
قال محمود : ((عَقلتُ من النبي مَـجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلوٍ))( )، وقوله : عقلت: أي حفظت، ومجةً: المجُّ هو إرسال الماء من الفَمِ، ولا يُسمَّى مجًّا إلا إذا كان عن بُعدٍ، وفعل ذلك إمَّا مداعبةً أو ليُبارك عليه كما كان ذلك شأنه مع أولاد الصحابة( )، قال شيخنا ابن باز رحمه اللَّه: وهذا من باب المداعبة وحسن الخلق( ).
المثال الثاني: ملاطفته ومداعبته لجملة من الأطفال:
عن جابر بن سَمُرة ، قال: ((صليتُ مع رسول اللَّه صلاة الأُولى ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبلهُ وِلدانٌ فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحداً واحداً، قال: وأما أنا فمسح خدَّيَّ فوجدت لِيَدِهِ برداً أو ريحاً، كأنما أخرجها من جؤنة عطّار))( )، والجؤنة: السفط الذي فيه متاع العطار.
المثال الثالث: ملاطفته الحسن والحسين في مواقف كثيرة:
1 - عن أبي هريرة قال: قبَّل رسول اللَّه الحسن بن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابسٍ التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول اللَّه ثم قال: «من لا يَرْحم لا يُرحم»( ).
2 - وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النبي فقال: تُقَبِّلون صبيانكم فما نُقَبِّلُهُم، فقال النبيُّ : «أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أن نَزَعَ اللهُ من قلبك الرحمة»( )، والمعنى: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها اللَّه منه( ).
3 - والحسن والحسين رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا من أحب الناس إلى النبي ، فعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: ... وسمعتُ النبي يقول: «هُمَا ريحانتاي من الدنيا»( )، والمعنى: أنهما مما أكرمني اللَّه وحباني به؛ لأن الأولاد يُشمّون ويُقبَّلون، فكأنهم من جملة الرياحين، وقوله «من الدنيا» أي نصيبي من الريحان الدنيوي( ).
4 - وعن أبي بكرة قال: سمعت النبي على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعلَّ اللَّه أن يُصلِحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»( ).
وقد أصلح اللَّه به بين معاوية ومن معه وأتباع علي بن أبي طالب ومن معه فتنازل عن الخلافة لمعاوية فحقن اللَّه تعالى به دماء المسلمين( ).
5 - وعن البراء قال: رأيتُ النبيَّ والحسن بن عليٍّ على عاتقه يقول: «اللَّهم إني أُحِبُّه فأَحِبَّه»( ).
المثال الرابع: ركوب الصبي على ظهره وهو ساجد:
وعن شدَّادٍ قال: خرج النبي إلى الناس؛ ليصلي بهم إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدَّم رسول اللَّه فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أَبِي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول اللَّه ، وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول اللَّه الصلاة قال الناس: يا رسول اللَّه! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظنَنّا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أُعَجِّلَهُ حتى يقضي حاجته»( ).
المثال الخامس: محبته لأُسامة :
عن أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: كان رسول اللَّه يأخذني فَيُقْعِدُني على فخذه ويُقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثُمَّ يضمُّهما ثم يقول: «اللَّهم ارحمهما فإني أرحمهما» وفي رواية: «اللَّهم إني أُحبُّهما فأَحبَّهما»( ).
المثال السادس: حَـمْلُهُ بنت زينب وهو يصلي:
فعن أبي قتادة أن رسول اللَّه كان يصلي وهو حاملٌ أمامة بنت زينب، بنت رسول اللَّه بنت أبي العاص، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها( ).
المثال السابع: مداعبة أم خالد باللغة الحبشية:
فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: ((أتيت رسول اللَّه مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول اللَّه : «سَنَه سَنَه» قال عبد اللَّه الراوي: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي( )، قال رسول اللَّه : «دعها» ثم قال: «أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي» قال عبد اللَّه فبقيت حتى ذكر))( )، والمعنى فبقيت حتى ذكر الراوي من بقائها أمداً طويلاً، وقيل: لم تعش امرأة مثلما عاشت أم خالد( ).
المثال الثامن: تخفيفه الصلاة عند بكاء الصبي:
كان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبي رحمة لأمه وشفقة عليها وعليه، ، فعن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي قال: «إِنِّي لأقوم في الصلاة أُريد أن أُطوِّل فيها فأسمع بكاء الصّبيِّ؛ فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أُمِّه»( ).
المثال التاسع: سلامه على الصبيان:
فعن أنس بن مالك أنه مرَّ على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي يفعله( ).
المثال العاشر: مداعبته لأبي عُميرٍ:
فعن أنس ، قال: كان النبي أحسن الناس خُلقاً، وكان لي أخٌ يُقال له: أبو عُمير – أحسبه فَطِيماً – وكان إذا جاء قال: «يا أبا عُمير ما فعل النُّغير؟»( ) نُغرٌ كان يلعبُ به، أي طير صغير كان يلعب به أبو عمير، فمات النُّغير، فرآه النبي حزيناً على النغير، فداعبه ( ).
المثال الحادي عشر: إعطاؤه الصبي قبل الأشياخ؛ لأنه عن يمينه:
أعطى الشراب لغلام صغير عن يمينه قبل الأشياخ، فعن سهل بن سعد قال: أُتِـيَ النبي بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلامٌ أصغر القوم، والأشياخ عن يساره فقال: «يا غلام أَتَأْذَنُ لِـي أَن أُعطيه الأشياخ؟» قال: ما كنت لأوثر بفضلي منكَ أحداً يا رسول اللَّه! فأعطاه إياه. وفي رواية: «أَتَأْذَنُ لي أن أُعطِيَ هؤلاء؟» فقال الغلامُ: لا واللهِ يا رسول اللَّه، لا أُوثِرُ بنصيبي منك أحداً، قال: فَتَلَّهُ رسولُ اللَّه في يده( ).
المثال الثاني عشر: بول الصبيان في حجره :
فعن أمِّ قيس بنت مِحصنٍ أنها أتت بابنٍ لها لم يأكل الطعام إلى رسول اللَّه فأجلسه رسول اللَّه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فنضحه ولم يغسله( ).
وغير هذه المواقف كثيرةٌ جداً.
وصلَّى اللَّه وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.