الوصف
تحتوي هذه الرسالة على عدة مسائل، منها: - منهج المبطلين في إثارة الأباطيل عن القرآن. - الجمع الكتابي للقرآن الكريم. - هل القرآن الكريم من إنشاء محمد صلى الله عليه وسلم؟ - المصادر المزعومة للقرآن الكريم. - هل تغيّر النص القرآني في عصر الصحابة الكرام؟ - الأباطيل المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله. - الأباطيل المتعلقة بما في القرآن عن أنبياء الله تعالى. - الأباطيل المتعلقة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم. - القرآن والمسيحية. - الأخطاء المزعومة في القرآن الكريم. - الأخطاء اللغوية المزعومة في القرآن الكريم. - التناقضات المزعومة في القرآن الكريم. - المرأة في القرآن.
د. منقذ بن محمود السقار
الباحـث في رابطة العالـم الإسـلامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الله أرسل الرسل لتقوم بهم حجته على خلقه، وأنزل عليهم كتبه ؛ ملؤها الهدى والنور، ليقيموا بها شرعة الله ويهدوا بها إلى منهجه القويم ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).
ثم ختم الله رسالاته بمحمد ﷺ، وأنزل عليه القرآن مصدقاً لما أنزله - من قبلُ - على إخوانه الأنبياء ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ` مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالله عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ (آل عمران: 3-4).
فالقرآن كتاب الله الأخير، وهو مصدق ومكمل لما أوحاه الله في كتب الأنبياء السابقين، وهو أيضاً مهيمن عليها ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48)، لكون هذه الكتب نزلت إلى أقوام مخصوصين في أزمنة معينة لإصلاح ذنوب وعيوب تلك الأمم، في حين أن القرآن مشتمل على كل ما تحتاجه الإنسانية إلى قيام الساعة، لأنه رسالة الله الخاتمة إلى الناس أجمعين على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (الأعراف: 158).
وحتى تبقى كلمة الله شاهدة على خلقه إلى يوم القيامة، فقد تكفل بحفظ كتابه الأخير ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9)، وهكذا أضحى القرآن الكتاب الوحيد المحفوظ بحفظ الله له ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ` لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (فصلت: 41-42)، في حين أن الله وكل حفظ الكتب السابقة إلى أصحابها ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ (المائدة: 44)، فحرفوها وأضاعوا منها ما أضاعوا ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ (المائدة: 13)، بل وزادوا عليها ما لم يوح به الله ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللهِِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ (البقرة: 79).
لقد أقبل المسلمون في كل عصر وحين على مائدة القرآن ينهلون منها بحفظه وتدبره وتعلمه، فخصوه بعناية ومدارسة لم تكن لكتاب قبله ، حفظه الملايين من أطفالهم في كل عصر ؛ على اختلاف ألسنتهم ولهجاتهم، يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، يبتغون فيه موعود الله ورسوله ﷺ لأهل القرآن: «يقال لصاحب القرآن : اقرأ ، وارق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»([1]).
وعمد علماء الإسلام إلى ترسيخ علومه وفنونه وتفسيره وبيان أحكامه وهديه، فألفت في خدمة القرآن آلاف الكتب التي تزخر بها المكتبة الإسلامية.
وأدرك أعداء الإسلام أهمية القرآن في نفوس المسلمين ، ومدى تعلقهم به، وأنه مستمسك عقيدتهم، ومصدر شريعتهم، وأنه باعث نهضتهم ، وضمان مستقبلهم، وأن تمسكهم به يجعلهم أمة عصية على الهوان والذل والاستعباد، فأضمروا له العداء، ونصبوا بينه وبين المسلمين السدود ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ (فصلت: 26).
وما أدركه أعداء القرآن في القديم أدركه الأعداء الجدد، يقول حاخام إسرائيل الأكبر مردخاي الياهو: "هذا الكتاب الذي يسمونه القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته ، كيف يمكن تحقيق السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتاباً يتحدث عنا بكل هذه السلبية؟!"([2]).
ويقول الحاكم الفرنسي للجزائر إبان الاستعمار الفرنسي: "إننا لن ننتصـر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ، ويتكلمون العربية"([3]) .
ويقول وليم جيفور بالكراف: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه"([4]) ومقصود بالكراف بالحضارة الغربية ما نشاهده في الغرب اليوم من تحلل أخلاقي وتفكك اجتماعي ومظاهر سلبية استعصت على الإحصاء والإحاطة، ألا تباً لها من حضارة ؛ إن صحت تسميتها (حضارة)، وما أعظمه من كتاب ذاك الذي يتصدى لهكذا حضارة!.
ويقول اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصـر : "جئت لأمحو ثلاثاً: القرآن والكعبة والأزهر"([5]).
وأما المبشر جون تاكلي فيقول : "يجب أن نستخدم القرآن – وهو أمضـى سلاح - ضد الإسلام نفسه ، بأن نعلِّم هؤلاء الناس [يعني المسلمين] أن الصحيح في القرآن ليس جديداً ، وأن الجديد ليس صحيحاً"([6]).
وهكذا توجهت هِمَم القوم الشريرة إلى إبعاد الأمة المسلمة عن القرآن عبر صنوف من الافتراءات والأكاذيب التي بلغت من كثرتها الألوف من الكتب كما نقل ادوارد سعيد في مقال له في مجلة " التايم " في إبريل 1979م بقوله: " إن أكثر من ستين ألفاً من الكتب ألفت ضد الإسلام بواسطة المسيحيين الغربيين"([7]) ، فكم تراه ألف بواسطة الشرقيين!!
إذا ما خلا الجبــان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
هذه الكثرة الكاثرة من كتب الأباطيل لم تفلح ـ بفضل الله ـ في إبعاد المسلمين عن القرآن، ولم تشغلهم عن حفظه ومدارسته، فطاشت جهود أهل الباطل أدراج الرياح، بل كشفت أباطيلُهم – لمتأملها والناظر في ضحالتها – المزيدَ من صور عظمة القرآن وعوار الباطل وأهله الذين ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ (التوبة: 32).
ويلحظ المتتبع لهذه الشبهات تكراراً ممجوجاً - في الغالب - لأباطيل قديمة أجاب عن معظمها الإمام الباقلاني (ت 403هـ)، بل أجاب عن بعضها النبي ﷺ بنفسه قبل أن تلوكها الألسنة بأزيد من ألف سنة، وأما الجديد في هذه الشبهات فإنما أورده القوم بقدر ما استجد عندهم من جهل سبقوا في ظلماته أسلافهم ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ (ق: 5).
وقد أعرضت عن التصريح بأسماء أصحاب هذه الأباطيل لتعدد جهاتهم، فلم تعد هذه الأباطيل حبيسة كتب المستشرقين وأزلامهم، بل أضحت بضاعة تلوكها الألسنة في القنوات الفضائية ويتناقلها رواد مواقع الإنترنت، وكثيراً ما استقبلت بعضها على بريدي الإلكتروني، فلشيوعها وتعدد مصادرها أجملت نسبتها إلى قائليها، بقولي: (قالوا).
وما كان لهذه الأباطيل أن تؤثر في المسلمين أو تهز ثقتهم بقرآنهم إبان نهضتهم الحضارية وتمام معرفتهم بدينهم وإلمامهم بلغة العرب وضروب البيان فيها، لكن الشكوك في القرآن تقذف ـ اليوم ـ في أفئدة خاوية من أبناء المسلمين؛ تستغل جهلاً مطبقاً عندهم بلغة العرب؛ جهلٌ انضاف إليه سوء فهم لموارد الكلام وقلة علم ودراية بفنون التفسير والبيان.
وقد انبرى علماء الإسلام قديماً في التصدي لهذه الأباطيل، وبرعوا في تفنيدها في كتبهم التي خصوها لبيان غريب القرآن وكشف مشكله، كما تعرض المفسرون لكثير من موارد سوء الفهم لآيات القرآن الكريم.
وأجاد طلاب العلم من بعدهم تبسيط علوم السابقين وتقريبها لعوام المسلمين اليوم، لتتكامل الجهود بما لم يبق مطمعاً لصاحب دلو راغب في إضافة جديد إلى بحر علومهم الرقراق.
وقد أقبلتُ على كتبهم وبحوثهم ومقالاتهم ومواقعهم الإلكترونية متعلماً، ثم رأيتُ أن أبدأ من حيث انتهوا، فأكمل جهودهم بمزيد عناية واستدلال لهذه الأطياب الفواحة، لتكون قريبة إلى عوام المسلمين اليوم؛ مجردة عن الأقوال المطولة والوجوه الكثيرة المتشعبة في الأجوبة، فتشعبها قد يطرب له العلماء، لكن يتيه في غوره ولجته المبتدئون، وما أكثرهم في هذا الزمان.
ولست أزعم أني قد تتبعت كل الشبهات والأباطيل المتعلقة بالقرآن، لكني جهدت في استقصاء أهمها بما قدرت عليه، وقد أعرضت عن شبهات وأباطيل يطرحها بعض المشككين لضعفها وتهافتها، ومن ذلك استنكار البعض مسألة نجاة فرعون ببدنه التي ذكرها القرآن (انظر يونس: 92)، بينما هو يذكر في موضع آخر غرقه، فنجاة البدن – كما لا يخفى - إنما كانت بعد موته وغرقه.
ومثله – كذلك - استنكار البعض ذكر القرآن صوم مريم، مع قوله: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ` فَكُلِي وَاشْرَبِي ﴾ (مريم: 25-26)، إذ صيامها مختص بالكلام ، لا بالطعام والشراب ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾ (مريم: 26).
ويسر رابطة العالم الإسلامي أن تتقدم بهذا الجهد ذَبَّاً عن القرآن الكريم وقياماً ببعض الواجب تجاه كتاب ربنا العزيز، ونسأل الله أن يبارك في هذا الجهد، وأن يثيبنا عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
***
لعل من المناسب قبل الشروع بذكر تفاصيل الأباطيل المثارة عن القرآن أن نتوقف مع بعض معالم المنهج الذي درج عليه مثيروها، حين افتقدوا كل صور الموضوعية العلمية، ولم يتركوا لمتابع منصف باباً للاعتذار لهم بعذر الجهل أو سوء الفهم، كيف يعذرهم وهو يلمح في هذه الشبهات والأباطيل معالم رئيسة مخزية لا تخطئها عين متأمل حصيف:
الكذب حيلة من لا حيلة عنده ولا دليل، وهو مسلك درج في ظلماته مثيرو الشبهات والأباطيل حول القرآن الكريم حين أعيتهم الحيل أن يجدوا في القرآن مطعناً وملمزاً، فلما علموا أن الكذب بضاعة ينطلي باطلها على الكثيرين من الدهماء والعامة الذين لن يتيسر لهم اكتشاف هذه الأكاذيب؛ أشرعوا فيه سفنهم، فما زالوا يكذبون، حتى إخالهم لكثرته صدقوا أنفسهم فيما يدَّعون.
وصور كذبهم كثيرة، أكتفي بالتمثيل لها مبتدئاً بما قاله وهيب خليل في سياق حديثه عن معجزات المسيح المذكورة في القرآن: "وإن كان بعض المفسـرين يحاولون أن يقللوا من شأن السيد المسيح في المقدرة قائلين: إنه يصنع هذا بأمر الله، فنجد أن الإسلام يشهد أن هذه المقدرة هي لله فقط"([8]).
ومن المعلوم عند كل مسلم أو غيره مطلع على القرآن الكريم أن الذي أحال معجزات المسيح إلى قدرة الله وإذنه هو القرآن الكريم، وليس مفسـروه ﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾ (المائدة: 110).
ومن الكذب زعم مؤلفي كتاب شهير ؛ اختص بإثارة الأكاذيب على القرآن "التعليقات على القرآن" أن حفاظ القرآن الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق t: "أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد .. فإن هؤلاء الأربعة ماتوا قبل جمع القرآن .. ولما رأى أبو بكر هذا الحال جزع من ضياع القرآن"([9]).
وقولهم هذا كذب صراح ولا ريب ، لأن هؤلاء الأربعة أدركوا جميعاً عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب t، أي أدركوا جمع أبي بكر t، فأبو الدرداء t ولي قضاء دمشق في عهد عمر t، ومات قبل موت عثمان t بسنتين.
ومعاذ بن جبل t مات في خلافة عمر t في طاعون عمواس سنة 17هـ.
وأما ثالثهم زيد بن ثابت فهو من جمع القرآن في عهد الصديق ثم عثمان ، ومات سنة 45 هـ، أي في زمن معاوية رضي الله عن الجميع.
ورابعهم أبو زيد سعد بن عبيد الأنصاري t ، وقد قتل يوم القادسية في زمن الخليفة عمر بن الخطاب t([10]).
ومن صور الكذب أيضاً طعن القس العربي الفلسطيني أنيس شروش في عربية القرآن أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، بقوله: "لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات والجمل الأجنبية في القرآن … في كتاب ادعى أن الله أوحاه بالعربية"([11])، ومن المؤكد أن القارئ العربي يعرف أنه لا يوجد في القرآن جملة واحدة غير عربية ، فقد نزل بلسان عربي مبين، لكن الدكتور شروش يهذي بهذا أمام أعاجم، ولا يستحي من الكذب عليهم.
ولما أراد القبطي الأرثوذكسـي ثروت سعيد تزكية المسيحيين واعتبارهم مؤمنين بشهادة القرآن الكريم قال في كتابه "حقيقة التجسد"، الذي قدمه وراجعه له كل من الأنبا الكاثوليكي يؤانس زكريا والقس البرتستنتي الدكتور منيس عبد النور: "إذا كان اعتقاد القرآن بشرك النصارى؛ فلماذا يصـرح في آياته بحلال الزواج من أهل الكتاب .. كما أن نبي الإسلام تزوج من اليهوديات والمسيحيات، وهن: مريم القبطية، وأنجب منها إبراهيم (المسيحية)، وريحانة بنت شمعون النضيرية (اليهودية)، وصفية بنت حيي بن أخطب القريظية (اليهودية)، وجويرية بنت الحارث المصطلقية (اليهودية)" ([12]).
وقوله بزواج النبي ﷺ من يهوديات ومسيحية كذب صراح، فإنما تزوجهن رسول الله ﷺ بعد دخولهن في الإسلام.
ويكفي في بيانه أن ننقل بعضاً من الحوار الذي جرى بين النبي ﷺ وصفية حين أراد الزواج بها، فقد قال لها: «اختاري، فإن اخترت الإسلام أمسكتك لنفسـي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك». فقالت صفية: يا رسول الله، لقد هويتُ الإسلام ، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي([13]). فتزوجها رسول الله ﷺ وهي مسلمة.
وأما ريحانة فتكذب دعوى المبطلين، وتذكر أن رسول الله تزوجها بعد أن أسلمت، وتقول: إني أختار الله ورسوله، فلما أسلمت أعتقني رسول الله وتزوجني، وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ([14]).
ويواصل ثروت سعيد الكذب فيزعم أن قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا﴾ (مريم: 71) ينبئ بدخول النار والإحراق فيها لكل بني آدم ، وينقل عن "جلال الدين يفسـر كلمة ﴿وَارِدُهَا﴾ بالدخول والاحتراق"( )، وقد كذب في نِسبة الإحراق إلى السيوطي، فهو غير موجود في شيء من كتبه.
ثم يمضي المبطِل فيستشهد لكذبه وباطله بقول النبي ﷺ: «الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها»، والحديث الذي يستشهد به ضعيف لا يصح نسبته إلى النبي ﷺ، وهو أمر قد يجهله فيعفى عنه في ذلك، لكن شيئاً لن يبرر نقله من الحديث ما يروق له، وإعراضه عن تمامه، لمناقضته قوله ودحضه كذبه، فالحديث بتمامه: «الورود الدخول، ولا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار - أو قال: لجهنم - ضجيجاً من بردهم ﴿ثُمَّ يُنَجِّيْ اللهُ الذِّيْنَ اتْقَوا وَيَذَرُ الظَّالِمِيْنَ فِيْهَا جِثِيًّا﴾ (مريم: 72)»([15])، فخاتمة الحديث تثبت نجاة المؤمنين من الإحراق، لكن الكذب والتدليس حيلة من لا حيلة عنده.
يلجأ الطاعنون في القرآن إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية وتفسيرها بمعان مشكلة لا يوافق عليها عالم من علماء المسلمين ، ومن ذلك قول البابا شنودة: "ولم يقتصر القرآن على الأمر بحسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا، وضع القرآن النصارى في مركز الإفتاء في الدين، فقال: ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ (يونس: 94)، وقال أيضاً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)([16]).
ومثله في تحريف معاني النص القرآني قول مؤلفي كتاب "تعليقات على القرآن" في تعليقهم على قوله تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ (الأنعام: 38): "ولا شك أن القرآن لا يشتمل على أكثر العلوم من المسائل الأصولية والطبيعية والرياضية والطبية، ولا على الحوادث اليومية، بل ولا على ذات قصص الأنبياء؛ فإذن لا يكون كلامه هذا مطابقاً للواقع"([17])، فقد جهلوا أو تجاهلوا أن آية سورة الأنعام لا تتعلق بالقرآن، بل باللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، قال الطبري: "فالرب الذي لم يضيع حفظ أعمال البهائم والدواب في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء؛ أحرى أن لا يضيع أعمالكم، ولا يفرط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها"([18]).
والآية بمنطوقها واضحة في الدلالة على هذا المعنى الذي ذكره الطبري: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ (الأنعام: 38)، ومثلها قول الله: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ (هود: 6)، فالكتاب الذي حوى مقادير الخلائق وأرزاقها هو اللوح المحفوظ؛ لا القرآن الكريم.
ثم لو فرضنا أن القرآن هو مقصود قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ فإن هذا العموم يفهم منه العقلاء معنى مخصوصاً يفهم من السياق، إذ من السخف بل والخبل أن يظن ظان أن النبي ﷺ حين قرأ هذه الآية قصد أن القرآن يحوي أسماء رجال قريش أو أطعمة فارس أو أسماء البهائم التي خلقها الله، فهذا لا يخطر ببال عاقل ولو كفر بالقرآن وجحده، لأنه سيحمل العموم في قوله ﴿ مِن شَيْءٍ﴾ على المعنى المخصوص اللائق به ككتاب ديني، أي ما فرطنا في الكتاب من شيء يصلح حياة الإنسان في دنياه وأخراه، فالقرآن حوى كل ما تحتاجه البشرية مما تختص بذكره النبوات([19]).
ومن صور التحريف للمعاني ما صنعه القس أنيس شروش مع مستمعيه الإنجليز بقوله: "أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة .. لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن ؛ فإننا سنجد تناقضاً ، فإن القرآن يقول: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾ (مريم: 33 )" قرأها بالعربية صحيحة ، ثم ترجمها لمستمعيه: "وسلام علي يوم ولدت، ويوم مت، ويوم أبعث حياً"([20]) ، فحوَّل الأفعال المضارعة - التي يراد منها المستقبل - إلى أفعال ماضية ؛ مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب.
ومن تحريف المعاني زعم القمّص زكريا بطرس في برنامجه في قناة الحياة أن في القرآن كلمة يستحي القمص من قولها أمام المشاهدين، وهي كلمة (النكاح) التي يفهمها – عقله الكليل- بمعنى الجماع([21]).
ويعمد مثيرو الأباطيل - وهم يستشهدون بالمصادر الإسلامية - إلى بتر النصوص واجتزائها، فيختارون من النص ما يعجبهم، ويدَعون ما لا يوافق هواهم وباطلهم، ومن ذلك ما صنعه القمُّص زكريا بطرس وهو يستدل لعقيدة التثليث بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ (النساء: 171)، فقد تعامى عن أول الآية وتمامها؛ لما فيهما من تنديد بالتثليث ووعيد لأهله ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً ` لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُـرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 171-172).
وهذا البتر للنصوص عادة للقمُّص زكريا بطرس لا يمل من معاودتها في برامجه الفضائية، فحين أراد الاستدلال على صحة كتابه المقدس زعم أن القرآن لا يقول بالتحريف اللفظي للتوراة والإنجيل، بل يقول بوقوع التحريف المعنوي فقط، واستدل لذلك بما جاء في تفسير البيضاوي بعد اجتزاء كلام البيضاوي وبتره، فيقول القمص : (يقول البيضاوي: "﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾ يعني اليهود ، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ﴾ طائفة من أسلافهم ﴿يَسْمَعُونَ كلام الله﴾ يعني التوراة ، ﴿ثُمَّ يُحَرّفُونَه﴾ أي تأويله فيفسرونه بما يشتهون")، ثم عقب على كلام البيضاوي بالقول: (مش [لم] يغيروا الألفاظ والكلام).
وقد تعمد القمص بتر كلام البيضاوي الذي تحدث عن نوعين من التحريف: أولهما تحريف الألفاظ، والآخر تحريف المعاني الذي ذكره القمُّص ، وعبارة البيضاوي بتمامها: " ﴿ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ﴾ كنعت محمد ﷺ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون"([22])، فحذف من عبارة البيضاوي قوله: "كنعت محمد ﷺ وآية الرجم" لما فيها من إشارة إلى تحريف الألفاظ.
وأعاد القمص هذا الصنيع ثانية، وهو ينقل قول البيضاوي في تفسير قول الله تعالى: ﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾، فنقل عن البيضاوي أنه قال بالتحريف المعنوي دون اللفظي، فقال : (قال البيضاوي: " ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ﴾ أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ أي يؤولونه على ما يشتهون، فيميلونه عما أنزل الله فيه").
وقد بتر منه ما يخالف مقصده ويفند استدلاله، فعبارة البيضاوي بتمامها: "﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ ﴾ أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها؛ بإزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه"([23]).
ومن صور البتر والتحريف ما رأيته عند عدد من كُتَّاب النصارى وقسسهم([24])، فقد زعموا أن الرازي كان يستشكل القول بنجاة المسيح من الصلب ووقوع الشبه على غيره، ونقلوا عنه قوله: "بالجملة فكيفما كان ، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات: الإشكال الأول : إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة.."، ثم يسوقون كلاماً طويلاً للرازي ملخصه أن القول بصلب غير المسيح بدلاً عنه فيه ست إشكالات، نقل هذه الإشكالات عنه ثروت سعيد، وعقَّب عليها بالقول: "انتهى للإمام فخر الدين الرازي، ولا تعليق"، وهو يوهم قراءه أن هذه الإشكالات يستشكلها الرازي، فيقول: "ولهذا لم يكن بُدٌّ لعالم نزيه كالإمام العلامة فخر الدين الرازي أن يفند قصة الشبه تفنيداً محكماً"([25]).
والحق أن الرازي رحمه الله ذكر الإشكالات الستة التي يستشكلها النصارى وغيرهم على قول القرآن بنجاة المسيح ، ثم لما انتهى من سردها شرع في الرد عليها جميعاً، فقال : " فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات : والجواب عن الأول ... والجواب عن الثاني ...".
وبعد أن رد عليها واحداً واحداً ؛ ختم بنتيجة شافية كافية فقال : "وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ، ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ﷺ في كل ما أخبر عنه ؛ امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع"([26])، فتعامى ثروت سعيد وغيره من المبطلين عن إتمام قول الرازي، ووقعوا في التدليس المشين حين نسبوا إليه قول النصارى الذي كان يرد عليه.
ويلجأ الطاعنون في القرآن من النصارى في إلقاء شبهاتهم إلى محاكمة القرآن إلى مصادر مرفوضة ومطعون في موثوقيتها كالكتاب المقدس الذي يرى المسلمون والمحققون من أهل الكتاب أنه أسفار تاريخية كتبها مجهولون، ونُسبت إلى الأنبياء بلا سند يوثقها، وعليه فهذه الكتب مجروح في شهادتها، ولا اعتداد ولا موثوقية في أخبارها ، التي يحاكم الطاعنون القرآن بموجبها، فيعرضونها وكأنها مستندات ووثائق تاريخية متفق على صحتها، ثم يخطِّئون القرآن حين يخالفها ويناقضها، أما إذا رأوه موافقاً لها فإنهم لا يخجلون من الزعم بأنه نقل منها، فلا يسلم منهم القرآن حال الموافقة ولا المخالفة.
ومن ذلك تكذيبهم القرآن حين خالفهم في تسمية والد إبراهيم عليه السلام بـ "آزر" (انظر الأنعام: 74)، وحجتهم أن التوراة سمته "تارح" (انظر التكوين 11/27).
وكذلك كذبوا القرآن الكريم حين تحدث عن كفالة زوجة فرعون لموسى (انظر القصص: 9)، لأن التوراة تقول: إن الذي كفله ابنة فرعون (انظر الخروج 2/5-7).
وكذلك كذبوا أن يكون لون بقرة بني إسرائيل الصفار الفاقع (انظر البقرة: 69)، لأن التوراة تقول تجعلها حمراء اللون (انظر العدد 19/1-4) ، وكل هذه الأخبار التوراتية خاطئة، لا اعتداد بها، وهي أضعف من أن تكون حجة على إخباري أو مؤرخ؛ فضلاً عن القرآن العظيم.
كما يولع الطاعنون في القرآن بالغرائب الموجودة في كتب بعض المفسـرين، وهي في جملتها منقولة من مرويات وأخبار أهل الكتاب، فيخلطون بينها وبين القرآن، ويجعلون معانيها المنكرة حجة عليه، وفي هذا مجافاة للموضوعية؛ فإن كتب الرجال يحتج لها بالقرآن ، ولا يحتج بها عليه.
ولعل من أهم صور ذلك قصة الغرانيق التي أطبق على ذكرها الطاعنون في القرآن ، وقد بين علماء الإسلام بطلانها؛ وإن أوردها مفسـرون ومؤرخون وصفهم القاضي عياض بأنهم "المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم"([27])، فلولعهم بذكر الغرائب أُثقلت مؤلفاتهم العظيمة بالإسرائيليات وسخيف مقولات الأمم التي تروي ما ترويه بلا زمام ولا قيد؛ فنقل الطاعنون هذه المرويات، ولبّسوا على عوام المسلمين حين أوهموهم بصحة هذه الأقوال المنقولة في بعض كتب التفسير، ولا ينسى الخبثاء - في مثل هذه الحال - ذكر أرقام الصفحات التي نقلوا عنها؛ يرومون بذكر هذه التفاصيل مزيداً من الخداع لعوام المسلمين لإيهامهم بصحة ووثاقة المعاني المستقبحة الموجودة في تلك الروايات التي نقلها المسلمون الأقدمون في كتبهم عملاً بالقاعدة المشهورة عندهم "من أسند لك فقد أحالك".
ومن ذلك ما نقله الطاعنون عن بعض كتب التفسير لقوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾ (ص: 21)، فقد أوردوا قصة مزعومة باطلة، وملخصها أن داود عليه السلام رأى امرأة جاره تستحم، فأولع بها، فأرسل زوجها للقتل في الحرب، ثم تزوجها ، وأن الله عاتبه على فعله، فبكى أربعين يوماً حتى نبت العشب من دموع عينيه([28])، فهذه القصة الخرافية المستنكرة في معانيها منحولة في أصلها من أسفار التوراة (انظر: صموئيل (2) 11/1-26)، ولم ترد في كتب المسلمين مرفوعة إلى النبي ﷺ بإسناد صحيح أو ضعيف.
ومثله استشهاد الطاعنين في القرآن بما رُوي عن بعض السلف أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿ق ` وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ (ق: 1-2): "ق، جبل مُحيطٌ بجميع الأرض، يقال له جبل قاف"، وعقب ابن كثير على هذا القول الغريب: " وكأنّ هذا - والله أعلم- من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعضُ الناس، لِمَا رأَى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدَّق ولا يُكَذَّب. وعندي أن هذا وأمثالَه وأشباهَه من اختلاقِ بعض زنادقتهم، يَلْبِسُون به على الناس أمرَ دينهم"([29]).
ومثله الاستشهاد بما ذكره المفسرون في تفسير قول الله: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ﴾ (ص: 34)، فذكروا قصة عجيبة، ملخصها أن شيطاناً ألقي عليه شبه سليمان، فكان يأتي نساءه([30]).
قال أبو حيان الأندلسي: "نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها في كتبهم ، وهي مما لا يحل نقلها ، وإنما هي من أوضاع اليهود والزنادقة ، ولم يبين الله الفتنة ما هي ، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان، وأقرب ما قيل فيه : إن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل: إن شاء الله ، فطاف عليهن ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، وجاءته بشق رجل» ([31]).
فهذه المنقولات وأمثالها في كتب التفسير، والكثير منها لا ينسب إلى النبي ﷺ بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا يحل أن تعتبر تفسيراً لآيات القرآن، فإن فيها ما يصد عن القرآن ، ويفسح المجال لأصحاب الأباطيل للطعن في القرآن الكريم والتلبيس على الناس بهذه المرويات الفاسدة.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9).
عهد الله بالكتب السابقة إلى أصحابها فأضاعوها وبدلوها، فصان الله كتابه الأخير عن عبث البشر وتحريفهم ، وتعهد بحفظه ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ` لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ (فصلت: 41-42).
وإنفاذاً لوعد الله بحفظ كتابه الأخير قيض عز وجل أسباباً كثيرة؛ حفظه من خلالها، وجعلته مخصوصاً بين سائر الكتب الدينية والدنيوية بحفظ ملايين المسلمين له عبر القرون.
نزل القرآن الكريم في أمة أُمِّية تعتمد الحفظ القلبي طريقاً لحفظ تراثها وأشعارها وأنسابها، لا تجد عنه بديلاً ، فراعى الله حالهم وأنزله عليهم منجماً مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، فسهل عليهم حفظه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ (الفرقان: 32)، ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ (الإسراء: 106).
وكان أول حفظ الله للقرآن أن مكنه في قلب النبي ﷺ الذي حرص على تلقي القرآن بعناية وحفظ، وكان يردده حال سماعه له من جبريل عليه السلام، خشية أن يفوته منه شيء، فطمأن الله قلبه وهدأ روعه، وأعلمه أن القرآن محفوظ في قلبه بحفظ الله: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾ (طه: 114).
وهو محفوظ من بعد ذلك: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ` إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ (القيامة: 16-17).
قال ابن كثير: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله ـ عز وجل ـ إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى : جمعه في صدره، والثانية : تلاوته، والثالثة : تفسيره وإيضاح معناه" ([32]).
ولمزيد من الحفظ للقرآن ولتوثيق حفظ النبي ﷺ كان جبريل عليه السلام ينزل عليه كل عام في شهر رمضان يدارسه القرآن ، فلا يتفلت منه شيء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان ؛ حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة) ([33]).
وخلال ثلاث وعشرين سنة بقي القرآن الكريم موضع اهتمام النبي ﷺ ، يتولى بنفسه إقراء أصحابه وتعليمهم القرآن ؛ بل وتحفيظهم سوره، يقول ابن مسعود: (أخذت من فيِّ رسول الله ﷺ سبعين سورة)([34]).
وكان هذا ديدنه ﷺ حتى مع المسلمين الجدد، فكان يتعاهدهم بما قد فاتهم من القرآن، فإذا ما شُغِل أَمرَ أصحابه بتعليمهم بدلاً عنه، يقول عبادة بن الصامت: (كان رسول الله يشغل، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله ﷺ دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع رسول الله ﷺ إليَّ رجلاً ، فكان معي أُعشيه عشاء أهل البيت ، وأُقرئه القرآن) ([35]).
وبمثل هذا الحرص البالغ من النبي ﷺ كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يتتبعون ما ينزل من القرآن في كل يوم، ولا يشغلهم عنه شيء من أمور الدنيا ، يقول عمر بن الخطاب t: (كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار من عوالي المدينة: وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله ﷺ ينزل يوماً، وأنزل يوماً ، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك) ([36]).
وأما عبد الله بن عمرو بن العاص فقد شكته زوجته إلى رسول الله لاستغراقه في العبادة وفي قراءة القرآن عن واجبات الزوجية، فسأله النبي ﷺ : «وكيف تختم» فقال: كل ليلة . فقال ﷺ: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر».
لكن عبد الله كان ذا همة عالية ، فقال: أطيق أكثر من ذلك . فقال ﷺ: «صم أفضل الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ [أي القرآن] في كل سبع ليال مرة»، فأقام دهراً يقرأ القرآن كل سبع ليال ، حتى كبرت سنه، وشق عليه ذلك، فكان يقول: ليتني قبلتُ رخصة رسول الله ﷺ ، وذاك أني كبرت وضعفت. فكان يقرأ على بعض أهله السُّبع من القرآن بالنهار، والذي يقرؤه يعرضه من النهار؛ ليكون أخف عليه بالليل .. كراهية أن يترك شيئاً فارق النبي ﷺ عليه ([37]).
وأما ذو النورين عثمان بن عفان صهر النبي ﷺ وجامع القرآن، فتذكر زوجته نائلة بنت الفرافصة الكلبية أنه "كان يحيي الليل كله في ركعة يجمع فيها القرآن"([38]).
وأما أُبي بن كعب فينقل أبو المهلب أنه كان يختم القرآن في ثمان ليال، بينما كان تميم الداري يختمه في كل سبع([39])، وأحياناً كل ليلة([40]).
ويحدثنا النبي ﷺ عن ظاهرة عرفها تاريخ الإسلام منذ عهد الصحابة الكرام، وهي قيام الليل بآيات وسور القرآن الكريم، فيقول: «إني لأعرف أصوات رفقةَ الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنتُ لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار»([41]).
وحتى يثبت القرآن في صدور الصحابة نهج النبي ﷺ نهجاً قويماً رسَّخ حفظهم وجوّد تعلمهم للقرآن، يقول التابعي أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - أن رسول الله كان يقرئهم عشر آيات ، فلا يجاوزونها إلى عشـر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل معاً) ([42]).
وتعاهد النبي ﷺ أصحابه ، فكان يقرئهم ، ويسمَعهم، فهذا أُبى بن كعب يأتيه رسول الله ، ويقول له: «إني أمرتُ أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا»، وفي لفظ: «إني أقرئك القرآن، قال: الله سماني لك؟ قال : «نعم»، فبكى أُبي» ([43]) .
وهذا أبو موسى الأشعري t كان من نجباء الصحابة، وكان من أحسن الناس صوتاً، سمع النبي ﷺ قراءته، فقال مشجعاً له : «لقد أوتىتَ مزماراً من مزامير آل داود» ([44]).
وأما عبد الله بن مسعود فجلس إلى النبي ﷺ فقال له: «اِقرأ علي». فقال: يا رسول الله، أقرأُ عليك، وعليك أُنزل؟ قال : «نعم، أحب أن أسمعه من غيري».
يقول ابن مسعود: فقرأتُ سورة النساء حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ﴾ (النساء:41)، فقال : «حسبك»، فإذا عيناه تذرفان([45]).
وحين ولي أبو الدرداء t قضاء دمشق، كان يجمع الناس على مائدة القرآن، يقول سويد بن عبد العزيز: (كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه ، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشـرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم يرجع إلى عريفه، وإذا غلط عريفهم يرجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك، وكان ابن عامر عريفاً على عشرةِ، فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر) ([46]).
وعن مسلم بن مشكم أن أبا الدرداء قال له: اعدد من يقرأ عندي القرآن؟ فعددتهم ألفاً وست مائة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرىء، وكان أبو الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء t ([47]).
إن هذا الاهتمام من أصحاب النبي ﷺ أثر أكيد لما رأوا من حث النبي ﷺ لهم على تعلم القرآن، فقد استحث هممهم بقوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»([48])، وأخبرهم أنه «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه» ([49]) ، فقراءة القرآن من أفضل العبادات، و«الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق؛ له أجران» ([50]).
وقد سارع الصحابة إلى حفظ سور القرآن ومدارستها، فكان منهم المئات من القراء، وقد أتم بعضهم حفظ كامل القرآن في عهد النبي ﷺ ، فقد سأل قتادة خادمَ النبي ﷺ أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي ﷺ؟ فقال أنس: (أربعة، كلهم من الأنصار: أُبـي بـن كعب، ومعاذ بن جبـل، وزيد بن ثابت، وأبــو زيــد) ([51]).
ولم يقتصر حفظه على الرجال، بل حفظته المؤمنات في خدورهن، وممن حفظه أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، فأمرها النبي ﷺ أن تؤم أهل دارها، وكان لها مؤذن، فكانت تؤم أهل دارها ([52]).
وحتى نقف على كثرة هؤلاء القراء في أول عصور الإسلام وقبل انتشاره في الدنيا؛ يكفينا أن نذكر بأنه قد قتل منهم في يوم بئر معونة سبعون.
وبعد وفاة النبي ﷺ قتل في وقعة اليمامة الكثير من القراء أيضاً مما استدعى الجمع الكتابي، فقد قال عمر بن الخطاب لخليفة المسلمين أبي بكر: (إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن) ([53]) ، فكان هذا سبباً في مبادرة الصحابة إلى جمع القرآن في مصحف واحد مكتوب في عهد الصديق.
إن الاهتمام البالغ في حفظ القرآن وتعلمه ليس خاصاً بالصحابة رضوان الله عليهم، بل هو دأب توارثته الأمة جيلاً بعد جيل، ويكفي في هذا الصدد أن ننقل بعضاً من أخبار التابعين.
ونبدأ بخبر التابعي أبي عبد الرحمن السلمي، فقد تعلم القرآن من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ثم كان يُقرىء الناس في المسجد أربعين سنة، وكان يعلمهم القرآن خمس آيات خمس آيات.
وأما مجاهد المكي فيقول: "ختمت القرآن على ابن عباس تسعاً وعشرين مرة".
ولما حضرت الوفاة أبا بكر بن عياش بكتْ أخته، فقال لها: "ما يبكيك، انظري إلى تلك الزاوية، قد ختمت فيها ثماني عشرة ألف ختمة"([54]).
ولقد ورد عن عدد من التابعين أنهم كانوا يختمون القرآن خلال أيام معدودات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أي كان القرآن نهمتهم في النهار وأنيسهم في الليل، ومنهم سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود النخعيين، فقد روى البيهقي عن إبراهيم النخعي أنه قال: "كان الأسود يقرأ القرآن كل ست ليال، وكان علقمة يقرؤه في كل خمس ليال"([55]).
وقال المروذي: "كان سعيد بن المسيب يختم القرآن في ليلتين، وكان ثابت البناني يقرأ القرآن في يوم وليلة .. وكان أبو حرة يختم القرآن كل يوم وليلة، وكان عطاء بن السائب يختم القرآن في كل ليلتين .." ([56]).
وقد نقل القرآن الكريم إلينا بحفظ الجموع عن الجموع في كل عصر، ويحفظه اليوم الملايين من المسلمين في أصقاع الأرض ، ليحقق القرآن وصف الله له بقوله في الحديث القدسي: «ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء؛ تقرؤه نائماً ويقظان» ([57]).
يقول ابن الجزري: "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة .. فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: «أناجيلهم في صدورهم»" ([58]).
وهكذا كان الإقبال على القرآن دأب الأمة المسلمة منذ الرعيل الأول وإلى يومنا هذا ؛ حيث نشهد ملايين الحفاظ في أقطار الدنيا، يقرؤونه غضاً كما أنزل على محمد ﷺ؛ على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم؛ ليحققوا موعود الله عز وجل بحفظ كتابه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9).
لقد حفظ القرآن كما نزل بلسان العرب، ولم يكن ذلك الحفظ مخصوصاً بالعرب دون غيرهم من المسلمين، فمئات الألوف ممن يحفظونه اليوم ليسوا من أهل العربية، بل لربما حفظه من لا يكاد يعرف شيئاً عن لغة العرب ومعاني ألفاظها، فيقرؤه بلسان عربي مبين، كما يقرؤه العربي سواء بسواء.
