الوصف
إنها أعظم كلمة قالها نبيٌّ وأُرسِل بها ليدعو إلى تحقيقها والعمل بمُقتضاها، وهي التي لأجلها خلق الله الخلقَ، وخلق الجنة والنار، وصنَّف الناس على حسب تحقيقهم لها إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، ولذا كان من الواجب على كل مسلم معرفة معناها وشروطها ومُقتضيات ذلك. وهذه الرسالة تُوضِّح هذا المعنى الجليل، مع ذكر ضدِّه وهو: الشرك، والتحذير من كل ما دخل في الشرك؛ من السحر والدجل والشعوذة، وغير ذلك.
عبد الله بن إبراهيم القرعاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ملأ قلوب الموحدين من أنوار «لا إله إلا الله»، وأوضح الفرقان للمخلصين لما أشرقت في قلوبهم أنوار «لا إله إلا الله»، خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بـ «لا إله إلا الله»، خلق الإنسان في أحسن تقويم وجمله بالعقل والتعليم والتفهيم ليعرفه بـ «لا إله إلا الله».
أحمده سبحانه أن جعلنا من أهل «لا إله إلا الله»، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وِأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد.. إن الصلاة عمود الإسلام ومع ذلك لم تفرض إلا بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين.
فالتوحيد هو الأصل والأساس، ذلك لأنه يوجد من يدخل الجنة ولو لم يصلي ركعة واحدة كأن يقتل، أو يموت قبل أن يتمكن من فعل الصلاة؛ إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكًا به.
وأما الصلاة فإنها لا تنفع وحدها ولو صلى وزكى وصام إذا لم يعتقد التوحيد. فإنه ما هلك من هلك؛ إلا بترك تعلم التوحيد والعمل به، وما دخل الشيطان على من دخل ولا مزق عقول من مزق، ولا وقع ما وقع؛ إلا من آفة قولهم يكفي النطق بالشهادة ولو لم يعلم بها.
فيا ذوي العقول الصحاح! ويا ذوي البصائر والفلاح! نادوا في الغدو والرواح بالفلاح، فلا فلاح إلا لأهل «لا إله إلا الله»، ويا ذوي الإيمان والصلاح! جددوا إيمانكم في المساء والصباح، بتأمل معنى «لا إله إلا الله».
فما خلقت السموات والأرض، ولا سنت السنن والفرائض، ولا نجاء من نجا يوم العرض إلا من أجل «لا إله إلا الله»، ولا سلت سيوف الجهاد ولا شرعت التكاليف على العباد إلا لحقوق «لا إله إلا الله»، ولا أبيحت الدماء والأموال، وأحبطت أعمال كثيرين من العمال إلا بالخروج عن حكم «لا إله إلا الله»، وما أهلكت الأمم على الأفراد والتعميم، وملئت بالعصاة نار الجحيم إلا بعدم العمل بـ «لا إله إلا الله».
غويت أحلام الجاحدين وأضلت أفئدة المعاندين كيف جعلوا إلاهين اثنين وقد أشرقت شمس «لا إله إلا الله»، علم العتاة الفجرة والمتمردون الكفرة الآبون عن قول «لا إله إلا الله»، أنه يلزم قائلها، صدقًا وإيمانًا، توحيد الله وإخلاص العبادة له سرًا إعلانًا.
فلذا قالوا للرسول ﷺ لما قال لهم قولوا «لا إله إلا الله»: ﴿أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾.
جعلنا الله وإياكم ممن أخلصها وصفاها، وقام بشرائطها واستوفاها، وأدى حقوقها، ووفاها وجانب نواقضها وتوقاها، وفاضت عليها نفسه إذا توفاها.
إن للإقرار بالشهادتين ومعرفة معناهما والعمل بمقتضاهما، إن لذلك آثارًا واضحة في حياة المسلم والمسلمة، من ذلك أن ينشئ في قلب المؤمن الموحد من التوكل على الله والعزة ما لا يقوم دونه شيء، لأنه يعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله وهو المحي والمميت، له الخلق والأمر، ومن ثم يذهب من القلب الاعتماد على غير الله، ويذهب الخوف من القلب إلا من الله جل وعلا.
ومن ذلك ينشأ من المؤمن مع عزة النفس تواضع من غير ذلٍّ، وترفع من غير كبر؛ لأنه يعلم ويستقين أن الله تعالى الذي وهبه كل ما عنده؛ قادر على سلبه إياه إذا شاء.
أما من جهل معنى لا إله إلا الله ولم يعمل بها؛ فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة، ومن ذلك أن العامل بلا إله إلا الله، لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمته، ولا يأمن مكر الله؛ لأنه يؤمن أن الله تعالى عليم حكيم، له خزائن السموات والأرض، ومن ثم فهو على طمأنينة وسكينة، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن.
ومن ذلك أن الإيمان والعمل بكلمة التوحيد يسبب للمسلم العزم والثبات والصبر والتوكل.