إن هذه الأعجوبة القرآنية لا مثيل لها عند أمة من الأمم، ومن أراد أن يقف على عظمتها فليجرب حفظ قصيدة كتبت بلغة يجهلها، ولسوف يشهد معنا أن حفظ الجموع الكاثرة من الأعاجم للقرآن برهان ساطع على أنه من عند الله، فقد يسر الله تلاوة كتابه على الناس، بحيث يقرؤه الصغير والكبير، والعالم والجاهل ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17)، فهذا التيسير لا يكون إلا لعظمة تعجز عن بلوغها قوى البشر ، وتكل دونها قدراتهم.
إن تعاهد النبي ﷺ أصحابه في حفظ القرآن لا يوازيه شيء إلا عنايته بالتوثيق الكتابي للنص القرآني ، فقد كان النبي ﷺ يتعاهد ذلك بنفسه، والصحابة يكتبون بين يديه ما ينزل من الوحي، يقول عثمان t: كان ﷺ إذا نزلت عليه الآيات يدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: «ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» ([59]).
ولا يبطئهم عن ذلك ولا يثقلهم كثرة آيات المقدار المنزل، فقد سارعوا إلى كتابة سورة الأنعام حين نزولها، مع أنها من أطول سور القرآن ، وأنها مكية نزلت زمن الاضطهاد، يقول ابن عباس: (نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم) ([60]).
وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب t وهو من السابقين إلى الإسلام ما يشير إلى وجود كتابة للمصحف بين يدي الصحابة الذين كانوا يقرؤون في بيت فاطمة بنت الخطاب، وكان خباب بن الأرت يقرئهم القرآن في صحيفة ([61]).
وقد أولى النبي ﷺ المكتوب بين يديه اهتماماً بالغاً، إذ كان يستوثق من دقة المكتوب بين يديه، يقول زيد بن ثابت: كنتُ أكتب الوحي عند رسول الله ﷺ وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: «اقرأه»، فأقرأُه، فإن كان فيه سقط أقامه([62]).
وخوفاً من تداخل المكتوب من القرآن مع غيره من كلام النبي ﷺ أمر ﷺ أن: «لا تكتبوا عني ، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»([63]).
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر :
ولحق النبي ﷺ بالرفيق الأعلى قبل أن يجمع هذا المكتوب بين يديه في مصحف واحد، كما نقل إلينا كاتب الوحي زيد بن ثابت بقوله: (قبض النبي ﷺ، ولم يكن القرآن جمع في شيء) ([64]).
وبعد وفاة النبي ﷺ بدأت حروب المرتدين، وكان أشدها معركة اليمامة التي قتل فيها قرابة الألف من أصحاب النبي ﷺ، وكثير منهم من القراء وحفظة القرآن، فاقترح عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر الصديق جمع القرآن في مصحف واحد، خشية ضياعه بوفاة المزيد من القراء، ووافق الخليفة على المقترح بعد طول تردد، وانتدب لجنة للقيام بذلك العمل العظيم برئاسة كاتب الوحي وحافظه الشاب زيد بن ثابت t ، وإشراف عمر بن الخطاب t.
يقول زيد: فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ﴾ (التوبة: 128) إلى آخرهما.
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر ([65]).
وتبين لنا رواية ابن أبي داود المنهج الذي اتبعه زيد في الجمع، إذ لم يعتمد محفوظاته ومحفوظات الصحابة، بل بحث عن المكتوب بين يدي النبي ﷺ ، واشترط لقبوله أن يوثق بشهادة شاهدين يشهدان بكتابته من إملاء النبي ﷺ، يقول يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: قام عمر بن الخطاب في الناس فقال: (من كان تلقى من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان) ([66]).
قال أبو شامة المقدسي: (وكان غرضهم ألا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي، لا من مجرد الحفظ) ([67]).
وهكذا أكملت اللجنة عملها بجمع ما كتب بين يدي النبي ﷺ موثقاً بشهادة شاهدين على الأقل، يشهدان أنه كتب بين يدي النبي ﷺ.
هل نقل شيء من القرآن بطريق الآحاد؟
ويرِد على هذا الجمع شبهة، وهي قول بعضهم: القرآن لم ينقل كله بالتواتر، بدليل أن زيد بن ثابت لم يجد خاتمة سورة براءة إلا مع خزيمة الأنصاري، وهو صحابي واحد، إذ يقول زيد: (فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ﴾ إلى آخرهما) ([68]).
والجواب: سبق الحديث عن حفظ الصحابة على عهد رسول الله ﷺ لسور القرآن كلها، ومنها آيات سورة براءة، التي سأل زيد الصحابة عنها، فلم يعرفها أحد ممن سألهم إلا خزيمة الأنصاري([69])، أي لم يجدها مكتوبة إلا عنده، فأثبتها في مصحف أبي بكر، ويدل عليه قول زيد: (نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرأ بها؛ فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري) ([70]).
قال الزرقاني في بيان معنى قول زيد : "لم يجد الآيتين اللتين هما ختام سورة التوبة مكتوبتين عند أحد إلا عند أبي خزيمة، فالذي انفرد به أبو خزيمة [أو خزيمة] هو كتابتهما ، لا حفظهما، وليس الكتابة شرطاً في المتواتر، بل المشروط فيه أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ولو لم يكتبه واحد منهم، فكتابة أبي خزيمة الأنصاري كانت توثقاً واحتياطاً فوق ما يطلبه التواتر"([71]).
واستدل لذلك بما روي عن الصحابة من حفظهم لهاتين الآيتين ، أولهم زيد نفسه، فهو يعرف الآية، لكنه يبحث عمن يعرفها من أصحاب النبي ﷺ، كما فعل في سائر آيات القرآن ، لذلك يقول زيد- كما في رواية البخاري -: (فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري)، فزيد يعرف الآية ويبحث عمن يعرفها من الصحابة([72]).
وكذلك فإن أُبي بن كعب يحفظ هاتين الآيتين، ففي تفسير ابن أبي حاتم أن أُبياً قال للصحابة لما ظنوا أن آخر ما نزل قوله: ﴿ ثُمَّ انـصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم﴾، فقال: (إن النبي ﷺ أقرأني بعد هذا آيتين : ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾)([73]).
وكذلك يحفظهما عمر t، ففي مسند أحمد أنه t قال: (وأنا أشهد لسمعتهما من رسول الله)([74]).
وكذلك يحفظهما عثمان ، ففي كتاب المصاحف أن عثمان t قال: (وأنا أشهد أنهما من عند الله) ([75]).
وكذلك سمع ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية وتفسيرها من رسول الله ﷺ ، فيقول: سمعت النبي ﷺ قرأ: ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ يعني من أعظمكم قدراً([76]).
وقد جاء في روايات لا تخلو من ضعف عن أُبي بن كعب t أن قلة من شهد لهاتين الآيتين سببه أنهما آخر ما نزل من القرآن([77]).
وهكذا فهاتان الآيتان محفوظتان بحفظ الصحابة لهما، وإن لم توجدا مكتوبتين إلا عند خزيمة، لكن يحفظهما الصحابة حفظة القرآن، كما يحفظها زيد وعمر وعثمان وأبي، وغيرهم ممن لا يعرف عددهم إلا الله تعالى.
الجمع العثماني :
وفي عهد عثمان الخليفة الثالث للنبي ﷺ قدم حذيفة بن اليمان إلى الخليفة يشكو اختلاف المسلمين في القراءة بسبب جهل الكثيرين بالحكمة من الأحرف السبعة والإذن بالقراءة بها، لأن الله نزل القرآن بها جميعاً، فجعل بعضهم يقول: إن حرفه أصح من حرف غيره، وحصل بينهم مراء في الأحرف ، وهي كلها قرآن منزل من الله ، سهَّل الله بها القراءة على الناس الذين لم يعتادوا على لغة قريش، يقول حذيفة: (يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)([78]).
فاستشار عثمان أصحاب النبي ﷺ في إعادة نسخ القرآن وفق لغة قريش التي نزل بها القرآن أول مرة، فوافقوه في ذلك، يقول علي بن أبي طالب: إن عثمان قال: (فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت) ([79]).
وكوَّن عثمان t لجنة عمادها أربعة من حفاظ القرآن، ثم أضاف إليها ما جعل أعضائها اثني عشر من أصحاب النبي ﷺ، يقول كثير بن أفلح : (لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت) ([80]).
وبدأت اللجنة بنسخ مصحف أبي بكر وكتابته وفق لسان قريش، يقول حذيفة: (فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم) ([81]).
وفي رواية الترمذي أن الكتبة اختلفوا في كيفية كتابة كلمة واحدة فقط، يقول حذيفة: (فاختلفوا في "التابوت" و" التابوه " ، فقال القرشيون بالأول، وقال زيد بالثاني ، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بالتابوت، فإنه نزل بلسان قريش)([82]).
وتكامل الجمع العثماني بإجماع من أصحاب النبي ﷺ، وأمر عثمان بإرسال نسخ من المصحف المجموع إلى الأمصار، كما أمر من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف؛ رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) ([83]).
ففعل الصحابة وامتثلوا ذلك، واتفقوا على صحة صنيع عثمان، يقول الخليفة علي بن أبي طالب t: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً، والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل) ([84]).
وامتثال الصحابة وفعلهم إقرارٌ لعثمان على صحة جمعه وإعادته نسخ مصحف أبي بكر، ولو كان في فعله شائبة لثاروا عليه، ومن المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم ومعرفة من أحرق ومن لم يحرق، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم واختيارهم.
وهكذا وثق النص القرآني كتابة، فاجتمع ذلك إلى توثيقه بحفظ الحفاظ من أصحاب النبي ﷺ ، وتناقلت الأمة في أجيالها نص القرآن الكريم، يحفظه الألوف منهم في كل عصر، ويولونه من العناية ما لا مثيل له في أمة من الأمم.
قالـوا : القرآن ليس وحي الله، بل هو من إنشاء محمد وإبداعه!.
والجواب : أن هذه دعوى تحتاج إلى دليل، كما أن القول بنزول القرآن من الله على النبي ﷺ دعوى تحتاج أيضاً إلى دليل، فنحن أمام خيارين: أولهما أن القرآن من كلام الله. والآخر أنه من إنشاء النبي ﷺ.
ولو فرضنا ـ جدلاً ـ صحة الخيار الثاني ، فإنا نتساءل: لماذا يؤلف مدعي النبوة هذا السِفر العظيم وتلك اللوحة البيانية المذهلة ثم ينسبه إلى غيره.
ولماذا يتحدى العالمين أن يأتوا بمثله؟ وكيف له أن يحيط بأخبار الأولين وأن يتوصل إلى علوم الآخرين؟ وكيف تنبأ بالغيوب الكثيرة التي ملأت صفحات كتابه، ومنها ما تحقق في حياته، ومنها ما يشهد وقوعه بصدقه إلى قيام الساعة.
ثم لو كتب مدعٍ ما كتاباً، فماذا ترانا نتوقع أن نجد فيه؟
لو أطلق الواحد منا خياله محاولاً تصور كتاب يكتبه مدع كاذب؛ فإنه سيجد الكثير مما ينبه العقلاء - ولو بعد حين – إلى بشـريته، وأنه من صناعة إنسان، وهذا ليس بالعسير، فالبشـر يكتبون بمعايير البـشر وقدراتهم، ووفق أحاسيسهم ورغباتهم وعلومهم وموضوعاتهم.
إن نظرة فاحصة لآي القرآن ستنبئ عن إلهية منزل القرآن؛ إذ هو في موضوعاته يتسامى بعيداً عن اهتمامات البشر وما يجول في أذهانهم، فحديثه يدور حول موضوعات لا يطرقها البشر عادة ولا يقدرون على الإنشاء فيها، كالحديث عن صفات الله وأسمائه وأفعاله، وعن اليوم الآخر وأهواله وجنته وناره، والحديث عن التاريخ القديم والمستقبل البعيد.
وفي مقابل ذلك لا نجد أي مشاعر إنسانية يحملها القرآن في صفحاته، فلا يظهر فيه حزن الاستضعاف المكي، ولا نشوة النصر المدني، لا نجد فيه أي حديث يتعلق بآلام النبي ﷺ وأفراحه وآماله وتطلعاته، فكما لا يتحدث القرآن عن موت زوجه خديجة وعمه أبي طالب في عام الحزن؛ فإنه لا يذكر شيئاً عن زواجه أو ميلاد أولاده أو وفاتهم أو غير ذلك من الأمور الشخصية المتعلقة بزوجاته أو أصحابه، فالقرآن غير معني بتسجيل السير والحكايات ، لذلك لم يرد فيه ذكر اسم زوجة من زوجاته أو ابن من أبنائه وبناته، بل ولا اسم عدو من أعدائه ، ولا صاحب من أصحابه ، خلا أبا لهب وزيداً t.
بل إن القرآن لم يذكر اسم النبي ﷺ في صفحاته إلا خمس مرات، بينما ذكر عيسى عليه السلام باسمه خمساً وعشرين مرة، وذكر موسى بما يربو على المائة مرة؛ ليبرهن لكل قارئ أنه كتاب الله ، وليس كتاب محمد ﷺ([85]).
وإذا شئنا مزيداً من البيان فلننظر إلى الكتب التي يؤمن بها اليهود والنصارى اليوم؛ فإنا نجدها مليئة بما يدل على بشريتها، بما تحكيه من هموم البشـر وآلامهم وآمالهم ورغباتهم، وذلك باب يطول تتبعه ، وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
أرسل يوحنا في رسالته المقدسة عند النصارى كلمات تبين عواطفه ومشاعره الإنسانية، فيقول: " غايس الحبيب الذي أحبه بالحق، أيها الحبيب في كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً... سلام لك، يسلم عليك الأحباء، سلم على الأحباء بأسمائهم" ( يوحنا (3) 1-14).
وأما بولس فكتب إلى صديقه تيموثاوس رسالته التي أضحت عند النصارى جزءاً من كتابهم المقدس، فيقول فيها: "الرداء الذي تركته في تراوس عند كابرس أحضره متى جئت، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق .... سلم على ريسكا وأكيلا وبيت أنيسي فورس، اراستس بقي في كورنثوس، وأما تروفيمس فتركته في ميليتس مريضاً، بادر أن تجيء قبل الشتاء..." ( تيموثاوس (2) 4/13 - 21)، فمثل هذا الإنشاء والمعاني الإنسانية لا تجده في القرآن العظيم.
وفي مقابله يمكننا من خلال تفحص النص القرآني الوقوف على عشرات الشواهد التي تثبت أن هذا القرآن ليس من إنشاء محمد ﷺ ولا تأليفه، بل هو كلام الله تبارك وتعالى المنزل عليه ﷺ.
وفي هذا الصدد نقف مع أربعة أنواع من الآيات الدالة على ذلك، وهي:
- آيات عتاب النبي ﷺ.
- آيات تتعلق بأحداث تشهد بوحي القرآن عليه.
- إعجاز القرآن الكريم.
- إخبار القرآن بالغيوب.
وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولاً: دلالة آيات العتاب :
البشر حين يكتبون فإنهم يمجدون أنفسهم ويعظمون عند الناس ذواتهم، فالبشر يكتبون ليخلدوا ذكرهم ومفاخرهم، وهم بالطبع يتعامون عن ذكر معايبهم وأخطائهم، فما لتخليد هذا يكتبون.
ولم يسجل التاريخ البشري عن كاتب ما سجله القرآن من عتاب الله نبيه ﷺ على بعض ما فعله ، ولو كان القرآن من إنشائه لبرر له فِعاله، وصوّب خطأه، فآي القرآن على خلاف ما نعتاده من البشر ونسقهم وطرائقهم في التأليف.
والمواضع التي عاتب الله فيها نبيه ﷺ عديدة ، منها أنه لما جاءه المنافقون بعد غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم بأعذار كاذبة؛ قبِل منهم أعذارهم، وعفا عنهم، فعاتبه ربه عز وجل: ﴿ عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ (التوبة: 43)([86]).
ومنها أنه لما جاء إليه زيد بن حارثة يستشيره في طلاق امرأته زينب؛ أمره النبي ﷺ بإمساكها، مع أن الله أعلمه أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له ﷺ وأُمّاً للمؤمنين، فكشف القرآن سر نفسِه: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب: 37)، تقول عائشة رضي الله عنها: (ولو كان محمد ﷺ كاتماً شيئاً مما أُنزل عليه؛ لكتم هذه)([87]).
ومنها أنه لما دخل على النبي ﷺ نفر من سادات قريش، فجعل يعرض عليهم الإسلام وهو يطمع في إسلامهم، وفيما هم كذلك دخل عليه عبد الله بن أم مكتوم وهو أعمى يسأله، فأعرض عنه النبي ﷺ وأقبل على السادة طمعاً في إسلامهم، فعاتبه ربه: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ` أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ` وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ` وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ` وَهُوَ يَخْشَى ` فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ (عبس: 1-10)([88])، ولو كان القرآن من كلام محمد، لما سطر فيه مثل هذا ، بل كتمه.
وقد لفت هذا الموقف نظر المستشرق الإنجليزي الدكتور (لايتنر)، فقال في كتابه "دين الإسلام": "مرة أوحى الله إلى النبي وحياً شديد المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهَه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلاً غنياً من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان محمد كاذباً لما كان لذلك الوحي من وجود" ([89]).
وكذلك عاتب الله نبيه ﷺ لما حرم على نفسه العسل ، حين أكله عند إحدى أزواجه، فأخبرته زوجتان أخريان أنهما تجدان منه ريح المغافير، وهو طعام حلو الطعم، سيء الرائحة، فحرَّمه ﷺ على نفسه، فقال له الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ (التحريم: 1).
ولو كان محمد ﷺ مؤلف القرآن لما قال فيما هو في ظاهره خطاب له ﷺ : ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ` إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ (الإسراء: 74-75).
ولو كان من تأليفه لما قال عن نفسه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ` لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ` ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة: 44-47)، فما هكذا يكتب البشر عن أنفسهم.
ثانياً : أحداث تشهد بوحي القرآن :
إن آيات القرآن لم تعاتب النبي ﷺ فحسب، بل جاءت أحياناً على خلاف ما يحبه ﷺ ويهواه، ومن ذلك أنه لما توفي عبد الله بن أُبي كبير المنافقين ، كفنه النبي ﷺ في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه ، فقال له عمر t: أتصلي عليه وقد نهاك ربك؟ فقال ﷺ: «إنما خيرني ربي فقال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾ (التوبة: 80)، وسأزيده على السبعين».
لقد كان ﷺ حريصاً على أن تدرك رحمته كل أحد ، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ ﴾ (التوبة: 84)، فترك الصلاة عليهم([90]).
ولما حضرت الوفاة عمه أبا طالب؛ دخل عليه النبي ﷺ وعنده أبو جهل فقال: «أي عم، قل: لا إله إلا الله ؛ كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب.
فقال النبي ﷺ متحسراً على وفاة عمه على غير الإسلام: «لأستغفرن لك؛ ما لم أُنه عنه» قال ذلك وفاء منه ﷺ لعمه الذي كثيراً ما دافع عنه وآزره، فنزل قول الله على غير مراده: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (التوبة: 113)، ونزل: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ (القصص: 56)([91]).
وصلى ﷺ الفجر يوماً، فرفع رأسه من الركوع، وقال والأسى يعتصر قلبه مما يصنعه كفار قريش بأصحابه: «اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً»، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ (آل عمران: 128)([92]).
كيف يصح فرض أن القرآن من إنشاء النبي ﷺ ، وفيه قوله تعالى: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ` إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾ (الإسراء: 86-87).
وإن مما يدفع هذا الفرض ويدحضه تأخره عليه الصلاة والسلام في جواب أسئلة ملحة استلبث الوحي في جوابها، مع مسيس حاجته ﷺ إلى هذا الجواب.
ومن ذلك أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة , وطلبوا منهم العون في اختبار النبي ﷺ للوقوف على صدق نبوته، فأرشدهم اليهود إلى سؤاله عن أمور ثلاثة: عن فتية كانوا في الدهر الأول، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وعن الروح ما هو؟
وقالوا: فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه , وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأتت قريش النبيَّ ﷺ وسألته, فقال لهم : «أخبركم غدا عما سألتم عنه»، ولم يستثن [أي لم يقل : إن شاء الله] .
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة , لا يُحْدِثُ الله له في ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة , وقالوا: وعدنا محمد غداً, واليوم خمس عشرة ليلة لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه.
وأحزن رسولَ الله ﷺ مُكْثُ الوحي عنه, وشق عليه ما تكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبرائيل- عليه السلام - من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف , وفيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وفيها أيضاً خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية , والرجل الطواف , وفيها قول الله عز وجل: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ (الإسراء: 85) ([93])، فلو كان القرآن من عند نفسه ﷺ لأجابهم من لحظته أو بعد ساعة، ولما أرهق نفسه خمس عشرة ليلة في انتظار جواب هو سيقوله وينشئه من عند نفسه.
وحين أرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه - عائشة رضي الله عنها أبطأ الوحي في بيان براءتها، وطال الأمر عليه وعلى المسلمين، والناس يخوضون في الإفك ، حتى بلغت القلوب الحناجر , وهو لا يملك إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيراً».
وبقي ﷺ شهراً في غم واستشارة للأصحاب ، والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر : «يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله» ([94]).
ثم نزل عليه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ (النور: 26)، فأعلم الناس ببراءتها.
فماذا كان يمنعه – لو أن أمر القرآن إليه – أن يسارع إلى تقول هذه الكلمات الحاسمة ؛ ليحمي بها عرضه , ويذب بها عن عرينه , وينسبها إلى الوحي السماوي, لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ﷺ الصادق الأمين الذي ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ` لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ` ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ (الحاقة: 44- 47)([95]).
ثالثاً : الكتاب المعجز :
ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي ﷺ وإنشائه؛ لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي ﷺ في حديثه المدون في كتب السنة والحديث، ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة.
ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلاً، فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي ﷺ ، فكلاهما كلام بليغ ، لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده.
فقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ...»([96]) كلام عربي فصيح، لكن شتان بينه وبين قول الله عز وجل: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ` أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ` كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ` وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ` وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ` كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ` أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ` فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ (مريم: 77-84)، فبين القولين من تباين الأسلوب وجزالته ما لا يخفى على العوام؛ فضلاً عن أرباب الفصاحة والبيان.
وإذا كان القرآن من تأليف النبي ﷺ، فكيف نجح في تأليف هذا الذي ذهل لبلاغته أرباب اللغة ورواد الأدب والبيان؟ كيف جرُأ على تحديهم بالإتيان بمثله؟ ولماذا لم ينسبه إلى نفسه فيحوز شرف تأليفه وإبداعه؟ أما كان من الأوفق له أن ينسبه لنفسه ويتحدى به الآخرين، ولن يعارضه أحد في أنه صاحبه؟!
لقد جعل الله القرآنَ الكريم أعظم وأدوم معجزات النبي ﷺ، فهو معجزته في كل عصر وحين، وقد تحدى من قال بأنه من تأليف محمد ﷺ، فدعاهم إلى الإتيان بمثله، فكلام البشر يقارع ويضارع، وأما كلام الرب فلا يماثل ولا يكافأ.
لكن العرب على فصاحتهم وبيانهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله رغم التحدي القرآني المستفز لهممهم والتي تؤزه شدة الكراهية والعداوة له والحرص على الطعن فيه والتماس أي زلل فيه أو خطأ، وأعيتهم الحيل في ذلك ، وهم يسمعونه يصدع بين ظهرانيهم: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ` فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ (الطور:33-34).
فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثل جميعه، تحداهم القرآن بأقل منه؛ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم تضارع القرآن وتماثل بيانه ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (هود: 13).
فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثله تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة تضارعه في بيانه وإحكامه: ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة: 23).
ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ (البقرة: 24)، وأن نتيجة التحدي النهائية هي خسارة أعداء القرآن والزاعمين بشريته ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (الإسراء: 88).
كما قرر القرآن التحدي في صورة أخرى كان يذكرهم بها كرَّة بعد كرَّة، وهي الحروف المقطعة التي تبدأ فيها تسع وعشرون سورة من سور القرآن ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ (البقرة: 1) ، ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ (ص: 1)، ﴿حم ` تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (غافر: 1-2)، فهذه الآيات وأمثالها تقول للعرب: القرآن مكون من هذه الحروف ، وهي حروف شعركم ونثركم، فهاتوا مثله يا من تدعون أنه من كلام محمد ﷺ.
قال ابن كثير: "إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته"([97]).
وهذا التحدي الإلهي قائم ما دام الليل والنهار، ولئن عجز عنه أرباب اللغة زمن جزالتها، فإنه لن يقدر عليه أولئك المتطفلون اليوم على موائد العلم والأدب والذين يحاولون محاكاة القرآن بالمضحك من القول والسخيف من المعاني، وسفاسف المعارف.
فحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلاً لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: "يا ضفدع، نقي كما تنقين ، لا الماء تدركين ، ولا الشراب تمنعين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشاً قوم يعتدون"([98]).
وقال أيضاً معارضاً القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى .. أوحي إلي أن الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً"([99]).
وشرع الأديب ابن المقفع في معارضة القرآن ، وكان من أفصح أهل زمانه، ثم مرَّ بصبي يقرأ: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ ﴾ (هود: 44) فرجع فمحى ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر([100]).
ومثله صنع يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه، فحُكي أنه رام معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج على منوالها ، فعجز وقال: "فاعترتني منه خشية ورِقَّة حملتني على التوبة والإنابة"([101]).
وظهرت في العصر الحديث محاولات سخيفة لتقليد القرآن ومحاكاته، لم يزد صانعوها على محاكاة أسلوب القرآن وطريقته في البيان مع تغيير بعض الألفاظ بطريقة تدعو للضحك، وتستدعي الشفقة، ومن ذلك أن القس أنيس شروش يحكي عن جهد قامت به مجموعة من المفكرين في أورشليم القدس، وقد عملوا خلال ست عشرة سنة على إعادة صياغة الإنجيل على نحو أسلوب القرآن ، فكان مما تحذلقوا فيه بعد هذه السنين: "بسم الله الرحمن الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي ولا تخافوا. إن لكم عنده جنات نزلاً. فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم ، ثم لآتينكم نزلة أخرى ، و إنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا.
فقال له توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علماً. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقاً ، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً، ومن عرفني فكأنما عرف الله ، ولأنكم منذ الآن تعرفونه وتبصـرونه يقيناً ، فقال له فيليب الحواري: مولانا أرنا الله جهرة تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد، وقد أقمت معكم دهراً ؟ فمن رآني فكأنما رأى الله جهراً ".
وقد عقب القس على هذا الكلام الركيك الذي استمروا في إعادة صياغته خمس عشرة سنة بقوله: "إنه نص جميل بلغة عربية جميلة "([102]).
وقد تكامل هذا الجهد السخيف، حين أصدروا ما سمي بـ "الفرقان الحق"، وأقتبس منه بعض الفقرات لأؤنس بها القارئ الكريم: "باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولاً لَغْواً ما كان شعراً ولا نثراً ولا قولاً سديداً * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديداً * يرغِّب التابعين ترغيباً ويهدد المعرضين تهديداً * حَسُنَ وقعاً في نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ في دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيداً"([103]).
ويحكي الدكتور إبراهيم خليل قصة طبيب مصري مسيحي استفزه تحدي القرآن ، فعزم على إنشاء كتاب يجيب فيه التحدي ، ويسميه: "وانتهت تحديات القرآن".
وسعياً لتحقيق ذلك كتب الطبيب المصري رسالة أرسل صورة منها إلى ألفي عالم أو معهد أو جامعة ممن تخصصوا بالدراسات العربية والإسلامية في مختلف أنحاء العالم يدعوهم لمساعدته في إنجاز هذا الكتاب المهم، وكان مما سطره في خطابه قوله: "القرآن يتحدى البشرية في جميع أنحاء العالم في الماضي والحاضر والمستقبل بشيء غريب جداً ، و هو أنها لا تستطيع تكوين ما يسمى بالسورة باللغة العربية... السورة رقم 112 ، و هي من أصغر سور القرآن ، ولا يزيد عدد كلماتها عن 15 كلمة ، ويتبع ذلك أن القرآن يتحدى البشـرية بالإتيان بـ(15) كلمة لتكوين سورة واحدة كالتي توجد بالقرآن...
سيدي: أعتقد أن مهاجمة هذه النقطة الهامة والخطيرة ، وذلك بالإتيان بأكبر عدد ممكن من السور كالتي توجد، أو - آمل أن تكون - أفضل من تلك الموجودة بالقرآن سيسبب لنا نجاحاً عظيماً لإقناع المسلمين بأنا قبلنا هذه التحديات ، بل وانتصرنا عليهم... فهل تتكرم يا سيدي مشكوراً بإرسال 15 كلمة باللغة العربية أو أكثر من المستوى البياني الرفيع مكوناً جملة كالتي توجد في القرآن..".
وللتوثيق أورد الدكتور إبراهيم خليل صورة الخطاب وعناوين الجهات (2000 عنوان) التي أرسل إليها، وتكررت محاولة الطبيب المسيحي أربع مرات طوال سنة 1990م ، فكانت محصلة ثمانية آلاف رسالة أرسلها إلى 2000 جهة أو شخصية علمية؛ أن وصلت إليه ردود اعتذار باهتة عرض الدكتور إبراهيم خليل صورها في كتابه، منها اعتذار كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن، فقد كان ردها: "آمل أن نتفهم أن كُليتنا وأعضاءها يرفضون الخوض في المنازعات الدينية، و بالتالي فإنه لا يمكننا إجابة طلبك ".
و أما رد إذاعة حول العالم التنصيرية (مونت كارلو) فكان: " الموضوع الذي طرحته موضوع هام، لكننا كإذاعة لا نحب أن ندخل في حمى وطيس هذه المعركة، إذ لا نظن أنها تخدم رسالة الإنجيل، فرسالتنا هي رسالة محبة، وليست رسالة تحدي...".
وأما رد الأب ليو من الفاتيكان فكان مثيراً للشفقة: "بوصفنا مسيحيين فنحن لا نقبل بالطبع أن يكون القرآن هو كلام الله على الرغم من إعجابنا به؛ حيث يعتبر القمة في الأدب العربي.. هناك نقطة عملية تعوق مسألة الإتيان بسورة من مثل القرآن، وهي: من ذا الذي سيحكم على هذه المحاولة إن تمت بالفعل..."، ولذلك اعتذر عن إجابة طلبه.
وأعاد الطبيب القبطي مراسلة جميع معاهد ومؤسسات الفاتيكان طالباً إجابة التحدي ، وعرض أن يكون هو شخصياً الحكم بين القرآن والفاتيكان ، وطلب من الأب " ليو" في الفاتيكان أن ينقل أي جزء مكون من 15 كلمة من الكتاب المقدس ليعارض بها القرآن، فكانت الإجابة صمت مطبق لا يشبهه إلا صمت أصحاب القبور([104])، ليصدق فيهم جميعاً قول الله تعالى: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (الإسراء: 88).
لقد اعترف أعداء القرآن - قديماً- بعظمة القرآن رغم عدائهم له، وذلَّت رقابهم لما سمعوه من محكم آياته، فها هو الوليد بن المغيرة سيد قريش وسابقها إلى محاربة النبي ﷺ يسمعه وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ (النحل: 90)، فيقول قولته المشهورة: "والله إنَّ لقولِه الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليَحطِم ما تحته"([105]).
ولما جاء عتبة بن ربيعة إلى النبي ﷺ سمعه يقرأ أوائل سورة فصلت، فرجع إلى قريش قائلاً: "إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ نبأ"([106]).
وأما عمر بن الخطاب فقصة إسلامه مشهورة حين دخل على أخته فوجدها تقرأ في سورة طه، فلما قرأ فواتح السورة؛ رقّ قلبه ودخل في الإسلام ، وأصبح عمرُ الفاروقَ الذي فرق الله به بين الحق والباطل.
وأما جبير بن مطعم t فسمع النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ الْخَـٰلِقُونَ ` أَمْ خَلَقُواْ السَّمَـاواٰتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ` أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ قال: (كاد قلبي أن يطير)، وفي رواية: (وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)([107]).
وأما الطفيل الدوسي فقدم مكة، فحذرته قريش من سماع القرآن، وقالوا: وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئاً .
يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفاً [قطناً] ؛ فَرَقاً [خوفاً] من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه .
لكن الله أبى إلا أن يسمعه وهو في الطواف بعض القرآن فقال لنفسه: "واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلتُه، وإن كان قبيحاً تركتُه".
فجلس إلى النبي ﷺ يستمع القرآن ، ثم ما لبث أن أسلم([108]).
ومثله خبر الشاعر لبيد بن ربيعة العامري ، وهو من فحول شعراء الجاهلية، وصاحب إحدى المعلقات السبعة ، سأله عمر بن الخطاب يوماً : أنشدني من شعرك ، فقرأ له سورة البقرة ، فقال : إنما سألتك عن شعرك، فقال : ما كنت لأقول بيتاً من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران([109]).
وفي العصر الحديث أيضاً شهد المنصفون من المستشـرقين بعظمة القرآن، وسجلت كلماتُهم بحقه المزيدَ من الإعجاب والدَّهش من نظمه وبيانه ومضمونه، ومنه قول المستشرق فون هامر في مقدَّمة ترجمته للقرآن: "القرآن ليس دستورَ الإسلام فحسب، وإنما هو ذِروة البيانِ العربي، وأسلوبُ القرآن المدهش يشهد على أن القرآنَ هو وحيٌ من الله، وأن محمداً قد نشـر سلطانَه بإعجاز الخطاب، فالكلمةُ [أي القرآنُ] لم يكن من الممكن أن تكونَ ثمرةَ قريحةٍ بشرية".
وأما فيليب حتّي فيقول في كتابه "الإسلام منهج حياة": "إن الأسلوب القرآني مختلف عن غيره، إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه هو إعجاز القرآن .. فمن جميع المعجزات كان القرآن المعجزة الكبرى".
وأما جورج حنا فيقول في كتابه "قصة الإنسان": "إذا كان المسلمون يعتبرون أن صوابية لغة القرآن هي نتيجة محتومة لكون القرآن منزلاً ولا يحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية، بقطع النظر عن كونه منزلاً أو موضوعاً، ويرجعون إليه للاستشهاد بلغته الصحيحة كلما استعصـى عليهم أمر من أمور اللغة".
ويقول الفيلسوف الفرنسـي هنري سيرويا في كتابه "فلسفة الفكر الإسلامي": "القرآن من الله بأسلوب سام ورفيع لا يدانيه أسلوب البشر".
وأما المستشرق بلاشير فلم يألُ جهداً في الطعن في القرآن ومعاداته في كتابه "القرآن"، لكن الحقيقة غلبته، فقال: "إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة ؛ تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجَّلته من التحف".
وبهرت جزالة القرآن وروعة أساليبه المستشـرق الشهير، الأديب غوته، فسجل في ديوانه "الديوان الشرقي للشاعر الغربي" هذه الشهادة للقرآن: "القرآن ليس كلام البشر، فإذا أنكرنا كونه من الله، فمعناه أننا اعتبرنا محمداً هو الإله".
وقال: "إن أسلوب القرآن محكم سام مثير للدهشة .. فالقرآن كتاب الكتب.. وأنا كلما قرأت القرآن شعرت أن روحي تهتز داخل جسمي"([110]).
رابعاً : الإخبار بالغيوب
ومما يمنع نسبة القرآن إلى النبي ﷺ ما أخبر عنه من الغيوب التي لا تنكشف إلا بوحي من الله علام الغيوب، فالغيب سر الله لا يعرفه إلا هو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ` إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ` لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ (الجن: 26-28).
والنبي ﷺ كسائر البشر لا يعلم الغيب المطلق ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ (الأنعام: 50)، ﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف: 188)، فإذا ما أخبر ﷺ بشيء من الغيب؛ فإنما يخبر بغيب لا يعلمه إلا الله، وتحقق هذه الأخبار شهادة صادقة على نبوته، وآية باهرة على أن ما يقوله إنما يقوله بوحي من الله.
ومن الغيوب الدالة على ربانية القرآن ما أخبر عنه من انتشار الإسلام وظهور أمره على الأديان، وبلوغه إلى الآفاق ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ (الصف: 9)، فهذه الآية نزلت بعد هزيمة المسلمين في غزوة أحد، والنبي ﷺ يقرؤها في زمن الاستضعاف، وهي إخبار بأمر غيب لا مدخل فيه للتخمين ورجم الظنون، فإما أنه خبر كاذب صادر من مدع لغير ما يستحقه، أو هو خبر صادق أوحاه الله الذي يعلم ما يُستقبَل من الأحداث والأخبار.
وحين ألقى الخوف بظلاله على المسلمين، حين رمتهم العرب عن قوس واحدة، وطمع فيهم الأعراب، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه.
فقالوا: ترون أنـَّا نعيشُ حتى نبيتَ مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؟ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضـَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْـرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ (النور: 55) ([111]) وكان كذلك، فقد أمَّنهم الله من بعد خوفهم، وسوَّدهم الأرض، واستخلفهم فيها من بعد ذلتهم، ومكَّن لهم دينهم في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن غيوب القرآن، تنبؤه بنصر بدر العظيم، وذلك في وقت كان المسلمون يعانون في مكة صنوف الاضطهاد ويُسامون سوء النكال؛ وفي وسط هذا البلاء نزل على النبي ﷺ قوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ` أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ` سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ` بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ (القمر: 43-46).
فقال عمر بن الخطاب [أي في نفسه] : أي جمع يهزم؟ أي جمع يُغلَب؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسول الله ﷺ يثِب في الدرع، وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ فعرفت تأويلها يومئذ([112])، فالآية نزلت قبل الهجرة بسنوات؛ تتحدث عن غزوة بدر واندحار المشركين فيها، وتتنبأ بهزيمتهم وفلول جمعهم.
وقبيل معركة بدر أدرك النبي ﷺ اقتراب تحقق الوعد القديم الذي وعده الله بمكة، فقام إلى العريش يدعو ربه ويناجيه: «اللهم إني أنشدُك عهدَك ووعدَك، اللهم إن شئت [هلاك المؤمنين] لم تُعبَد بعدَ اليوم».
ثم خرج رسول الله ﷺ من عريشه، وهو يقول: ﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ` بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ (القمر: 45-46)([113])، وهكذا كان، فقد هزمت جموعهم، وولوا على أدبارهم، وصدق الله نبيَه الوعدَ، وفي تحققه آية بينة على أن هذا القرآن من وحي الله علام الغيوب.
قالــوا: القرآن ليس كلاماً إلهياً، بل هو من تأليف محمد [ﷺ]، وقد نقله عن مصادر مختلفة: (الكتاب المقدس – الراهب بَحيرا – ورقة بن نوفل – شعر أمية بن أبي الصلت – شعر امرئ القيس)، وهذا يدل على أنه لم يوحَ إليه، لأن النبي الموحى إليه لا ينقل عن المصادر البـشرية أو المصادر القديمة (أي الكتاب المقدس).
والجـواب: أن دعوى اقتباس القرآن عن السابقين دعوى قديمة جديدة، قديمة في مضمونها، جديدة في مدعيها، فالمشركون أعياهم زمن النبي ﷺ أن يأتوا بمثل علوم القرآن وأخباره، فاتهموا النبي ﷺ باقتباسها من أساطير الأولين ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ (النحل: 24)، ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(الفرقان: 5)، وقالوا: تعلم القرآنَ من غلام نصراني رومي اسمه جبرا، وكان غلاماً لعامر بن الحضـرمي، وكان يعمل حداداً بمكة: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ (الفرقان: 4)، وردَّ عليهم القرآن فريتهم بما أسكتهم ودحض باطلهم: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَـرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103).