ومن ذلك أن الإيمان والعمل بلا إله إلا الله يرفع قدر المؤمن، وينشئ فيه الترفع عن الأخلاق المذمومة، والقناعة والاستغناء بالله، ويطهر قلبه من أوساخ الطمع والشره والحسد والكذب، والافتراء والدناءة وغيرها من الصفات القبيحة من البغي والعدوان والتحريش بين المسلمين والإفساد بينهم والغيبة والنميمة، وإن من تمام العمل بلا إله إلا الله يجعل المؤمن وقافًا عند حدود الله، لا يرتكب ما حرم الله لا جهرًا ولا سرًا، ويحمله على المسارعة في الخيرات والمسابقة إلى الأعمال الصالحات، ويحب للمسلمين ما يحبه لنفسه ويكره ما يكرهه لنفسه.
لذا فإني جمعت ما تيسر في ذلك، وسميته «القول المنير في معنى لا إله إلا الله والتحذير من الشرك والنفاق والسحر والسحرة والمشعوذين».
أسأل الله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعلني فيه متبعًا هدي سيد المرسلين، وأن ينفعني فيه وكل من قرأه أو سمعه إنه ولي ذلك القادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبــه
عبد الله بن إبراهيم بن عثمان
القرعاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة.
ولذا قضى أن لا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير.
أحمده تعالى على جزيل إنعامه وإفضاله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق العلى الكبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، المرسل إلى الناس كافة بالملة الحنيفية والهدى المنير، بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين والشرك مضطرمة ناره، طائر شراره مرتفع غباره لا مغير له ولا نكير.
فقام بتبليغ الرسالة حق القيام، وجاهد في الله حق جهاده إعلاءً لكلمة الله الملك العلام، حتى جاء الحق وزهق الباطل، وأدبر ليل الكفر والضلال، وانفجر فجر الإيمان والإسلام، ونشرت أعلام التوحيد، وعلا بنيانه وأشرقت أنواره، ونكست راية الشرك وانكسرت شوكته، وخمدت ناره ورمي بناؤه بالدمدمة والتكسير والتدمير، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أوعية العلم وأنصار الدين القويم، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: إن أول شيء بدأت به الرسل قومهم في الدعوة إلى الله، هو التوحيد كما قال الله عز وجل عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم، أن أول شيء بدأوا به قومهم ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ فهذه دعوة الرسل.
لذا فإن الواجب على المسلم أن يهتم بمعرفة التوحيد ومعرفة ما يضاده، فإنه يجب عليه معرفة أصل الدين إجمالاً قبل الواجب من الفروع، لأنه لا تصح الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج ولا الصدقة قبل الأصل، فلا بد من معرفة أصل الدين إجمالاً، ثم معرفة فروعه تفصيلاً، كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن قال له «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك فأعملهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» الحديث.
وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به فلا يدعوهم للصلاة، فإن الصلاة لا تنفع، ولا غيرها بدون التوحيد، فإنه لا يستقيم بناء على غير أساس، ولا فرع على غير أصل، والأصل والأساس هو التوحيد. إن شهادة أن لا إله إلا الله هي الكلمة التي أرسل الله بها رسله وأنزل بها كتبه، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، وبها يثقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبها أخذ الله الميثاق، وعليها الجزاء والمحاسبة، وعنها السؤال يوم التلاق.
هذه الكلمة هي أعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عباده أن هداهم إليها، ولهذا ذكرها في سورة النحل التي هي سورة النعم فقدمها أولاً قبل كل نعمة فقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ وهي كلمة الشهادة ومفتاح دار السعادة، وهي أصل الدين وأساسه، ورأس أمره وساق شجرته وعمود فسطاطه، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها متشعبة منها مكملات لها.
وهذه الكلمة مقيدة بالتزام معناها والعمل بمقتضاها، فهي العروة الوثقى التي قال الله عز وجل: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ قاله سعيد بن جبير والضحاك، وهي العهد الذي ذكر الله عز وجل إذ يقول: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ قال ذلك عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: هو شهادة أن لا إله إلا الله، والبراءة من الحول والقوة إلا بالله، وأن لا يرجوا إلا الله عز وجل.
وهي الحسنى التي قال الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.
وهي كلمة الحق التي ذكر الله عز وجل إذ يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قال ذلك البغوي.
وهي كلمة التقوى التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾.
وهي القول الثابت الذي ذكره الله عز وجل إذ يقول تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾.
وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلاً قبل ذلك إذ يقول تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها العمل الصالح في السماء صاعدًا إلى الله عز وجل.
وهي الحسنة التي ذكر الله عز وجل إذ يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾، وقال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ﴾.
حقيق بمن عرف فضل «لا إله إلا الله» أن يحرص على تعلم معناها والعمل به. وأن يهتم بذلك غاية الاهتمام ويعتني به غاية الاعتناء، وإنه لميسر على من يسره الله عليه موجود في كتب العلماء المحققين، كالإمام المجدد لمعالم الإسلام في القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – وذلك في كتبه «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد»، و«الأصول الثلاثة»، و«كشف الشبهات»، جزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وكذلك «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد» للشيخ العلامة المحقق عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله تعالى أجمعين -، وكذلك «معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول» للشيخ حافظ بن أحمد حكمي – رحمه الله-.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا علمًا نافعًا، وعملاً متقبلاً، ورزقًا طيبًا إنه سميع الدعاء.
إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله، لها شروط سبعة يجب أن يعمل بها المسلم في الباطن والظاهر، حتى يكون مؤمنًا حقًا مستقيمًا، وهذه الشروط هي:
الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا لقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، ولقوله: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ أي: بلا إله إلا الله ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم.
الثاني: اليقين وهو كمال العلم بها، المنافي للشك والريب، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾، فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾.
الرابع: الصدق المنافي للكذب، المانع من النفاق، لقوله تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾.
السادس: الانقياد بحقوقها وهي الأعمال الواجبة، إخلاصًا لله وطلبًا لمرضاته لقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
السابع: القبول المنافي للرد؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾.
* * * *
إذا أردت أيها المسلم أن تأتي بلا إله إلا الله على أكمل الوجوه ينبغي لك أن تلاحظ فيها اثني عشر أمرًا.
الأول: لفظها. | الثاني: معناها. |
الثالث: حقها. | الرابع: حقيقتها. |
الخامس: حكمها. | السادس: لازمها. |
السابع: مقتضاها. | الثامن: نواقضها. |
التاسع: متمماتها. | العاشر: فائدتها وثمرتها. |
الحادي عشر: فضلها. | الثاني عشر: إعرابها. |
وينبغي للذاكر بها في لفظها أن لا يمد ألف«لا» جدًّا، وأن يقطع الهمزة من «إله»؛ إذ كثيرًا ما يلحن القائل فيرددها «يا» وكذلك يفصح الهمزة من «إلا»، ويخفف لام «إلا الله»؛ لكسر ما قبلها، وأما لفظة الجلالة «الله» فلا يزيد فيها على مقدار المد الطبيعي، إذ كثير من المؤذنين يفرطون في مد لفظ الجلالة، ويزيدون في المد وهذا خطأ، ولا ينبغي أن يفعل هذا من يرجو ثواب ذلك من ربه تبارك وتعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الشرك في عبادة الله جل وعلا أعظم ذنب عصي الله به لما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: سألت رسول الله ﷺ أي الذنب أعظم عند الله قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك...» الحديث.
ولهذا أخبرنا سبحانه أنه لا يغفره فقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وأخبر أنه لا أضل من فاعله، فقال عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾، وأخبر أن فاعل الشرك الأكبر مخلد في النار أبدًا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾، وأخبر سبحانه أن فاعل الشرك الأكبر لو قام لله تعالى قيام السارية ليلاً ونهارًا ثم أشرك مع الله تعالى غيره شركًا أكبر، لحظة من اللحظات وما على ذلك فقد حبط عمله كله بتلك اللحظة التي أشرك فيها، قال عز وجل: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
إنه ينبغي للمؤمن أن يخاف من الشرك ويحذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه، ولهذا قال حذيفة – رضي الله عنه -: «كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه» [رواه البخاري].
وذلك أن من لم يعرف الشرك قد يأتيه وهو لا يعرف أنه من الشرك فإما أن يقع فيه، وإما أنه لا ينكره كما ينكره الذي عرفه، كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية».
ولهذا ذكر الإمام المجدد لمعالم الإسلام شيخ الإٍسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى- المخالفَ لمعنى لا إله إلا الله ولما دلت عليه وتقتضيه فقال – رحمه الله – والمخالف في ذلك أنواع:
فمن الناس من عبد الله وحده ولم ينكر الشرك ولم يعاد أهله، ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم، ومنهم من لم يحب التوحيد ولم يبغضه، ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه، ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره فلم ينفعه.
قال الشارح ولا يكون موحدًا إلا من نفى الشرك وتبرأ منه وممن فعله وكفرهم، وبالجهل بالشرك لا يحصل شيء مما دلت عليه لا إله إلا الله.. إلخ.
من عرف أن الشرك الأكبر لا يغفره الله، وأن فاعله إذا مات على ذلك ولم يتب، فإنه خالد مخلد في النار، أبدًا أبدًا: ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾.
أوجب له شده الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله، كما خاف من ذلك الخليل على نفسه وبنيه، فدعا ربه أن يجنبه عبادة الأصنام، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾، فدعا الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة السلام ربه أولاً بما يعينه على طاعة الله، وهو كون محل العابد آمنًا لا يخاف فيه إذ يتمكن فيه من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانيًا بأن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام.
وهذا الدعاء من الخليل – عليه السلام – يدل على شدة خوفه على نفسه ومن هو دونه أن يعبد الأصنام، فعلينا أن نتأسى بإبراهيم نبي الله ورسوله في الخوف من الشرك وطلب حسن الخاتمة، فقد كرر الخليل عليه السلام النداء وذكر السبب في طلبه أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾، إذا قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام، ومعنى أضللن، أي كن سببًا لإضلال كثير من الناس، والمعنى أنهم ضلوا بعبادتها كما يقال فتنتهم الدنيا، أي افتتنوا بها واغتروا بسببها.