وهذه الدعوى القديمة جديدة في تحديد أسماء المصادر المزعومة للنبي ﷺ، فقريش اتهمته ﷺ بالتعلم من حداد رومي ، بينما الطاعنون اليوم زعموا أن النبي ﷺ تعلم القرآن من الراهب النسطوري النصراني بَحيرا حين لقيه في بصـرى الشام عندما زارها غلاماً مع عمه أبي طالب، كما زعموا تعلمه ﷺ من ورقة بن نوفل الأسدي القرشي، ابن عم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وهو راهب متنصـر، وهذان [بَحيرا وورقة] لم يخطر في بال قريش ولا يهود المدينة اسم واحد منهم في طعنهم في نبوة النبي ﷺ وإلهية كتابه.
أُمِّية النبي ﷺ
وقبل أن نشرع في بيان الحق في هذه المسألة نود أن نقرر أن النبي ﷺ أُمِّي لا يعرف القراءة والكتابة ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ (الأعراف: 157)، ونشأ في أمة أمية، ندر أن تجد فيها من يقرأ ويكتب ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ (الجمعة: 2).
لقد كانت أُمِّية النبي ﷺ حجر العثرة الذي أعثر أصحاب الأباطيل الزاعمين أن النبي ﷺ نقل من كتب السابقين وعلومهم، وقد رد عليهم القرآن بقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ (العنكبوت: 48)، قال هذا والنبيُّ بين ظهراني قريش، فلم يستنكره أحد من المشركين ، ليقينهم بأميته ﷺ ، كيف يجهلون ذلك وقد مكث ﷺ بينهم قبل بعثته أربعين سنة ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ (يونس: 16).
وشغب أصحاب الأباطيل على أمِّية الرسول ﷺ بذكر نصين من كلام النبي ﷺ، زعموا أن فيهما شهادة على معرفة النبي ﷺ بالقراءة والكتابة، أولهما: حين شارك في كتابة صلح الحديبية، فكتب فيه ما يقارب السطر([114])، والآخر حين قال للصحابة قبيل وفاته: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»([115])، فرأوا في هذين النصين الصحيحين ما يدل على معرفته ﷺ بالقراءة والكتابة.
فأما كتابة النبي ﷺ يوم الحديبية فكان معجزة له ﷺ ، إذ كتب ما كتب، ولم يكن كاتباً من قبل، بدليل رواية البخاري التي أخبرت أنه ﷺ كتب وهو لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ففيها أن قريشاً اعترضت على الكتاب الذي يكتبه علي t فقالت: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال ﷺ: «أنا واللهِِِ محمد بن عبد الله، وأنا واللهِِِِ رسول الله».
قال: وكان لا يكتب، فقال لعلي: «امح: رسول الله». فقال علي: والله لا أمحاه أبداً. قال: «فأرنيه»، فأراه إياه، فمحاه النبي ﷺ بيده([116]).
وفي رواية مسلم أنه ﷺ قال: « أرني مكانها » فأراه مكانها، فمحاها ([117])، فرسول الله ﷺ لم يعرف قراءة المكتوب، ولم يستدل على مكانه في الصحيفة إلا حين دلَّه علي t .
ثم تمضي الروايات الصحيحة فتبين أن النبي ﷺ كتب بدل ما مُحي، مع تأكيدها على أنه ﷺ لم يكن قبلها كاتباً، فكانت كتابته ﷺ أعجوبة لمن رآها، ففي رواية البخاري أن رسول الله ﷺ (أخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب..)([118])، فقصة كتابته كانت على غير المعهود منه ﷺ.
وأما قول النبي ﷺ في آخر حياته: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده»، فلا يفيد معرفته ﷺ بالقراءة والكتابة، وأنه سيكتب بنفسه هذا الكتاب، فإن الناس لم تزل تقول: قَتلَ الأمير ، وكتب الأمير وجلد وضرب، وإنما تقصد أنه وجه بذلك وأمر به، من غير أن يفهم السامع أنه فعله بنفسه.
ولتأكيد صحة هذا الفهم نذكر روايتين يرويهما الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب تتحدثان عن نزول قوله تعالى: ﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾ (النساء: 95).
ففي الأًولى يقول البراء بن عازب: لما نزلت هذه الآية أتاه ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، ما تأمرني؟ إني ضرير البـصر، فنزل قوله: ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ﴾ فقال النبي ﷺ : «ائتوني بالكتف والدواة ، أو اللوح والدواة»([119]) ، فهذه الرواية تفيد أن النبي ﷺ طلب أدوات الكتابة، ولربما فُهم منها أنه يريد كتابة الآيات بنفسه، كما فُهم من قصة الكتاب الذي أراد ﷺ كتابته في آخر حياته.
لكن ذلك غير مقصود، إذ تفسره الرواية الأخرى للحديث، حيث يقول فيها البراء: كنت عند رسول الله ﷺ فقال : «ادعوا لي زيداً يجيء أو يأتي بالكتف والدواة أو اللوح والدواة، كتب: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾..» ([120]) ، فالمقصود من قوله: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً» طلبُ أدوات الكتابة مع من يكتب بها، لا أنه سيكتب بها ﷺ بنفسه.
وهكذا يتبين أنه ﷺ كان أُمِّياً ، وأن النصين يكملان ما جاء في القرآن الكريم من التصريح بأميته ﷺ ﴿ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (الأعراف: 158).
ولعل من المفيد التنبيه إلى أن أول ترجمة عربية للكتاب المقدس ظهرت بعد وفاة النبي ﷺ بقرن من الزمان، وهي ترجمة أسقف أشبيليا يوحنا عام 724م([121])، فالكتاب لم يكن متداولاً بين الناس زمن النبي ﷺ ، فقد كان حكراً على بعض القسس، ولم يطلع عليه عوام المسيحيين إلا في عصر الطباعة في القرن الميلادي السادس عشـر رغم محاولات الكنيسة منع انتشاره بقرارات الحرمان التي أصدرها مجمع تريدنت نوتردام في 1542 – 1563م([122]).
قالــوا: القرآن منحول عن الكتاب المقدس في كثير من معارفه ونصوصه التي شابهت ما في الكتاب المقدس من أخبار السابقين.
والجـواب: إن القرآن يصرح بوجود التشابه بين ما أنزله الله على الأنبياء وبين ما أنزله على خاتمهم ﷺ ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ (الأنبياء: 105)، ومثله في قوله: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ` وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ` إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى `صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: 16-19)([123])، فوحدة المصدر تستلزم وجود التشابه، والتشابه بينهما يكون بقدر ما يشتمل عليه الكتاب المقدس من حق وما بقي فيه من هدي الأنبياء ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ (النساء: 163).
لكن التشابه بين الكتابين ليس مطرداً، فثمة فروق كبيرة بينهما سنعرض لبعضها بعد أن نبين أن الكثير مما يظنه البعض تشابهاً هو في حقيقته مشتمل على مفارقة كبرى تبطل زعم الزاعمين بالتشابه بين الكتابين.
فمثلاً لا تشابه ولا توافق بين ما جاء في الإنجيل وما جاء في القرآن عن المحرومين من دخول الجنة رغم ما قد يظن من تشابه السياقين، ففي الإنجيل أن المسيح قال لتلاميذه: "الحق أقول لكم: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسـر من دخول غني إلى ملكوت الله" (متى 19/23 - 25)، فهذا النص في تجريم الأغنياء وحرمانهم من الجنة؛ بينما القرآن ضرب هذا المثل في حديثه عن الكفار المكذبين المجرمين، لا الأغنياء ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ (الأعراف: 40)، فالتشابه بين النصين ينطبق عليه تشبيه العلامة ديدات بالشبه بين الجُبن والطباشير، وإن كنت لا أشك بتشابه القرآن مع ما أنزله الله على المسيح عليه الصلاة والسلام، مما أضاعوه وحرفوه.
ونود أن ننبه هنا إلى أن آيات القرآن بلغت 6236 آية، وأن التشابه بينها وبين النصوص الكتابية لا يزيد - بحال من الأحوال – عن مائة آية، ونعتقد جازمين أن هذه الكتب قبل تحريفها كان فيها من صور التشابه مع القرآن ما هو أكثر من ذلك بكثير.
كما يلزم العلم بالاختلاف والبون الكبير بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس، فالعهد القديم (التوراة) في حقيقته هو تاريخ بني إسرائيل وأنسابهم وأعدادهم وسير ملوكهم وأنبيائهم وقصص حروبهم، فهو في الجملة كسائر كتب التاريخ المعروفة، كالبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الأمم والملوك للطبري، ولا يستثنى من ذلك إلا سفران فقط (اللاويون والتثنية)، فهما معنيان بالأحكام التشريعية.
وأما العهد الجديد (الإنجيل) فيتكون من أناجيل أربعة، تضمنت سيرة المسيح من الولادة إلى الصلب المزعوم، فهي أشبه ما تكون بسيرة النبي ﷺ التي يرويها ابن إسحاق أو تهذيبها لابن هشام، كما يتضمن العهد الجديد أيضاً رسائل التلاميذ، وهي تحكي عن قصصهم ورحلاتهم وأُعجوباتهم ووصاياهم الموجهة إلى أصدقائهم ومعارفهم لتوضيح بعض المفاهيم اللاهوتية أو لطلب بعض القضايا الشخصية.
أما القرآن الكريم فهو مختلف في تكوينه وموضوعه ، فهو يحوي (شرح حقائق الإيمان - قصص السابقين - أحكام تشـريعية - توجيهات للمجتمع المسلم - معالجة قضايا في العصر النبوي - وصف اليوم الآخر وما يتعلق به).
وينحصر المشترك بين موضوعات القرآن وموضوعات الكتاب المقدس في ثلاثة محاور (حقائق الإيمان - قصص السابقين – الأحكام التشريعية).
لكن نظرة فاحصة ستكشف التباين الكبير بين حديث القرآن وحديث الكتاب المقدس في هذه الموضوعات الثلاثة، وهو ما نفصله بإذن الله.
أ. حقائق الإيمان بين القرآن والكتاب المقدس
الكتب التي ينزلها الله يتوقع قارئها جميعاً أن تركز على حقائق الإيمان الرئيسة كالتعريف بالله وأنبيائه وملائكته وكيفية عبادته، ومن البدهي أن تتطابق هذه الكتب ، لوحدة مصدرها، فالنبي ﷺ لم يكن بدعاً عن إخوانه الأنبياء، بل جاء لبيان المعاني ذاتها التي بعثهم الله للدعوة إليها ، وفي مقدمة ذلك توحيد الله والتعريف به وبصفاته ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ (الأنبياء: 25)، والتحذير من الشرك ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ` بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ﴾ (الزمر: 65-66)، فهذه حقائق أطبق الأنبياء على ذكرها، ولا يتصور خلو دعوة نبي منها، فالتشابه بينها لازم لها، وهو دليل وحدة أصلها، وأما الاختلاف بينها في التعريف بهذه الحقائق فذاك دليل تحريف بعضها، وأنه ليس من عند الله تعالى.
والسؤال: هل يتشابه القرآن مع الكتاب المقدس فيما يتعلق بحقائق الإيمان؟
للإجابة عن هذا السؤال نكتفي بعرض مسألة واحدة من مسائل الإيمان وهي أهمها، مسألة التعريف بالله وصفاته، ليقيس القارئ الشاهد على الغائب.
وفي التعريف بالله وصفاته يتشابه الكتابان (القرآن والكتاب المقدس) بقدر ما يحويه الكتاب المقدس من الحق ، ويفترقان بقدر ما تحويه هذه الكتب من الشوائب والتحريف بسبب التدخل البشري فيها.
ولا ريب أن في الكتاب المقدس اليوم مجموعة من النصوص التي تعظم الله وتتحدث عن وحدانيته، فأصول هذه الكتب من عند الله، وهذه الحقائق الإيمانية الصحيحة بقايا آثار الأنبياء في هذا الكتاب, فتطابق القرآن معها دليل على وحدة المصدر ، وهو الله عز وجل، ولا يعني بالضرورة أن القرآن نقل منها؛ إذ التشابه لا يدل بالضرورة على النقل، فقد تطابق الإنجيليون الأربعة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) في الكثير من نصوصهم مع أسفار العهد القديم، ولم يزعم أحد من مثيري الأباطيل عن القرآن أنهم كانوا ينقلون من العهد القديم أو من بعضهم البعض.
وإزاء التطابق بين القرآن والكتاب المقدس في بعض المعاني فإنه يمكن للمتابع رصد الكثير من التفاصيل المختلفة بين الكتابين، وهو ما يُحيل أن يكون أحدُهما مصدراً للآخر، فالله - بحسب القرآن الكريم - إله عظيم بائن من خلقه، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ، لا ندرك كُنه ذاته ولا كيفية صفاته ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (الشورى: 11)، بينما هو بحسب الكتاب المقدس إله يخالط مخلوقاته، فيتجسد في صور بشرية، وينزل إلى الأرض، ويمشـي فيها " هو ذا الرب يخرج من مكانه، وينـزل ويمشي على شوامخ الأرض" (ميخا 1/3)، ويركب على الملائكة الكروبيم في تنقلاته " طأطأ السماوات ونـزل، وضباب تحت رجليه، ركب على كروب، وطار، ورئي على أجنحة الريح... " (صموئيل (2) 22/10 - 11 )، وقد نزل مرة إلى باب خيمة الاجتماع ، فكلم موسى وجهاً لوجه "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه" (الخروج 33/11).
وإذا كان الله عز وجل منزهاً - بحسب القرآن - عن الطعام والشراب والنقائص فإن الكتاب المقدس يزعم أن الرب زار إبراهيم وأكل عنده بعض اللحم مع اللبن (انظر التكوين 18/8 ).
وإذا كان القرآن ينزه الله سبحانه وتعالى عن الشبيه والمثيل ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ (الشورى: 11)، ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ (الإخلاص: 3)، فإنه في الكتاب المقدس أشبه ما يكون بالإنسان الذي خلقه مشابهاً له "وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" ( التكوين 1/26).
ووصفه سفر دانيال بصفات الإنسان الجسدية ، فشعر رأسه أبيض وملابسه كذلك بيضاء"وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، شعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار" ( دانيال 7/9)، وله عينان وأجفان (انظر المزمور 11/4)، وله شفتان ولسان (انظر إشعيا 30/27-28)، وله رجلان رآهما بنو إسرائيل (انظر الخروج 24/9 )، وأيضاً له فم وأنف يخرج منهما دخان ونار "صعد دخان من أنفه، ونار من فمه" (المزمور 18/9).
وقد مشى في الجنة، حتى سمع آدمُ وحواءُ وقعَ خطواته: "وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار " (التكوين 3/8).
والله - بحسب القرآن - لا يُرى في الدنيا ﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الأنعام: 103) ، وهذا خلاف المفهوم التوراتي الذي يزعم أن موسى رآه وجهاً لوجه (انظر الخروج 33/11)، كما رآه يعقوب حين صارعه بعد أن عبر وادي يبوق، فسمى المكان "فينئيل" ، وهي كلمة عبرانية معناها رؤية الله "قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه، ونجيت نفـسي" (التكوين 32/30).
وإذا كان الله تعالى يصف نفسه في القرآن بأنه على كل شيء قدير؛ فإن سفر التكوين وهو أحد أسفار الكتاب المقدس الذي زعموا أن القرآن منحول منه يزعم في قصة يعقوب السابقة أن الله هُزم في مصارعته ليعقوب، وكذلك فإن سفر القضاة يذكر أن الرب عجز عن نصر بني إسرائيل على بعض أعدائهم، لأن لهم مركبات من حديد (انظر القضاة 1/19).
وهكذا، فإن هذا وغيره يثبت التباين الكبير في أهم مسألة كان يفترض أن ينقلها النبي ﷺ من الكتاب المقدس لو كان هو مصدره في التعرف على الله تبارك وتعالى، لكن القرآن الموحى به إلى النبي ﷺ خالف الكتاب في هذه المسائل وغيرها، لأنه وحي الله تبارك وتعالى.
ب. قصص الأنبياء والأمم السابقة بين القرآن والكتاب المقدس
الموضوع الثاني الذي يشترك القرآن والكتاب المقدس في الحديث عنه، هو قصص الأنبياء والسابقين، والمفروض أننا نتحدث عن حقائق تاريخية لن تختلف بين القرآن والكتاب المقدس بل والمؤرخين.
لكن قراءة سريعة في هذا الموضوع في الكتابين تثبت فروقاً هائلة بين معطيات الأحداث التاريخية هنا وهناك، علاوة على كيفية العرض وغايته، فقصص الكتاب المقدس وردت في سياق تاريخي بحت، بينما وردت قصص القرآن في سياق الاعتبار والتدبر، مع الإعراض عن كافة التفاصيل التاريخية التي لم يحفل بها القرآن الكريم لعدم فائدتها ، فالكتب الإلهية ينزلها الله للعظة، وليس للتأريخ للأمم والأشخاص.
وننبه في هذا الصدد إلى أن في القرآن قصصاً عن أنبياء وأمم لا وجود لذكرهم في كتب اليهود والنصارى ، مثل: قصة هود وصالح وشعيب وذي القرنين وأصحاب الكهف وقصة موسى مع الخضر، وغيرها كثير.
وأما القدر الذي اشتركا فيه، فبينهما من التخالف فيه ما لا يحصيه إلا الله، ففي حين يعظم القرآن الأنبياء ويعتبرهم أعظم البشر وأفضلهم ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ` وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ` وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ` وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (الأنعام: 84-87) ، نجد في مقابله في الكتاب المقدس حديثاً عن الأنبياء على خلاف ذلك، فما من رذيلة ولا بلية إلا ونسبها الكتاب إلى أنبياء الله تبارك وتعالى.
فهارون عليه السلام النبي العظيم منزه عن الشرك وعن بناء العجل الذي بناه السامري وعبده بنو إسرائيل من دون الله (انظر طه: 85-87)، لكن التوراة تجعله بانياً للعجل الذهبي المعبود من دون الله (انظر الخروج 32/2-4).
وإذا كان داود في القرآن نبياً عظيماً ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ (ص: 17)، فإنه في الكتاب المقدس كان زانياً (انظر صموئيل (2) 11/1-26)، وقاتلاً، فقد قتل مائتين من الفلسطينيين، وقطع غلفهم، ليقدمها مهراً لزوجته ميكال (صموئيل (1) 18/27).
وأما سليمان فيصفه القرآن بالنبي الأواب: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ (ص: 30)، في حين تزعم التوراة بأنه ترك وصايا الله، وبنى معابد للأصنام إرضاء لزوجاته الوثنيات (الملوك (1) 11/3-11)، فهذه المفارقات العظيمة في الصورة الإجمالية، وأكثر منها في تفاصيل الأخبار ، وهي جميعاً تثبت التمايز بين الكتابين بما يحيل أن يكون القرآن منحولاً من الكتاب المقدس.
ج. الأحكام التشريعية بين القرآن والكتاب المقدس
يشترك أيضاً القرآن مع الكتاب المقدس في الحديث في موضوع الأحكام التشريعية التي يشرعها الله لعباده، والمسلمون يؤمنون بوحدة أصول الـشرائع الإلهية التي أنزلها الله على نبيه ﷺ وإخوانه الأنبياء ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ (الشورى: 13)، والقرآن نزل مصدقاً لما جاء به الأنبياء ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (يونس: 37).
لقد كان من البدهي أن تتشابه الشرائع المنزلة على الأنبياء لوحدة المشـرّع جل وعلا، ومرة أخرى نذكر أن بين الكتابين من التشابه على قدر ما في كتب القوم من الحق، فقد ذكر القرآن شريعة القصاص، وأنها شِرعة شرعها الله لليهود من قبل ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾ (المائدة: 45)، فهذه الشـريعة عدل من الله، ولذا قررها على أنبيائه وفي شرائعه، ومنها شريعة محمد ﷺ التي قررها القرآن: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ﴾ (البقرة: 179)، ولا يعني هذا التشابه - الذي يتناسب وعدل الله - أن النبي كان ينقلها من كتبهم.
لكن التطابق ممتنع بين الشرائع القرآنية والكتابية في كثير من الصور ، ففي هذه الكتب الكثير من الشرائع التي لم يذكرها القرآن، لا بل تتعارض مع قواعد التشريع القرآني الذي يرى فيها ظلماً محرماً، كشريعة كسر عنق الحمار "وأما بكر الحمار فتفديه بشاة، وإن لم تفده تكسر عنقه، كل بكر من بنيك تفديه" (الخروج 34/19-20).
وكذلك قتل صاحب الثور قصاصاً من الثور الذي نطح رجلا فقتله. (انظر الخروج 21/18-32)، وشريعة الإكراه على الزواج بزوجة الأخ المتوفى من غير أن يكون له ولد (انظر التثنية 25/5-10)، وأيضاً شرائع الكهنوت وإناطة إقامة العبادات والشعائر بهم (انظر سفر اللاويين في مواضع كثيرة منه) والتي لا نجد لها أثراً في القرآن الذي لا يوجد فيه أي مسألة أو حكم يقر النظام الكهنوتي فضلاً عن الدخول في تفاصيله.
ومن أمثلة التباين بين الكتابين أن القرآن يحرم الكثير والقليل من الخمر ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ (المائدة: 90)؛ فإن الكتاب المقدس يرى شربها وسيلة لعلاج مشكلات الفقراء، بنسيان أتعابهم وآلامهم: "أعطوا مسكراً لهالك، وخمراً لمرّي النفس، يشـرب وينسى فقره، ولا يذكر تعبه بعد" (الأمثال 31/7).
وفي العهد الجديد دعا بولس لشـرب الخمر من غير إسراف في تعاطيه: "لا تكن فيما بعد شراب ماء، بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (تيموثاوس (1) 23/5)، والفروق كثيرة يطول المقام بتتبعها.
ونختم بذكر شهادتين لمستشرقين منصفين ، أولهما المستشـرق الإنجليزي لايتنر الذي يقول في كتابه "دين الإسلام": "بقدر ما أعرف من دِينَيِ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد ليس اقتباساً , بل قد أوحى إليه ربه, ولا ريب في ذلك".
وأما الشهادة الثانية فهي لهنري دي كاستري، وفيها يقول: "ثبت أن محمداً لم يقرأ كتاباً مقدساً, ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه"([124]).
قالــوا: تعلم محمد [ﷺ] من راهب نسطوري كان يقيم في مدينة بصرى في الشام، كما تعلم من ورقة بن نوفل وهو من علماء أهل الكتاب في مكة، وتربطه صلة قرابة بخديجة زوج النبي ﷺ.
والجــواب: تثور في وجه هذه الفرية وأمثالها أسئلة منطقية كثيرة: إذا كان القرآن منقولاً عن ورقة وبَحيرا فلم لم ينسباه إلى أنفسهما؟ ولم أمكنوا محمداً ﷺ من ذلك؟ وكيف اطلع هؤلاء على علوم القرآن التي سجلت قصص الأولين والآخرين وحوت المبهر من أخبار الغيوب التي كشف عنها العلم الحديث اليوم؟
لو فرضنا أنه ﷺ تعلم من بَحيرا وورقة أخبار السابقين، فماذا عن مئات الآيات التي نزلت بخصوص أحداث حصلت بعد وفاة بَحيرا وورقة بزمن طويل، فعالجها القرآن في حينها، كسورة آل عمران التي تتعلق ثمانون آية منها بقدوم نصارى نجران، وستون آية أخرى بأحداث غزوة أُحد ، وسورة التوبة التي تحدثت عن أحداث تتعلق بغزوة تبوك، وسورة الأحزاب التي تناولت أيضاً أحداث تلك الغزوة، ومثل هذا كثير لا يخفى.
ويلزم هنا التنبيه إلى أن لقيا النبي ﷺ الراهب بَحيرا إبَّان شبيبته ليس محل اتفاق المسلمين، فقد حسَّن رواية هذا الخبر بعض أهل العلم، وضعفها آخرون منهم([125]).
وعلى فرض صحة الرواية فماذا عساه يتعلم غلام يبلغ من العمر التاسعة أو الثانية عشرة ([126]) في لقاء واحد من هذا الراهب النسطوري! لقد صدق توماس كارلايل: "لا أعرف ماذا أقول بشأن الراهب النسطوري (سرجياس) الذي قيل إنه تحادث مع أبي طالب ، كم من الممكن أن يكون أي راهب قد علم صبياً في مثل تلك السن ، لكنني أعرف أن حديث الراهب النسطوري مبالغ فيه بشكل كبير، فقد كان عمر محمد ﷺ أربعة عشر عاماً، ولم يعرف لغةً غير لغته "([127]).
وفرض صحة رواية لقيا الراهب للنبي ﷺ يوصلنا إلى نتيجة أعرض عنها الطاعنون في القرآن ، فقد قال الراهب الذي زعموا أن النبي ﷺ تعلم منه: (هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضـروف كتفه مثل التفاحة) ([128]).
هذا ولم تنقل الروايات أن النبي ﷺ جلس إلى بحيرا يتعلم منه أخبار السابقين أو غيرهم، بل ذكرت أن بحيرا كان يسأل النبي عن أشياء من حاله ونومه وهيئته وأموره([129])، يستثبت فيها من كونه نبي آخر الزمان بما يعرفه من بشارات أهل الكتاب عنه، وقد قال أبو طالب:
ما رجعوا حتى رأوا من محمد أحـاديث تجـلو غـم كل فـؤاد
وحتى رأوا أحبار كـل مدينة سجوداً لـه مـن عصبـة وفـراد
فقال لهم قولاً بحيرا وأيقنـوا له بعـد تكـذيب وطـول بعـاد
فإني أخـاف الحاسـدين وإنه لفي الكتب مكتوب بكل مداد ([130])
وأما ورقة بن نوفل الأسدي فلم تذكر كتب السيرة والسنة أن النبي ﷺ لقيه إلا يوم نزل عليه الوحي في غار حراء، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، وتوفي بعدها، أي لم يدرك من القرآن إلا تنزل خمس آيات فقط، وقد قالت عائشة رضي الله عنها وهي تحكي قصة لقيا النبي ﷺ له بعد نزوله من غار حراء: (ثم لم ينشب [يلبث] ورقة أن توفي) ([131]).
ولو تأمل المنصف بقية القصة لرأى فيها دلائل نبوته ﷺ، فقد شهد له بالنبوة هذا العالم من علماء أهل الكتاب ، فقال: (هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً).
لقد عرف ورقة نبوة النبي ﷺ مما سمعه منه عن ظهور جبريل له في غار حراء، حين قال له: اقرأ . فأجاب النبي ﷺ: «ما أنا بقارئ »([132])، فهو مصداق ما يجده في صحف أهل الكتاب في سفر النبي إشعيا: "أو يُدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة، ويقال له: اقرأ هذا، فيقول: لا أعرف القراءة" (إشعيا 29/12).
فورقة العالم بالكتب السابقة يشهد للنبي ﷺ بالرسالة، ويتحسر على أيام فتوته، ويود لو قدر على نصرة هذا الحق الفتِي، ولو كان هذا القرآن من تعليمه لكان له موقف آخر، وصدق الله: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 43).
قالــوا: القرآن من تأليف محمد [ﷺ]، وقد نقل في سورة القمر من أربعة أبيات من شعر الشاعر الجاهلي امرئ القيس الذي يقول:
دَنَتِ السَّاعَةُ وانشَـقَّ القَمَرْ عَنْ غَزَالٍ صَادَ قَلْـبِي ونَفَرْ
أَحْوَرُ قَدْ حِرْتُ في أَوْصَافِه نَاعِسُ الطَّرفِ بعَيْنَيهِ حَـوَرْ
بِسـهَامٍ مِـنْ لحــاظٍ فَاتِـكٍ تَرَكَتْـنِي كَهَشِـيِمِ المُحْتِـظِر
وإذا ما غــاب عـني ساعة كانت السـاعة أدهـى وأمر
والجــواب: لو فرضنا أن القرآن وافق في أربع آيات معاني مذكورة في شعر امرئ القيس، فماذا عن بقية آيات القرآن التي جاوزت الستة آلاف ، هل يعجز من ألَّف هذه الآلاف - من غير أن يكون لها مثيل في شعر العرب - عن مثل هذه الفقرات الأربعة؟
إن التماثل في بعض الألفاظ أو الأساليب التعبيرية لا يعني النقل على كل حال ، بل نقول: إن وقوع التماثل في أساليب البيان أمر بدهي، إذ جاء القرآن على نسق تعهده العرب في كلامها ، فلن يكون مستغرباً أن يشابه ما عهدوه من أمثلة واستعارات وسوى ذلك من ضروب البلاغة، لأنه نزل ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ (الشعراء: 195).
ولو كان النبي ﷺ يقتبس من أشعار امرئ القيس فلماذا سكتت عنه قريش، وهو الذي يتحداها أن تأتي بمثل القرآن أو بعضه، إنهم لم يخجلوا من القول ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ﴾ (الفرقان: 5)، لكنهم لم يتهموه أبداً بالنقل عن شعرائهم وأُدبائهم.
على أي حال، فالمحققون يقولون: إن هذه الأبيات مقتبسة من القرآن، وليس العكس، فقد كتبت زمن العباسيين، ونسبت إلى امرئ القيس ضمن ما يسمى بظاهرة النَحْل في الشعر العربي، حيث عمد بعض الرواة كـ (حماد بن هرمز الراوية تـ 155هـ، وتلميذه خلف الأحمر تـ180هـ) زمن العباسيين إلى وضع أشعار من إنشائهم ونسبوها إلى الجاهليين.
ولإلقاء نظرة على طريقة وصول شعر امرئ القيس إلينا ننقل قول الأصمعي: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئاً سمعناه من أبي عمرو بن العلاء"([133])، فمن هو حماد هذا؟ وما موثوقيته؟
يقول محمد بن سلام الجمحي: "أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار"([134]).
ويقول أبو حاتم: "كان بالكوفة جماعة من رُوَاة الشعر مثل حمّاد الراوية وغيره، وكانوا يصنعون الشعر، ويقتنون المصنوع منه، وينسُبونه إلى غير أهله.
وقد حدثني سعيد بن هريم البرجمي قال: حدثني من أثق به أنه كان عند حماد حتى جاء أعرابي، فأنشده قصيدة لم تعرف، ولم يدرِ لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها وقام الأعرابي، قال حماد: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالاً، فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة.
وقال الجاحظ: ذكر الأصمعي وأبو عبيدة وأبو زيد عن يونس أنه قال: إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد وهو يلحن ويكـسر الشعر ويصحّف ويكذب، وهو حماد بن هرمز الديلمي.
قال أبو حاتم: قال الأصمعي: جالستُ حماداً فلم أجد عنده ثلاث مائة حرف، ولم أرضَ روايته"([135]).
وزاد الطين بِلة تلميذُه خلف، حيث يقول: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق"([136]).
ولو تأمل الأريب في معلقة امرئ القيس وجزالة ألفاظها وغريب سبكها لأيقن كذب نسبة تلك الأبيات الممتلئة رقة وعذوبة إليه، فبينهما من التباين في الأسلوب والألفاظ ما لا يخفى على أديب ناقد، أو عارف بطبقات شعراء العرب وأساليبهم، ولذلك لم يوردها مصطفى عبد الشافي في ديوان امرئ القيس الذي جمعه وحققه([137]).
قالـوا : القرآن من تأليف محمد [ﷺ]، وقد نقل فيه من شعر أمية بن أبي الصلت الذي يقول في قصيدته:
وَيَوْم مَوْعِدِهِمْ أنْ يُحْشَـرُوا زُمَراً يَوْم الَتَّغَـابُنِ إذ لا يَنفَعُ الحَـذَرُ
مُـسْتَوسِقِينَ مَــعَ الدَّاعِي كَأَنَّهُمُ رِجْلُ الجَرادِ زَفَتْهُ الرَّيحُ مُنْتشرُ
وأُبرزووا بـصعيد مستـوٍ جُـرُزٍٍ وأُنْزِلَ العَرْشُ والمـيزانُ والزُبُرُ
تَقُـولُ خُـزَّانُها مَـا كَانَ عِنْـدَكُمُ أًلُمْ يَكُنْ جَاءَكُمْ مِنْ رَبَّكُمْ نُـذُرُ
وفيها كبير شبه مع ما نجده في سور القرآن من معان، فدل ذلك – بحسب فهمهم - على أن القرآن منحول من شعر هذا الشاعر العربي.
والجواب: أن أمية بن أبي الصلت شاعر عربي مخضـرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من الحنفاء الرافضين لعبادة الأصنام والأوثان، ورأى الرسول ﷺ، وسمع منه سورة (يس) في مكة، فتبعته قريش تسأله عن رأيه فيه ، فقال: أشهد أنه حق ، قالوا: هل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. وخرج إلى الشام.
وهاجر النبي ﷺ إلى المدينة ، وحدثت وقعة بدر، فعاد أمية من الشام يريد الإسلام، فقال له قائل: يا أبا الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمداً قال: وما تصنع؟ قال: أومِن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر. قال: أتدري من في القليب [قليب بدر حيث أُلقي قتلى المشركين] ؟ قال: لا. قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما ابنا خالك [أمه ربيعة بنت عبد شمس]، فامتنع من الإسلام، وأقام في الطائف حتى مات في السنة التاسعة من الهجرة([138]).
فأمية معاصر للنبي ﷺ، سمع منه القرآن فتأثر به، وكاد أن يسلم لولا عصبيته لأبناء خاله، فهو الذي تأثر بالقرآن، ولم يتأثر القرآن به، وقد سمع النبي ﷺ شعر أمية من الشريد بن سويد فأعجبه، وقال: «فلقد كاد يُسلم في شعره» ([139]).
لكن العجب من زعم المبطلين أن القرآن نقل عن أمية، بينما يشهد أمية على صحة القرآن فيقول لكفار قريش: "أشهد أنه حق"([140])، فلم لا يقبل القوم شهادته التي تكذب وتنقض دعواهم بنحل القرآن من شعره؟!
كما تذكر الأخبار أن أمية كان يتوق للنبوة قبل مبعث النبي ﷺ، فلو كان النبي ينقل من شعره "هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن وإن كان بعيداً يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟ لو كان شعر بذلك، لنادى به حتماً، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد أخذا من منبع واحد، وأن محمداً أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثقيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به"([141]).
بل لو كان صحيحاً ما يقال عن النقل من شعر أمية بن أبي الصلت الثقفي لما أسلم أهل بيته، فقد أتت أخته فارعة النبيَّ ﷺ مسلمة بعد فتح الطائف، وأنشدت بين يديه شيئاً من شعر أخيها([142])، كما ذكر أهل الأخبار والسير إسلام أولاده حين أسلمت ثقيف كلها، فابنه القاسم ذكره ابن حجر في الصحابة، وكان شاعراً، وهو الذي رثى عثمان بن عفان t بقوله:
لعمري لبئس الذبح ضحيتم به خلاف رسول الله يوم الأضاحي
فطيبـوا نفوسـاً بالقصـاص فإنه سيسعى به الرحمن سعى نجـاح([143])
وكذلك أسلم ابنه ربيعة بن أمية، وهو كذلك مذكور في الصحابة([144]) وابنه القاسم بن ربيعة ولاه عثمان بن عفان الطائف([145])، وكذلك أسلم وهب بن أمية ([146])، وفي إسلام هؤلاء ما يكفي لرد هذه الأبطولة، فلو رأوا القرآن أو بعضه منحولاً من شعر أبيهم لفضحوا ذلك، ولما كانوا في عداد المؤمنين.
ويشكك جواد علي بكثير مما ينسب إلى أمية ويرده إلى ظاهرة النحل التي ذكرناها آنفاً، فبعض ما ينسب إليه لا يعقل أن يكون من شعره، وهو لا ريب منحول ومتقول عليه، ومنه قولهم:
لك الحمــد والمنُّ رب العبا د أنت المليــك وأنـت الحـكم
مـحـمداً أرسلـــه بالهـدى فعــاش غنيــاً ولـم يهـتضـم
عـطــاء مـن الله أعـطيتـــه وخـص بــه الله أهــل الحـرم
وقـد علمــوا أنه خــيرهم وفي بيتهم ذي النـدى والكرم
أطيعوا الرسول عبـاد الإلـه تنـجــون من شــر يـوم ألـم
تنجون من ظلمات العـذاب ومن حر نــار عـلى من ظـلم
دعـانــا النــبي بـه خـاتـم فـمن لم يـجبــه أسـر النــدم
نبي هُــدى صــادق طيـب رحيم رؤوف بوصل الرحـم
بــه خـتــم الله من قـبـلــه ومـن بعـده مـن نبــي خـتـم
يموت كما مات من قد مضى يــرد إلـى الله بــاري النسـم
مع الأنبياء في جنـان الخلود هــم أهلها غـير حل القسـم
وقدس فيـنا بحب الصـلاة جميـعاً وعـلـم خــط القلــم
كتـابــاً مـن الله نـقــرأ بــه فـمن يعتـريــه فقـد مـا أتـم
فهذه الأبيات منسوبة إلى أمية بن أبي الصلت، وهي قطعاً من منحول الشعر المنسوب إليه، إذ هي ولا ريب لمؤمن بالنبي ﷺ مصدق بالقرآن، وهذا لم يتحقق في أمية الذي مات على الكفر ([147]).
ثم لو فرضنا جدلاً أن أمية كان قبل الإسلام، فهل مجرد التشابه في كلمات معدودات كاف للحكم أن القرآن - بطوله - منقول عن هذا أو ذاك، ﴿ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ (النساء: 78).
وهكذا تبين سخف وضعف الافتراءات والأباطيل التي تنسب إلى القرآن النقل من هذه المصادر البشرية، وأنه كلام الله تعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
***
قالــوا: في القرآن ناسخ ومنسوخ، ومثل هذا لا يعقل أن يكون في كلام الله العليم المحيط بكل شيء، لأن النسخ يدل على نقص العلم، وتبدل الرأي، والله منزه عن مثل هذه الآفات.
والجواب: العجب كل العجب أن يستنكر وقوع النسخ في القرآن ويستقبحه من تطفح أسفاره المقدسة وتشريعاته بمثله، من غير أن يرى في ذلك قدحاً في كتبه ، فكم من حكم في التوراة نسخه العهد الجديد ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ (آل عمران: 50).
وشواهد هذا النسخ في كتابهم المقدس كثيرة ، ومن ذلك أن الله حرم عليهم في التوراة الكثير من الحيوانات واعتبرها نجسة، كالخنازير والإبل والأرانب "إلا هذه فلا تأكلوها، مما يجترّ، ومما يشق الظلف المنقسم: الجمل والأرنب والوبر، لأنها تجترّ ، لكنها لا تشق ظلفاً، فهي نجسة لكم، والخنزير لأنه يشق الظلف، لكنه لا يجترّ، فهو نجس لكم، فمن لحمها لا تأكلوا" (التثنية: 14/7-8)، فهذه الحيوانات - وغيرها مما ذكر بعده - نجسة بشهادة التوراة (انظر التثنية 14/1-24).
ومع ذلك لا يمتنع المسيحيون اليوم عن واحد منها ، لأن مقدسهم بولس أخبرهم بنسخ نجاستها ونسخ تحريمها أيضاً بقوله: "أنا عالم ومتيقن في الرب يسوع أن لا شيء نجس في حد ذاته، ولكنه يكون نجساً لمن يعتبره نجساً " (رومية 14/14)، فهذا نسخ لحكم النجاسة التوراتي، وأما نسخ التحريم ففي زعم بولس أن المسيح بدمه المسفوح "محا الصك الذي علينا في الفرائض .. فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت" (كولوسي 2/14-16)، فقد نسخ دمه كل المحرمات من طعام وشراب وسبت، ولأجل ذلك يأكلها المسيحيون بلا أي حرج؛ مع إيمانهم بصحة النصوص التوراتية المحرِِّمة لها، لكنهم يعتبرونها نصوصاً منسوخة من جهة العمل بها.