فاعتنوا رحمكم الله باقتناء الكتب التي تبين ذلك وتوضحه، كـ«كشف الشبهات»، و«الأصول الثلاثة»، و«كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد»، وشرحه «فتح المجيد»، و«مجموعة التوحيد» التي تشتمل على ستة وعشرين رسالة لأئمة الهدى وخيارهم في التقى شيخي الإسلام أحمد ابن تيمية الحراني، ومحمد بن عبد الوهاب، ومن حذا حذوهما من علماء السلف رحمهم الله تعالى أجمعين، قال الله تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
فيا عباد الله: إن الشرك أظلم الظلم، وأبطل الباطل، فهو هضم للربوبية وتنقص للألوهية وسوء ظن برب العالمين، وهو أقبح المعاصي لأنه تسوية للمخلوق الناقص بالخالق الكامل سبحانه من جميع الوجوه، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة كما قال ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» [رواه مسلم].
فالشرك تشبيه المخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده.
فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياًة ولا نشورًا فضلاً عن غيره شبيهًا بمن له الخلق كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.
ومن خصائص الإله جل وعلا الكمال المطلق، من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة، والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الذل، كل ذلك يجب عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله؛ فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له كما كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك، فقال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أيٍ: تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أي: يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكًا له من ماله فهو وهو فيه على السواء ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تخافون أن يقاسموكم الأموال.
قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك وليس له ذاك كذلك الله لا شريك له، والمعنى أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فأهل العقول يعرفون قبح الشرك لأنه تسوية للمالك بالمملوك، والخالق بالمخلوق، هذا إذا لم يتلطخ العقل بشعب الكفر والشرك والنفاق، ولم يتدنس بدنس الذنوب والسيئات، ولم يختل بأمراض الشبهات والشهوات، فإنه يدل صاحبه على فطرة الله التي فطر الناس عليها وهي الملة الحنيفية ملة إبراهيم ودين محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
لو أن ملكًا من الملوك في الدنيا أتاه مظلوم من رعاياه فدعاه مع عبد مملوك له في أخذ مظلمته مثل أن يقول: يا أيها الملك ويا أيها المملوك خذا مظلمتي من هذا؟ لكان ذلك من الخطأ والقبح الذي ينكره كل ذي عقل سليم لأنه دعا الملك مع مملوكه وشاركه معه في حكمه وأمره.
إذا كان دعوة الملك مع مملوكه جميعًا في قضاء الحاجة خطأ وقبيحًا، وهم من بني آدم إلا أن الله تعالى جعل المملوك تحت الملك، فكيف بالأحد الصمد الحي القيوم، الذي ليس كمثله شيء؛ يدعى مع عبده المخلوق الضعيف العاجز، الذي لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا حيًا كان أو ميتًا؟!! كأن يقول: «يا الله يا عيدروس» أو « يا الله يا حسين» أو «يا الله يا رسول الله»، وقد أعلمنا الله سبحانه أن هذا من الكفر بالله تعالى، فقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾.
ومثال آخر: لو أن غنيًا كريمًا ينفق من أصناف المال سرًا وجهرًا، وعنده مملوك لا يقدر على شيء لا لنفسه ولا لغيره، فجاء محتاج وطلب حاجته من العبد وترك الغني الكريم، هل يجوزه العقل، بل يستنكره ويستقبحه؛ فإذا كان هذا يستقبح أن يفعله مع الغني الكريم وعبده، وهم من بني آدم.
فكيف برب البرايا والعالمين مالك الملك والملكوت يترك ويعرض عنه ويدعى من دونه المخلوق الضعيف؛ بل الموتى بل الأشجار والأحجار في كشف الكربات ودفع الملمات، وقد ذكر الله تعالى ذلك بقوله: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
ولو أن أحدًا من الناس مر على مقبرة ومعه دابة فوقعت دابته في حفرة من الحفر، وحوله رجل حي قوي فتركه ودعا أهل القبور، يا فلان يا فلان يعدد الموتى ساعدوني على دابتي، هل يجوزه العقل، بل ينكره ويستقبحه، وكل عاقل يوبخه على فعله هذا.
فإذا كان هذا يستقبح من مخلوق يترك مخلوقًا حيًا، فيما يقدر عليه، فكيف بمن يترك الحي القيوم، ويدعو في كشف الكربات ودفع الملمات أهل القبور؟ كأن يقول يا عبد القادر الجيلاني، يا إبراهيم الدسوقي، يا أحمد البدوي، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا ويرشدنا ويدلنا ويثبتنا على صراطه المستقيم ودينه القويم.