بل إن الكتاب المقدس يحكي لنا في مسألة حكم الطلاق عن تبدل ونسخ الحكم الإلهي مرة بعد مرة، فالطلاق حسب إنجيل متّى كان حراماً في زمن آدم، ثم أحله الله لبني إسرائيل في أيام موسى، فجاءت شرائع التوراة ببيان أحكامه (انظر التثنية 24)، ثم حرمه المسيح عليه السلام إلا لعلة الزنا.
وبيان هذا وتفصيله أن المسيح قال للفريسيين محرماً الطلاق: "الذي جمعه الله لا يفرقه إنسان، قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلّق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلّقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا، وأقول لكم: إن من طلّق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني. والذي يتزوج بمطلّقة يزني" (متى 19/6-9).
ويبطل النصارى اليوم كل الشرائع التوراتية الموجودة في العهد القديم، والتي يؤمنون بقدسيتها، وأنها من الله تعالى، لكنهم يرونها منسوخة من جهة العمل بها، ويقولون: أبطلها جميعاً جسدُ المسيح المعلق على الصليب ، كما يقول بولس عن المسيح : "مبطلاً بجسده ناموس الوصايا" ( أفسس 2/15)، وقوله: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس" (غلاطية 3/13)، فالمسيح وفق هذه الفقرات خلصهم من اللعنة المذكورة في سفر التثنية، والتي تحيق بكل من لا يعمل بأحكام الشـريعة: "ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس، ليعمل بها" (التثنية 27/26)، فبطل فيما بطل مئات الأحكام التوراتية الواردة في سفري التثنية واللاويين، كقتل القاتل ورجم الزاني والختان والسبت وتحريم الخنزير.
ويلزمنا هنا التنبيه إلى أن قول أهل الكتاب بالنسخ مختلف تماماً عن قول المسلمين الذين يعظمون المنسوخ من القرآن، ويرونه حكماً إلهياً صالحاً ونافعاً رفعه الله بحكم آخر أنفع للعباد منه مراعاة لتغير أحوالهم، بينما تنتقص كتب أهل الكتاب المنسوخ منها، وتجعل علة نسخه ضعفَه وعدمَ نفعه، لا مراعاة المستجدات في أحوال الناس، يقول الكاتب المجهول لرسالة العبرانيين: "فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً، ولكن يصير إدخال رجاء أفضل، به نقترب إلى الله" (عبرانيين 7/18 - 19).
ويواصل كاتب رسالة العبرانيين ، فيصف ناموس الكهنوت التوراتي بالعتق والشيخوخة والتهافت، فيقول: "وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عبرانيين 8/13)، ويزدريه متهماً إياه بالعيب: " فإنه لو كان ذلك الأول بلا عيب، لما طُلب موضعٌ لثانٍ " (عبرانيين 8/7).
أما نحن المسلمين، فنقول: إن الله على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، لا يعزب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض، ونسخُ بعض آياته إنما هو من تمام علمه بما يصلح أحوال خلقه، وقد حكى الله لنا في القرآن استنكار المشركين للنسخ، وتولى الرد عليهم ببيان سعة علمه، وأنه عز وجل يبدل وفق علمه العظيم رغم معارضة الذين لا يعلمون بما يفعله الله وما يقدر عليه: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 101)، وقد بينت الآية التي بعدها علة التبديل، وأنه مراعاة لتبدل أحوال الناس: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْـرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ (النحل: 102) فتبين الآية أن النسخ يكون بعلم الله المطلع على ما يقوله الجاهلون.
ولتقريب فهم النسخ إلى الأذهان مثَّل العلماء له بفعل الطبيب الحاذق الذي يصف للمريض دواء، وهو يعلم أنه بعد تحسن حاله سيصف له دواء بديلاً يناسب حاله الجديد، فتبديله للدواء عن علم وحذق، وإن استنكر صنيعه بعض الذين لا يعلمون.
هذا ويجدر التنبيه إلى أن النسخ خاص بالأحكام التي تتبدل مراعاة لأحوال العباد، ولم يقع شيء من نسخ القرآن في الأخبار، لأن النسخ فيها ضعفُ علمٍ وقلةُ معرفة وتكذيبٌ لخبر سابق، وإنما وقع نسخ القرآن في الأحكام التي تدرج الله فيها مراعاة لأحوال الناس، وليعطيهم فرصة لتغيير إلفِهم وما اعتادوه زمناً طويلاً.
ومثال ذلك في تحريم الله الخمر بالتدريج مراعاة لأحوال العرب الذين كانوا يعاقرون الخمر، ، فأراد الله أن ييسر عليهم ترك هذه العادة فحرمها بالتدريج، فأول ما نزل فيها قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة)، لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم، وهذا كاف عند الكثيرين للتنبه إلى خطرها والامتناع عنها درءاً لضررها، واستغناء عن منفعتها المالية.
ثم بعد أن تشبع المسلمون بهذا المعنى وامتنع الكثير منهم عن معاقرة الخمر نزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ (النساء: 43)، فامتنع جميع المسلمين عن تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها، فلم يجدوا لها وقتاً إلا ما بين صلاة العشاء إلى الفجر، وهو وقت نومهم وراحتهم، وما بين الفجر والظهر، وهو وقت أعمالهم.
وقد أحس الصحابة لما نزلت هذه الآية أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر t الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء. فنزل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ` إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا)([148]).
فتغير حكم الخمر، ونسخه في آيات القرآن مرتبط بأحوال الناس ومراعاة مصلحتهم بالتدريج في التخلص من عادة شرب الخمر، كحال الطبيب الذي يعطي مريضه دواء ثم يستبدله بدواء آخر في أجل كان يرقبه، لتحسن حال المريض، فهذا من حذقه، ولو عدَّه بعض السفهاء قلة علم وضعف معرفة.
كما قد يقع النسخ لحكم أخرى، منها ابتلاء الله واختباره امتثال العباد لأوامره ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله﴾ (البقرة: 143)، ومن هذا النوع أيضاً ابتلاء الله لإبراهيم حين أمره الله بذبح ابنه ابتلاء واختباراً، فلما امتثل إبراهيم وإسماعيل أمر ربِّهما، ورأى الله صدق استسلامهما وانقيادهما؛ افتداه الله بكبش أُمِر إبراهيم بذبحه، وبذلك نسخ الله الأمر بذبح الابن بأمر جديد وهو ذبح الكبش، لا لعلم جديد علمه الله، بل هو العليم الذي علم كل شيء قبل أن يخلقه، وكما قال ﷺ: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»([149]).
ويقع النسخ أيضاً - بتشديد الأحكام - عقوبة من الله لعصاة بني آدم، كما حرم الله على بني إسرائيل بعض ما كان حلالاً عليهم ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً ` وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ (النساء:160-161).
وهكذا فالنسخ بعض كمال قوة الله وقدرته وعلمه بما يصلح لعباده، فهو ينسخ ما يشاء، ويبدله بما شاء وأراد ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (البقرة:106)، فالآية صريحة بكمال صفات الله، وأنه ينسخ ما يشاء بقدرته التي لا يحدها شيء.
ويلزمنا التنبيه إلى أن النسخ في القرآن لا يقع من النبي ﷺ، بل هو فعل إلهي محض: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ (يونس: 15).
ثم لو تأملنا الآيات المنسوخة لوجدنا فيها - أحياناً- ما يشعر بكون هذا الحكم مؤقتاً ، كما في حكم حبس الزانية في قوله : ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَـهُنَّ سَبِيلًا﴾ (النساء: 15)، فقوله: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَـهُنَّ سَبِيلًا﴾ نص في ترقب حكم جديد ينزل من الله تعالى، وقد تحقق هذا السبيل المنتظر من الله في آيات سورة النور التي قضت بجلد الزانية، بدلاً من الحكم المنسوخ (حبسها).
ولم تنسخ الآية من التلاوة؛ لأن الله نسخ حكمها، وأبقاها متلوة إلى قيام الساعة؛ يؤجر المسلمون على قراءتها، ويرون فيها بعض رحمة الله وتخفيفه على عباده حين نسخها بحكم آخر أيسر منه.
أما النوع الثاني من أنواع النسخ؛ فهو نسخ التلاوة، وهو نوع مخصوص بآيات من القرآن نزلت على النبي ﷺ، وقرأها المسلمون، ثم رفعها الله من قرآنه لحكمة هو أعلم بها ﴿ يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ (الرعد: 39)، فما يمحوه الله من آياته ليس نسياناً، ولا لغيره مما يطرأ على البشر، بل هو وفق حكمته ومشيئته وعلمه الأزلي ﴿بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ` فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ (البروج: 21-22)، فهو تبارك وتعالى قادر على نسخ ما يشاء من آي القرآن ﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ (الإسراء: 86).
ولو شئنا تلمس ومعرفة الحكمة الإلهية في نسخ بعض الآيات تلاوة؛ لوجدنا أن بعض هذه الآيات نزل في معالجة أحداث مخصوصة كحادثة بئر معونة التي قتل فيها ما يقارب عُشُر المسلمين حينذاك، فأنزل الله ما أنزل تثبيتاً لقلوب المؤمنين في وقت كربتهم وزلزالهم، ومثله نزلت آيات النهي عن الانتساب لغير الأب في وقت كان الناس يتعايرون بأنسابهم، فلربما نسب الرجل نفسه إلى غير أبيه؛ فلما علم ربنا عز وجل حاجة المسلمين إلى تلكم الآيات في ذلك الزمان؛ أنزلها، وعلم ربنا أن الحاجة إليها مؤقتة، وأن البشـرية لا تحتاجها في أجيالها القادمة؛ فنسخها بما هو خير منها أو مثلها، ورفع تلاوتها من المصاحف.
إن ما يعتبره المسلمون قرآناً ليس كل ما نزل على النبي ﷺ من الوحي، بل ما أثبته الله في العرضة الأخيرة لجبريل ، وهو يعرضه على النبي ﷺ في آخر رمضان أدركه النبي ﷺ قبيل وفاته، وهذا المعنى يخبر عنه أنس بن مالك ﷺ بقوله: (أُنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه، ثم نسخ بعد {بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه} )([150]).
ويوضحه قول عمر t: (أقرؤنا أُبي ، وأقضانا علي ، وإنا لندع من قول أُبي، وذاك أن أُبياً يقول: لا أدع شيئاً سمعتُه من رسول الله ﷺ ، وقد قال الله عز وجل: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾) (البقرة: 106)([151]).
فالله عز وجل ينسخ من آياته ويُنسِي عباده ما يشاء، فهو الذي يعلم الجهر وما يخفى، وهو بكل شيء عليم، وهو على كل شيء قدير: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ` إِلَّا مَا شَاءَ الله إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ (الأعلى: 6-7).
وهكذا فالعرضة الأخيرة للقرآن هي فقط ما تعبدنا الله بتلاوته إلى يوم القيامة ، وأما ما سوى ذلك مما كان يقرأ؛ فقد نسخ بقراءة العرضة الأخيرة التي شهدها جمع من الصحابة، منهم زيد بن ثابت، فأهَّله ذلك لجمع القرآن زمن الصديق، ثم زمن عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: "كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرؤون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله ﷺ على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه([152]).
وقال عن زيد: "شهد العرضة الأخيرة، وكان يُقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين "([153]).
وعن كثير بن أفلح أن عثمان t "لما أراد أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبي بن كعب وزيد بن ثابت .. وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه .. إنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهداً بالعرضة الآخرة، فيكتبونها على قوله"([154]).
وعن سمُرة t قال: عرض القرآن على رسول اللهِ ﷺ عرضات، فيقولون: إن قراءتنا هذه العرضة الأخيرة([155]).
قال عَبِيدة السلماني ـ وهو من كبار التابعين ـ: القراءة التي عُرِضَت على رسول الله ﷺ في العام الذي قبض فيه؛ هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم([156]).
وقال ابن تيمية: "العرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة"([157]).
وقال البغوي: "المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله ﷺ, فأمر عثمان بنسخه في المصاحف، وجمع الناس عليه , وأذهب ما سوى ذلك؛ قطعاً لمادة الخلاف , فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع، فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم"([158]).
وهكذا، فالآيات المنسوخ تلاوتها لم تسقط من المصحف نسياناً أو جهلاً؛ إنما نسخها الله، فلم يقرأها جبريل على النبي ﷺ في العرضة الأخيرة، التي أقرأها النبي ﷺ زيد بن ثابت وغيره من الصحابة، وبها قرأ المسلمون في كل العصور.
ومن هذا المنسوخ تلاوة ؛ آية الرجم ، وهي آية حفظها الصحابة ووعوها ، ومع ذلك لم تكتب في القرآن الكريم لنسخها في العرضة الأخيرة، وقد خطب عمر الصحابة زمن خلافته، وقبل جمع عثمان للمصاحف، فقال: (إن الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها، ووعيناها، رجم رسول الله ﷺ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله "أن لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" أو "إن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم")([159]).
فذكر عمر t في هذا الأثر آيتين منسوختين تلاوة من القرآن، فهو يعرفهما، ويقول عن آية الرجم: (فقرأناها ، وعقلناها، ووعيناها)، ثم يذكر أنها نسخت من القرآن، وفي رواية أنه قال: (وايم الله، لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله عز وجل؛ لكتبتها)([160])، فهو t يؤكد نزولها، وأنها محفوظة عنده، وأنها غير موجودة في كتاب الله، وهذا قبل الجمع العثماني للقرآن الكريم.
كما ضرب عمر t مثلاً آخر للمنسوخ تلاوة بآية التحذير من الانتساب إلى غير الآباء، وهذا كله في حضور جموع الصحابة رضوان الله عليهم؛ مما دل على معرفتهم جميعاً بوقوع النسخ تلاوة في القرآن الكريم.
وأما سبب إسقاط الصحابة لهذه الآية من المصحف فهو أمر النبي ﷺ بذلك، فقد روى البيهقي من حديث زيد بن ثابت أنه دخل على مروان بن الحكم فسأله مروان عن سبب ترك كتابة هذه الآية في المصاحف، فأخبره زيد أن عمر t أتى النبي ﷺ، فقال: أكتبني آية الرجم؟ فقال ﷺ: «لا أستطيع ذاك».
قال البيهقي: "في هذا وما قبله دلالة على أن آية الرجم حكمها ثابت، وتلاوتها منسوخة، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً"([161]).
ومن أمثلة المنسوخ تلاوة آية الرضاع، ففي صحيح مسلم، من حديث أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشـر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ، وهن فيما يقرأ من القرآن)([162]).
وقولها: (وهن فيما يقرأ من القرآن)، ليس يساوي القول: (وهن من القرآن)، بل معناه أن النسخ كان في أواخر حياة رسول الله ﷺ ، فمات وبعض الصحابة لم يبلغهم النسخ، فما زالوا يقرؤونه على أنه من القرآن، وقد قال أبو موسى الأشعري t : (نزلت ثم رفعت)([163]).
قال النووي: "معناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً؛ حتى أنه ﷺ توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآناً متلواً؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى"([164]).
وقد يشكل - هنا - ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله ﷺ وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها)([165])، فهذا الخبر يفيد أن آية الرجم وآية الرضاع عشراً قد ضاعتا بسبب أكل الداجن للصحيفة التي كتبتا فيها.
لكن هذا القول يندفع إذا علمنا أن الأثر ضعيف السند، منكر المتن ، رده العلماء وضعفوه لأن في إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، ويرويه بالعنعنة [أي بقوله: عن فلان]، وعنعنة المدلس لا تقبل، وترد حديثه كما هو معلوم في قواعد المحدثين، قال الألباني: "ابن إسحاق مدلس، وإنه إذا قال: (عن)؛ فليس بحجة، وإذا قال: (حدثني) فهو حجة"([166]).
وسئل أحمد بن حنبل عنه: ابن إسحاق إذا تفرد بحديث تقبله؟ قال : "لا ، والله إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من ذا"([167]).
وكان يقول: "ابن إسحاق ليس بحجة"([168]).
قال الذهبي: "وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير وعجائب"([169])، وهذا الحديث من عجائبه ومناكيره، ويعله أمران : أولهما: أنه ليس في المغازي، والآخر: أنه معنعن غير مسند.
وقال أيضاً في ترجمته: "الذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث ، صالح الحال ، صدوق ، وما انفرد به ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئاً"([170]).
قال ابن قتيبة: "فأما رضاع الكبير عشـراً فنراه غلطاً من محمد بن إسحاق"([171])، هذا من جهة إسناده.
وأما السرخسي فأعلَّ الأثر بنكارة متنه الذي يوحي أن مصدر هذه الآية كان هذه الصحيفة فقط، وأنها لم تكن محفوظة عند جماهير الصحابة: "حديث عائشة لا يكاد يصحّ ... ومعلوم أن بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث"([172])، وهكذا فالأثر ضعيف الإسناد ، منكر المتن، لا يصلح ولا يقوى للاحتجاج به، وبمثل هذا الأثر الضعيف يفرح وينعق المبطلون!.
ومن المنسوخ تلاوة دعاء القنوت الذي يقنت به المسلمون في صلاة الوتر إلى يومنا هذا، فقد نزل قرآناً ، ثم نُسخ في العرضة الأخيرة «اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. ونثني عليك ولا نكفرك. ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد. ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفِد. نرجو رحمتك ونخشى عذابك. إن عذابك الجد بالكافرين مُلحِق».
وقد روي عن أبي بن كعب أنه أثبته في مصحفه، ذلك أن أُبياً كان يقول: (لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله ﷺ )، وقد رد عليه الخليفة عمر، وضعّف قوله مستدلاً بقول الله عز وجل: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ (البقرة: 106)([173]).
وهذا المذهب بالقراءة بالمنسوخ كان مذهب أُبي t أول الأمر، ثم رجع عنه، بدليل أنه أقرأ التابعين بما في مصحف الجماعة، كما هو مروي عنه في قراءة عاصم ونافع وابن كثير وأبي عمرو، التي اتصل إسنادها إليه من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن عياش المخزومي وعبد الله بن السائب وأبي العالية([174]).
وذكر أبو الحسن الأشعري أنه رأى مصحف أنس بالبصـرة، عند بعض ولدِه، يقول: فوجدتُه مساوياً لمصحف الجماعة، وكان ولد أنس يروي أنه خط أنس وإملاء أُبي بن كعب([175]).
وهكذا يستبين للمنصف أن قول المسلمين بالنسخ مختلف عن قول أهل الكتاب، وأنه فرع عن كمال علم الله وقدرته ولطفه بعباده ، فهو تعالى ﴿ يَمْحُو اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)، وكل ذلك وقع في القرآن وفق حكمته ومشيئته وعلمه الأزلي المكتوب في اللوح المحفوظ ﴿بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ ` فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ (البروج:21-22).
أولاً: اختلاف مصاحف الصحابة
قالــوا : اختلفت مصاحف الصحابة في الصدر الأول مما استدعى من الخليفة الثالث عثمان أن يقول بإحراق هذه المصاحف وأن يجمع الصحابة على مصحفه.
الجـواب : تحدثنا فيما سبق عن جمع عثمان للمصاحف، وتبين لنا في حينه أن أبا بكر الصديق جمع القرآن في دفتي كتاب بعد أن جمع كل ما عند الصحابة مما كتبوه بين يدي النبي ﷺ، وأن عثمان أراد جمع الصحابة على حرف قريش الذي نزل القرآن به، وأنه بدأ بصحف الجمع البكري، فأرسل إلى أم المؤمنين حفصة والتي كانت تحتفظ بصحف أبي بكر: (أن أرسلي إلينا بالصحف؛ ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك)، فقد أعاد عثمان نسخ صحف أبي بكر التي جمعت من المكتوب بين يدي النبي ﷺ، وقد استوثق له وانعقد له إجماع الصحابة.
فإن وجد في مصاحف بعض الصحابة خلاف المصحف المجمع عليه، فهذا يعود إلى خطأ في نسخته، ونسخته ليست أثبت من النسخة التي أجمع عليها الصحابة، إذ قد يفوت الآحاد ما لا يفوت الجمع، كما أن في نسخ آحادهم بعض ما نزل على النبي ﷺ قبل العرضة الأخيرة للوحي في أواخر حياة النبي ﷺ، ففيها ما نسخت تلاوته، كما قد يقع في نسخ آحاد الصحابة نقص بعض سوره أو زيادة الناسخ - في نسخته - شرح كلمة وسواها، فيخشى أن يظن من يأتي بعد ناسخها أنها من القرآن.
وتكامل المصحف العثماني وفق المنهجية التي ذكرنا تفاصيلها قبلُ، وأجمع أصحاب النبي ﷺ على القراءة بهذا المصحف، وأمر عثمان بإرسال نسخ منه إلى الأمصار، وأمر من كان عنده شيء من صحف القرآن أن يحرقها، يقول حذيفة: (حتى إذا نسخوا الصحف [صحف الجمع البكري] في المصاحف؛ رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) ([176]) ففعل الصحابة وامتثلوا ذلك، واتفقوا على صحة صنيع عثمان، يقول علي t: (يا أيها الناس، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعاً، والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل) ([177])، ويقول مصعب بن سعد t: (أدركت الناس حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، أو قال: لم يعب ذلك أحد) ([178]).
وأما ما نقل عن اعتراض ابن مسعود t وقوله: (يا معشر المسلمين، أُعزل عن نسخ كتابة المصحف ويتولاها رجل [يقصد زيد بن ثابت] ، والله لقد أسلمتُ وإنه لفي صُلب رجل كافر) ([179])، فهو اعتراض شخصي الصبغة، لا يتضمن اعتراضاً منه على وثوقية الجمع أو منهجيته، ولا على أمانة زيد بن ثابت أو قدرته، لكنه يعتب على الصحابة رضوان الله عليهم أنهم أسندوها إلى شاب صغير، ولم يسندوها إليه t، وهو الذي تعلم القرآن قبل ولادة زيد t، وقد لقي اعتراضه كراهية في صدور كبار الصحابة الذين رأوا في اختيار زيد الاختيار الأمثل والأفضل، يقول الزهري في تمام الرواية معلقاً على اعتراض ابن مسعود: فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبي ﷺ.
وهكذا اجتمعت الأمة على القراءة بالمصحف الذي كتبه عثمان t واتفق الصحابة عليه، وما زال المسلمون في كل عصر يطبعون القرآن وفق رسمه.
ثانيــاً: اختلاف الصدر الأول في قراءة بعض آيات القرآن الكريم
قالـوا: اختلف الناس في قراءتهم لبعض آيات القرآن على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فجاء حذيفة بن اليمان إليه فقال: (يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى)([180])، مما استدعى من الخليفة الثالث جمعهم على قراءة واحدة، فاختلافهم قبل جمع عثمان دليل على تدخل البشر في النص القرآني.
الجواب: نزل القرآن الكريم أول ما نزل في مجتمع قريش في مكة حاضرة العرب، فأقرأ النبي ﷺ أصحابه المكيين القرآن الكريم، فكان سهلاً وميسوراً عليهم قراءته، فهم أفصح العرب بياناً.
ثم بعد هجرة النبي ﷺ إلى المدينة المنورة دخلت قبائل العرب في الإسلام فصعب عليهم قراءة القرآن وفق لهجة قريش، فبعض حروفها غير مألوف في كلامهم، كما ثمة كلمات عربية قرآنية لم تكن شائعة في لهجاتهم، ونظراً لكون عامة العرب أميين يصعب عليهم التحول عن مألوف لهجاتهم إلى لهجة قريش؛ وبخاصة كبار السن والأطفال فقد سأل النبي ﷺ الله عز وجل أن يخفف عن أمته بإقراء الناس القرآن على حروف سبعة، فعن أُبي بن كعب أن جبريل لقي رسول الله ﷺ وهو عند غدير لبني غفار، فقال: «إن الله يأمرك أن تُقرئ أُمتك القرآن على حرف. فقال ﷺ: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك.
ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أُمتك القرآن على حرفين. فقال ﷺ: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أُمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أُمتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال ﷺ: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أُمتي لا تطيق ذلك.
ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أُمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا»([181]).
وفي رواية أنه قال: «يا جبريل إني بعثتُ إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط. قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف»([182])، فهذه الأحرف السبعة رخصة وتيسير من الله، وقد نزل القرآن بها جميعاً، وليست اجتهاداً نبوياً.
وقد فسر لنا أصحاب النبي ﷺ هذه الحروف، كما روي عن أبي بكرة أن جبريل أذن للنبي ﷺ بالقراءة على سبعة أحرف، وقال له: «كلٌّ شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال وأقبل، وهلم واذهب، وأسرع واعجل»([183]).
وقد قرأ أصحاب النبي ﷺ بهذه الوجوه التي يسر الله بها عليهم، وأقرؤوا الناس بها، حتى ذربت على قراءته ألسنتُهم وسهل عليهم حفظُه وقراءتُه في الصلوات والخلوات.
وقد التبس على بعض الصحابة على عهد النبي ﷺ اختلافُ بعض الكلمات أو طريقة نطقها أو وجوه الإعراب فيها بسبب تعدد الأحرف ، فتولى ﷺ رفع الخلاف بينهم، وبيَّن لهم أن جميع هذه الأحرف من وحي الله، يقول عمر بن الخطاب: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعتُ لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ ، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ، فقلت: كذبت، فإن رسول الله قد أقرأنيها على غير ما قرأت.
فانطلقت به أقوده إلى رسول الله، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله: «أرسله. اقرأ يا هشام». فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله : «كذلك أنزلت».
ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله : «كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسـر منه»([184])، فالقرآن نزل بتلك الحروف التي قرأ بها عمر وبتلك التي قرأ بها هشام، واختلافهما ليس مرده الخطأ والنسيان، بل تسهيل الله على هذه الأمة الأمية قراءة كتابها.
ومثل هذا الموقف وقع لأُبي بن كعب حين دخل المسجد فسمع رجلاً يصلي ويقرأ قراءة أنكرها أُبي عليه ، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فالتبس الأمر على أُبي، فدخل معهما إلى النبي ﷺ، فقرؤوا بين يديه، فحسن النبي ﷺ شأنهما.
يقول أُبي: فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية.
فلما رأى رسول الله ﷺ ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، فقال لي: «يا أُبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فرد إلي الثانية: اقرأه على حرفين. فرددت إليه أن هوِّن على أمتي. فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف»([185])، ففهم أُبي بن كعب حينذاك أن القرآن تنزل بهذه الحروف، وأن الخلاف بين الصحابة في بعض حروفه هو رخصة من الله أعطاها الله لنبيه ﷺ تخفيفاً عليهم ورحمة بهم، ولذلك كان t يقرأ بهذه الحروف بعد اجتماع الصحابة على لغة قريش وحرف القرآن الذي تنزل به أول مرة، وكان يقول: (لا أدع شيئاً سمعتُه من رسول الله ﷺ)([186]).
لقد فهم الصحابة حكمة تعدد الأحرف وما تقتضيه هذه الرخصة من تنوع؛ اقتضاه تنوع لهجات القبائل العربية واختلاف طريقة نطق كل قبيلة لبعض الحروف العربية عن غيرها من القبائل، فلم يعب بعضهم على بعض قراءته، إذ علموا أن كل ذلك من عند الله.
لكن الأمر لم يكن كذلك في عهد عثمان الخليفة الثالث للنبي ﷺ ، حيث دخل في الإسلام العرب والعجم، ممن لم يفقه الأحرف السبعة ، وأن الله نزل القرآن بها جميعاً تسهيلاً ورحمة بالأمة، فجعل بعضهم يخطئ الآخرين في قراءتهم ، ويرى أن حرفه أصح من حرف غيره، وحصل بينهم مراء ، فجاء حذيفة بن اليمان إلى الخليفة عثمان بن عفان t يشكو تنافر المسلمين بسبب اختلافهم في الحروف التي سمعوها من النبي ﷺ، فقال: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى"([187]).
فاستشار عثمان أصحاب النبي ﷺ في إعادة نسخ القرآن في مصحف واحد جامع: (نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة، ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت)([188]).
وقد أسقط الجمع العثماني من الأحرف السبعة ما تعارض مع الرسم العثماني، فقد قال عثمان للجنة الكتابة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم) ([189])، وليس في ذلك إهمال لبعض نص القرآن، بل عود لأصل تنزله على حرف واحد، فقد عاد الصحابة للأصل الأول الذي نزل به القرآن، وهو لسان قريش بعد أن زال سبب التخفيف والرخصة التي أنزل الله من أجلها بقية الأحرف.
والذي دعا الصحابة إلى هذا الصنيع خوفُهم من تفرق الأمة واختلافها بسبب هذه الرخصة التي فات محلها، ووقوع الناس لجهلهم بحكمتها في المراء الذي حذر رسول الله ﷺ منه، قال ابن الجزري: "وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي ﷺ على جبرائيل عليه السلام متضمنة لها لم تترك حرفاً منها .. وهذا القول هو الذي يظهر صوابه لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له"([190]).
وهكذا اجتمع المسلمون منذ الصدر الأول على القراءة بالقرآن الذي بين أيدينا ، فنقل عن الصحابة بطرق لا تحصى لكثرتها، نقل منها ابن الجزري في النشر 980 طريقاً([191])، وهي في كل ذلك لا تختلف عن بعضها في شيء من آيات أو كلمات القرآن الكريم.
ثالثاً : هل أسقط ابن مسعود t المعوذتين من مصحفه؟
قالـوا : اختلف الصحابة في المعوذتين هل هما من القرآن أم لا؟ فكان ابن مسعود يحكُّهما من المصاحف، ويقول: (إنهما ليستا من القرآن، فلا تجعلوا فيه ما ليس منه).
والجواب : إن القرآن نقل إلينا بالتواتر، جيلاً بعد جيل، فقد حمله من الصحابة من لا يحصي عددهم إلا الله، ونلقه عنهم أضعافهم عدداً إلى يومنا هذا، فتوافق الصحابة على النص القرآني حجة لا ينقضها ولا يقدح فيها مخالفة واحد من آحاد الصحابة أو من بعدهم، إذ مخالفة الآحاد لا تقدح في التواتر، فليس من شرطه عدم وجود المخالف، فقد تواتر عند الناس – اليوم - وجود ملك قديم ، الفرعون خوفو، فلو أنكر اليوم واحد من الباحثين هذا الذي تواتر عند الناس ، وقال: لم يوجد هذا الملك، فإنه لا يلتفت إليه، لمخالفته المتواتر.
ومثله تواتر القرآن برواية الجموع عن الجموع في كل جيل، فلو صح إنكار ابن مسعود سورة من سوره، بل لو أنكر القرآن كله لما قدح هذا بقرآنية القرآن ولا طعن في موثوقيته.
لكن هذه الروايات لا تصح عن ابن مسعود t، ففي أسانيدها ما يقدح في صحتها، فخبر حكِّ السورتين من المصاحف، وقول ابن مسعود t: (ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى)، مروي في مسند أحمد والطبراني في الكبير، وتدور أسانيدهما على أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني عن عبد الرحمن بن يزيد.
وأبو إسحاق رغم توثيق العلماء له؛ فإنه قال عنه ابن حبان: "وكان مدلساً"، والمدلس لا تقبل روايته إلا إذا صرح بالتحديث [أي قال : حدثني]، وترد روايته إذا كانت بصيغة العنعنة، كما في هذه الرواية، حيث يقول فيها: (عن عبد الرحمن بن يزيد).
ولا يتقوى هذا الإسناد بإسناد الطبراني للأثر من رواية الأزرق بن علي (أبي الجهم الحنفي)، وقد ذكره ابن حبان وقال: "يغرب"، أي له غرائب ([192]).
والأزرق صاحب الغرائب يرويه عن حسان بن إبراهيم الكرماني ، وقد وثقه البعض، وضعفه غيرهم ، كالعقيلي الذي قال عنه: " في حديثه وهم"، كما أعله غير واحد من العلماء، قال ابن حبان: "ربما أخطأ".
وقال أبو زرعة: "لا بأس به".
وقال النسائي: "ليس بالقوي".
وقال ابن عدي: "قد حدث بأفراد كثيرة، وهو عندي من أهل الصدق إلا أنه يغلط في الشيء ولا يتعمد"([193]).
وبهذا يتبين ضعف هذه الروايات المروية عن مثل هؤلاء ، وقد أشار العلماء من أهل الصنعة الحديثية إلى ذلك، فقال ابن حزم: "وكل ما روى عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه؛ فكذب موضوع لا يصح، وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيها أم القرآن والمعوذتان"([194]).
وكذلك فإن الباقلاني يكذب هذه الأخبار ويقول: "هذا باطل وزور، ولا ينبغي لمسلم أن يثبته على عبد الله بن مسعود بأخبار آحاد معارضة بما هو أقوى منها عن رجال عبد الله في إثباتها قرآناً"([195])، ونرى في كلام ابن حزم والباقلاني إشارة إلى أمر مهم - نعود إليه - ، وهو مخالفة هذه الروايات الضعيفة للقراءات المتواترة عن ابن مسعود وغيره من الصحابة الكرام.
ويستشهد الباقلاني على ضعف هذه الروايات بعلة أخرى، وهي سكوت الصحابة على قوله وهم جميعاً يقرؤون المعوذتين، فيقول: "وأما المعوذتان، فكل من ادَّعى أن عبد الله بن مسعودٍ أنكر أن تكونا من القرآن، فقد جهل، وبعُد عن التحصيل، لأن سبيل نقلهما؛ سبيل نقل القرآن ظاهراً مشهوراً .. وكيف ينكر كونهما قرآناً منزلاً، ولا ينكر عليه الصحابة، وقد أَنكرت عليه أقل من هذا وكرهته من قوله: "معشـر المسلمين، أُعزل عن كتابة المصحف؟! والله لقد أسلمت؛ وإن زيداً لفي صلب رجل كافر". قال ابن شهاب: كره مقالته الأماثل من أصحاب رسول الله ﷺ"([196]).
والصحيح أن ابن مسعود t لم ينكر سماع المعوذتين من النبي ﷺ، بل غاية ما نقل أنه كان يراهما عوذة علمها الله لنبيه، فكان يعوذ بهما نفسه والحسن والحسين، لكنه لم يسمعه ﷺ يقرأ بهما في الصلاة، وهذا الذي نُقل عن ابن مسعود: (لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي ﷺ : قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس)([197])، وفي رواية الطبراني من طريق أبي الجهم الأزرق بن علي أنه قال: (إنما أمر رسول الله ﷺ أن يتعوذ بهما، ولم يكن يقرأ بهما)([198]).
وإذا كان ابن مسعود لم يسمع النبي ﷺ يقرأ السورتين في الصلاة فإن ذلك لا يعني بالضرورة عدم قراءته ﷺ لهما، فقد سمعهما غيره منه، قال سفيان: "كان يرى رسول الله ﷺ يعوذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته، فظن أنهما عوذتان، وأصر على ظنه، وتحقق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه"([199]).
وإذا كان ابن مسعود يظن – حسب تلك الآثار الضعيفة - عدم قرآنيتهما؛ فإن جميع الصحابة خالفوه في ذلك، فالمفروض في ميزان العقلاء أن قوله خطأ يردُّ في مقابل قولهم الصحيح، يقول ابن قتيبة : "إنا لا نقول: إن عبد الله وأُبياً أصابا([200])، وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكن عبد الله ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أن المعوذتين كانتا كالعوذة والرقية وغيرها، وكان يرى رسول الله ﷺ يعوذ بهما الحسن والحسين وغيرهما .. فظن أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنه ومخالفة الصحابة جميعاً"([201])، ولن يقبل أحد ترك القراءة بآية قرآنية ، لأن ابن مسعود لم يسمعها من النبي ﷺ، فليس من شرط القرآن أن يسمعه ابن مسعود t تحديداً.
قال البزار: "لم يتابع عبدَ الله أحدٌ من الصحابة، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قرأ بهما في الصلاة، وأُثبتتا في المصحف" [أي العثماني]([202])، أفلا يكفي للإيمان بقرآنيتهما أن النبي ﷺ قرأهما في الصلاة([203]).
كما جاء في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال له: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾»([204])، وفي رواية عنه t أن النبي ﷺ قال له: «فإن استطعت ألا تفوتك قراءتهما في صلاة، فافعل»([205]).
ونقل أبو سعيد الخدري قرآنيتهما عن النبي ﷺ بقوله: (كان رسول الله ﷺ يتعوذ من عين الجان وعين الإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سوى ذلك)([206]).
ولما قيل لأبي بن كعب t: إن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه قال أُبي: أشهد أن رسول الله ﷺ أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ فقلتُها، فقال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ فقلتُها، فنحن نقول ما قال النبي ﷺ([207]).
لكن الموضوع الأهم هو ما أشار إليه ابن حزم والباقلاني في أن الأخبار المروية عن ابن مسعود بشأن حك المعوذتين معارضة بآثار أصح منها منقولة عن ابن مسعود t ، فالمعوذتان قرأ بهما عاصم - راوي الأثر المشكِل - في قراءته الصحيحة التي يرويها عن زر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي عمرو سعد بن إلياس الشيباني، "وقرأ هؤلاء الثلاثة على عبد الله بن مسعود t، وقرأ السلمي وزِر أيضاً على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقرأ السلمي أيضاً على أُبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، وقرأ ابن مسعود وعثمان وعلي وأبو زيد على رسول الله ﷺ"([208]).
وكذلك رويت قراءة المعوذتين عن ابن مسعود في قراءة حمزة وتلميذه الكسائي، فقد قرآها عنه من طريق "علقمة والأسود وابن وهب ومسـروق وعاصم بن ضمرة والحارث" فقد قرؤوا جميعاً على ابن مسعود t([209]).
بل وقرأ المعوذتين جميعُ القراء العشرة، وأسانيد قراءاتهم أقوى من تلك الرواية الضعيفة المستشكلة، التي لن تقوى على معارضة (980) طريقاً مسندة، وهي عدد الطرق التي ذكرها ابن الجزري تفصيلاً للقراء العشـر([210])، وتنتهي هذه الطرق - التي قاربت الألف - إلى ابن مسعود t وإلى أجلّة إخوانه من أصحاب النبي ﷺ كعثمان وأُبي بن كعب وأبي هريرة وابن عباس، وهذا أصح من الآثار المروية في محو السورتين ، ولا تنهض آثار الآحاد الضعيفة في نقض ألف من الأسانيد الصحاح، لذا "أجمع المسلمون على أن المعوذتين، والفاتحة من القرآن، وأن مَن جحد شيئاً منها كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح عنه"([211]).
ومال بعض المحققين إلى الجمع بين هذه الآثار، والقول بأن ابن مسعود كان يصنع ذلك، لأنه لم يسمع النبي ﷺ يقرأ بهما في الصلاة، فلما رأى إجماع الصحابة قرأ بهما ، وأقرأ التابعين كما في القراءات المنقولة عنه، يقول ابن كثير: " مشهور عند كثير من القراء والفقهاء أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما من النَّبيِّ ﷺ، ولم يتواتر عنده، ثم قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة [بدليل القراءات المروية عنه]، فإن الصحابة أثبتوهما في المصاحف الأئمة، وأنفذوها إلى سائر الآفاق كذلك، ولله الحمد والمنَّة"([212]).
رابعاً: هل أسقط ابن مسعود t الفاتحة من مصحفه؟
قالـوا : اختلف الصحابة في قرآنية أهم سور القرآن، وهي سورة الفاتحة، فلم يكتبها ابن مسعود من مصحفه، كما نقل عنه ذلك التابعي ابن سيرين بقوله: "إن أُبَيَّ بن كعبٍ وعثمانَ كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين، ولم يكتب ابن مسعودٍ شيئًا منهن"([213]).