* * * * بسم الله الرحمن الرحيم
اتقوا الله حق تقاته وكونوا مع الصادقين، واجتنبوا الكذب في الظاهر والباطن، في اللسان والقلب، فإنه من صفات المنافقين احرصوا على إصلاح الظاهر والباطن، وتجنب الإثم والرذيلة ظاهرًا وباطنًا، فلقد أمر الله بإصلاح الباطن كما أمر بإصلاح الظاهر، فأصلح العقائد بالتوحيد فحصل به الصلة بين الخالق والمخلوق، بحيث يفرد المخلوق خالقه بالعبادة دون تشريك أو مزاحمة، بكذب أو نفاق أو رياء وسمعة، وذلك من إصلاح المخبر والباطن كما أصلح الإسلام الروابط بين المسلمين بالخلق القويم فحصل به الصلة بين الأفراد، بحيث لا يبغي أحد على أحد ويرى المسلم لأخيه ما يراه لنفسه، من حقوق وواجبات والمعاملات وغيرها، وذلك من إصلاح المظهر والظاهر.
وإن الطريق القويم لإصلاح المظهر والمخبر والظاهر والباطن وإصلاح الدين والخلق معًا، هو اجتناب النفاق بنوعيه، فإنه الداء العضال الباطن، الذي قد يكون الإنسان ممتلئًا منه وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي على الناس، وكثيرًا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
والنفاق: بتعريفه الجامع، هو إظهار الخير والإٍسلام وإبطان الشر والكفر. قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
وزرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء، ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة، فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه.
والنفاق على نوعين: أكبر وأصغر.
النوع الأول النفاق الأكبر:
وهو النفاق الاعتقادي، يوجب الخلود في النار، في دركها الأسفل قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، يبطن في قلبه الكفر بذلك أو ببعضه، وقد وصف الله هؤلاء المنافقين بصفات الشر كلها، من الكفر وعدم الإيمان والاستهزاء بالدين وأهله، وميلهم إلى أعداء الدين ويسعون في إغراء العداوة بين المسلمين.
ولقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلى لعباده أمورهم، ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، فذكر طوائف العالم الثلاثة، في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين ثلاث عشرة آية، لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله.
فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدًا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
لبسوا ثياب أهل الإيمان، على قلوب أهل الزيغ والخسران رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي، أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
أٍسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر، فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن، وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾، لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم الرياء؛ وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن؛ فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
أسروا سرائر النفاق، فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم، وفلتات اللسان، ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد، كيف؟ والناقد البصير قد كشفها لكم ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾.
فكيف إذ جمعوا ليوم التلاق، وتجلى الله جل جلاله للعباد، وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾.
أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم؟ وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام، وهو دحض مزلة، مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام، فقسمت بين الناس الأنوار، وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب، وأعطوا نورًا ظاهرًا مع أهل الإسلام، كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق، فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب.
ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح، باطنه – الذي يلي المؤمنين – فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة، ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم، تبدوا لناظر الإنسان ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا، ولا جواز اليوم إلا بمصباح من نور ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ حيث قسمت الأنوار، فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار!.
كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق؟ فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق؟ وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق؟ فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾؟ نصوم كما تصومون، ونصلي كما تصلونِ، ونقرأ كما تقرؤون، ونتصدق كما تصدقون، ونحج كما تحجون؟ فما الذي فرق بيننا اليوم؟ حتى انفردتم دوننا بالمرور؟ ﴿قَالُوا بَلَى﴾، ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد، وكل ظلوم كفور﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.
لا تستطل أوصاف القوم، فالمتروك والله أكثر من المذكور، كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور، فلو خلت بقاع الأرض منهم لاستوحش المؤمنون في الطرقات، وتعطلت أسباب المعايش، وتخطف الوحوش والسباع في الفلوات.
سمع حذيفة – رضي الله عنه – رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: «يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك».
لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه وجله وتفاصيله وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين.
قال عمر بن الخطاب لحذيفة – رضي الله عنهما-: « يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله ﷺ منهم؟ قال: لا. ولا أزكي بعدك أحدًا».
وقال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل» [ذكره البخاري].
وذكر عن الحسن البصري: «ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن». ولقد ذكر عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه: «اللهم إني أعود بك من خشوع النفاق، قيل وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعًا والقلب ليس بخاشع».
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانًا ويقينًا، وخوفهم من النفاق شديد، وهمهم لذلك ثقيل، وسواهم كثير، منهم من لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل.
النوع الثاني: النفاق الأصغر:
وهو النفاق العملي وذلك بأن يظهر الإنسان علانية صالحة ويبطن ما يخالفها من الغدر والخيانة، وهذا النوع لا يخرج من الدين بالكلية؛ إلا أنه طريق إلى النفاق الأكبر بل زرعه!.
وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة، في خبر النبي ﷺ بقوله: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أْتُمِن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» [متفق عليه].
فالخيانة في الأمانة في أي نوع من الأنواع، أو شكل من الأشكال، وبأي وسيلة من الوسائل هي دليل واضح على مخالفة مظهر الخائن لمخبره وذلك من خلق المنافقين، من أجل ذلك حذر رسول الله ﷺ أتباعه من هذا الخلق الذميم، واستعاذ من الخيانة لعظم خطرها على المسلمين ولما يترتب عليها في الآخرة من سوء المصير، فقال: «وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة».