والجواب : ثبوتية الفاتحة - كغيرها من سور القرآن - ثابتة بنقل جموع المسلمين وتواترهم على قراءتها جيلاً بعد جيل، بل أثبت القرآن نفسه قرانية سورة الفاتحة، أعظم سوره، بقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ (الحجر: 87)، فالسبع المثاني هي سورة الفاتحة التي تثنى وتقرأ في كل صلاة، وقد سماها النبي ﷺ أم القرآن: «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم»([214])، فهي أم القرآن وأصله وفاتحته التي: «ما أنزل الله عز وجل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني»([215]).
وهذا المنسوب إلى ابن مسعود لا يفيد عدم اعتقاده بقرآنية سورة الفاتحة، فهذا يخالف الصحيح المتواتر عند المسلمين جميعاً، بل هو مخالف أيضاً لما بيناه سابقاً من صحة القراءات المسندة إلى ابن مسعود t، فقد قرأها t وأقرأها التابعين كما صح عنه في قراءة عاصم وحمزة والكسائي، ولا يظن مسلم أن ابن مسعود يجهل قرآنيتها، وهو الذي يقرأها في كل صلاة، ويقول عنها فيما نقله عنه ابن سيرين (راوي الأثر المشكِل عنه): (السبع المثاني فاتحة الكتاب) ([216]).
ولو تأملنا المنقول عنه لما وجدنا فيه إنكاراً لقرآنية الفاتحة، بل غاية ما فيه أن ابن مسعود لم يكتب الفاتحة في مصحفه ، وصدق ابن قتيبة بقوله: "وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه، فليس لظنه أنها ليست من القرآن (معاذ الله)، ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين، مخافة الشك، والنسيان، والزيادة، والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها ، فلما أمن عليها العلة التي من أجلها كتب المصحف ؛ ترك كتابتها ، وهو يعلم أنها من القرآن"([217])، فقد أغفل t كتابتها في مصحفه لإطباق الناس على قراءتها، لذا نقل إبراهيم النخعي أنه قيل لابن مسعودٍ: لِمَ لَمْ تكتب الفاتحة في مصحفك؟ فقال: (لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة)([218]).
قال أبو بكر الأنباري: "يعني أن كلَّ ركعةٍ سبيلُها أن تفتتح بأم القرآن، قبل السورة المتلوَّة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لَهَا، ولم أثبتها في موضعٍ، فيلزمني أن أكتبها مع كل سورةٍ، إذ كانت تتقدمها في الصلاة"([219]).
***
أولاً : نسبة صفات النقص إلى الله تعالى
قالــوا : القرآن نسب إلى الله صفات لا تليق به، وهي المكر والخداع والكيد والنسيان، وذلك في مثل قول الله: ﴿ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ (النساء: 142)، وقوله: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله﴾ (الأنفال: 30)، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾ (الطارق: 16)، وقوله: ﴿ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ (التوبة: 67).
الجـواب: يلزم التنبيه أولاً أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ينزه الله عن النقائص، فلا يوجد فيه ما في كتب الآخرين التي تتحدث عن مصارعة الله ليعقوب وتغلب يعقوب عليه، وأكله الزبدة واللبن واللحم عند إبراهيم، وغيره مما لا يليق بجناب الله العظيم.
فالقرآن يخلو عن مثل هذا، وهو لا ينسب إلى الله تعالى إلا صفات الكمال والجلال، ولا يسميه إلا بأحسن الأسماء ﴿ وَلِله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ (الأعراف: 180)، وكذلك: ﴿ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ (طه: 8).
ومن أسمائه جل وعلا الحسنى ما ذكره القرآن الكريم بقوله: ﴿ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ` هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ` هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ (الحشر: 22-24).
ولئن كانت أسماء المخلوقات جامدة معطلة لا تفيد معانيها، وتنحصر دلالتها في التعريف بالذات؛ فإن أسماء الله تدل على ذاته، وهي أيضاً أوصاف لذاته العلية تبارك وتعالى، وتدل على غاية الكمال في اتصافه بها، فهو الملك الذي لا نِد له في ملكه، وهو الحكيم الذي لا يُدانى في حكمته.
ووفقاً لما سبق فإن الله ﷻ لا يسمى بأسماء تنتقص ذاته العلية؛ كالماكر والمخادع والكائد، فهذه الأسماء لا كمال فيها، فلا يسمى بها الرب تبارك وتعالى، كما لا يوصف بالمكر والخداع والكيد، وإن فعل تبارك وتعالى هذه الأفعال، فباب الأفعال أوسع من الصفات.
والسؤال: كيف نسب القرآن إلى الله فعل الكيد والمكر والخداع؟
وفي جوابه نقول: إن آفة الجهل بلغة العرب وطرائقهم في التعبير عن المعاني من أعظم بلايا هذا الزمان، حيث اضمحلت معرفة الناس باللغة، وأصبح أهلها أعاجم فيها، فالعرب تعرف في أساليبها المشاكلة اللفظية، وهي استخدام اللفظ في غير معناه؛ لمقابلته مع فعل آخر.
يقول أبو بكر ابن حجة في تعريف المشاكلة: "المشاكلة في اللغة هي المماثلة، والذي تحرر في المصطلح عند علماء هذا الفن أن المشاكلة هي ذكر الشـيء بغير لفظه لوقوعه في صحبته"([220]).
وعند ابن عاشور المشاكلة هي: "استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة"([221]).
وأمثلتها في لغة العرب كثيرة([222])، منها قول الشاعر أبي الرقعمق الأنطاكي :
قالوا اقترحْ شيئاً نُجِد لك طبخَه قلتُ اطبخـوا لي جبّةً وقميصاً
فالطبخ إنما يكون في الطعام، وليس في الجبة والقميص، لكن الشاعر العربي تزيد حاجته إلى الجبة والقميص على حاجته إلى الطعام، فطلب الملابس بكلام شاكل فيه قولهم: (نُجِد لك طبخه)، فسألهم حاجته: (اطبخوا لي جبة وقميصاً).
ومثله في المشاكلة اللفظية قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
ألا لا يجهلنْ أحدٌ عليـنا فنجهل فَوقَ جهل الجاهليـنَا
أي نجازيه على جهله، فسمى المجازاة جهلاً للمشاكلة فحسب، وإلا فإن الجهل لا يفخر به، بل يستحى منه.
ومثله قول أبي تمام :
من مبلغٌ أفناء يعربَ كلَّها أني بنيت الجار قبل المنزل
ومن المعلوم أن الجار يجاور ولا يبنى، لكن حقيقة (بنيتُ) اللغوية غير مرادة، فهو لم يرد حقيقة البناء في (بنيتُ) كما لم يرد حقيقة الجهل في (فنجهل) ولا حقيقة الطبخ في (اطبخوا).
ومثل هذا يفهمه الناس والعوام في كلامهم حتى في أيامنا هذه، فلو تواعد اثنان على موعد ، فغاب عنه أحدهما، واعتذر لذلك بالنسيان، فقابله الآخر بالتخلف عن موعد آخر، ليقابل خلفه بخلف مثله، ثم يقول له: نسيت موعدك كما نسيت موعدي، أو نسيتك كما نسيتني، والسامع لمثل هذا يدرك أنه لا يريد أنه نسيه على الحقيقة، إنما أراد مجازاته على نسيانه بالتخلف المتعمد، وأن قوله: (نسيت) من باب المشاكلة اللفظية فحسب.
وهذا الأسلوب الذي عرفه العرب في كلامهم جاء في القرآن صور كثيرة منه، لنزوله بلسان عربي مبين ، ومن صور المشاكلة اللفظية في القرآن قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى: 40)، فسمى عقوبة السيئة وقصاصها سيئة؛ مع أنها ليست سيئة على الحقيقة، بل هي عدل وحق، فالمعنى: وجزاء سيئة عقوبةٌ، واستخدمت كلمة سيئة للمشاكلة اللفظية، وليس المراد منها معنى السوء حقيقة.
ومثله قول الله تعالى: ﴿ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة: 149)، فرد الاعتداء ليس اعتداء، لكن جاز تسميته كذلك في باب المشاكلة اللفظية، ومثله ﴿ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ (البينة: 8)، فكل منهما على معنى، وأمثاله في القرآن كثير.
وفي السنة النبوية صور استخدم فيها النبي ﷺ هذا الأسلوب العربي البديع، منها قوله: «اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم»([223]) ، والأصل أنها (ما وادعوكم)، فعدل عنها إلى (ودعوكم) للمشاكلة مع (تركوكم).
إذا تبين ذلك وجب إعادة قراءة الآيات المشكلة للوقوف على معاني هذه الألفاظ وفق سياقاتها، فالآيات حين تحدثت عن مكر الله بالكافرين أو مخادعته لهم وأمثاله لم تكن تنسب إلى الله هذه الأفعال ابتداء، إنما ذكرت هذه الألفاظ في مقابل فعل المشركين، فحين وقع منهم المكر والخداع والكيد، رد الله كيدهم وخداعهم ومكرهم ، فسمى الله فعله بألفاظ من جنس ما صنعوا ، للمشاكلة اللفظية مع ما وقع من الكفار، من غير أن تكون الحقيقة اللغوية لهذه الألفاظ مُرادة.
وهذه المشاكلة في الأسلوب تتضح لمن قرأ تلك الآيات المستشكلة، كمثل قوله تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ (النساء: 142)، وقوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ﴾ (الأنفال: 30)، وقوله: ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ` وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾ (الطارق: 15-16)، وقوله: ﴿ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ ﴾ (التوبة: 79)، وقوله: ﴿ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ (التوبة: 67)، وقوله: ﴿ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ` اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ (البقرة: 14)، فلم تنسب هذه الأفعال (الخداع، المكر، الكيد...) إلى الله؛ إلا في باب المقابلة لفعل الكافرين، من غير أن تكون معانيها مُرادة على الحقيقة.
والتدقيق في معاني تلك الآيات يبين أنها لا تدل على معان سيئة في حديثها عن أفعال الله، فمكر الله في قصة قوم صالح هو إهلاكهم لكفرهم: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ` وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ` فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ (النمل: 49-51) فالمكر الإلهي هنا هو عذاب الله الذي أتاهم وهم لا يشعرون، وليس في هذا أي معنى يستقبح.
وأما الخداع في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾، فهو "إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين، وأنّ الله ليس ناصرهم .. فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم استعارة تمثيلية، وحسنَّتَهْا المشاكلة"([224]).
ولما أراد اليهود بالمسيح السوء، وحاكوا مؤامرتهم للقبض عليه مكر الله بهم فأنجى المسيح بأسلوب خفي عليهم، ولذلك قال الله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (آل عمران:54)، فمكر الله هو إنجاء المسيح منهم، وعدم تحقيق أهدافهم، وهو غاية نبيلة ومقصد كريم.
ومثله إنجاء الله نبيه محمداً ﷺ من مؤامرة قريش حين اجتمعوا على بابه يريدون قتله يوم الهجرة، فقال الله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30)، فإنجاء نبيه ﷺ ليس فيه ما يستقبح.
ونطوي التفصيل في بقية الصور فهي على مثل ما بيناه.
ولن يفوتنا التنبيه إلى أمر صحيح ذكره أهل العلم باللغة، حين قالوا : هذه الألفاظ (المكر والكيد والخداع) لا تُستقبَح معانيها في لغة العرب ابتداء، إنما تستقبح باعتبار ما أضيفت إليه، فالمكر - مثلاً - هو التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالعدو، فمكرك بأحدهم تمكنك منه من غير أن يتنبه إلى فعلك وتدبيرك، فهذا في اللغة (مكر)، ولا يوصف بمدح أو ذم إلا بمعرفة ما ينضاف إليه، فتوصل المرء إلى حقه بأسلوب خفي (مكر) ممدوح، وتوصله إلى حقوق الناس بأسلوب خفي (مكر) مذموم.
وهكذا فإن الله عز وجل يقابل مكر الكافرين السيء (أي سعيهم للإيقاع بالأنبياء على وجه خفي) بالمكر الحسن (إنجاء الأنبياء بوجه خفي)، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ (الأنفال: 30)، ولأجل ذلك قال الله عن فعله : ﴿ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ (الأنفال: 30)، ولم يقل بأنه : (أمكر الماكرين)، لأنه لا يمكر إلا بخير ، فهو يمكر بالماكرين، ومكره الخير فعل جميل يقابل مكرهم السيء.
وأما الخداع فهو حسب الفيروزبادي: إرادة الشر بالمخدوع وهو لا يعلم([225])، وأما ابن دريد فعرفه بأنه الكتمان والإخفاء، وكلا المعنيين لا يستقبح؛ إلا إذا انضاف إليه مقصد السوء، وإلا فمخادعة العدو الظالم لنيل الحقوق المشـروعة لا يستقبحها أحد ، فالله جازى الكافرين شراً على أفعالهم وهم لا يدرون (بخفاء)، فقابل الله خداع الكافرين المشين بخداع ممدوح.
وأما الكيد في مثل قوله : ﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ﴾ (الطارق: 15)، فهو كما عرفه الجرجاني بأنه إرادة مضرة الغير خفية، وعرفه غيره بأنه التدبير ضد العدو([226]).
وهذه المعاني لا عيب فيها، إلا إذا كانت سبيلاً للتوصل إلى غاية مرذولة، أما مقاومة كيد الكائدين (إرادتهم الضر بالخفاء) بكيد مثله، أي (بإضرار خفي بهم)، فهذا غير مستنكر، إذ لا يلزم أن يكون الإضرار بالعدو على وجه ظاهر حتى يستساغ من الناحية الأخلاقية.
ولذلك يقول الله على لسان إبراهيم: ﴿وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم﴾ (الأنبياء: 57)، ويعني أنه سيتخلص منها بوجه خفي، وهذا كيد ممدوح يتخلص به النبي إبراهيم عليه السلام من الأصنام التي تعبد من دون الله؛ من غير أن يدري به سفهاء المشركين، فيتعرضوا له بالقتل والإيذاء، وقد فعل هذا الكيد، فحطم أصنامهم من غير أن يعرفوا ذلك ﴿ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنبياء: 59).
ومثله قول الله: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ (يوسف: 76)، أي صنع الله صنيعاً خفياً جلب فيه الخير ليعقوب وبنيه بإحضارهم من المجاعة إلى أرض مصر.
وهكذا فالكيد الحسن والخداع الحسن لا يستبشعه أحد ، ومن مثل هذا المخادعة والمكر بمن أراد الاعتداء على العرض والمال والنفس، فمخادعة المعتدي والمكر به طلباً للإنجاء منه وللإيقاع به على وجه خفي من محاسن الأمور وفاضل الأفعال.
ثانياً : هل يضل الله عباده؟
قالــوا: أتى القرآن بالمنكر من القول حين ذكرت آياته أن الله يضل من يشاء، والإضلال عمل مشين، فكيف ينسبه القرآن إلى الله عز وجل؟! وكيف يعذب الله بناره من أضلهم وحجب عنهم هدايته؟!
الجـواب: من الضروري أن يتبين لكل أحد أنه لا يوجد كتاب امتدح الله وعظمه بمثل ما نجد في القرآن العظيم، ولكنا نؤمن أيضاً أنه ما من فعل حسن أو قبيح يجري في هذه الدنيا؛ إلا وهو واقع بمشيئة الله وإرادته، فالمسلمون يؤمنون أن الله هو المهيمن على هذا الكون، فلا رب فيه سواه، وكل ما يجري في الكون من خير أو شرور فإنما يقع وفق قدره الأزلي، فلن يعصـى الله أو يطاع إلا بإرادته وعلمه، وهو تعالى وحده دون سواه خالق الخير والشـر ، فالمسلمون لا يقولون بقول المجوس الذين زعموا أنهم ينزهون الله عن النقائص، فجعلوا للكون خالقين، خالقاً للخير ، وآخر للشر.
وعليه فإن الله هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويعطي وينفع ويهدي، وهو أيضاً من يميت ويمنع ويمرض ويضل، فنسبة مثل هذه الأفعال إليه لتعلقها بطلاقة قدرته وهيمنته جل وعز.
وأما مسألة تعذيب الله لمن أضله وقول القائلين بأنه مناف لعدل الله، فإنما يصدق لو كان إضلال الله للناس ابتداء، وهذا محال على عدل الله تبارك وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (التوبة: 115)، فقد خلق الناس جميعاً على الفطرة موحدين ، لذا خطب النبي ﷺ الناس فقال: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا .. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشـركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً»([227])، وهكذا فالله عز وجل خلق البشر مؤمنين، وإنما ضل من ضل باتباع الشياطين بإرادتهم واختيارهم.
ولتقوم حجة الله على عباده فإنه وهبهم العقل؛ ليميزوا به بين سبيل الخير وسبيل الشر: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ (البلد: 10)، ولأجل ذلك أرسل إليهم الرسل وأنزل الكتب، ولو كانت الهداية والإضلال جبرية حتمية لما كان من ضرورة لإرسال النبيين ﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ (النساء: 165).
والمتأمل في آيات القرآن يرى جلياً أن إضلال الله لهؤلاء الذين أضلهم كان بمقتضى أفعالهم السيئة، فقد أضلهم لاختيارهم العماية ورفضهم الهداية وتنكبهم طرقها، فالله يضل من اختار الضلال، وفي المقابل هو يهدي من اختار الهدى والرشاد.
وقد نبه القرآن على هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله : ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ (الصف: 5)([228]) ، فكان إضلال الله لهم ومنعه الهداية عنهم بسبب زيغانهم، ومثله قوله: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ (البقرة: 10).
ومثله حال أولئك الذين صرف الله قلوبهم عن النور والهدى بسبب استكبارهم عن قبول الحق ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 146).
ووفق هذه القاعدة أيضاً أضل الله من نقض عهده وميثاقه وأفسد في الأرض بالمعاصي: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ` الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ (البقرة: 26-27)، فهذا الفاسق يستحق الضلالة بسبب إفساده في الأرض وعمله المشين.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ (الأنعام: 110)، وقوله: ﴿ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ (النحل: 37)، فكل هؤلاء الذين أضلهم الله لا يستحقون هداية الله بسبب فعالهم القبيحة: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ` أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (آل عمران: 86-87).
وكما أن الإضلال نتيجة للضلال ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى: 40)، فكذلك هداية الله إنما هي توفيق وجزاء لمن اختار طريق الطاعة ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ (النساء: 175)، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ` وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ` وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ` وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسّـِرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ (الليل: 5-10).
ومثل هذه المعاني التي يستنكرها أهل الكتاب على القرآن وردت في كتبهم ، ومنه قول بولس: " لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب ، لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق، بل سروا بالإثم " (تسالونيكي (2) 2/10-12).
وبعد ثبوت براءة القرآن مما نسبوه إليه فإني أتساءل والعَجب يلفني: هل جهل أصحاب هذه الشبهة وجود ما استنكروه على القرآن في كتبهم؟ ألم يقرؤوا ما جاء في سفر حزقيال ، وهو من الأسفار المقدسة التي يؤمن بها الطاعنون في القرآن من اليهود والنصارى: "النبي إذا ضل وتكلم بكلام ، فأنا الرب أضللت ذلك النبي" (حزقيال 14/9)؟! ([229])، وفي العهد الجديد يذكر بولس أن الله يقسي قلوب من أراد ضلالهم: "هو يرحم من يشاء، ويقسـي من يشاء" (رومية 9/18)، فماذا هم قائلون؟
وبعيداً عن التعليل القرآني الذي ذكرناه لإضلال الله أهل الشر من عباده؛ فإن بولس لا يجعل الهداية والإضلال بسبب اختيار البشـر ونتيجة أفعالهم، بل يسنده وما يستتبعه من العذاب إلى حق الله المطلق في فعل ما يشاء، فيقول: "فتقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته! بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبْلة تقول لجابلها: لماذا صنعتني هكذا؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة، وآخر للهوان" (رومية 9/18-21)، فالإضلال حسب النص الإنجيلي لا يتعلق إلا بالمشيئة الإلهية، وليس بسبب ظلم العباد وضلالهم وطغيانهم.
ثالثاً : هل يأمر الله بالفحشاء؟
قالــوا: القرآن ينسب إلى الله الأمر بالفاحشة في قوله: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ (الإسراء: 16)، ففهموا منه أن الآية تقول: الله أمر المترفين بالفسق، ثم عاقبهم على ذلك!
والجواب: لم يظهر في منطوق الآية صريحاً حقيقة ما أمر به الله ، فالآية تقول: ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾، ولا تحدد حقيقة المأمور به ولا تفصيله، لكن مفهوم الآية يدل على أن الله أمرهم بالطاعة ﴿ فَفَسَقُواْ فِيهَا ﴾ بعصيانهم له، فالفسق هو الخروج عن الطاعة.
قال ابن منظور: " ﴿ففسق عن أمر ربه﴾ خرج من طاعة ربه، والعرب تقول إذا خرجت الرطبة من قشرها: قد فسقت الرطبة من قشرها، وكأن الفأرة إنما سميت فويسقة لخروجها من جحرها على الناس ، والفسق الخروج عن الأمر وفسق عن أمر ربه أي خرج"([230]).
ومن هذا تبين أن فسقهم هو خروجهم عن أمر الله الذي أمرهم بالصالح ، فخرجوا عن أمره، والله عز وجل لا يأمر إلا بالصالح، ولا يدعو تبارك وتعالى إلى الفاحشة ولا إلى السيء من القول أو الفعل ﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَالله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف: 28).
رابعاً : هل يتحسر الله ؟
قالــوا: نسب القرآن إلى الله التحسر في قوله: ﴿ يَا حَسْـرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ (يس: 30)، والتحسر أشد الندم، فهل الله يتحسر؟
والجـواب: أن الآية لم تذكر مطلقاً صدور الحسرة من الله، بل تحكي تحسـر الكافرين على تكذيبهم الرسل وهم يلقون في النار، ولو كان التحسـر من الله ـ عياذاً بالله من هذا المعنى ـ فإن الله قادر على إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة؛ فهذا أولى له من التحسر الذي يصنعه من لا يملك حيلة ولا دفعاً لما يتحسر عليه.
وهذا المعنى فهمه مفسرو الإسلام ونقلوه عن التابعين، قال ابن كثير: "قال قتادة: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ : أي يا حسرة العباد على أنفسها على ما ضيعت من أمر الله، وفرطت في جنب الله ... ومعنى هذا: يا حسـرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله، وخالفوا أمر الله"([231]).
قال ابن عباس: ﴿ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ﴾ أي يا ويل العباد ([232]).
ويصدق هذا قول الله تعالى: ﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ (الزمر: 56)، فالمتحسر هو الكافر، لا الله عز وجل، فبطلت الشبهة واستبان الحق لمن ألقى السمع وهو شهيد.
والعجب أن كتب أصحاب هذه الشبهة لا تمل من كثرة نسبة التحسر والندم إلى الله تعالى، ومن ذلك أن الرب قال: "ندمتُ على أني جعلتُ شاول ملكاً، لأنه رجع من ورائي، ولم يقم كلامي " (صموئيل (1) 15/10)، وأنه رفع عن بني إسرائيل العذاب بيد أعدائهم "لأن الرب ندم من أجل أنينهم " ( القضاة 2/18 ).
خامساً : هل الكبر صفة محمودة؟
قالـوا: الكبر صفة مذمومة ينفر منها العقلاء، ومع ذلك فإن القرآن يصف الله ويسميه بالمتكبر في قوله: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (الحشر: 23).
والجـواب: بداية فإن الله عز وجل وصف نفسه وسماها في القرآن الكريم بأسماء وصفات الجمال والجلال ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾، فأي اسم من أسمائه يدل على غاية في الحسن والكمال، مما يليق بجلال الله وعظمته.
وهذا المعنى يلازم صفات الله، وإن دلت هذه الصفات على غير الكمال والجلال حين تضاف إلى العباد؛ فإن الاسم في إطلاقه على الله يتعالى عن كل معنى مشين.
وقد سمى الله تعالى نفسه بالمتكبر لتعاليه وتنزهه عن كل النقائص والمعايب، قال قتادة: "تكبر عن كلّ شر"([233]).
ولو تساءلنا عن معنى الكبر في لغة العرب؛ لوجدنا المرتضى الزبيدي يجيب بالقول: "الكِبر : الرفعة والشرف ... والتكبر والاستكبار : التعظم .. "، والله عز وجلَّ مستحق للرفعة والشرف والتعظم، بل له من ذلك أكمله وأتمه.
قال ابن الأثير: "المتكبر والكبير أي العظيم ذو الكبرياء، وقيل: المتعالي عن صفات الخلق، وقيل: المتكبر على عتاة خلقه .. والكبرياء العظمة والملك، وقيل هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلا الله تعالى"([234]).
وأما كِبر الإنسان فهو مذموم - بالجملة - إذا طلب فيه الإنسان ما لا يستحقه، فالناس سواسية، لا يتميز بعضهم على بعض إلا بقدر ما أنعم الله به على الواحد فيهم، فمن كان هذا حاله؛ فحقه المزيد من التواضع والصَّغار لله المنعِم، لا التباهي والكبر على عباد الله، يقول الزبيدي: " الكبر والتكبر والاستكبار متقاربة، فالكبر: حالة يتخصص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسه أكبر من غيره"([235])، فمثل هذا الكبر مذموم؛ لأن البشـر متساوون ، فتعظم يعضهم واستكبارهم على بعضهم غير مستحق، فلحق صاحبه الذم.
كما أن من كِبر العباد ما هو ممدوح؛ كاستكبارهم واستعلائهم عن الذنوب والدنايا والخسائس، فالعاقل يتكبر ويترفع على مواقعتها، وتكبره عليها غير مذموم.
ومن الكبر غير المذموم ما يقع طبيعة؛ كاستكبار الإنسان على غيره من الحيوانات، فيرى أنه أفضل منها وأعلى، وأنه أحق بالحياة منها، وأن حياة كثير منها رهن مصلحته وحاجته، وأنه الأحق بمنافع الكون المسخر له، فاستكباره عليها وتكبره بذبحها وإهدار مصالحها ليس بمذموم؛ لأنه حقه، فإذا كان كذلك؛ فتكبر الله المنعم على عباده أولى.
سادساً : هل الله لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها؟
قالوا: القرآن ينسب إلى الله أنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها، واستدلوا بآيات، منها قوله : ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ﴾ (الأنفال: 66)، وقوله: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ (البقرة: 143).
والجواب: أن القرآن نسب إلى الله العلم المطلق بكل شيء، فهو الذي يعلم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، والآيات القرآنية في هذا الصدد لا تكاد تحصى لكثرتها، منها قوله: ﴿ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: 231)، وقوله: ﴿ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ (آل عمران: 119)، وقوله: ﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ (النساء: 32).
وعلمُ الله أزلي، وقد كتب الله ما سيعمله العباد قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، يقول ﷺ : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»([236]) وفي حديث آخر : «وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض»([237]) فهذا النوع الأول من علم الله، وثبوته كاف في دفع الشبهة.
والنوع الثاني من العلم الإلهي هو علمه بوجود ما علمه أزلاً، أي عِلمه بحدوث أفعالنا التي كان يعلم أنها ستكون، فالله يعلم ذنب المذنب وطاعة المطيع قبل أن يخلق الخلق، ثم إذا أذنب العبد أو أطاع؛ علم الله تحقق الفعل ووجوده، فأثابه عليه بموجب فعله، فهذا نوع آخر من العلم ، يتصف به الله العليم الذي كان وما يزال عليماً.
وهو ما يفهمه المتأمل في آيات القرآن الكريم، ففي آيات سورة المائدة يخبر الله أنه يبتلي عباده بما حرم عليهم من الصيد ليعلم من يخافه بالغيب ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ﴾ (المائدة: 94)، فهذا علم الوجود للفعل وتحققه، وهو العلم الذي يحاسب الله الخلائق به، ولا يمنع هذا ولا يتعارض مع علم الله المطلق الذي أثبته السياق نفسه: ﴿ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (المائدة: 97).
ومثله في حديث الله عن المنافقين، فقد أخبر الله أنه يعلم ما في صدورهم، وأنه سيعلم أفعالهم التي تخبر بما في قلوبهم حين يفعلونها ﴿ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ` وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ (العنكبوت: 10-11).
ومثله قول الله تعالى: ﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ (آل عمران: 154)، فهو عليم بضمائرهم، واختباره لهم ليس لزيادة علمه تبارك وتعالى، بل ليتحقق ما علمه بفعل العباد، فيجازيهم بموجب هذا العلم ، أي بموجب علمِه بما عملوا.
وقد سمى العلماء هذا العلم "علم المشاهدة"، أي مشاهدة أو رؤية ما علمه الله أزلاً، ثم تحقق فرآه ، ومن المعلوم أن الرؤية والعلم يترادفان في بعض الإطلاقات، كما في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (المجادلة: 7)، ومعناه: ألم تعلم، لذا قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿ لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ﴾ (الجن: 28): "المعنى: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيباً"([238]).
وفي شرح قوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ﴾ (محمد: 31) يقول ابن الجوزي: "العلم الذي هو علم وجود ، وبه يقع الجزاء"([239]) .
وقال ابن تيمية: "عِلم الرب تبارك وتعالى لا يجوز أن يكون مستفاداً من شيء من الموجودات، فإن علمه من لوازم ذاته؛ فعلمُ العبد يفتقر إلى سبب يحدثه وإلى المعلوم الذي هو الرب تعالى أو بعض مخلوقاته، وعلم الرب لازم له من جهة أن نفسه مستلزمة للعلم والمعلوم: إما نفسه المقدسة وإما معلوماته التي علمها قبل خلقها ...".
ثم ذكر بعضاً من الآيات من جنس ما أورده الطاعنون في القرآن اليوم، وعقب بالقول: "هذا مع اتفاق سلف الأمة وأئمتها على أن الله عالم بما سيكون قبل أن يكون ، وقد نص الأئمة على أن من أنكر العلم القديم فهو كافر"([240]).
وهكذا تبين فساد هذا القول وبطلانه بالدليل والبرهان.
لكن العجب في هذه الأبطولة صدورها ممن في كتبه مثل هذه المعاني من غير أن يستنكرها، فقد جاء في سفر التكوين أن الله قال لإبراهيم: " لا تمد يدك إلى الغلام، ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني" (التكوين 22/12)، ومثله في سفر التثنية "وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر؛ لكي يُذلَّك ويجربك، ليعرف ما في قلبك؛ أتحفظ وصاياه أم لا؟" (التثنية 8/2)، أفما كان أولى بهم أن يحملوا نصوص القرآن على المعاني التي يحملون عليها ما جاء في كتبهم؟ لكنهم قوم مبطلون.
سابعاً : هل شكّ القرآن في عدد قوم يونس عليه السلام؟
قالــوا: شك القرآن في عدد قوم يونس حين قال: ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (الصافات: 147) ، وهذا الشك - الذي يفيده حرف (أو) - يمنع نسبة القرآن إلى الله العليم الذي لا يخفى عليه عدد قوم يونس ولا غيرهم.
والجـواب: الله بكل شيء عليم، ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما جهل المستشكل لهذه الآية لغة العرب، ذلك أن (أو) في لغة العرب تأتي على معاني([241])، فمنها ما هو للشك ، كقولنا: جاء محمد أو زيد، ومنها ما يفيد التخيير، كقولنا: تعال اليوم أو غداً، ومنها ما يأتي بمعنى (و) أو (بل)، وهما معنيان متقاربان، وهو موضع الشاهد، ويلزمنا فيه بعض التفصيل.
تفيد (أو) معنى الواو، وهو كثير في لغة العرب، كما في قول الشاعر توبة بن الحمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ لنفسي تقاها أو عليها فجورها
أي: وعليها فجورها.
ومثله قول أبي الأسود الدؤلي :
أُحب محمّداً حباً شديداً وعبـاساً وحمزة أو عليّـاً
ويريد أنه يحب حمزة وعلياً؛ لا أنه متردد في محبته بينهما.
ومثله قول جرير وهو يمدح الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز:
نال الخلافة أو كانت له قدَراً كما أتى ربَّه موسى على قدَر
أي: نال الخلافة وقد كانت له قدَراً.
وهذا الاستخدام الشائع عند العرب لحرف (أو) بمعنى الواو([242]) ورد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ (الإنسان: 24)، أي: ولا تطع آثماً وكفوراً ، وكذلك قوله: ﴿ عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ (المرسلات: 6)، أي: عذراً ونذراً، وقوله : ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 44)، أي: يتذكر ويخشى، وقوله : ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾ (طه: 113)، أي: يتقون ويحدث لهم ذكراً ، وقوله: ﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ (الأنعام: 146)، أي : وما اختلط بعظم.
وقد خرج العلماء قوله تعالى: ﴿أو يزيدون﴾ على هذا المعنى الشائع عند العرب، أي: بمعنى الواو، فالمعنى: أن الله أرسل يونس إلى مائة ألف ويزيدون ، ونُقل ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، كابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ، بل هو مروي عن النبي ﷺ ، فقد سأله أُبي بن كعب عن هذه الآية؟ فقال ﷺ: «عشرون ألفاً»([243])، أي: يزيدون عشرين ألفاً.
كما تأتي (أو) في لغة العرب بمعنى آخر قريب، وهو (بل) التي تفيد الإضراب الانتقالي كما أسماه إماما اللغة أبو علي الفارسي وابن جني، وغيرهما، واستشهدوا بقول جرير وهو يصف كثرة عياله :
ماذا ترى في عيال قد برَمْت بهم لـم أُحـصِ عـدتـهم إلا بـعَدَّاد
كانوا ثمـانين أو زادوا ثمـــانية لولا رجـاؤك قد قَتَّلْتُ أولادي
ومثله قول ذي الرمة:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمس في رَوْنَق الضُّحَى وصورتِها أو أنتِ في العين أَمْلَحُ([244])
وتفيد (بل) معنى زائداً على (الواو)، وهو إثبات المخبر عنه، ونفي ما زاد عنه، ومعناه في البيت الأول أنهم ثمان وثمانون، وليسوا أقل من ذلك، وفي الثاني أن جمالها ليس بأقل من قرن الشمس، بل هي أجمل منها.
وهذا المعنى الفصيح والبليغ لـ (أو) ورد في القرآن مراراً، ومنه قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ (البقرة: 74)، أي: بل هي أشد قسوة، وقوله : ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ (النساء: 77)، أي: بل أشد خشية، وقوله عن قرب النبي ﷺ من جبريل: ﴿ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ (النجم: 9)، أي: بل هو أدنى، وقوله: ﴿ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ (النحل: 77)، أي: بل هو أقرب، وقوله: ﴿ فَاذْكُرُواْ الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾ (البقرة: 200)، أي: بل أشد ذكراً.
لذا لما سأل عبد الله بن سلام النبي ﷺ : على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ أجابه ﷺ : «على واحدة أو اثنتين وسبعين فرقة، وأمتي أيضاً ستفترق مثلهم ، أو يزيدون واحدة ، كلها في النار إلا واحدة»([245]).
وقوله: «على واحدة أو اثنتين وسبعين فرقة»، ليس للشك، بل المعنى: واحدة وسبعون لليهود ، واثنتان وسبعون للنصارى، كما يفسـره ﷺ في حديث عوف بن مالك عنه: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة .. وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة».
وكذلك قوله ﷺ: «وأمتي أيضاً ستفترق مثلهم ، أو يزيدون واحدة»، معناه: بل يزيدون واحدة، كما في قوله في حديث عوف السالف: «والذي نفسـي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة »([246]).
ومال إلى هذا التوجيه ابن كثير بقوله في شرحه لآية سورة يونس: "أي: ليسوا أقل منها، بل هم مائة ألف حقيقة، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به، لا شك ولا تردد ، فإن هذا ممتنع هاهنا"([247]).
وهكذا فإن القرآن ينص على أن عدد قوم يونس عليه السلام قد جاوز المائة ألف، فاستبان الأمر وبطلت الشبهة ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ (الفرقان: 33).
***
الأنبياء رسل الله إلى خلقه من الجن والإنس، وهم صفوته منهم، وحملة رسالاته ووحيه إليهم، اختارهم الله واصطفاهم لهذه المهمة الشريفة من بين سائر عباده ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْـرِكُونَ ﴾ (النمل: 59)، فهم أبرُّ أهل الأرض ، وأكرمهم، وأجلهم، عصمهم الله من الكفر، ونزههم عن مقارفة الكبائر بتوفيقه وهدايته ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ (يوسف: 24)، فالرسول على قدر المرسِل.
لكنهم صلوات ربي وسلامه عليهم - رغم عصمة الله لهم من الكبائر والخسائس - فإنهم كسائر بني آدم، بشـر يصيبون ويخطئون، وينالهم ما يصيب غيرهم من عوارض البشرية، وقد قال ﷺ: «لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يحيى بن زكريا، ما هم بخطيئة». قال عبد الله بن عمرو راوي الحديث: أحسبه قال: «ولا عملها »([248])، وفي رواية ابن عباس، وفيها ضعف: «ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ ، أو هم بخطيئة ، ليس يحيى بن زكريا»([249])، فالحديث يفيد عصمة نبي الله يحيى دون سواه من الأنبياء عن الصغائر التي تجوز في حقهم، وكما قال ابن بطال فإن المسلمين "اختلفوا، هل يجوز وقوع الذنوب منهم؟ فأجمعت الأمة على أنهم معصومون في الرسالة، وأنه لا تقع منهم الكبائر.. وقال أهل السنة: جائز وقوع الصغائر من الأنبياء"([250]).
وقد ذكر القرآن الكريم وقوع بعض الأنبياء في صغائر الذنوب، وذكر استغفارهم الله وتوبتهم منها، ومنه قوله تعالى عن أبينا آدم: ﴿ وَعَصـَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى` ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ (طه:121- 122)، وقوله على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء: 82)، وقوله عن النبي ﷺ: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح: 2)، فهم بشر يخطئون، لكنهم - عليهم الصلاة والسلام- أعرف الناس بربهم، وأخوفهم له، وأسرعهم إليه توبة، وأقلهم مواقعة لمعصيته، فـ "الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم، ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم، وتنصلوا منها، واستغفروا منها وتابوا .. وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور [أي كانت نادرة]، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة"([251]).
وهذه الذنوب الصغائر يُغض عنها، فتطوى لندرتها ؛ فإنها تغور في بحور حسنات الأنبياء الذين سبقوا إلى الله بالعمل الصالح ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ (الأنبياء:90).
وإزاء هذا التصور الإسلامي لمقام النبوة تثور مفاهيم باطلة؛ يزعم أصحابها فيها أن القرآن أساء فيها إلى أنبياء الله الكرام، وانتقص من أقدارهم، والعجب كل العجب أن هذه الغيرة المزعومة على الأنبياء صدرت ممن تطفح كتبه بنسبة الكفر والكبائر من الذنوب والإثم إلى الأنبياء، ففي توراتهم التي يؤمن بها كل من اليهود والنصارى أن نوحاً عليه السلام سكر وظهرت عورته أمام أبنائه (انظر التكوين 9/25 - 26)، وأن لوطاً أسكرته ابنتاه، وضاجعتاه، وأنجبتا منه (انظر التكوين 19/30 - 37)، وأن هارون عليه السلام صنع العجل الذهبي لبني إسرائيل ليعبدوه من دون الله (انظر الخروج 32/2-4)، وأنه وأخاه موسى - عليهما السلام - خانا الله (انظر التثنية 32/51)، ولم يؤمنا به (انظر العدد 20/12).
ولا تخص التوراة النبي موسى بالأمر بقتل النساء والأطفال (انظر العدد 31/14 – 18)، بل تنسب هذا الفعل المريع الشنيع إلى وصيه النبي يوشع بن نون (انظر يشوع 6/20-24) ، وإلى نبي الله داود الذي تزعم الأسفار أنه لم يكتف بقتل النساء والأطفال، بل عمد إلى نشـر أعدائه الفلسطينيين بالمناشير، وحطم عظامهم بالفؤوس قبل أن يحرقهم في الأفران (انظر صموئيل (2) 12/31) و(الأيام (1) 20/3).
وقد نال هذا النبيَّ الكريم الأواب (داود)، وابنَه الحكيم سليمان النصيبُ الأكبر من الجرح والسوء، فيذكر سفر صموئيل أنه رقص حتى تكشفت عورته أمام عبيده (انظر صموئيل (2) 6/14 - 20)، وأنه قتل مائتين من الفلسطينيين، وقطع غُلُفهم ليقدمها مهراً لزوجته ميكال ابنة الملك شاول (انظر صموئيل (1) 18/27)، وأنه حين تولى الملك ضاجع زوجة قائده أوريا، فحبلت منه، فدفع زوجها إلى الموت ليستر على فعلته (انظر صموئيل (2) 11/2-26).
وأما ابنه النبي الحكيم سليمان ؛ ففي التوراة - التي يؤمن بها الطاعنون في القرآن الكريم - أن نساءه الوثنيات أملن قلبه إلى آلهتهن في شيخوخته ، فبنى معابد للأوثان ، لتُعبد فيها الأصنام من دون الله (انظر الملوك (1) 11/3-11).
وهكذا ، سلسلة طويلة لا تنتهي من الإساءات إلى أنبياء الله تمتلئ بها صفحات كتب الطاعنين في القرآن، الذي يقابلها جميعاً بقول الله للنبي ﷺ عن هؤلاء الأنبياء: ﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام:90).
ولكن صدور تلك الإساءات إلى الأنبياء في كتب الطاعنين لن يكون كافياً في الذَّبِّ عن القرآن الكريم، بل لابد من التعرض بالتفصيل والشـرح والبيان لحقيقة هذه الأباطيل.
أولاً: هل وقع آدم في الشرك؟
قالــوا: القرآن ينسب الشرك إلى الأنبياء، فقد نسبه إلى آدم بقوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ` فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشـْرِكُونَ ﴾ (الأعراف: 190)، واستدلوا لذلك بما أورده المفسرون من حديث سمرة المرفوع إلى النبي ﷺ: «ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث، فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره»([252])، قالوا: والحارث اسم الشيطان حين كان في الجنة.
والجـواب: القرآن يثني على آدم عليه السلام أعظم الثناء وأزكاه ﴿ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ (آل عمران: 33)، ويؤكد هدايته واصطفاء الله له بعد توبته من أكل الشجرة ﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ (طه: 122)، ولا يمكن لمن مدحه الله هذه المدحة أن يكون مشركاً بالله.
وأما ما ينقله المفسرون في كتبهم من روايات فيصدق فيها قول أبي حيان الأندلسي: "وذكروا في ذلك محاورات جرت بين إبليس وآدم وحواء لم تثبت في قرآن ولا حديث صحيح فأطرحت ذكرها"([253])، وبمثل هذا يتشبث المنصفون في كل عصر وحين.
وقد أطبق العلماء على ضعف حديث سمرة الذي فيه أمر الشيطان لآدم بتسمية ابنه عبد الحارث، لأن في سنده الحسن يرويه عن سمرة بصيغة العنعنة، وهو مدلس، فلا تقبل روايته إلا إذا صرح بالتحديث، قال الذهبي: "كان الحسن كثير التدليس ، فإذا قال في حديث : عن فلان ، ضعف احتجاجه"([254]).
قال البيهقي: "أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن البصـري من سمرة في غير حديث العقيقة"([255]).
ولذلك حكم الألباني بضعف الحديث، وقال: " ضعيف .. وأعله ابن عدي في "الكامل" بتفرد عمر بن إبراهيم، وقال: وحديثه عن قتادة مضطرب"([256])، واستدل لتضعيفه بما نقله ابن كثير من تفسير الحسن للآية، فقد جاء تفسيره مخالفاً للمروي عنه في هذا الأثر: "قال [أي الحسن]: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم ..عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده"، فقوله هذا مبطل لما روي عنه.
ثم عقب ابن كثير بقوله: " وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رحمه الله، أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله ﷺ، لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب، من آمن منهم، مثل: كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما"([257]).
ولو فرضنا جدلاً صحة القصة التي تنسب إلى آدم ؛ فإن غاية ما تذكره القصة أن آدم وقع في شرك التسمية؛ حين سمي الولد "عبد الحارث"، ولكنه لم يقع في شرك العبادة، وبين النوعين فرق كبير، قال قتادة: "فأشركا في الاسم . ولم يشركا في العبادة "([258]).
وقال القرطبي في شرحه: "قال المفسرون: كان شركاً في التسمية والصفة، لا في العبادة والربوبية .. إنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد، فسمياه به، كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا على أن الضيف ربه، كما قال حاتم طيء:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً وما فيَّ إلا تيك من شيم العبد "([259]).
وبالعود إلى الآية المستشكلة في معناها فإن من العلماء من يرى أنها تتحدث إلى قريش، وأن الله خلقهم من نفس واحدة هي نفس أبيهم قصي بن كلاب، وأنها تعنفهم على ما وقعوا فيه من الشرك بعد ذلك([260]).
ولكن جمهور المفسرين يرون أن قوله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ مقصود به آدم وزوجه، ثم انتقلت الآية للحديث عن ذريته وما وقعوا فيه من الشـرك بالأصنام، وهذا التفسير مشهور عند العلماء ، نقله المفسـرون ومنهم ابن عجيبة بقوله: "﴿فلما آتاهما﴾ ولداً ﴿ صَالِحاً﴾ كما سألا ، جعل أولادُهما ﴿ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا﴾، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار . فالآية إخبار بالغيب في أحوال بني آدم ممن كفر منهم وأشرك ، ولا يصح في آدم وحواء هذا الشـرك؛ لعصمة الأنبياء ، وهذا هو الصحيح. وقد يُعاتبُ المِلكُ الأب على ما فعل أولادهُ ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له: أولادك فعلوا وفعلوا ، على عادة الملوك"([261]).
وهذا المعنى للآية منقول عن جملة من التابعين، منهم عكرمة القائل: "لم يخص بها آدم، ولكن جعلها عامة لجميع الناس بعد آدم"([262])، ومنهم الحسن البصري الذي يقول: "كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم"، وكان يقول: "هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولاداً فهوّدوا ونصروا"([263]).
ويرى المفسـرون ومنهم البغوي في تفسيره أن في الآية محذوفاً في قوله: ﴿جعلا له﴾ : "راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم .. أي : جعل أولادهما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم؛ كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال : ﴿ثُمَّ اتخذتم العجل﴾ (البقرة: 51)، ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً﴾ (البقرة: 72 )، خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي ﷺ ، وكان ذلك الفعل من آبائهم"([264]).
والالتفات في الخطاب من آدم إلى بنيه من غير التنبيه على فصل في الحديث معهود في القرآن، وأمثلته كثيرة، ذكر السيوطي بعضها بعد أن نقل الآثار السابقة وغيرها من تفسير ابن أبي حاتم([265]).
ومن صوره ما جاء في قصة آدم ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ` وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ (طه: 123-124)، فالحديث في أول الآية موضوعه آدم وحواء ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً ﴾، ثم انتقل بلا فصل للحديث عن ذريته ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾.
ومما يشهد لصحة هذا التأويل (الانتقال في الخطاب إلى بني آدم) ويدل عليه قوله تعالى في آخر السياق: ﴿ فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ` أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ (الأعراف: 191) وما بعدها ، فقد انتقل من الحديث عن الاثنين (آدم وحواء) إلى الحديث عن الجمع (ذريته).
والسياق أيضاً بيِّن وواضح في أن المقصود من الشـرك عبادة الأصنام؛ لا عبادة الشيطان المذكورة في قصة آدم ﴿ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصـْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ` وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ` إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (الأعراف: 192-194)، فهذا كله في عبادة الأصنام لا الشياطين.
ويدل عليه أيضاً قوله: ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ ﴾، فقوله ﴿مَا﴾ يبين أن المتحدث عنه مما لا يعقل، وهو الأصنام، ولو كان المتحدث عنه الشيطان لقال: (أيشركون من لا يخلق) ([266]).
ويدل على صحة هذا التأويل أيضاً أن آدم في حديث الحشـر يعتذر عن الشفاعة يوم القيامة متذرعاً بذكر ذنبه الأكبر، فيقول: «ربي غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفـسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح»([267])، فلو كان آدم وقع في الشـرك لذكره في هذا الموطن، فهو أعظم من الأكل من الشجرة، وهو أدعى للاعتذار عنه في موطن الخوف والإقرار والبراءة من الذنب، ومحال أن يعتذر آدم عن الصغير ويغفل الكبير، فدل ذلك كله على براءة آدم من الوقوع في الشرك.
ثانياً: هل شك إبراهيم عليه السلام؟
قالــوا: القرآن أساء إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، حين اتهمه بالشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُـرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (البقرة: 260).
كما نقل عنه أنه قال بربوبية الشمس والقمر: ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ` فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ ﴾ (الأنعام: 77-78).
والجواب: أن إبراهيم عليه السلام - حسب القرآن - هو المثال الأعلى للمؤمنين ، فقد اصطفاه الله ﴿ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ (آل عمران: 33)، وأمر جل وعزَّ بالتزام دينه ﴿ قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْـرِكِينَ ﴾ (آل عمران: 95)، فدينه أحسن الأديان ، وهو خليل الله ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ (النساء: 125) ، كما أمر القرآن بالتأسي به ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ﴾ (الممتحنة: 4)، ففي هذه الآيات وغيرها من بيان فضل إبراهيم الخليل ما يقطع قول كل خطيب.
وأما الشك في الإيمان فهو منفي عن إبراهيم الخليل ﷺ، بدليل قوله تعالى : ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ (البقرة: 260) ، فقد آمن عليه الصلاة والسلام بقدرة الله على الإحياء، وانعقد قلبه على ذلك، وسؤاله لرؤية عملية الخلق فعل حسن أراد أن يترقى به في معارج الإيمان؛ بالانتقال من حال علم اليقين ، وهي حالة ذهنية متيقنة إلى حال عين اليقين، أي مشاهدته، فسؤاله طلب ليقين بعد يقين.
وقد نفى ﷺ الشك عن إبراهيم بقوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»([268])، أي أنه منزه عنه كتنزيه النبي ﷺ عنه.
وأما قول الخليل عن الشمس والقمر أنها ربه؛ فكان من باب تبكيت الخصم وإقامة الحجة عليهم، فقد يقول المجادل ما لا يعتقده في إقامة الحجة والبرهان على مجادله ومناظره ، قال الرازي: "هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه".
وقوله عليه السلام عن الشمس والقمر والكوكب: ﴿ هَـذَا رَبِّي ﴾ إنما هو نوع من التدرج في إبطال ربوبيتها بدليل قوله تعالى في السياق: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ (الأنعام: 82).
وقد ذكر الرازي وجوهاً في توجيه قول إبراهيم عليه السلام منها " أنه ﷺ أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب، إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبُعد طباعهم عن قبول الدلائل؛ أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه، فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة، وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب، مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله، وتمام التقرير أنه لما لم يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق، وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر"([269]).
وقال ابن تيمية: " قاله على سبيل التقرير، لتقريع قومه أو على سبيل الاستدلال والترقي"([270])، وقال ابن القيم: "قيل: إنها على وجه إقامة الحجة على قومه، فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول، ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصاً آفلاً "([271])، فكل أحد يعلم أن الشمس ستغيب آخر النهار وكذلك الكوكب، وقوله: ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ (الأنعام: 76)، ليس لطروء علم جديد على إبراهيم، بل لتبكيت المشـركين عبدة الشمس والكواكب بعد إظهار الموافقة على سبيل الجدل والتنزل مع المخالف.
والعودة الفاحصة للآيات تكشف لكل حصيف ما تتضمنه الآيات من تعظيم إبراهيم لله عز وجل دون سواه: ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ` فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْـرِكُونَ ` إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ` وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْـرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ` وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ` الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ` وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ (الأنعام 77 -83).
ثالثاً: هل شك يونس عليه السلام في قدرة الله؟
قالوا: القرآن يتهم النبي يونس بأنه شك في قدرة الله ، وهذا كفر، فحين أرسله الله إلى أهل نينوى لم يذهب إليهم، وذهب إلى البحر ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنبياء: 87).
والجواب: أن القارئ لن يجد كتاباً عند أمة من الأمم يعظم الأنبياء كما عظمهم القرآن الكريم، فهو الكتاب الوحيد الذي ينزه الأنبياء عن الكبائر والنقائص، فضلاً عن الكفر والشرك بالله تعالى.
وقد فضل الله يونس مع إخوانه الأنبياء على العالمين: ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ (الأنعام: 86).
وإنما أُتي القائل لهذه الشبهة من سوء فهمه للآية، فليس مقصودها أن يونس ظن أنه معجز الله بهربه، بل المعنى أنه ظن أن الله لن يقدر عليه، أي لن يضيق عليه ويلومه في ترك قومه حين لم يستجيبوا لدعوته ، فهي كقول الله تعالى: ﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله ﴾ (الطلاق: 7) أي ضُيِّق عليه، ومثله قوله تعالى: ﴿الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ ﴾ (الرعد: 26)، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس t وعن غيره من التابعين([272]).
وحفاظاً على منزلة يونس بن متى في قلوب المؤمنين نهى النبي ﷺ عن تفضيل المرء نفسه على هذا النبي الكريم: «لا ينبغي لعبد أن يقول إنه خير من يونس بن متى»([273])، وفي رواية: «من قال: أنا خير من يونس بن متى؛ فقد كذب»([274])، فثبت بذلك براءة القرآن من فرية الإساءة إلى يونس عليه السلام.
رابعاً: همُّ يوسف عليه السلام
قالــوا: نسب القرآن إلى الصديق يوسف عليه السلام الهمَّ في الخطيئة مع زوجة العزيز ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ (يوسف: 24)، وقالوا: تمتلئ كتب التفسير بصور مشينة لهذا الهمِّ الفاسد الذي لا يليق بنبي كريم.
والجـواب: لو قرأ الطاعنون في القرآن تمام الآية المستشكَلة لأدركوا منزلة يوسف الصديق وعصمة الله إياه من الذنب: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ (يوسف: 24 ).
وقد شهدت امرأة العزيز له بالخيرية والعصمة بقولها: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ (يوسف: 32).
ولئن همَّت امرأة العزيز بالفاحشة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهمُّ أصلاً؛ وهذا منطوق الآية لمن فهم لغة العرب وطرائقهم في البيان، فالآية تثبت لامرأة العزيز الهمَّ ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾، لكنها تنفي الهمَّ بالمعصية عن الصديق يوسف ﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾، و (لولا) عند العرب تفيد امتناعاً لوجود ، أي لم يحصل الفعل لوجود ما منعه، فلم يتحقق الهمّ بالخطيئة لأنه رأى برهان ربه.
قال أبو حاتم : "كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن ، فلما أتيت على ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ قال: هذا على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها"([275]).
ومثله في قول الله تعالى عن أم موسى: ﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ (القصص: 10)، فهي لم تبد لهم بحقيقة أمومتها لموسى؛ لأن الله ربط على قلبها، وكذلك لم يهم يوسف بالمعصية لأنه رأى برهان ربه.
ومثله أيضاً في قول الله لنبيه ﷺ: ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾ (الإسراء: 74)، فالركون لم يقع منه ﷺ لوجود التثبيت من الله ، وكذلك الهمُّ لم يقع من يوسف عليه السلام لوجود برهان الله أي تثبيته وعصمته.
ومثله في كلام الناس معروف: لقد رسبتُ لولا أني درست، فهو يفيد – في ذهن السامع- النجاح لا الرسوب، وأن ذلك سببه الدراسة.
قال أبو حيان: "والذي أختاره: أن يوسف عليه السلام لم يقع منه همّ بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله .. ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة ، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين"([276]).
ثم لو فرضنا وقوع الهمِّ بالفاحشة من الصديق يوسف؛ فإن الهمَّ في لغة العرب حديث النفس بمواقعة أمر، فإن كان الهمُّ في أمر حسن فهو حسن، وإن كان في أمر سوء لم يكن سوءاً إلا بترقي الهمِّ إلى العزم أو الفعل([277]) ، وإلا كان تركه لله سبباً في اكتساب الحسنات والمنزلة عند الله ، يقول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه؛ حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشـر أمثالها إلى سبع مائة ضعف»([278])، فلو وقع همٌّ بالسوء من يوسف فهو له حسنة، لأنه لم يترقَ إلى فعل، فقد تركه لله وخوفاً منه «وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة».
وأخيراً فإن ما ورد في بعض كتب التفسير من أقوال في همِّ يوسف لم يصح منه شيء عن النبي ﷺ، وهي ومثلها من الإسرائيليات كثير في كتبهم التي لم تخلُ من أساطير أهل الكتاب وحكاياتهم؛ الغث منها والسمين، ورحم الله أبا حيان الأندلسي فقد أصاب وأجاد في قوله: "طوَّل المفسرون في تفسير هذين الهمَّين ، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق .. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين ، فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة .. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره ، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات"([279]).
وأما الشيخ ابن تيمية، فيرى أن هذه القصص المكذوبة المروية في كتب المسلمين من مرويات وقصص أهل الكتاب "وما ينقل من أنه حلَّ سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة ، وأنه رأى صورة يعقوب عاضّاً على يده وأمثال ذلك، فهو مما لم يخبر اللهُ به ولا رسولُه، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء، وقدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا ﷺ حرفاً واحداً"([280]).
وهكذا يستبين لكل منصف براءة القرآن من المعاني الباطلة التي حاكها الأفاكون بجهلهم أو بتعاميهم عن معاني الآيات القرآنية التي تعتبر هؤلاء الأنبياء خيرة الله في أرضه، كيف لا! وهم رسل الله الأطهار ﴿ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ (ص: 47).
***
أولاً : قصة الغرانيق
قالــوا: النبي [ﷺ] يعرض له الشيطان كما يعرض لغيره من الناس، فيختلط عليه القرآن بغيره، واستدلوا لهذه الفرية بقصة الغرانيق التي أوردها المفسرون في سياق تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الحج: 52).
والقصة - كما ذكرها المفسرون - تتلخص في أن النبي ﷺ كان في مجلس قريش، فنزلت عليه سورة النجم، فقرأها على المشركين حتى إذا بلغ قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ` وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ (النجم: 19-20)، فألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهن لتُرتَجى).
ففرحت قريش، وسجدوا مع النبي ﷺ في آخرها، وقالوا: لقد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ([281]).
والجـواب: أول ما يجدر التنبيه عليه أن ورود هذه الروايات في كتب المفسرين أو قصاص السير لا يعني صحتها ولا توثيقها بحال من الأحوال، وقد نبه على ذلك غير واحد من العلماء، ومنهم الطبري في تاريخه بقوله: "ما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أُتِي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِي إلينا"([282])، ومثله قول الكمال ابن الهُمام: "كتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة"([283]).
وممن أورد هذه القصة ابن إسحاق في سيرته، مع اعتقاده ببطلانها، وعنه نقلها من نقل، يقول أبو حيان: "سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال: هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتاباً"([284]) ، فإيراده رحمه الله هذه الروايات في كتابه ليس توثيقاً لها، بل هو على عادة قصاص السير في ترك التحري في أخبار السير وقصصها.
وإن قصة الغرانيق من أضعف ما رواه المفسـرون في تفاسيرهم ، فجميع أسانيدها ضعيفة أو منقطعة، وهي في جملتها موقوفة على جماعة من التابعين الذين لم يشهدوا القصة، ولم يرووها عمن حضـرها من الصحابة، فهي موقوفة على التابعين سعيد بن جبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي العالية.
ولم تتصل أسانيد هذه القصة إلى الصحابة إلا فيما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس([285]) ، وما رواه البزار من طريق أمية بن خالد بإسناده إلى ابن عباس مع تنبيهه إلى شك الراوي في رفعها إلى ابن عباس، فقال: "عن ابن عباس فيما أحسب"، وهذا كما قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير"([286]). فهذا يؤكد الشك في الرواية المرفوعة المسندة بإسناد مقبول.
ويجدر بالذكر أن البخاري ذكر في صحيحه من رواية ابن عباس قصة سجود المشركين ولم يذكر شيئاً عن موضوع الغرانيق([287])، ومثله في رواية أبي داود عن ابن مسعود، وكذلك رواية أحمد عن المطلب بن أبي وداعة السهمي، وكان ممن حضر يومئذ مع المشركين ([288]).
وقد رد المحققون من أهل العلم قصة الغرانيق، وبالغوا في التحذير من روايتها وبيان ضعفها، قال ابن كثير: "لم أرها مسندة من وجه صحيح"، وقال: "وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، وكلها مرسلات ومنقطعات ".
وقال ابن خزيمة: "إنها من وضع الزنادقة".
وقال أبو حيان الأندلسي: "قال البيهقي: هي غير ثابتة من جهة النقل، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثة شيء مما ذكروه فوجب اطّراحه. ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه".
وأما القرطبي فقال: "وضعف الحديث مُغنٍ عن كل تأويل".
وكذلك ضعفها ابن حزم بقوله: "والحديث الذي فيه: وإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى. فكذب بحت لم يصلح من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد" ([289]).
وقال القاضي عياض: " هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم" ([290]).
قال الرازي: "وأما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة وموضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول"([291]).
وإضافة إلى الضعف الذي يكتنف سند القصة؛ فإن في متونها من التناقض والخلل ما يكفي لردها وإبطال الشبهة المثارة من خلالها، ومن ذلك:
1- ما نبه العلماء عليه من تعارض روايات قصة الغرانيق الضعيفة وغير المتصلة بالإسناد إلى من حضر الواقعة، يقول القاضي بكر بن العلاء المالكي: "لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول قالها وقد أصابته سِنة، وآخر يقول: بل حدث نفسه فيها، وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبي ﷺ لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي ﷺ قرأها، فلما بلغ النبي ﷺ ذلك قال: والله ما هكذا نزلت، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة" ([292]).
قال الباقلاني: "وهذا الخبر من أخبار الآحاد، مضطرب الرواية، مختلف الألفاظ"([293]).
2- أن العرب لا تطلق كلمة (الغرنوق) على الأصنام، بل هو اسم لطائر مائي أبيض أو أسود، وفي ذلك يقول الأصمعي:
يظلّ تغنّيه الغرانيق فوقه آباء وغيلٌ فوقه متآصر([294])
ومثله قول ابن السكيت: الغرانيق: طير مثل الكراكي، الواحد غرنوق، وأنشد:
أو طعم غاديةٍ في جَوفِ ذِى حَدَبٍ من ساكن المُزْن يجري في الغَرَانيق([295])
ومن معاني الغرنوق المذكورة في قواميس العرب: الشاب الأبيض الناعم ، ومنه قول الليث :
ألا إنَّ تَطْــلاَبِي لمثـــلك زَلــةٌ وقد فات ريعانُ الشباب الغُرانِقِ
كما يطلق في لغة العرب أيضاً على النبات اللين([296]).
ولا تشابه بين سائر هذه المعاني العربية والأصنام، وغاية ما وجدته في هذا الصدد ما نقله الزبيدي بصيغة التمريض والتضعيف، وهو قوله: "وقيل: هو الكركي، شبهت الأصنام بالطيور التي تعلو وترتفع في السماء على حسب زعمهم" ([297]).
ونقل المفسرون عن الحسن أن المقصود بالغرانيق العلى؛ الملائكة المرتفعة في السماء ، وهؤلاء ترتجى شفاعتهم، إذ هم ممن أذن الله لهم في الشفاعة ، كما جاء في السياق القرآني في سورة النجم في قوله تعالى: ﴿وكم من ملكٍ في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ (النجم: 26).
3- أن السياق القرآني في سورة النجم التي ذكروا أن هذه الكلمات ألقيت على النبي ﷺ فيها يندد بأصنام المشركين ومعبوداتهم ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ` وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ` أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ` تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ` إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ (النجم: 19-23)، فلو كان النبي ﷺ نطق بتلك الكلمات فإن في السياق ما يبين براءته من الأصنام وكفره بها، فلو كان المشركون سمعوا من النبي ﷺ مدحاً لأصنامهم وهو يقرأ آيات سورة النجم المشنعة على هذه المعبودات الباطلة لقالوا له: ما بالك تشتم آلهتنا وتذكر أنها معبودات باطلة نعبدها نحن وآباؤنا من غير سلطان من الله، ثم أنت تقول: شفاعتهن ترتجى! لكن شيئاً من ذلك لم يكن، لأن القصة مختلقة وغير صحيحة.
يقول ابن كثير: " استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي ﷺ ولا من بحضـرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه" ([298]).
4- لا علاقة بين أسطورة الغرانيق المكية وآيات سورة الحج المدنية، والتي ورد فيها قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الحج: 52)، فقد ربط بينهما من وصفهم القاضي عياض بأنهم "المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم" ([299]).
ولو أغمضنا الطرف عن مدنية سورة الحج ومباينتها للأسطورة المكية؛ فإن في تمام آيات سورة الحج ما يرد على القادحين بوحي القرآن، ففي تمام الآية السابقة أن الله يحفظ آياته ويحكمها؛ وأنه يبطل عنها ما يلقيه الشيطان ﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الحج: 52)، فبإحكام الله لآياته يزول كل لبس وتنجلي كل شبهة إلا عند أصحاب القلوب المريضة الذين تصور الآيات افتتانهم بهذا الذي ألقاه الشيطان وأبطله الله ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ` وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (الحج: 53-54).
5- تتعارض روايات الغرانيق مع عصمة الله أنبياءه عليهم السلام من تسلط الشيطان عليهم وتخليط باطله بالوحي المنزل إليهم، فالله يثبت أنبياءه عليهم السلام ويمنعهم مما يعرض لغيرهم من عوارض الضعف البشـري الذي يخل بمنصب النبوة والرسالة، ومن مثل ذلك قول الله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ` إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾ (الإسراء: 73-75)، فتثبيت الله تعالى له نفى عنه المقاربة والميل إلى الكافرين.
وقد امتن الله على نبيه ﷺ بهذه العصمة الإلهية، فهي بعض فضل الله عليه ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ (النساء: 113).
يقول ابن كثير: "قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته ﷺ ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي ﷺ أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه ﷺ ، أو يقول ذلك النبي ﷺ من قبل نفسه عمداً - وذلك كفر - أو سهواً ، وهو معصوم من هذا كله" ([300]).
وثمة سؤال يطرح نفسه : إذا بطلت قصة الغرانيق وظهر خطأ المعنى الذي تداوله المفسرون فما معنى الآية التي في سورة الحج ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (الحج: 52)؟.
وفي الإجابة نقول: إن معنى الآية يدور على فهم معنى قوله تعالى: ﴿إذا تمنى﴾، وقد ذكر جمهور المفسرين أنه بمعنى (قرأ) أو (تلا)، وهذا التأول للتمني بمعنى التلاوة جائز من الناحية اللغوية، ويتساوق مع روايات الغرانيق الضعيفة التي أوردوها في كتبهم، وقد يشهد له قوله: ﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾.
لكن المعنى الذي اختاره جماعة من المحققين أن قوله: ﴿إِذَا تَمَنَّى﴾ على ظاهره، من الأمنية كما ذهب إليه الفراء والكسائي وغيرهما([301]).
قال الرازي بعد أن ذكر ارتباط معنى التمني بالتلاوة بسبب روايات الغرانيق الباطلة: "وأما إذا فسـرناها [أي قوله: ﴿إِذَا تَمَنَّى ﴾] بالخاطر وتمني القلب؛ فالمعنى أن النبي ﷺ متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور؛ يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي؛ ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته" ([302]).
ثانياً : سحر النبي ﷺ
قالــوا: تعرض النبي [ﷺ] للسحر، وهذا يلقي بظلال الشك على ما أتى به من أخبار، إذ قد يكون بعض ما يقرأه على أنه من القرآن إنما هو من تأثير السحر، وهذا يوجب الشك في كل القرآن.
وقالــوا: إن سحر النبي يدل على تسلط الشيطان عليه، وهذا يقدح في أهلية الرسول لحمل الرسالة الإلهية، فالقرآن يجزم أن الشيطان لا يتسلط إلا على أوليائه: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ (النحل: 99-100).
وفي الجواب نقول: إن الأنبياء بشر ، يعرض لهم ما يعرض لسائر البشر من مرض وهم وحزن وغضب وابتلاء وقتل، ولا يمتازون عنهم إلا بما خصهم الله من الوحي وما يستلزمه ذلك من تأييد بالحجة والبرهان ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ (فصلت: 6).
وقد تعرض الأنبياء لصنوف البلاء التي صبها عليهم شياطين الإنس والجن ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ (الأنعام: 112)، لكن هذا التسلط الشيطاني لم يجاوز أجسادهم، ولم يصل - لعصمة الله لهم- إلى أرواحهم؛ لأنهم أولياء الله تبارك وتعالى يصدق فيهم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ (الحجر: 42)، فلم يقع منهم كبير ذنب ولا قبيحه، لأنهم رسل الله، والرسول على قدر المرسِل.
ووفق هذا المبدأ يرفض المسلمون ما تطفح به كتب أهل الكتاب من اتهام الأنبياء بالزنا أو السكر أو عبادة الأصنام ، فهذا كله إنما يقع بتسلط الشيطان، وهم معصومون منه بقوة الله وحفظه.
وكذلك كان نبينا ﷺ ، فلم يتسلط شيطان عليه، ولم تقع منه القبائح قبل السحر ولا بعده، وغاية الأمر في حادثة سحره ﷺ أن الشيطان آذاه في جسده، كما تؤذيه – وإخوانه الأنبياء- شياطينُ الإنس، بل والجراثيم ، فيصاب بالأمراض والأذى وغيرهما من العوارض التي لا يسلم منها بشر، لكن ذلك لا يخلُّ - بحال من الأحوال – بأهليته للرسالة وعصمته عن الخطأ في البلاغ عن الله، فما ينقله النبي ﷺ عن ربه ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ` إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3-4).
ولهذا كان عبد الله بن عمرو يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله ﷺ ليحفظه، فنهته قريش، وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله ﷺ بشـر يتكلم في الغضب والرضا؟ يقول عبد الله: فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ، فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: "اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق"([303])، فهو ﷺ معصوم في كل أحواله من الزلل والغلط.
والسحر على أنواع بعضها دون بعض، ومن أنواعه سحر التخييل، حيث يتخيل المسحور أنه فعل شيئاً من غير أن يكون قد فعله حقيقة، كما وقع لموسى عليه السلام حين ألقى سحرة فرعون حبالهم وعصيهم ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ (طه: 66).
وهذا النوع من السحر هو ما أصاب النبي ﷺ حين سُحر، وقد انحصر أثره في علاقة النبي ﷺ الجسدية مع أزواجه، فكان يخيل إليه أنه يجامع نساءه من غير أن يكون ذلك حقيقة ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (مكث النبي ﷺ كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله، ولا يأتي) ([304])، قال القاضي عياض: "فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه؛ لا على تمييزه ومعتقده" ([305]).
ويجدر التنبيه هنا إلى أنه لا يلزم من تخيله ﷺ أنه فعل الشـيء الذي لم يفعله أن يجزم بتخييله ذاك، فقد يكون تخييله من جنس الخاطر الذي يخطر على باله ولا يثبت([306])، وهو أمر قد يحصل لأي أحد من غير سحر ولا نفث عقد.
وقد اعتبرت الملائكة ما أصاب النبي ﷺ من السحر من جنس المرض الذي يصيب الأنبياء وغيرهم، فقال «أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟» فاعتبراه مريضاً، وكذلك اعتبره النبيُّ ﷺ، فقد قال في آخر الحديث: « فأما أنا فقد شفاني الله»([307])، وفي رواية: «إن الله أنبأني بمرضي»، وكذلك ورد في حديث عائشة قولُها: (فكان يدور ولا يدري ما وجعه)([308])، وقال ابن عباس: (مرض النبي ﷺ، وأُُخذ عن النساء والطعام والشراب)([309]) .
وفي قصة سحره ﷺ فوائد، منها: قطع ذرائع الغلو في شخصه ﷺ، والإيمان أنه بشر كسائر البشر ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ (الإسراء: 93).
ومنها الدلالة على نبوته ﷺ ([310]) ، فقد قالت أخت الساحر لبيد: "إن يكن نبياً فسيُخبر ، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله"([311]) ، وقد كانت الأُولى حين أخبر، ثم شفي لما أنزل الله عليه المعوذتين.
ثالثاً : هل النبي ﷺ مصاب بالصرع؟
قالــوا: النبي ﷺ مصاب بالصرع، وهذا الذي يأتيه فيزعم أنه من الوحي إنما هو بعض آثار هذا المرض، واحتجوا لذلك بما كان يرافق النبي ﷺ من أحوال غير معتادة ، وقعت له ﷺ بسبب ثقل الوحي عليه.
والجـواب: لكم يعجب المرء لهذه الأُبطولة، فلئن أنكر القوم نبوته ﷺ أفتراهم ينكرون أنه غيَّر واقع العرب من قبائل متناحرة ؛ لاحظ لها بالعلم والمعرفة والمدنية فأقام منهم أمة قادت الحضارة الإنسانية ثمانية قرون!؟ أم تراهم ينكرون ما قدمه ﷺ من إصلاح اجتماعي وأخلاقي جعل المسلمين أفضل الأمم أخلاقاً وأحسنهم أوضاعاً من الناحية الاجتماعية!؟ أفيصنع هذا مريض بالصرع يحتاج من يعينه على تدبر أمره وإصلاح حاجاته الشخصية!؟ ﴿ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ (النساء: 78).
لقد صدق المستشرق نورمان في شهادته التي تنبئ عن عقل ودراية بأحوال الأمم وتطور الشعوب، حيث يقول: "لو كان محمد يعاني منذ طفولته من مرض عضال حقاً، لما تخلى عن تلك الذريعة أبداً، بل من غير المعقول أن ينجز رجل مريض ما أنجز محمد، فقد كان تاجراً موهوباً هادئ الطبع، وقراراته عادة ما تصدر عن غريزة سياسية ذكية متبصرة .. وكان قائداً بعيد النظر للدولة ولمجتمع ديني نامٍ على حد سواء، وهذه كلها تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان سليماً معافى .. والذين يقولون بهذا الكلام لم يحلُّوا المشكلة بقدر ما زادوها تعقيداً، ويجب أن يساورنا الشك مستقبلاً في إمكانية أي ظاهرة خلل في سلوك محمد"([312]).
ويقول المستشرق الألماني الطبيب ماكس مايرهوف: "أراد بعضهم أن يرى في محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبي أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شيء يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول"([313]).
ثم إن الصرع مرض معروفة أعراضه ، كاصفرار الوجه، وذهول العقل، وغياب الذاكرة، وارتعاش الجسد ، وفقدان السيطرة على الجسم، وغالباً ما يصحبه تقيؤ وإفرازات لعابية، وقد يصحبه تبول لا إرادي، وغير ذلك مما نعرفه من أحوال المصروعين، فهل كان شأنه ﷺ حال الوحي كحال المصروعين؟
للوقوف على جواب السؤال ومعرفة حقيقة ما يرافق الوحي من أحوال؛ فإننا يمكننا رصد عدة مظاهر:
1- يُسمع صوت أزيز بجوار أذنه، ثم ينفصل عنه وقد وعى ما أوحي إليه، يقول ﷺ : «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال»([314])، ويقول عمر بن الخطاب t : (كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل)([315]).
2- يصيبه تعرق شديد حتى في الليلة الباردة، تقول عائشة: (فلقد رأيت رسول الله ﷺ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه؛ وإن جبينه ليتفصد عرقاً) ([316]).
3- تغشاه السكينة ويطرِق برأسه إلى الأرض ، فأما غشيان السكينة عليه فيخبر به زيد بن ثابت بقوله: (إني قاعد إلى جنب النبي ﷺ يوماً إذ أوحي إليه، وغشيته السكينة، ووقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة) ([317]).
وأما إطراقه إلى الأرض ففي قول ابن عباس: (كان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله)([318])، أي وعده الله أن يمكنه في قلبه ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ` إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ (القيامة: 16-17)، ويقول عبادة بن الصامت: (كان النبي ﷺ إذا أنزل عليه الوحي؛ نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم)([319]).
4- يحمر وجهه كأنه غضب، ففي حديث عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله ﷺ إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك، وتربد وجهه)([320]) أي تغير لونه، وفي حديث يعلى بن أمية: فإذا النبي ﷺ محمر الوجه كذلك ساعة، ثم سري عنه) ([321]).
ولما ذكرت أم المؤمنين عائشة غضب رسول الله ﷺ ، قالت: (فتمعر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي) ([322]).
5- يسمع له ﷺ غطيط ، فإذا سري عنه أخبر بما أوحي إليه، يقول يعلى بن أمية: فنظرت إليه له غطيط .. فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»([323]).
6- يثقل وزنه ، يقول زيد بن ثابت: (فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله ﷺ وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي) ([324]).
ويقول عبد الله بن عمرو : ( أنزلت على رسول الله ﷺ سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها)([325]).
وتقول أم المؤمنين عائشة : (إن كان ليوحى إلى رسول الله ﷺ وهو على راحلته فتضرب بجرانها)([326]).
وأما أسماء بنت يزيد فتقول: (إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله ﷺ إذ أنزلت عليه المائدة كلها؛ فكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة)([327]).
وهذه الأحوال المنقولة عن النبي ﷺ هي على خلاف ما نعرفه من أحوال المصروعين ، وسببها ثقل الوحي النازل عليه ﷺ : ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً﴾ (المزمل: 5)، فالوحي هو حالة فريدة لا يعرفها إلا الأنبياء، والموحى به هو كلام الرب الذي ذلت لعظمته الرقاب.
وهذه الحال لم يتفرد بها النبي ﷺ، بل أصابت من سبقه من الأنبياء، يقول الأب متى المسكين: "الغيبوبة أو اختطاف العقل أو الجذب الروحي عند الأنبياء .. هكذا وصف آباء الكنيسة الأولون حالة الذهن عند الأنبياء .. حيث يكون الوعي بالنفس مغلقاً نوعاً ما، حيث يكون عقل النبي خارج الحدود الطبيعية، ومرتفعاً لمنطقة الإلهام والوعي الفائق للعقل .. والشخص يكون في حالة شبه غيبوبة؛ ليستطيع أن يطلع على ما هو فوق العقل"([328]).
وضرب الأب المسكين أمثلة لهذه الغيبوبة من الكتاب المقدس، ونكتفي بذكر ثلاثة مواضع من الكتاب المقدس تتحدث عن أحوال الأنبياء عند الوحي؛ وإن كنا لا نسلم بنبوة بعضهم ، وأولها ما جاء عن بولس (الرسول)، حيث يقول: " وحدث لي بعد ما رجعت إلى أورشليم، وكنتُ أصلّي في الهيكل أني حصلت في غيبة، فرأيته قائلاً لي: أسرع واخرج عاجلاً من أورشليم، لأنهم لا يقبلون شهادتك عني" (أعمال 22/17-18)، فبولس يتحدث عن غيبة حصلت له وهو يوحى إليه حسب زعمه.
وفي سفر دانيال يحكي النبي دانيال عن الأثر الكبير الذي تركه الوحي عليه: "فبقيت أنا وحدي، ورأيت هذه الرؤيا العظيمة، ولم تبق فيّ قوة، ونضارتي تحولت فيّ إلى فساد، ولم أضبط قوة، وسمعت صوت كلامه، ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبّخاً على وجهي، ووجهي إلى الأرض، وإذ بيد لمستني وأقامتني مرتجفاً على ركبتيّ وعلى كفيّ يديّ" (دانيال 10/7-10).