وأما الكذب فهو ظاهرة بينة بخلق الكاذب وضعف نفسيته وانحلال خلقه، ولقد نفى رسول الله ﷺ عن المؤمن أن يكون كذابًا، (قيل له: يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: «نعم»، قيل له: أيكون بخيلاً؟ قال: «نعم» قيل: أيكون كذابًا؟ قال: «لا») [أخرجه مالك في الموطأ].
وما ذاك إلا لأن الكذب خصلة عار تهدم شخصية المسلم بين المسلمين الصادقين، وتعرضه لعقاب الله يوم تبيض وجوه الصادقين وتغبر وتسود وجوه الكاذبين، كما قال عز وجل: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾.
وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «إن الشيطان ليتمثل في صور الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أعرف اسمه يحدث كذا وكذا». وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: «إن في البحر شياطين مسجونة أوثقهما يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآن» [خرجهما مسلم في مقدمة كتابه الصحيح].
وأما الغدر بعد الأمان، ونقض العهد بعد توكيد الأيمان، وعدم الوفاء بما تعاقد عليه المرء والتزمه؛ فليس ذلك من خلق المسلم بل هو من خلق المنافقين الذي يبطنون خلاف ما يظهرون، حيث أمر الله سبحانه الوفاء بالعهد ورعاية ما يلتزمه من حقوق قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ ومن الوعيد في حق الغادر قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وقوله ﷺ: «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به». وفي رواية: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: ألا هذه غدرة فلان» [متفق عليه].
الغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، وعهود المسلمين فيما بينهم الوفاء بها أِشد، ونقضها أعظم إثمًا ومن أعظمها نقض عهد الإمام.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ورجل بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفى له، وإلا لم يف له».
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ أنه قال: «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية؛ فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه».
ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في السياسة الشرعية يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين والدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس إلى أن قال – رجمه الله – فإن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه الله تعالى من الجهاد، والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة ولهذا روي: «أن السلطان ظل الله في الأرض».
ويقال ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان.
ولهذا كان السلف، كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان إلى أن قال – رحمه الله -: «فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة والمال» انتهي كلامه – رحمه الله تعالى-.
وقال ابن رجب – رحمه الله تعالى -: وأما السمع والطاعة لولاة المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم – كما قال على بن أبي طالب – رضي الله عنه – إن الناس لا يصلحهم إلا إمام برًا أو فاجر، إن كان فاجرًا عبد المؤمن فيها ربه وحمل الفاجر فيها إلى أجله.
وقال الحسن في الأمراء يلون من أمورنا الجمعة والجماعة والعيد والثغور والحدود: والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا أو ظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون مع أن طاعتهم والله لغيظ وإن فرقتهم لكفر) انتهى.
وأما الفجور في الخصومة فهو مجانبة العدل فيها والإدعاء على الخصم بالباطل وحشد شهود الزور، لإثبات الحق المزعوم، ولقد ذم الله في محكم كتابه من يذهب إلى الجدل بالباطل في الخصومة قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أي شديد الخصومة، كاذب في القول جادل بالباطل.
فاتقوا الله عباد الله وجانبوا الخيانة في الأمانة والكذب في تصوير الواقع والغدر بعد توثيق العهود والفجور في الخصومة، يسلم لكم الدين وتكونوا من المهتدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله: إن الارتداد عن دين الإسلام إلى الكفر تارة يكون بترك الإسلام بالكلية إلى ملة من ملل الكفر، وتارة يكون بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام مع بقاء التسمي بالإسلام وأداء شعائره، فيعده بعض الناس من جملة المسلمين وهو ليس منهم وهذا أمر خطير، وموقف دقيق يحتاج إلى بصيرة نافذة يحصل بها الفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال.
إذ كثيرًا ما يلتبس هذا الأمر على كثير من الناس بسبب جهله بنواقض الإسلام وأسباب الردة، فيظن أن من أدى شيئًا من شعائر الإسلام صار مسلمًا ولو ارتكب شيئًا من المكفرات، وهذا الظن الفاسد إنما نشأ من الجهل بحقيقة الإسلام وما يناقضه، وهذا واقع مؤلم يعتقده بعض من الناس في هذا الزمان؛ ممن لا يميزون بين الحق والباطل، والهدى والضلال؛ فصاروا يطلقون مسمى الإسلام على من يؤدي بعض شعائره ولو ارتكب مائة ناقض، ولم يعلم هؤلاء أن من ادعى الإسلام وأدى العبادات، ثم ارتكب شيئًا من نواقضه فهو بمثابة من يتوضأ ثم يحدث؛ فهل يبقي لوضوئه أثر، وهكذا المسلم إذا ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فإنه لا يبقى لإسلامه أثر.
إنه لا يكون العبد مسلمًا بمجرد الانتساب إلى الإسلام مع البقاء على ما يناقضه من الأمور الكفرية، كما أنه لا يكفي مدح الإسلام والثناء عليه من غير تمسك به وعمل بأحكامه، فاليوم المنتسبون إلى الإٍسلام كثير، ولكن المسلمين منهم بالمعنى الصحيح قليل، فنحمد الله تعالى أن جعلنا في بلاد التوحيد والإسلام والمسلمين في هذه المملكة، نسأل الله أن يحفظ ولاة أمرها وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه.