ومثله في قوله: "أنا دانيال ضعفتُ ونحلت أياماً، ثم قمت وباشرت أعمال الملك، وكنت متحيّراً من الرؤيا ولا فاهم" (دانيال 8/27).
إن تهمة الإصابة بالصـرع لم تصدر عن واحد من معاصريه ﷺ رغم استحكام العداء بينهم وبينه، ورغم حرصهم على تلفيق الكاذب من التُّهم كاتهامه ﷺ بالسحر والجنون وقول الشعر، لكن لم يتهموه بالصرع أبداً، فدل ذلك على أن الأمر لا يعدو أن يكون أبطولة من نسج خيال المبطلين المتأخرين.
إن أحداً من العقلاء لن يقبل فكرة أن هذا الرجل الذي أنشأ الأمة التي قادت الحضارة الإنسانية كان مريضاً، ولسوف يصبح مضحكة للصغار قبل الكبار حين يقول: إن هذا القرآن العظيم ببيانه وإعجازه وأسلوبه كان نتيجة وأثراً لمرض عضال.
وهكذا تبين براءة شخص النبي ﷺ مما يقوله الأفاكون عنه، وأن ما يقولونه لا يعدو ما قاله إخوانهم في الإفك من كفار قريش ، حين رموه بالجنون والكهانة والشعر، حسداً منهم لشخصه ﷺ ونبوته.
أولاً : القرآن وألوهية المسيح
قالــوا: القرآن وافق المسيحية في معتقداتها وبخاصة تأليه المسيح، فقد ذكر بأنه كلمة الله وروحه: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ (النساء: 171)، فهذا عين ما يقوله النصارى عنه، فكلمة الله ليست مخلوقة، بل هي كلمة أزلية، وكذلك روحه هي حياته، وإذا كان كذلك فالمسيح أزلي، والأزلية من لوازم الربوبية والألوهية.
ومضى بعضهم إلى القول: إن القرآن المكي كان يمتدح النصارى ويتقرب إليهم بسبب علاقة النبي ﷺ بخديجة ابنة عم ورقة بن نوفل وبالنجاشي الذي آوى المسلمين في الحبشة، وأن القرآن المدني هو الذي سجل موقفاً رافضاً للمسيحية، خلافاً للقرآن المكي.
وفي الجواب نقول: القرآن المكي والمدني كلاهما من عند الله ، وليس في أي جزء منه ما ينقض الجزء الآخر، بل تتكامل آياته المكية والمدنية في رفض مظاهر الشرك المسيحية المتمثلة في عبادة المسيح عليه السلام والقول بالثالوث.
ولعله يحسن أن نبدأ بما جاء في السور المكية حول هذا الموضوع، ثم ننتقل إلى المدنية منها.
ففي الحبشة وقف المسلمون الملتجئون إلى النجاشي بين يديه فسألهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول "([329])، وهذا القول مصداق ما أنزل الله: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ` وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ` وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ` وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ` ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ` مَا كَانَ لِله أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّـمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ` وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ` فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمِْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ (مريم: 30-37)، فهذه الآيات المكية ناطقة بعبودية المسيح لله، وأنه مخلوق بكلمة (كن)، وأن الله متوعد بعذابه الذين خالفوا الحقيقة وتنكبوها في شخص المسيح.
ومن أراد مزيد بيان فليصخ السمع إلى التقريع الذي ترتجف لقوته الأفئدة وتهتز القلوب، تقريع يشنع فيه القرآن المكي على من زعم أن لله ولداً ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ` لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ` تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ` أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ` وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ` إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ` لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ` وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (مريم: 88-95).
لقد كان القرآن الكريم صريحاً في التشنيع على أقوال النصارى في المسيح ، وإثبات عبوديته لله في الآيات المكية والمدنية على السواء، ففي المكي يقول: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ` وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ` إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ (الزخرف: 57-59).
ثم تمضي الآيات لتقول: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا الله وَأَطِيعُونِ ` إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ` فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ (الزخرف: 63-65).
وفي المدني يقول الله: ﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴾ (النساء: 172)، وفي سورة المائدة: ﴿ وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ` مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: 116-117)، فأي فرق يجده القارئ بين القرآني المكي والمدني؟!
وكما كان القرآن المكي صريحاً في اعتبار المسيح رسولاً من رسل الله الكرام ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشـِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ (الصف : 6 )، فإن القرآن المدني كان كذلك: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 46)، وقوله: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ` مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ` قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَالله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (المائدة: 75-76).
وهكذا تبين بطلان الدعوى باختلاف حديث القرآن المكي عن المدني في المسيح عليه السلام، فالكل من عند الله علام الغيوب.
وإذا كان كذلك، فكيف يتوافق القول بعبودية المسيح مع القول بأنه كلمة الله وروح منه؟!
وبداية ننبه إلى أن هذا الاستدلال المغلوط قديم ، قاله نصارى نجران بين يدي النبي ﷺ حين سألوه: " ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ فقال: «بلى». قالوا: فحسبنا. فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ﴾ (آل عمران : 7) ([330])، فهذا القول من الفتنة لما فيه من التلبيس اعتماداً على المتشابه من القول، أي ما يحتمل معاني مختلفة.
ولو قرؤوا الآية بتمامها لوجدوا فيها بيان ما تشابه عليهم، فهي تنعى عليهم غلوهم في شخص المسيـح، وقولهـم بأنه ابن الله، وأنه مشـترك مع الله في الثالوث ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً ` لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لله وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُـرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 171-172)، فالمسيح عبد الله ورسوله، وهو أيضاً كلمته وروح منه.
فماذا يعني قولنا: المسيح كلمة الله؟ هل يعني أنه عليه السلام صفةُ الكلام الأزلية لله؟ بالطبع: لا، فالمسيـح كلمة الله المخلوقـة، لا الكلمة التي يخلق الله بها خلقه [كن]، وهذا صريح القرآن ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ` وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ` قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضـَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران: 45-47)، فصـرحت الآيات أن المسيح ﴿كَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾، وأكمل السياق القرآني فوصفه بأنه مخلوق ﴿الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾.
فكيف تكون كلمة الله مخلوقة مع يقيننا بأن القرآن كلام الله المنزل غير المخلوق؟
ولتقريب معنى "كلمة الله" نضرب مثلاً بـعبارة "اضطهاد اليهود"، فهي تدل على معنيين متغايرين صحيحين:
الأول : "اضطهاد النازيين لليهود"، أي أنها تدل على المفعول.
الثانـي: "اضطهاد اليهود للفلسطينيين"، أي أنها تدل على الفاعل.
وهكذا اختلفت دلالة العبارة بين هذين المعنيين.
ومثلها قولنا: "كلمة الله" فيمكن أن تدل على كلمة الله التي خلق بها الأشياء ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (يس: 82)، كما يمكن أن تدل على ما خُلق بهذه الكلمة ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران: 59)، والباحث عن الحق يختار منهما ما وافق السياق، وانسجم مع المعاني المحكمة؛ خلافاً لأصحاب القلوب المريضة الذين يختارون من المعاني ما يوافق أهواءهم؛ ولو خرج بالنصوص عن مساقها: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ﴾ (آل عمران : 7).
وسبب اختصاص المسيح بهذا الاسم الشـريف دون غيره من المخلوقين بكلمة الله؛ أنه خلق من غير تدخل أبوي، خلق بأمر الله وكلمته التكوينية (كن)، ولما لم يكن للمسيح سبب بشري قريب ينسب إليه من جهة أبيه كغيره من الناس؛ فقد نُسب إلى السبب البعيد، وهو تخليقه بكلمة الله، التي تخلّق وفق إرادة الله تبارك وتعالى([331]).
ومما يؤكد أن مقصود القرآن بالكلمة؛ كلمة الله التي كانت سبباً في وجوده، لا المعنى الفلسفي الذي يزعمه النصارى (اللوغس)([332]) قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ (آل عمران: 45)، فهو كلمة من الله، وليس صفة الله الأزلية.
وأما قوله تبارك وتعالى عن المسيح ﴿وروح منه﴾ فلا يفيد أن المسيح روح الله أو حياته كما نطق بذلك فلاسفة المسيحية، لأن قوله: ﴿منه﴾ ليست للتبعيض، بل لابتداء الغاية، بمعنى صادرة عنه، فهي كقوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾ (الجاثية: 13)، أي خلقت منه.
ويجدر هنا التنبيه إلى أنه ليس من المسلمين أحدٌ يعتقد أن الروح صفة من صفات الله القائمة بذاته، بل الأرواح جميعاً مخلوقاته تبارك وتعالى، ونسبتها إليه من باب نسبة المخلوق إلى خالقه وموجده، وهو من باب التشريف، كقولنا: بيوت الله، شعب الله، وأمثالهما.
ولا يختص المسيح بأنه روح الله، فقد قال الله عن الصديقة البتول مريم: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ﴾ (مريم: 17)، فالمراد بالروح في الآية جبريل u، كما سماه الله عز وجل في آية أخرى روح القدس: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ (النحل: 102)، وفي آية أخرى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ (الشعراء: 193)، وسبب تسميته بالروح أنه مخلوق روحي غير مادي.
وقد تمثل جبريل (روح الله) للعذراء في صورة رجل ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾ (مريم: 17) ، فنفخ في جيبها، فسرى المسيح في أحشائها، فالمسيح خلق بنفخة منه ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ﴾ (الأنبياء: 91).
وهذا المعنى الشـريف ورد في حق آدم أيضاً الذي خلق من طين، ثم : ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ (الحجر: 29)، فإضافة روحه عليه السلام إلى الله إضافة تشريف وتكريم، ولو أوجبت هذه الإضافة معنىً خارجاً عن الإنسانية؛ لكان آدم أولى بذلك من المسيح ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59).
ثانياً: هل امتدح القرآن النصارى؟
قالــوا: امتدح القرآن النصارى، وذكر بأنهم في الجنة في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (البقرة: 62).
والجـواب: كما كان القرآن واضحاً في بيان وحدانية الله وعبودية المسيح وبشريته ؛ كان صريحاً في إضلال القائلين بألوهيته وربوبيته وتكفيرهم ، وهذا منثور في مواضع كثيرة من القرآن، منها قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ (المائدة: 17)، وقوله: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (المائدة: 73)، فهاتان الآيتان وغيرهما واضحتان في بيان كفر القائلين بعقيدة التثليث وألوهية المسيح.
ولكن هذا الحكم القرآني لا يسري على المسيح الذي تبرأ من هذه المعتقدات ﴿ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ (المائدة: 72)، كما لا يسـري الحكم بالكفر والنار على أتباعه المخلصين المؤمنين الذين آمنوا بالله وحده، وشهدوا للمسيح بالرسالة فحسب، واتبعوه ونصروه ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ` رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أََََََََََََََََنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ (آل عمران: 52-53)، وفي موضع آخر يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ (المائدة: 111)، فهؤلاء من خيرة لله في خلقه، وهم مؤمنون بالمسيح الرسول، وبريئون من معتقدات النصارى التي استقاها المسيحيون من أقوال بولس والمجامع الكنسية من بعده.
إن هذه الثلة المؤمنة ممدوحة في القرآن ولا ريب، وقد وصفهم الله بقوله: ﴿أنصار الله﴾ (الصف: 14)، ومدحة الله لهم في القرآن تسـري على كل مؤمن مشى على نهجهم إلى يوم الدين([333]).
ولما بعث النبي ﷺ كان لمنهجهم بقايا على الأرض تمثل في أشخاص أحبهم الله؛ لاستقامتهم على التوحيد، وإعراضهم عن مذاهب التثليث والشرك التي كرهها الله، يقول ﷺ: «وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب»([334]).
فهؤلاء ومن سلفهم من المؤمنين هم الذين أثنى الله عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (البقرة: 62)، وقد ذُكر في سبب نزولها أن سلمان حدَّث النبيَّ ﷺ عن أصحابه النصارى الذين كانوا على الإيمان الخالص بالله عز وجل قبل مبعث النبي ﷺ، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبياً. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله ﷺ: «يا سلمان، هم من أهل النار». فأنزل الله هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾([335]).
وهذا المعنى بينٌ واضح لمن قرأ الآية في سياقها فتدبر الآيات التي قبلها والتي بعدها، حيث تكفر الآيات قبلها اليهود والنصارى، وتنسب إليهم الإساءة إلى الله، وتتوعدهم بالنكال والعذاب: ﴿ وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَالله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ` وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ` لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ` وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ﴾ (المائدة: 61-64)
ويستمر السياق القرآني بعدها في تكفيرهم مع استثناء المؤمنين منهم ممن كان على منهج الأنبياء ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ` إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (المائدة: 68-69).
فمن المحتم أن الذين سماهم الله في آخر الآية: ﴿ الْكَافِرِينَ ﴾ ليسوا الذين تحدث عنهم صدر الآية التالية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى ﴾، فهؤلاء غير الأولين، هؤلاء من المؤمنين بدليل ما ذكر في الآية في وصفهم: ﴿ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾، والمرء لا يكون مؤمناً بالله بمجرد الإيمان بوجوده، فقد آمن بذلك كفار قريش، ولم يستحقوا هذا الاسم الشريف الذي يختص به من آمن بالله تبارك وتعالى وحده رباً وإلهاً، فلم يعبد معه أحداً غيره.
ثم يمضي السياق القرآني ليقول: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْـرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ` لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ` أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ` مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ (المائدة: 72-75)، ويستمر السياق القرآني إلى آخر آيات السورة وهو يتحدث عن كفر النصارى ، فلِم أعرض القائلون بمدحة الله للنصارى عن هذا كله، وبتروا الآية من سياقها؟!.
ثالثاً : من أتباع المسيح؟
قالوا: وصف القرآن النصارى بأنهم أتباع المسيح الموعودون بالظفر على الكافرين إلى يوم القيامة: ﴿ إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ (آل عمران: 55)، وهذا كله يدل على صحة طريقتهم ودينهم ؛ خلافاً لما يقوله المسلمون من تكفيرهم، وأنهم من أهل النار.
والجواب: قد سبق لنا بيان الموقف القرآني من النصارى القائلين بألوهية المسيح والتثليث.
وأما بخصوص هذه الآية فهي تمتدح أتباع المسيح عليه السلام، وهم المسلمون الذين يصدقون أقواله: ﴿ وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ` مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (المائدة: 116-117)، والمسلمون هم الذين يقولون: ادعاء الألوهية للمسيح ليس بحق، في حين يزعم النصارى أنه إله معبود بحق.
ووفق هذا فإن المسلمين هم أتباع المسيح، وقد قال ﷺ: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» ([336]).
إن الدلالة على اتباع المسلمين للمسيح ومفارقة النصارى له ليست من القرآن فحسب، بل هي في كتابهم أيضاً؛ فإن قارئ العهد الجديد (الإنجيل) لن يجد فيه حرفاً واحداً يتحدث فيه المسيح عن ألوهية نفسه، بل على العكس من ذلك تجده يصـرح بما ينقضها، فيقول عن نفسه: "وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" (يوحنا 8/40)، كما يجده عليه السلام يخبر عن كونه رسولاً لله فحسب، مما يقتضـي التنديد بأهل التثليث؛ والحكم بحرمانهم من الحياة الأبدية، فيقول مخاطباً الله: "هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/2-3)، وهذا معنى صريح في أن الجنة مدخرة فقط لمن يقول: (لا إله إلا الله، المسيح رسول الله)، وهذا بالحقيقة قول المسلمين؛ لا النصارى، فتبين أننا أتباعه عليه الصلاة والسلام الموعودون بالعلو على الكافرين إلى يوم القيامة، وقد علوناهم بالحجة والدليل والبرهان بالأمس واليوم وغداً بإذن الله ومِنَّته.
ولئن غابت شمس المسلمين اليوم عن قيادة الحضارة الإنسانية المادية (لا الروحية) فقد كان لهم شرف ريادتها زهاء ثمانية قرون، وإنها سُحب توشك أن تنبلج، لتشرق شمسنا من جديد، وما هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي تهدر في عالم اليوم إلا طلائع هذا الفجر الآتي القريب بإذن الله.
رابعاً : سؤال أهل الكتاب
قالــوا: طلب القرآن من النبي أن يسأل النصارى فيما يشكل عليه ، وفيما يقع له من الريبة في دينه بقوله: ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ (يونس: 94)، وكما طلب هذا من النبي؛ فإنه طلبه من المسلمين حين أمرهم بسؤال أهل الذكر، أي الكتب السابقة في قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 43).
والجـواب: أن الآية الكريمة ﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (يونس: 94)، لا تتحدث عن مشركي النصارى المنكرين لنبوته ، ولا تجعلهم مرجعاً للنبي ﷺ، بل تتحدث عن الذين يشهدون له بأنه أتاه الحق من ربه.
كما يلزم التنويه أيضاً إلى أن النبي ﷺ لم يشك في شيء من نبوته، ولم يسأل أهل الكتاب ولا غيرهم، بل نقل عن بعض التابعين أن النبي ﷺ قال: «لا أشك ولا أسأل»([337]).
فلفظة (إنْ) لا تفيد أي تحقق لوقوع الشك من النبي ﷺ، إذ قد يعلق المحال بـ (إنْ) ، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (الزخرف: 81)، وقوله: ﴿ وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ﴾ (الأنعام: 35).
وقد فسر العلماء مقصود الآية بقولين يكمل أحدهما الآخر:
الأول: أن المقصود بالسؤال هم المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما: (الذين أدركوا محمداً ﷺ من أهل الكتاب فآمنوا به ..فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم)([338]).
الثاني: أن المقصود في الآية ليس أمر النبي ﷺ بالسؤال، بل الخطاب - في ظاهره – للنبي ﷺ، والمراد به غيرُه من المشـركين، على عادة العرب في الخطاب "إياك أعني واسمعي يا جارة"([339]).
ومثله في القرآن كثير، قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ (الأحزاب: 1)، وقال : ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ( الزمر: 65)، وقـال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ (الطلاق: 1).
وهذا الوجه صححه الطبري، واستدل له الرازي بقول الله تعالى في آخر السورة: ﴿يَا أَيُهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فلا أَعبُدُ الذِي تَعْبُدونَ مِنْ دُون الله﴾ (يونس: 104)، وقال: "فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز ، هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح .. فثبت أن الحق هو أن الخطاب، وإن كان في الظاهر مع الرسول ﷺ؛ إلا أن المراد الأمة ، ومثل هذا معتاد ، فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع ، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه ذلك الخطاب إلى ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم"([340]).
بقي أن نشير إلى أن الأمر بالسؤال ليس على ظاهره ، فإن العرب تستخدم طلب السؤال؛ بمعنى تأكيد الأمر، ولا تريد طلب السؤال حقيقة، ومنه قول الشاعر:
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
وقول الآخر:
سلوا نسمات الريح كم قد تحملت محبــــة صب شــوقه لـيس يكتـم
فهذان وأضرابهما لا يراد منه – في لغة العرب- حقيقة السؤال ؛ إذ كيف يُسأل الليل أو نسمات الريح، إنما يراد تأكيد تلك المعاني التي طلب السؤال عنها.
ومثله في القرآن قوله تعالى: ﴿ سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ ﴾ (القلم: 40)، وقوله: ﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ﴾ (الزخرف: 45)، وقوله: ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ (الأعراف: 163)، ففي كل هذا لم يطلب الله من النبي ﷺ حقيقة السؤال، إنما قصد الإخبار وتأكيد صدق هذه المعاني والأخبار التي ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن.
وأما قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 43)، فهو خطاب من الله للمشـركين المنكرين للنبوة؛ المستغربين نزول الوحي على رجل، فقد نبههم الله إلى أن نزول الوحي على بشر أمر معهود تعرفه البشرية، ودعاهم إلى سؤال أهل الكتاب للتأكد من حقيقته والوقوف على جلائه، يقول ابن القيم: "فبقاؤهم [أي أهل الكتاب] من أقوى الحجج على منكر النبوات والمعاد والتوحيد، وقد قال تعالى لمنكري ذلك ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ .. يعني سلوا أهل الكتاب: هل أرسلنا قبل محمد رجالاً يوحى إليهم أم كان محمد بدعاً من الرسل لم يتقدمه رسول حتى يكون إرساله أمراً منكراً؟"([341]).
وهكذا فالآية تجعل من شهادة أهل الكتاب دليلاً ناهضاً للاحتجاج على مشركي مكة في مسألة نبوة النبي ﷺ، وهو معنى تكرر في مواضع أخرى من القرآن، كقوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 43).
خامساً : التوثيق المزعوم لكتب أهل الكتاب في القرآن
قالــوا: في حين أن المسلمين يرمون كتب أهل الكتاب بالتحريف والتبديل فإن القرآن يُعلي من شأن التوراة والإنجيل، ويصفهما بالهدى والنور ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ (المائدة: 44)، و﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ (المائدة: 46).
وقالــوا: ذكر القرآن أن التوراة والإنجيل الموجودين عند أهل الكتاب زمن النبي غير محرفين؛ بدليل أنه دعا إلى تحكيمهما ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ (المائدة: 66)، وقال لهم: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ (المائدة: 68).
وقالــوا: شهد القرآن والسنة أن كتبنا فيها حكم الله ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ الله ﴾ (المائدة:43)، ولما أخذها النبي بيده نزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها، ثم قال: «آمنت بك وبمن أنزلك»([342]).
والجـواب: امتدح الله في القرآن ما أنزله على أنبيائه ورسله، وذكر أنه هدى ونور، فكل كتب الله تعالى كذلك، ولو أقام البشر في حياتهم ما أنزل الله إليهم؛ لسعدوا ونجوا، لكن هذه الكتب المنزلة ضاعت وحرفت وبدلت، فما التوراة ولا الإنجيل اللذين بين أيدي اليهود والنصارى بتوراة الله ولا إنجيله؛ وإن كان فيهما بقية أثارة حق مما نزل على الأنبياء، يقول ﷺ: «إن بني إسرائيل لما طال الأمد و قست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون»([343]).
وإثبات تحريف الكتب الموجودة بين أيدي اليهود والنصارى باب يطول، وليس هذا محله([344])، ويكفي في هذا الموضع أن نؤكد أن التوراة والإنجيل الموجودين اليوم ليسا الكتابين اللذين أنزلهما الله عز وجل وامتدحهما القرآن.
وإثبات هذا ميسور، فقد نسب القرآن الكريم إلى توراة الله وإنجيله معاني نفتقدها في الكتب الموجودة اليوم عند اليهود والنصارى، ففقدُها دليل على أن هذه الكتب قد غيرت وبدلت، وأنه ضاع منها ما أشار القرآن الكريم إلى وجوده فيها.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: 111)، فالآية صريحة في أن موعود الله بالجنة للمؤمنين المجاهدين في سبيله مسطور في التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله تعالى، ولا وجود لهذه المعاني في العهد القديم ولا الجديد [التوراة والإنجيل المحرفين].
ومثله قوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ` وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ` إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ` صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (الأعلى: 16-19)، فهذا المعنى لا وجود له في الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام في العهد القديم، والتي تخلو من الحديث عن الآخرة والقيامة، فضلاً عن المقارنة بينها وبين الدنيا.
ومثله نفقد في الأسفار الحالية ما نسبه الله إلى توراته وإنجيله في سورة الأعراف من حديث عن النبي الأمي الذي يبعثه الله فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157).
وهكذا نخلص إلى القول ؛ أن التوراة والإنجيل الممدوحين بالقرآن ليسا بالأسفار الموجودة اليوم؛ لفقد هذه المعاني منها.
والقرآن شهد على الأسفار الموجودة بين يدي اليهود والنصارى بأنها محرفة، وقعت فيـها الزيادة، كما وقـع فيـها النقص، فقـد قـال تعـالى عن تحريف النقص: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ (المائدة: 15)، فما جاء به محمد ﷺ فيه بيان لبعض ما أخفاه أهل الكتاب، وقد عفا عن الكثير مما أخفوه فلم يذكره، قال ابن كثير: "أي: يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه، ويسكت عن كثير مما غيروه، ولا فائدة في بيانه"([345]).
كما أخبر القرآن الكريم عن وقوع الزيادة في هذه الكتب: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 79)، وقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ (آل عمران: 78).
لكن وقوع الزيادة والنقص في الكتاب لا يعني - بالضرورة - أن التحريف قد طال كل سطر وكل كلمة في الكتاب، بل القرآن شهد لهذه الكتب أن فيها بقية من الحق الذي أنزله الله ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (آل عمران: 71).
ومن بقايا الحق الذي شهد القرآن بوجوده حكم الرجم للزاني والزانية، فهو موجود في سفر التثنية في الإصحاح الثاني والعشرين، لذلك قال الله: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ﴾ (المائدة: 43)، فكون حكم الله بشأن الزانيين موجوداً فيها لا يعني أن كل ما فيها هو حكم الله تعالى، فاسم التوراة باق عليها رغم تحريفها، فهي التوراة المحرفة؛ لا المنزلة ([346]).
وأما قوله تعالى لليهود حين أنكروا أن الأطعمة كانت حلالاً عليهم قبل نزول التوراة: ﴿ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (آل عمران: 93) فهو لا يفيد سلامة التوراة التي بين أيديهم من التحريف.
فمطالبته بالإتيان بها؛ إنما يريد به إقامة مزيد من الحجة عليهم من كتابهم (التوراة المحرفة)، قال ابن حزم: " إنما هو في كذب كذبوه، ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم؛ زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم، فبكتهم عليه السلام في ذلك الكذب المحدث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين، فظهر كذبهم"([347]).
وقد دعا الله عز وجل أهل الكتاب إلى إقامة هذا الحق المتبقي، لأنه كفيل بهدايتهم إلى الإسلام، قال ابن كثير: " أي: إذا أقمتموها حق الإقامة، وآمنتم بها حق الإيمان، وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد ﷺ ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ﴾ (الأعراف: 157)"([348]).
وقال القرطبي: " وإقامة التوراة والإنجيل؛ العمل بمقتضاهما وعدم تحريفهما"([349]).
وقال ابن حزم: "وأما قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ﴾؛ فحق لا مرية فيه، وهكذا نقول، ولا سبيل لهم إلى إقامتها أبداً، لرفع ما أسقطوا منها، فليسوا على شيء إلا بالإيمان بمحمد ﷺ ، فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل، كلهم يؤمنون حينئذ بما أنزل الله منهما ؛ وُجِد أو عُدم ، ويكذبون بما بدل فيهما مما لم ينزله الله تعالى فيهما، وهذه هي إقامتهما حقاً"([350]).
وهذا الأسلوب في طلب المحال على سبيل التبكيت أسلوب قرآني ونبوي، ومنه قول الله تعالى للمنافقين يوم القيامة: ﴿ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ (الحديد: 13)، ومن المعلوم أنهم لا يقدرون على الرجوع، ولو رجعوا لم يفدهم رجوعهم.
ومثله في التبكيت قول النبي ﷺ: «من تحلم بحلم لم يره ؛ كُلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ... ومن صوَّر صورة؛ عُذب وكُلف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ»([351]).
ويجدر هنا التنبيه على ضعف الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، وفيه أنه ﷺ وضع التوراة على وسادة وقال: «آمنت بك وبمن أنزلك»([352])، فالحديث ورد في قصة رجم اليهوديين الزانيين، وهو مروي في الصحيحين وغيرهما، وليس فيه هذه الزيادة([353])، وهذه الزيادة غير موجودة حتى في روايات أبي داود الأخرى للقصة([354]).
وقد ضعف هذه الرواية غير واحد من أهل العلم، منهم ابن حزم إذ يقول: "قوله عليه السلام: «آمنت بما فيك»؛ فإنه باطل لم يصح قط، وكله موافق لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما، وليس شيء منه حجة لمن ادعى أنهما بأيدي اليهود والنصارى كما نزلا ... فخبر مكذوب موضوع، لم يأت قط من طرق فيها خير، ولسنا نستحل الكلام في الباطل، لو صح فهو من التكلف الذي نهينا عنه كما لا يحل توهين الحق ولا الاعتراض فيه"([355]).
وهذه الزيادة «آمنت بك وبمن أنزلك» مروية في إسناد ضعيف متهالك لا يصلح للاحتجاج، فهي من رواية هشام بن سعد القرشي، وقد ضعفه العلماء، وترك التحديث عنه جملة من المحدثين ، منهم يحيى القطان الذي كان لا يحدث عنه، ومما قاله العلماء عنه:
قال النسائي: "ضعيف"، وقال في موضع آخر: "ليس بالقوي".
وقال يحيى بن معين: "ليس بشـيء"، وفي موضع آخر قال: "ليس بذاك القوي".
وأما أحمد بن حنبل فقال عنه: "ليس هو محكم الحديث". وفي موضع آخر قال: "لم يكن بالحافظ".
قال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به".
وقال ابن حبان: "كان ممن يقلب الأسانيد، وهو لا يفهم، ويسند الموقوفات من حيث لا يعلم، فلما كَثُر مخالفته الأثبات فيما يروي عن الثقات بطُل الاحتجاج به، وإن اعتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير"([356]).
وهكذا فهذه الرواية التي تفرد بها هشــام مردودة ، ولا يحتـج بها إلا الذين يتعلقون بخيوط أوهى من بيت العنكبوت.
كما لن يفوتني تسجيل عجبي من اليهود والنصارى الذين يرومون توثيق كتبهم من القرآن والسنة؛ في حين أن كتبهم تشهد على نفسها بالتحريف في مواضع كثيرة منها: قول النبي إرمياء: " كيف تقولون : نحن حكماء، شريعة الرب معنا حقاً، إنه إلى الكذب، حوَّلها قلم الكتبة الكاذب " ( إرميا 8/8 )، أي أن دعواكم بامتلاك شريعة الرب كذب منكم، لأن هذه الشريعة غيَّرها وبدَّلها الكتبة الكذبة بأقلامهم المحرِِّفة.
ويؤكد النبي إرمياء وقوع التحريف في الكتاب، ويتهدد بالعقوبة أولئك الذين مازالوا يتحدثون عن كلام الرب، فينسبون ما في أيديهم إليه بعد أن حرفوه، فيقول: " وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟ فقل لهم: أي وحي؟ إني أرفضكم هو قول الرب، فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول: وحي الرب أعاقب ذلك الرجل وبيته.. أما وحي الرب فلا تذكروه بعد، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود" (إرمياء 23/33-36).
سادساً : هل الذكر المحفوظ هو كتب أهل الكتاب؟
قالــوا: سمى القرآن كتبنا ذكراً في قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ (النحل: 43)، فاعتبر الكتب السابقة ذكراً، ثم أخبر أن الذكر محفوظ من التحريف والتبديل ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9)، فدل ذلك على سلامتها من التحريف والتبديل.
والجـواب: أن كل ما ينزله الله تعالى من وحي هو ذكر، يذكِّر الله به عباده.
لكن الله لم يحفظ من الذكر إلا ذكره الأخير، أي القرآن ، فهو الذي تكفل الله بحفظه بقوله: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 9)، بدلالة السياق الذي وردت فيه الآية ، إذ يقول الله: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ` لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ` مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ` إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (الحجر: 6-9)، فالذكر المحفوظ هو الكتاب المنزل على النبي ﷺ كما هو ظاهر في السياق.
وهكذا تبين وضوح المعتقد الإسلامي بخصوص ما أنزله الله على الأنبياء، وكذلك تبين تحريف الكتب الحالية وتبديلها، وأنها ليست من عند الله.
***
أولاً : العين الحمئة
استشكل البعض ما ورد في سورة الكهف، في سياق الحديث عن رؤية الملك ذي القرنين الشمس وهي تغرب في عين حمئة، وذلك في قوله: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ (الكهف: 86)، فتساءلوا كيف تغرب الشمس في عين صغيرة على الأرض وهي نجم عظيم يدور في السماء؟
لا ريب أن القول بغياب الشمس في عين أو بحر بعيد كل البعد عن أبسط معارفنا العلمية التي قررها القرآن منذ زمن بعيد؛ فقد ذكر القرآن أن الشمس والقمر والأرض كواكب أو نجوم تسبح في أفلاكها في السماء ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ (الأنبياء: 33)، فلكل فلكه الخاص الذي لا يتداخل مع فلك غيره، فكيف يسوغ – بعد ذلك – أن ينسب إليه القول بغروب الشمس في عين من عيون الأرض.
إن هذا القول أبعد ما يكون عن لفظ القرآن ومعناه ، ولو كان هذا الفهم المغلوط مراداً؛ لوجب أن تشرق الشمس من نفس المحل وعلى نفس القوم الذين غربت عليهم، وهو ما لا يظنه عاقل، ولو صغرت سنه ، وهو ما ينفيه القرآن في نفس السياق، إذ بعد غياب الشمس انطلق ذو القرنين تجاه مشرقها ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ` حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً﴾ (الكهف: 89-90).
القرآن في هذه الآية وصف ما تبدى لذي القرنين ساعة الغروب، حيث ﴿وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾، ولم يقل القرآن : إن الشمس تغرب في تلك العين.
ومثل هذا كمثل ما يراه الناظر من غروب الشمس في البحر أو خلف جبل، فهو يجدها كذلك فيما يتبدى له، وهي في حقيقتها ليست كذلك.
وهذا الفهم للآية ليس تأولاً لها في عصر العلم، بل هو قول معروف تداوله العلماء منذ قرون طويلة ، فقد نقل القفال (تـ 507هـ) عن العلماء قولهم في تفسير هذه الآية: "ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً ومشرقاً حتى وصل إلى جرمها ومسها ، لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال: ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾، ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم" ([357]).
وقال الرازي: "ثبت بالدليل أن الأرض كرة، وأن السماء محيطة بها ، ولا شك أن الشمس في الفلك ، وأيضاً قال : ﴿وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ﴾ ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود ، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله : ﴿ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ من وجوه:
الأول : أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر ، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره .
الثاني : أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار"([358]).
وقال ابن كثير: " ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ أي: فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشـيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم.
وقوله: ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه"([359]).
وما زال هذا المعنى مشهوراً عند العلماء في القديم والحديث، ومنه قول سيد قطب: "مغرب الشمس هو المكان الذي تغرب عنده وراء الأفق ، و هو يختلف بالنسبة إلى المواضع ، فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف الجبل ، تغرب في الماء كما في المحيطات … والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي … فرأى الشمس تغرب فيه، والأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار حيث تكثر الأعشاب، ويجتمع حولها طين لزج هو الحمأ ، وتوجد البرك، وكأنها عيون الماء … عند هذه الحمأة وجد ذو القرنين قوماً…"([360]).
ولئن كان المدعي لهذه الأبطولة يتحدث عن غروب الشمس في عين ؛ فإن القرآن تحدث عن مغارب الشمس، وأراد بذلك – والله أعلم- ما نعرفه اليوم من دوام الغروب والشروق بدوام دوران الأرض حول محورها.
ويشكل على هذا المعنى ما روي عن النبي ﷺ من حديث أبي ذر t : «يا أبا ذر، هل تدري أين تغيب هذه الشمس ؟ .. فإنها تغرب في عين حمئة، تنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش، فإذا كان خروجها أذن الله لها، فإذا أراد الله أن يطلعها من مغربها حبسها»([361]).
لكن هذا الحديث لا يصح نسبته إلى النبي ﷺ، لأنه من رواية سفيان بن حسين الواسطي السلمي، وهو راو وهَّى حديثه أهلُ التحقيق والاختصاص.
فقد سأل المروزيُ الإمامَ أحمد عن سفيان بن حسين كيف هو ؟ فقال: "ليس بذاك، وضعفه"([362]).
وقال ابن أبي شيبة: "كان ثقة، ولكنه كان مضطرباً في الحديث"([363]).
وقال محمد بن سعد: "ثقة يخطئ في حديثه كثيراً"([364]).
وقال يحيى بن معين عنه: "ليس بالحافظ"([365]).
وعليه فلا اعتداد بروايته، فهي دون مرتبة الاحتجاج، واستبان براءة القرآن من الفهم السخيف بأن الشمس تغرب في بئر ماء.
ثانياً : مريم أخت هارون
قالــوا: أخطأ القرآن حين جعل مريم بنت عمران أختاً لهارون في قوله تعالى: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾ (مريم: 28 )؛ إذ المعلوم في علم التاريخ أن مريم كانت بعد هارون بن عمران بما يربو على الألف سنة.
والجــواب: أن هذه الأبطولة من أقدم الشبهات المطروحة على القرآن الكريم، وقد تولى الرد عليها وبيان أغلوطة قائلِها النبيُّ ﷺ ، وما يزال أقوام يرددون هذه الشبهة البائدة.
جاء في صحيح مسلم أن المغيرة بن شعبة قال: لما قدمتُ نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرؤون: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ ﴾، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله سألتُه عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم»([366]).
فبهذا البيان النبوي تبين أن هارون أخا البتول مريم ليس بهارون أخي موسى، كما توهم نصارى نجران والمبطلون من بعدهم.
ولو فهموا لغة العرب وسعة ألفاظها لما قالوا ما قالوه، فالعرب تطلق كلمة الأخ على الشبيه وعلى قريب النسب ؛ وإن لم يكن أخاً.
فأما الشبيه، فكقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ (الإسراء: 27)، فالمبذر بمثابة أخ للشياطين ، لشبهه بفعالهم.
وأما أخوة القرابة فكقوله تعالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾ (الأعراف: 73).
ثالثاً : هل القلوب العاقلة في الصدور؟
قالــوا: يعرف علماء التشريح اليوم أن القلب عضلة ضاخة للدم فحسب، وأن مراكز الإحساس والتفكير في الدماغ، بينما القرآن يؤكد أن القلوب التي في الصدور هي مركز التفكير ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
والجـواب: أن ما يتعلق بمسألة علاقة القلب بالفكر مسألة علمية ما زال العلماء والأطباء يراوحون فيها بين مثبت ومنكر، وهي مسائل ظنية لم ترق إلى كونها حقيقة علمية، ومن كان هذا حاله لا ينهض للاحتجاج به إزاء الحق الذي أوحاه الله العليم بخلقه ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الملك: 4).
ثم إن القرآن تحدث عن الأعين والآذان والقلوب المادية، وتحدث أيضاً عن العيون والآذان والقلوب المعنوية، وهذه الأعضاء في حال دلالتها على الهدى تكون أعضاء عاملة، وحين تتنكر للحق وترفضه فإنها تكون في حكم العدم، ولذلك وصف الله الذين لا يبصرون الحق ولا يسمعونه بأنهم ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ (البقرة: 18)، فهم صم عن الحق، لا عن السماع، وهم بكم وعمي بهذه المثابة أيضاً.
وهذا مثله في القرآن كثير: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة: 171)، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ (الأنعام: 39).
وهكذا فحين يتحدث القرآن عن العيون والآذان والألسن لا يقصد الجوارح المحسوسة، وإنما يقصد ما وراءها من العقل والإدراك الإيماني، ومنه قول الله ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ` عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ (الشعراء: 193-194).
وهذا المذكور عن هذه الجوارح ينطبق على القلب تماماً، فالقلوب التي يتحدث عنها القرآن هي القلوب المعنوية، لا المضغة الجسدية، ومثاله في القرآن كثير، كقوله: ﴿ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ (الأنعام: 43)، وكقوله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد: 28).
والمقصود في كل هذا القلوب العاقلة، لا المضغة الصنوبرية التي في الجسم ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
ومثله في كلام النبي ﷺ: «يا مقلب القلوب»([367])، فالمقصود تقليب القلوب المعنوية من الكفر إلى الإسلام، وليس المقصود تقليب القلوب المادية.