وإنه لمن الظلم الواضح والضلال المبين أن يطلق اسم الإسلام على من لا يستحقه؛ لمجرد أنه يدعيه وهو بعيد عنه بأفعاله وتصرفاته، كما أنه من الظلم الواضح والضلال المبين أن نصف بالإسلام من هو مرتكب لما يناقضه من أنواع الردة؛ لمجرد أنه يصوم أو يصلي أو يعمل شيئًا من شعائره، وهذا من الجهل بحقيقة الإسلام أو من إتباع الهوى وكلا الأمرين خطير قبيح.
إن نواقض الإسلام كثيرة وأسباب الردة متعددة، لكنا نذكر منها ما قد يخفى حكمه على بعض الناس.
فمنها السحر، ومنها الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر لقوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾.
والسحر: في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، وسمي السحر سحرًا لأنه يقع خفيا آخر الليل.
وفي الشرع: عقد ورقى، أي قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد لتضر المسحور، وأدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمي عندهم بالصرف والعطف، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء.
والصرف بالعكس مع ذلك وهو صرف الإنسان عما يهواه كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه، وفي عقله فربما يصل إلى الجنون والعياذ بالله.
والسحر محرم في جميع شرائع الرسل فمن فعله أو رضي به كفر لأن الراضي كالفاعل لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾، وقال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾.
قال ابن عباس: من نصيب، وقال قتادة: علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، وقال الحسن: ليس له دين، وقد نص أصحاب أحمد – رحمهم الله تعالى – أنه يكفر بتعلمه وتعليمه.
وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم، قال: قال رسول الله ﷺ: «من تعلم شيئًا من السحر قليلاً كان أو كثيرًا كان آخر عهده من الله» وهو مرسل. وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وروى النسائي من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي ﷺ: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه».
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه: والساحر لا يتم له السحر، ولا تخبره الشياطين عن غائب، ولا تساعده على قتل شخص إلا بعد ما يعبد غير الله بتقريبه للشياطين ما يحبونه من الذبح لهم ونحو ذلك، حتى أن بعضهم يمكنهم من فعل الفاحشة به، وهذا من الاستمتاع المذكور في الآية ﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾، فيكون كفرًا، انتهى كلامه رحمه الله.
فهو من الشرك بالله تعالى المخرج من الملة. لذا فلا تجوز الاستعانة بالجن بحال من الأحوال، لا بالأِشياء المباحة ولا بالأشياء المحرمة، ولا يجوز تحضيرهم وجمعهم، فمن فعل من الذين يقرؤون على الناس شيئًا من ذلك فهو مشعوذ دجال لأن الجن والشياطين ما تخدم أحدًا حتى تستمتع به، وإذا استمتعت به فقد أِشرك.
ومن أنواع السحر: العيافة والطرق والطيرة؛ لحديث قبيصة أنه سمع النبي ﷺ قال: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت»، قال عوف: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط في الأرض، والجبت قال الحسن: رنة الشيطان [رواه أحمد رحمه الله].
وقوله: «من الجبت» أي من السحر. وأما حل السحر عن المسحور فلا يجوز إلا بالرقية الشرعية والنشرة الجائزة فهو كما وضح ذلك ابن القيم – رحمه الله تعالى – حيث قال: النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان:
أحدهما حل بسحر مثله: وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
الثاني النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة: فهذا جائز.
وعلى النوع الأول: يحمل حديث جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان» [رواه أحمد].
وعلى الثاني: وهي النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة يحمل ما جاء عن سعيد بن المسيب عن قتادة قلت لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه. فالمراد به علاج السحر برقية من راق ليس بساحر ولا كاهن. أو بنوع من النشرة الجائزة كما تقدم.
اللهم إنا نعوذ بك من السحر والسحرة، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم.
ثم ليعلم أنه لا يجوز حل السحر عن المسحور بسحر، ولا يجوز للمسلم أن يأتي أو يذهب إلى ساحر أو إلى كاهن من أجل رقية أو علاج من وجوه:
الأول: لو كان يجوز للمسلم أن يذهب إلى السحرة التماسًا للدواء برقية أو نحوها لما أمر بقتل الساحر، وفيه منفعة للناس، فقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «حد الساحر ضربة بالسيف» الثاني: أن الله تعالى قال في السحرة: ﴿وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾ وهذا لفظ علم يبين أن السحر ليس فيه نفع بوجه من الوجوه، لأنه من الشرك بالله، فإن الساحر لا يتم له سحره ولا يحصل له حل السحر عن المسحور، حتى يعبد غير الله ويشرك مع الله، وذلك بتقريبه للجن والشياطين ما يحبون من ذبح أو سجود لهم، وقد يكون سرًا فيما بينه وبينهم، أو إهانة لكلام الله عز وجل، ليرضي بذلك الشياطين، نعوذ بالله من ذلك، أو كتابة للفاتحة أو آية الكرسي أو غير ذلك من آيات القرآن بشيء نجس.
ومن كتب له لا يعلم بذلك لأنه لا يرى، ولا يشاهد إلا آيات من القرآن مكتوبة، ولا يدري أن هذا الساحر أو المشعوذ الدجال قد تقرب للشياطين بكتابتها بشيء نجس، فهم ليس فيهم نفع مطلقًا كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾، وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: كان إذا نزل الإنس واديًا هرب منهم الجن فلما سمع الجن بقول الإنس نعوذ بأهل هذا الوادي، قالوا: ينفرون منا كما ننفر منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالجنون والخبل فزاد الجن تكبرًا وطغيانًا بسبب استعاذة الإنس.
ويشهد لهذا واقع كثير من الناس في هذا الزمن لما غفلوا عن طاعة الله وطاعة رسوله وتلاوة كتابة العزيز، وأقبلوا على آلات اللهو والغناء والمزامير والتلفاز والدش والجرائد والمجلات الخليعة والمسارح.
خف التوحيد في قلوبهم فضعف إيمانهم وتوحيدهم فتغلبت عليهم الجن وتسلطت على قلوبهم وأبدانهم بالهموم والغموم والأمراض الوهمية، فأخذ من أصيب بشيء من ذلك يذهب إلى القراء المشعوذين والدجالين والسحرة والكهان والعرافين، وهذه هي بغية الشياطين يؤذونهم ليذهبوا إلى إخوانهم من الأنس ليشركوا بالله فزادوهم رهقًا أي: رعبًا وخوفًا.
ومن ذلك: ما يفعله بعض القراء من توهيم المريض، وذكر أشياء لا حقيقة لها، أو يقول له إن فلان قد نحتك وعانك، وهو كذب فيحدث من ذلك زيادة مرض وتوهم وتخيل لهذا الذي ذكر، أو لغيره فيزداد مرضه مرضًا، ورعبه رعبًا، وخوفه خوفًا من كل أحد، ويحصل بسبب ذلك عداوة وبغضاء وشحناء من أجل ذلك، وهذا هو مراد الشياطين وبغيتهم، وقد يذكر بعض القراء أن فلانًا شفي وأنه قرأ عليه أمام الناس وخرج الذي به، وهذا من مكر الشياطين لتغر الناس بهذا المشعوذ الدجال؛ لأنك لو تتبعت هذا الذي حصل له ذلك ما وجدت أنه شفي بل تجد أنه يتردد على بعض القراء طول عمره، لأن بعضهم يعلق قلب المريض به، فلا يتعلق بالله وإلا لو تعلق بالله شفاه الله. كما في حديث: «اللهم رب الناس اذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا». لذا فلا تجوز الاستعانة بالجن ولا يجوز الذهاب إلى من يستعين بالجن ويحضره، ومن أفتى بجواز ذلك فقد أخطأ وفتح على المسلمين باب سوء وفتنة وشر. كيف يقول بذلك والله تعالى يقول: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾، ويقول: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.
والنبي ﷺ أرشدهم عن الاستعاذة بالجن وأرشدهم إلى خير من ذلك، فقال فيما رواه مسلم في صحيحه عن خولة بنت حكيم – رضي الله عنها – قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء».
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى -: «من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسمي ذلك عبادة ويسميه استخدامًا. وصدق هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به» انتهى.
الثالث: مما يدل على أنه لا يجوز الذهاب إلى السحرة من أجل حل السحر عن المسحور، أن الله تعالى قد بين بأن الساحر لا يفلح حيث أتى ولو كان فيه فائدة لأحد لكان هذا نوع من الفلاح وهو لا يفلح بإطلاق ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾.
الرابع: أن الرسول ﷺ قد بين بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها والسحر محرم بالإجماع.
الخامس: أن الرسول ﷺ بين بأن: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ» رواه الأربعة.
ولا شك أن الساحر أشد من الكاهن والعراف، بل جاء النص على الساحر في أثر ابن مسعود – رضي الله عنه -: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل محمد ﷺ».
وعن عمران بن حصين مرفوعًا «ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ» [رواه البزار]. ومن ثبت عليه أنه يسحر أو يتعاطى السحر فإن حده القتل لما روى الترمذي عن جندب: «حد الساحر ضربة بالسيف».
وروى البخاري في صحيحه عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر، وصح عن حفصة أم المؤمنين – رضي الله عنها – أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها.
وروى البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب؛ فذبح إنسانًا وأبان رِأسه فعجبنا فأعاد رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحي الموتى فذهب يلعب - أي: الساحر - لعبه ذلك، فاخترط جندب سيفه فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا فليحيي نفسه.
وقال الإمام أحمد – رحمه الله – صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ.
وقال شارح الطحاوية: والواجب على من ولي الأمر، وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والقالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته مع قدرته على ذلك لقوله تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. وفي السنن عن النبي ﷺ برواية الصديق – رضي الله عنه – أنه قال: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه». والله تعالى أعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.