وهذا الفهم ليس بجديد عند العلماء المسلمين، بل هو قديم نقله الرازي في تفسيره عن بعض السابقين، وعزاه ابن أمير الحاج المتوفى سنة 879هـ إلى عامة أهل السنة والجماعة بقوله: "ومحلها أي القوة التي هي العقل؛ الدماغ للفلاسفة وخصوصاً الأطباء، وأحمد في رواية، وأبي المعين النسفي، وعزاه صدر الإسلام إلى عامة أهل السنة والجماعة، فقال: وهو جسم لطيف مضيء محله الرأس عند عامة أهل السنة والجماعة، وأثره يقع على القلب، فيصيرُ القلب مدركاً بنور العقل الأشياءَ، كالعين تصير مدركة بنور الشمس وبنور السراج الأشياء"([368]).
وما قلناه عن القلوب والعيون والآذان المعنوية الإيمانية ينطبق تماماً على الصدور، فنقرأ في القرآن والسنة حديثاً متكرراً عن انشـراح الصدر وانقباضه وضيقه وظلمته، وليس المراد الصدر الجسدي، بل المراد الصدر المعنوي ﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾ (الشعراء: 13)، ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام﴾ (الزمر: 22) ، ﴿ أَلَمْ نَشـْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ (الشـرح: 1)، ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم﴾ (الأعراف: 43) ﴿ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ` أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ (الإسراء: 49-50) ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ (النمل: 74)، فكل هذا حديث عن الصدر المعنوي لا التجويف المسمى بالقفص الصدري.
وجاءت نصوص قرآنية ونبوية تجمع بين الصدر المعنوي والقلب المعنوي ، منها قول الله: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (النحل: 106).
ومثله قوله: ﴿ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ (آل عمران: 154)، ومثله قول النبي ﷺ: «والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر»([369]).
وهكذا تبين أن القرآن حين تحدث عن حواس الإنسان فإنما قصد البُعد الإيماني المعنوي لها، وكذلك نسب التحكم فيها إلى القلب والصدر الإيماني المعنوي، لا الحسي، فثبت بذلك صدق القرآن، وتبين فساد هذه الأبطولة من أباطيل المرجفين.
رابعاً : النجوم التي ترجم بها الشياطين
قالــوا: القرآن يتحدث عن النجوم السيارة الهائلة في حجمها، والتي يكبر حجم بعضها الأرض آلاف المرات، وأن الله خلقها ليرجم بها الشياطين، وأنها تتحرك في السماء خلف هذه الشياطين، وهذا المعنى الغريب – ورد حسب اعتقادهم – في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ (الملك: 5).
والجــواب: إن القرآن لم يقل: خلق الله النجوم لأجل هذا، ولم يقل أن النجوم السيارة تتبع الشياطين، بل أخبر تعالى أنه خلق في السماء مصابيح، أي أجساماً منيرة مضيئة تحرق الشياطين.
وهذه المضيئات قد تكون نجوماً، وقد تكون شهباً، فالأمر محتمل للمعنيين لولا أن الآيات القرآنية تبين أن المقصود من المصابيح الشهب ؛ لا النجوم، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ (الجن: 9)، وقال: ﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ` إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ (الحجر: 17-18)، وقال: ﴿ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ (الصافات: 10)، فالشهب هي الأجسام المضيئة التي تحرق الشياطين، وهذه الشهب منها الكبير، ومنها الصغير، وهي نجوم أو كواكب مفتتة تسبح في الكون الفسيح، فإذا شاء الله عقوبة واحد من الشياطين سلط عليه واحداً من هذه الشهب، فرجمه به، فما الذي يستنكره العاقل في عقوبة الله لهذه المخلوقات بحرقها بشهب السماء؟.
خامساً : هل القرآن يشجع على فعل المعاصي؟
قالــوا: القرآن يشجع على المعاصي من غير الكبائر بقوله: ﴿ وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ` الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ (النجم: 31-32)، فهذا الوعد الإلهي بالمغفرة لأصحاب الصغائر يغري بها.
والجـواب: أن العلماء اختلفوا في اللمم المعفو عنه على أقوال ذكرها الطبري في تفسيره([370]):
أ. أنها ذنوب الجاهلية يغفرها الله في الإسلام، قال الطبري: " معنى الكلام: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا اللمم الذي ألـمُّوا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام، فإن الله قد عفا لهم عنه، فلا يؤاخذهم به".
ب. أنه ما يلِّم به المرء، أي يصيبه من ذنب صغير أو كبير من غير إصرار عليه، ثم يتوب منه ، قال أبو هريرة t: (اللَّمة من الزنى، ثم يتوب ولا يعود، واللَّمة من السرقة، ثم يتوب ولا يعود; واللَّمة من شرب الخمر، ثم يتوب ولا يعود، فتلك الإلمام) ، وهذا المعنى مروي عن عامة أصحاب النبي ﷺ، قال الحسن: (كان أصحاب النبي ﷺ يقولون: هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا، واللمة من شرب الخمر، فيخفيها فيتوب منها).
ج. أنها صغار الذنوب مما لا يوجب حداً في الدنيا ولا توعد بعقوبته في الآخرة، وقد رجحه الطبري مستدلاً بقوله تعالى: ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ﴾ (النساء: 31)، فاجتناب الكبائر سبب في مغفرة الصغائر، لكن هذا أيضاً معلق بالتوبة وعدم الاسترسال في الصغيرة، حتى لا تتحول باستمرائها إلى كبيرة، فقد سأل رجل ابن عباس: كم الكبائر؟ سبعاً هي؟ قال : (هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، وإنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار)([371]).
ولذا حذر القرآن الكريم من الصغائر، وأخبر أن الله يكتب على العبد الصغير من عمله والكبير، فإذا قامت القيامة وجد العبد الجميع بين يديه ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ (الكهف: 49)، ﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ (الزلزلة: 8)، ولسوف يحاسب الله العبد المؤمن على هذه الصغائر ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ` فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ﴾ (الانشقاق: 7-8).
كما حذر النبي ﷺ من الصغائر في مواضع كثيرة، منها قوله: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم»([372])، وقوله: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه»([373])، وقال ﷺ: «يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالبـاً»([374]).
سادساً : الجنة والخمر
قالــوا: إذا كان الله لا يجعل المحرم جزاء للمؤمنين، فما باله جعل الخمر جزاء لهم؟!
والجـواب: حرم الله الخمر لما فيها من تعطيل لموهبة العقل التي منحها الله للإنسان، والتي ميزه بها عن الحيوان، فقد بعث الله الأنبياء وأنزل الشرائع لحراسة هذا المقصد النبيل، فحرَّم قليل الخمر وكثيرها «ما أسكر كثيره فقليله حرام»([375])، ولعن رسول الله ﷺ في الخمر كل مساهم في شيوع فسادها، يقول أنس t: «لعن رسول الله ﷺ في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها وآكل ثمنها ، والمشتري لها والمشتراة له»([376]).
فإذا عرفت علة التحريم لخمر الدنيا ؛ عرف علة كونها حلالاً بل جزاء للمؤمنين في الآخرة، فخمر الجنة ليس فيها واحدة من المزريات الموجودة في خمر الدنيا، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء)([377]).
ولقد وصف الله خمر الجنة بأحسن الوصف، ونزهها عما يعتري خمر الدنيا من الفساد، فلئن كانت خمر الدنيا مما يستقبح طعمه؛ فإن خمر الجنة لذة للشاربين: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ﴾ (محمد: 15).
ولئن كانت خمر الدنيا المحرمة تذهب العقل؛ فإن خمر الجنة ليست كذلك: ﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ` بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ` لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ﴾ (الصافات: 45-46)، فاختلاف الأحكام لاختلاف الخواص والصفات.
ولئن كانت خمر الدنيا تصدع رؤوس أصحابها وتمرضهم؛ فإن خمر الجنة منزهة عن ذلك، فالولدان المخلدون يطوفون عليهم ﴿ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ` لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ﴾ (الواقعة: 18-19).
قال الطبري: " لا في هذه الخمر غول، وهو أن تغتال عقولهم، يقول: لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، كما قال الشاعر:
وما زالت الكأس تغتالنا وتـذهب بالأول الأول"([378])
وأكد الله هذه الخاصية لخمر الجنة بقوله: ﴿ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ (الصافات: 47)، قال الطبري: "من الإنزاف بمعنى: ذهاب العقل من السكر، ومنه قول الأبيرد:
لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا "([379])
وهكذا يستبين للمنصف خطأ وتجني أصحاب الفهوم المعوجة أو المنكوسة على القرآن الكريم الذي أرسى فضائل الأخلاق ومعالي الآداب ، وأقام حضارة ذخرت بالقيم التي لم تعرفها من قبل ولا من بعد أمة من أمم العالمين.
***
قــال بعض من يزعم أنه من أبناء العربية: إن في القرآن أخطاء نحوية خالف فيها قواعد اللغة العربية، وهذا يدل على أنه ليس من كلام الله، لأن الله لا يخطئ، قالوا هذا حين استشكلوا بعضَ آيات القرآن؛ ورأوها على خلاف ما تعلموه في دراستهم لقواعد النحو في المرحلة الابتدائية ، فظنوا أن في هذه الآيات خطأ فات الأولين، وأنهم تنبهوا له - بعبقريتهم - بعد مر القرون.
وقبل أن نعرض لأهم الآيات التي استشكلوها، نجيب بأجوبة إجمالية بين يدي البحث:
أولاً: أن العرب الذين نزل فيهم القرآن كانوا أفصح الناس، وكان فيهم أصحاب المعلقات كلبيد بن ربيعة t الذي ترك نظم الشعر بعد سماعه للقرآن، ولم يستشكل ما استشكله أعاجم العرب اليوم، كما لم يستشكله مشـركو قريش وغيرهم، رغم عداوتهم القرآن وحربهم النبيَّ ﷺ وحرصهم على معاداة دينه ﴿وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ (مريم: 97)، لكنهم كانوا عرباً أقحاحاً، فعرفوا ما جهله أهل العُجمة من العرب اليوم.
ثانياً: أن اللغة في أصلها سماعية، لا قاعدية، فالعربي حين كان ينطق بالفاعل مرفوعاً، لا لأن آباءه علَّموه أن الفاعل مرفوع، بل لسليقته العربية التي نشأ عليها منذ طفولته.
لكن في القرن الثاني من بعثة النبي ﷺ دخلت الفرس والروم والترك وغيرهم في الإسلام، وتكلموا بالعربية ، فظهر اللحن ، وضاعت السليقة، مما دعا العلماء المسلمين لوضع قواعد اللغة المعروفة عندنا اليوم، وقد وضعوها اعتماداً على مصدرين أساسين: الأول : القرآن الكريم، والثاني: ما ورد عن العرب في أشعارهم وكلامهم، فالقرآن هو المصدر الأول والأساس لقواعد العربية.
لكن العرب الفصحاء قبل وضع هذه القواعد لم يكونوا على نسق واحد في الإعراب والأساليب اللغوية، فلكل قبيلة خصوصيتها اللغوية وفصاحتها وشعراؤها وأدباؤها وإثراؤها للغة الضاد، فعمد مقعدو اللغة إلى الشائع عند عموم العرب، وأهملوا غيره مما هو فصيح تنطق به بعض قبائل العرب.
ولو شئنا أن نضرب مثلاً لقلنا: الشائع في قواعد اللغة حذف ضمير الفاعل من الجملة إذا جاء الفاعل اسماً ظاهراً، فيقول عموم العرب : (جاء المسلمون)، ولا يقولون: (جاؤوا المسلمون)، لكن قبيلة طيء تجيز إثبات ضمير الفاعل ، مع وجود الاسم الظاهر، وهي اللغة المشهورة عند النحاة بـ (أكلوني البراغيث) ، ومنه قول أبي فراس الحمداني:
نُتِــج الربيــعُ محــاسنــاً ألقحنَــها غرُّ السحــائب
وكذا قول محمد بن أمية:
رأين الغواني الشيبَ لاح بعارضي فأعرضنَ عني بالخدودِ النواضرِ([380])
فالشاعران ذكرا ضمير الفاعل (نون النسوة) في قولهما: (ألقحنها)، و(رأين) مع ذكر الفاعل الظاهر بعده، وهو قولهما: (غرُّ)، (الغواني).
فلا يصح أن يقال عن قوله: (رأين الغواني) بأنه لحن، وأن صحيحه حذف الضمير: رأت الغواني، فقد نطق به الفصحاء من العرب؛ وإن جاء على خلاف قواعد المتأخرين منهم، أو بالأحرى على خلاف الشائع عند الكثير من قبائل العرب.
ومثله شاع اليوم عندنا استخدام كلمة (الذين) في معنى الوصل، وهي لغة فصيحة عند العرب، ومثلها في الفصاحة ما يقوله بنو عقيل وغيرهم من العرب الذين يستعيضون عنها بكلمة (الَّذُونَ)، وكذلك (الَّذُو)، كما في قول الشاعر:
قومي الذو بعكاظ طيروا شرراً من روس قومك ضرباً بالمصاقيل([381])
وقول الآخر:
نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحْـوا الصَّبَاحَا يَومُ النُّخَيلِ غَارَةً مِلحَاحَا([382])
ومثله قول الشاعر الهذلي:
هم اللاؤون فكوا الغل عني بمرو الشاهجان إلى الجناح([383])
فهل سيقال عن قبيلة هذيل أنها تلحن لقولهم (اللاؤون)، في حين أن غيرهم من العرب يقول (اللائي)؟.
ومثله حذف بعض العرب نون النسوة من الفعل المرفوع، في حين أن القواعد التي وضعها المقعِّدون بعد ذلك تعتبر إثبات النون علامة على رفع الفعل، بينما حذفها يعني جزمه أو نصبه، فهل سيقول أعاجم العرب اليوم أن هؤلاء العرب الأقحاح يلحنون؟
وهل سيتهمون الشاعر المبدع بشار بن برد باللحن والجهل لأنه حذف نون النسوة في قوله:
فلقد كان ما أكابد منها ومن القلب يتركاني وحيداً([384])
ثالثاً: القرآن نزل بلسان عربي مبين ﴿ قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ (الزمر: 28)، والعرب لم تعرف قواعد اللغة إلا بعد الإسلام، وقد وضعها المسلمون كالخليل بن أحمد وسيبويه وابن نفطويه وأمثالهم، واستنبطوها من القرآن أولاً ثم من أشعار العرب ومأثوراتها ثانياً، فكيف يحاكم القرآن إلى قواعد وجدت بعده، بل أخذت منه.
إن تقريرنا لهذه القواعد العامة كاف في الرد على كل الأباطيل المتعلقة بالنحو، لكن كفايتها لن تمنعنا من الرد التفصيلي على ما اشتبه على أصحاب الشبهات والأباطيل:
المسألة الأولى: رفع اسم (إنَّ).
قالــوا: أخطأ القرآن في قوله تعالى – حسب قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم -: ﴿ إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ فقالوا: رفع القرآن اسم إن بالألف، وكان المفروض أن ينصبه بالياء، فيقول: (إن هذين لساحران).
والجواب من وجهين :
الأول: أن قوله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ﴾ جاء على لغة بلحارث بن كعب وزبيد وخثعم وهمدان ومن وليهم من قبائل اليمن، حيث يلزمون المثنى الألف مهما كان موقعه من الإعراب، قال ابن جني: "من العرب من لا يخاف اللبس، ويجري الباب على أصل قياسه، فيدع الألف ثابتة في الأحوال، فيقول: قام الزيدان، وضربتُ الزيدان، ومررتُ بالزيدان، وهم بنو الحارث وبطن من ربيعة"([385]) .
ومن صور ذلك قول شاعرهم هوبر الحارثي:
تزود منا بين أذناه ضربةً دعته إلى هابي الترابِ عقيمُ ([386])
فألزم المثنى الألف في قوله: (بين أذناه)، ولم يقل (بين أذنيه) كما هو معهود في قواعد اللغة التي كتبها النحاة بعده حسب الشائع عند غير قبيلته من قبائل العرب.
ومثله قول جرير بن عبد العزى الحارثي:
فأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأى مَساغاً لِناباهُ الشُّجاعُ لصَمّما ([387])
فألزم المثنى الألف في قوله: (لناباه)، مع أنه مجرور باللام، فهذه لغة قومه، وهم من هم في الفصاحة والبلاغة.
ومثله قول الآخر:
أعرف منها الجيدَ والعينانا ومَنخران أشبها ظبيانا([388])
وفيه من شواهد مسألتنا ثلاث كلمات (العينانا) و (منخران) و (ظبيانا)، فهي جميعا مثنى منصوب بالألف؛ خلافاً لما قعَّده العلماء بعد ذلك وفقاً للمشهور في لغة العرب من نصب المثنى بالياء.
الوجه الثاني: أن من العرب الأقحاح الفصحاء من يقلب كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها إلى (ألف).
وبمثل هذا قال أبو النجم العِجْلي:
واهاً لسلمى ثم واهاً واها هي المنى لو أننـا نلنـاها
ياليت عينَاها لنــا وفـاها بـثمـن نُرضـي به أبـاها
إن أباهــا وأبــا أبـاها قد بلغـا في المجـد غـايتَاها
فقد أبدل الشاعر الياء الساكنة المفتوح ما قبلها بالألف في قوله: (عيناها بدلاً من عينَيْها) وكذلك (غايتاها بدلاً من غايتَيْها).
ومثله قول الشاعر:
أي قلوص راكب تراها اشْدُدْ بمَثْنَيْ حَقَبٍ حَقْواها
ناجيَــةً وناجيــاً أَبـاها طـاروا عـلاهن فَطِر علاها
قال ابن الحاجب: "القياس: عليهن وعليها، لكن لغة أهل اليمن قلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها، هذا الشعر من كلامهم" ([389]).
المسألة الثانية: نصب الفاعل
قالــوا: القرآن نصب الفاعل (الظالمين) في قوله: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ (البقرة: 24). قالوا : والصحيح أن يقول (الظالمون)، فالظالمون لا ينالون العهد. فجعل القرآن الفاعل منصوباً!.
الجـواب: أن القرآن الكريم رفع الفاعل في مواضع لا تحصى لكثرتها، ورفع الفاعل أمر يدركه صغار طلاب الكتاتيب، ولا يحتاج في معرفته إلى خبير في اللغة العربية، فإذا علم ذلك فإن الحصيف إذا ما وجد أمراً استغربه – في كتاب ما- لوروده على خلاف المعهود فإنه لن يسارع إلى تجهيل المؤلف أو تغليطه، إذ مثل هذا لا يغلط به أحد.
والحق أن الخطأ وقع فيه المتحذلقون الذين ظنوا أن الفاعل في الآية هو (الظالمون)، والصحيح أن (العهد) هو الفاعل، وقوله: (الظالمين) مفعول به، والمعنى: لا يشمل عهدي واستخلافي الظالمين.
وهذا التعبير شائع عند العرب، فيقولون: هذا ناله خيرٌ، وذاك ناله ظلمٌ.
وهو مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ (الأعراف: 152)، والمعنى: سينال غضب الله الظالمين ، ومثله في قوله تعالى: ﴿أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾ (الأعراف: 37)، فالفاعل في الجملة (نصيب)، كما الفاعل في الآية السابقة (غضب) ، وفي الآية التي استشكلوها (عهدي)، ولم تظهر عليها علامة الرفع لتعذره بسبب إضافتها إلى ضمير المتكلم (الياء)، إذ يتعذر النطق بـ (عهدُي)، فتبين جهل القائلين بهذه الأبطولة، أو بالأحرى عجزهم عن الإتيان بغلط في القرآن يوافقهم عليه البلغاء والعقلاء.
المسألة الثالثة: عطف المنصوب على المرفوع
قالـوا: العرب تعطف مرفوعاً على مرفوع، ومنصوباً على منصوب ، في حين أن القرآن عطف على المرفوع منصوباً في قوله: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 162)، فقالوا: يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع، فيقول: (والمقيمون الصلاة) بدلاً من نصبه في قوله: ﴿ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، لأنها معطوفة على مرفوع ﴿وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ وقوله: ﴿ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ﴾.
والجـواب: أن الواو في قوله ﴿ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾ ليست واو العطف، بل واو معترضة، وما بعدها منصوب على الاختصاص بالمدح، أي: وأمدح المقيمين الصلاة، وفي هذا مزيد عناية بهم عن المذكورين في الآية، فـ﴿ المُقِيمِينَ ﴾ منصوبة على المدح، كما قال إمام اللغة سيبويه([390]).
ومثله قوله تعالى في آية أخرى: ﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّـراء﴾ (البقرة: 177)، فلم يقل: (والصابرون) وقد سبقها: ﴿الْمُوفُونَ ﴾، والتقدير: وأخص بالمدح الصابرين في البأساء.
ونصب ﴿المُقِيمِينَ﴾ خلافاً لنسق ما قبله وما بعده ؛ وهي طريقة في الإنشاء تفعله العرب لفتاً لنظر القارئ أو السامع إلى أهمية ما بعده وخصوصيته، وتفعله بقصد المدح كما في هذه الآية ، أو بقصد الذم كما في قوله تعالى: ﴿ وامرأتُه حمالةَ الحطب ﴾ (المسد: 4)، أي أعني حمالة الحطب، فنصب ﴿ حمالةَ ﴾ على الاختصاص بالذم.
والنصب على الاختصاص سائغ ومعروف في كلام العرب، ولم يستنكره إلا أعاجم العربية اليوم ، وقد كثر في أشعار العرب وآدابها ، ومنه قول الخِرنقُ بنتُ بدر بن هَفَان وهي ترثي زوجها بشر بن عمرو الضبعي:
لا يبعدن قومي الذين هم سمُّ العـداة وآفةُ الجُزْر
النـازلــين بـكل مـعترَك والطيبون معاقد الأُزْرِ([391])
فقولها: (النازلين) منصوب على الاختصاص، وليس صفة أو معطوفاً على: (سمُّ العداة) و(آفةُ الجزر).
ومثله قول أميةَ بن أبي عائذ:
وَيَــأوي إلَى نِسْــوَةٍ عُطَّلٍ وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
فنصب « شُعْثاً » على الاختصاص ، مع أنه معطوف على مجرور.
وهكذا فالقرآن الكريم نصب قوله تعالى: ﴿والمُقِيمِينَ﴾ على الاختصاص، والواو هي واو الاعتراض ؛ لا العطف.
المسألة الرابعة: عطف المرفوع على منصوب في قوله ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾
قالــوا: المعطوف على المنصوب حقه في لغة العرب النصب، والقرآن رفعه مخالفاً قواعد العربية في قوله: ﴿إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ (المائدة: 69)، والصحيح – حسب حذلقتهم – أن ينصب المعطوف على اسم إنَّ، فيقول: (والصابئين) كما في سورة البقرة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله ﴾ (البقرة: 62)، وسورة الحج: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى ﴾ (الحج: 17).
والجـواب: أن الواو في الآيتين الأخيرتين للعطف، والمعطوف على المنصوب منصوب، بينما الأمر مختلف في قوله: ﴿إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾، فالواو فيه استئنافية، وليست للعطف على الجملة الأولى.
وقوله: ﴿وَالصَّابِئُونَ﴾ مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف، قال سيبويه والخليل: "الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا... والصابئون كذلك"، ومثّل له سيبويه بقول الشاعر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق([392])
ومثله قول ضابئ البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رحلُه فإني وقيَّارٌ بها لغريب([393])
فرفع الشاعر اسم فرسه (قيار)، وهو فيما يظهر معطوف على منصوب (ياء المتكلم في قوله: فإني)، فرفع الشاعر (قيار) على الابتداء ، والمعنى: إني غريب، وقيار كذلك غريب، ومثله سواء بسواء رفع ﴿الصَّابِئُونَ﴾ في الآية المستشكلة.
لكن يشكل على هذا التخريج ما أورده أبو عبيد في "فضائل القرآن" من خبر يرويه أبو معاوية الضرير من طريق هشام بن عروة بسنده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: (يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب) ([394])، فهذا الخبر لا يصح سنداً، وهو منكر متناً.
فأما ضعف إسناده فسببه أبو معاوية الضرير، قال عنه المزي: "روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر أحاديث مناكير .. قال ابن خراش: صدوق، وهو في الأعمش ثقة، وفي غيره فيه اضطراب"([395]).
وأما الذهبي في ميزان الاعتدال فنقل عن الإمام أحمد قوله عنه: "هو في غير الأعمش مضطرب، لا يحفظها حفظاً جيداً، علي بن مسهر أحب إلي منه في الحديث".
ثم قال الذهبي: "وقد اشتهر عنه الغلو، أي غلو التشيع"([396]).
وقال أبو داود: "أبو معاوية إذا جاز حديث الأعمش كثر خطؤه، يخطئ على هشام بن عروة، وعلي بن إسماعيل، وعلى عبد الله بن عمر"([397])، وهذا الأثر يرويه أبو معاوية عن هشام، فروايته مما يظن فيه الاضطراب".
وأعلَّ يعقوبُ بن شيبة أبا معاوية بعلة أخرى هي التدليس، فقال عنه: "ثقة ربما دلس، وكان يرى الإرجاء"([398])، ومن المعلوم في قواعد الرواية أن المدلس يقبل حديثه إذا صرح بالتحديث [أي قال: حدثني فلان]، ويتوقف فيه إذا عنعنه [أي قال: عن فلان]، وقد عنعن أبو معاوية في هذه الرواية، وهو ينقلها عن هشام بن عروة.
فهذه العلل ظلمات بعضها فوق بعض، وكلها تضعف الرواية من جهة إسنادها، ولا تشفع لها ولا تقويها رواية ابن شبة([399]) التي يرويها عن أحمد بن إبراهيم الموصلي عن علي بن مسهر ، لضعف الموصلي أحمد بن إبراهيم ، فقد وصفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين بأنه "لا بأس به"، وهي عند علماء الجرح لا تفيد توثيقاً لروايته، كما لا تفيد جرحاً.
وأما شيخه في هذه الرواية، ابن مسهر فقال عنه ابن حجر: "قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد أن أضر"([400])، فمن كان هذا حاله ترد عليه غرائبه ، وتطوى ولا تُروى.
ولو فرض المحقق صحة الإسناد فإن في المتن ما يقتضـي رده، إذ ينسب إلى عائشة رضي الله عنها جهلها بما ذكرناه من أوجه الإعراب التي لا تخفى على العرب زمن النبي ﷺ، وقد بيَّن ذلك الإمام أبو عمرو الداني حين أعل الرواية لأنها جعلت "أم المؤمنين رضي الله عنها مع عظيم محلها وجليل قدرها واتساع علمها ومعرفتها بلغة قومها؛ لحَّنت الصحابة وخطّأت الكتبة، وموضعهم من الفصاحة والعلم باللغة، وموضعهم الذي لا يُجهل ولا يُنكر، هذا لا يسوغ ولا يجوز.
وقد تأوّل بعض علمائنا قول أم المؤمنين: (أخطؤوا في الكتاب) أي"أخطؤوا في اختيار الأَولى من الأحرف السبعة بجمع الناس عليه، لا أن الذين كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز، لأن ما لا يجوز مردود بإجماع، وإن طالت مدة وقوعه وعظم قدر موقعه، وتأوّل اللحن أنه القراءة واللغة" ([401]).
وأكد على هذا المعنى الزمخشري: "ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب، وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وغُبِّي عليه أن السابقين الأولين - الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل - كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذَبِّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم" ([402]).
المسألة الخامسة: الجمع بين فاعِلَين في الجملة
قالــوا: العرب لا تأتي بضمير فاعل مع وجود الفاعل (اسم ظاهر)، حتى لا يكون في الجملة فاعِلَيْن، بينما القرآن جعل للفعل فاعِلَيْن في قوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الذِينَ ظَلَمُوا﴾، ورأى المتحذلقون من أعاجم العرب أن الأولى أن يقول: (وأسر النجوى الذين ظلموا)، أي حذف ضمير الفاعل (الواو) في ﴿أسرّوا﴾ لوجود الفاعل ظاهراً وهو قوله: ﴿الذين﴾.
الجـواب: سبقت الإشارة إليه في مقدمة هذا المبحث، فهذا الأسلوب جائز على لغة طيء وأزد شنوءة، وهم من العرب الفصحاء، ويضرب اليوم لهذه اللغة مثلاً، وهو قولهم لغة (أكلوني البراغيث).
والعرب تعرف هذا في آدابها وأشعارها([403])، كما قال الشاعر:
نصروك قومي فاعتززتَ بنصرهم ولو أنهم خـذلوك كنتَ ذليـلا
فقد ألحق الشاعر الواو بالفعل في قوله: (نصروك)، مع أن الفعل مسند إلى فاعل ظاهر بعده، وهو قوله: (قومي).
ومنه قول عبد الله بن قيس في رثاء مصعب بن الزبير:
تولى قتال المارقين بنفسه وقد أسلماه مبعدٌ وحميم
فقد وصل الشاعر ألف التثنية بالفعل؛ مع أن الفاعل اسم ظاهر (مبعد)، وكان القياس على القاعدة أن يقول: (وقد أسلمه مبعد وحميم).
ومنه قول الشاعر:
فأدركنه خالاتُه فخذلنه ألا إن عرق السوء لا بد مدرِك
فألحق نون النسوة بالفعل في قوله: (فأدركنه)، مع وجود اسم الفاعل ظاهراً (خالاتُه).
وقد تكرر مثل هذا النسق الإعرابي في آيات قرآنية وأحاديث نبوية، منها قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾ (المائدة: 71)، فقد ألحق علامة جمع الذكور (الواو) بالفعل في قوله: ﴿ عَمُواْ وَصَمُّواْ ﴾ مع أن هذا الفعل مسند إلى فاعل ظاهر بعده، وهو قوله: ﴿ كَثِيرٌ ﴾ ، ومنه قوله ﷺ: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» ([404]).
فهل تراه بقي لطاعن ما يتكلم به وقد عرف أصالته في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم .
المسألة السادسة: رفع الفعل المضارع بعد (حتى)
قالــوا: أخطأ القرآن حين رفع الفعل المضارع بعد (حتى) في قراءة ورش ﴿حَتَّى يَقُولُ والرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ (البقرة: 214)، ورأوا أنه لا يصح فيها إلا الفتح، وهو الوجه المشهور عند بقية القراء .
والجـواب: إن (حتى) من أعجب كلام العرب لكثرة صور إعرابها، وما تدل عليه في استعمالاتها، فمنها ما هو للعطف، ومنها ما هو للابتداء، ومنها ما هو لغير ذلك، ولكثرة معانيها واستخداماتها في لغة العرب قال أبو زكريا الفراء: "أموت وفي نفسي شيء من حتى"([405]).
وللفعل المضارع بعد (حتى) ثلاث حالات:
1- الفعل المضارع الدال على الاستقبال، ويتعين نصبه، كقوله تعالى: ﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ (الحجرات: 9).
2- المضارع الدال على الحال، ويتعين رفعه، ومثَّل العرب له بقولهم: "شربتِ الإبل حتى يجيءُ البعير يجر بطنه".
3- المضارع الدال على الماضي في معناه، ويجوز فيه الوجهان: الرفع والنصب، فأما الرفع فلكونه ماض في معناه، وأما النصب لكونه صيغة مستقبل، وقد جمعها الراجز ([406]) بقوله:
تلخيص مسـألة حتى يا فـتى رفعـك حالاً بعدهــا إذا أتى ونصب ما استقبــل والوجـهان في ما مضـى معنى فخذ بياني كشــربـت حــتى تجــيئُ الإبــــل ومـا تلا (فقاتـلــوا) (وزلزلــوا)
وعليه فيجوز الوجهان (الرفع والنصب) في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ (البقرة: 214)، لأنه ماض في معناه([407]).
وهكذا تبين جهل القائلين بوجود اللحن في القرآن، وتســرعهم في الطعن عليه من غير حجة ولا بينة([408]).
***
وإذا كان القرآن قد تحدى العرب ببلاغته زمن جزالة اللغة وحجية الناطقين بها؛ فإن بعض أعاجم العرب اليوم يزعمون أن في أساليب القرآن ما لا تجيزه العرب في كلامها، وكأني بهم لم يطلعوا على خبر لبيد بن ربيعة العامري صاحب إحدى المعلقات السبعة، وهو من فحول شعراء العرب، فقد سأله عمر بن الخطاب يوماً: أنشدني من شعرك. فقرأ له لبيد سورة البقرة ، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتاً من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران.
وقد ترك قول الشعر إعجاباً بالقرآن، حتى قيل أنه لم يقل بعد الإسلام إلا بيتاً واحداً، وهو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحــه القرين الصــالح
وقيل بل قال:
الحمد لله إذ لم يأتني أجـلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالاً([409])
إن عظمة البيان القرآني دعت المستشـرق بلاشير إلى الإشادة والإعجاب ببلاغة القرآن، وهو الذي لم يألُ جهداً في الطعن في القرآن ومعاداته في كتابه "القرآن الكريم"، لكنه قال: "إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية رائعة؛ تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجلته من التحف"([410]).
وإذا كان الأمر كذلك فلسوف نتوقف مع أهم ما استشكله عباقرة البيان في هذا العصر، ممن لا يفرق بين المرفوع والمنصوب، والمشبه والمشبه به:
المسألة الأولى: عود الضمائر في قوله: ﴿ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ﴾ إلى رسول الله ﷺ.
قالــوا: أتى القرآن بتركيب يؤدي إلى اضطراب المعنى، وذلك في قوله : ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ` لتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الفتح: 8-9)، فقالوا: الأصل في الضمير عوده على آخر مذكور، بينما نجد أن الضمير في قوله: ﴿تعزّروه وتوقروه﴾ عائد على الرسول المذكور آخراً.
وأما قوله: ﴿تُسَبِّحُوهُ﴾ عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً.
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بطريقين صحيحين:
الأول : اعتبر ابن الجوزي جمع شيئين مختلفين في سياق واحد من صور بلاغة العرب ، فيرد كل واحد منهما إلى ما يليق به، وضرب له أمثلة، منها هذه الآية، وأمثلة أخرى، منها قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْـرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْـرَ اللهِ قَرِيبٌ ﴾ (البقرة: 214). فالمعنى يقول المؤمنون: ﴿مَتَى نَصْرُ اللهِ﴾، فيقول الرسول: ﴿ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ﴾ .
ومن أمثلته أيضاً قوله تعالى: ﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ﴾ (القصص: 73)، فالسكن بالليل، وابتغاء الفضل بالنهار، لكنه جاء بالسكن بعد ذكر النهار، لأن السامع يعلم اختصاص الليل بالسكن، والنهار بالبحث عن الرزق وابتغاء فضل الله فيه.
وبمثله يمكن فهم آية سورة البقرة، فالمعنى: لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروا رسوله وتوقروه، فهذان من حق الرسول، ثم شرعت الآية في الحديث عن حق الله فيقول: وتسبحوه، وأهمل التفصيل لأنه مستغنى عن ذكره لكونه معلوماً عند أهل العلم والبيان، ومن المعيب في البيان ذكر ما يستغنى عنه.
ولهذا المعنى حبذ القرطبي الوقوف على قوله: ﴿ َتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ﴾ ثم الابتداء بقوله: ﴿ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾([411]).
الثانـي: أنه ليس ما يمنع أن تعود الضمائر كلها على الله، أي لتؤمنوا بالله وتعزروه أي تنصروه، وتوقروه وتسبحوه، فتعزير الله هو نصره تبارك وتعالى بنصر دينه، وهو كقوله: ﴿ إِن تَنصُـرُوا اللهَ يَنصُـرْكُمْ ﴾ (محمد: 7)، وكقوله ﷺ: «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، فقال: لله ولرسوله ولكتابه»([412]).
المسألة الثانية: ورود ضمير المفرد في سياق التثنية
قالــوا: أتى القرآن بضمير المفرد في حديثه عن المثنى، وذلك في قوله: ﴿والله ورسوله أحق ان يرضوه﴾ (التوبة: 62)، وقالوا مستنكرين: لماذا لم يثنّ الضمير العائد على اثنين (اسم الجلالة ورسوله)؟ فالأولى تثنيتهما، وأن يكون السياق: (أحق أن يرضوهما).
وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة:
أ- إفراد الضمير ليختص بالحديث عن الله، وليدل بذلك على أن إرضاء الله هو عين إرضاء الرسول، فمن أرضى الله فلا ريب أنه أرضى الرسول ﷺ، ومثله قول الله: ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ﴾ (النساء: 80)، فأفرد الضمير لتلازم الرضائين.
كما أهمل عود الضمير على الرسول لمعنى آخر: وهو التفريق بين الرضائين (رضا الله ورضا رسوله)، فإرضاء الله مقصود لذاته، بينما إرضاء الرسول تبع لرضا الله، لا يستقل، ولو استقل رضاه عن رضا الله – وحاشاه – لما صح أن يطلب رضاه.
ب- الأَولى أن لا يذكر مع اسم الله أحد، فلا يُثنَّى مع اسم الله ملَك ولا رسول، ولا يُذكر الله تعالى مع غيره في صيغة تشرك معه غيره ، بل يفرد بالذكر تعظيماً له، ففي صحيح مسلم أن خطيباً قام عند النبي ﷺ فقال في خطبته : "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى". فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «بِئْسَ الخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ»([413]). فكره النبي ﷺ أن يجمع مع الله غيرُه في ضمير واحد.
ج- وذهب سيبويه في فهم الآية على وجود خبر محذوف للعلم به ضرورة، فالمعنى: (الله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك)، فيكون الكلام جملتين حُذف خبر إحداهما لدلالة الثاني عليه، والتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك([414])، قال أبو عبيدة : "والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصَروا، فخبَّروا عن أحدهما استغناء بذلك، وتحقيقاً لمعرفة السامع أن الآخر قد شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد :
فمن يك أمسى بالمدينة رحْلُهُ فإنـي وقيَّـارٌ بهــا لغريب" ([415])
ولم يقل: (لغريبان)، فالمعنى: (إني لغريب، وقيار كذلك) .
ومثله كثير في أشعار العرب([416]) كقول الفَرَزدق:
إنّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أتانِي ما جَنى وأَبي فَكانَ وكُنْتُ غَيرَ غَدُورِ
ولم يقل: (غَدُورَيْن)، والمعنى: (فكنت غير غدور ، وأبي كذلك).
ومثله قول عمرو بن أحمر الباهلي:
رماني بأمر كنتُ منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني
ولم يقل: (بريئين). والمعنى: (من أجل شجارنا عند بئر الطوى رماني بما أنا بريء منه ، وكذلك والدي).
وهذا الذي عرفته العرب([417]) من الاكتفاء بأحد المذكورَين، والاستغناء بذكره عن الآخر لشرف الأول أو لغيره من الأسباب البيانية تكرر كثيراً في القرآن: كقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾ (الجمعة: 11)، لم يقل: (إليهما)، بل أعاد الضمير إلى التجارة؛ لأنها الأهمّ.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً﴾ (النساء: 112)، أي يرمي بالإثم، ولم يقل: (بهما)، بل أعاد الضمير على الإثم دون الخطيئة، لأنه أعظم منها.
المسألة الثالثة: خطاب المثنى بصيغة الجمع
قالــوا: أتى القرآن بالمعيب عند أهل البيان حين ذكر المثنى بصيغة الجمع، في قوله تعالى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ (التحريم: 4 )، فالخطاب موجّه لحفصة وعائشة. فلماذا لم يقل: (صغا قلباكما)، إذ أنه ليس للاثنتين أكثر من قلبين؟
وفي الجواب ذكر علماء اللغة أجوبة، أهمها:
أ- أن الله قد أتى بالجمع في قوله: ﴿ قُلُوبُكُمَا ﴾ ، لأنه يسوغ في لغة العرب؛ لإضافته إلى مثنى، وهو ضميرهما. والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى. فإن العرب تكره اجتماع تثنيتين، فيعدلون إلى صيغة الجمع؛ لأن التثنية جمع في المعنى والأفراد.
ب- أن الكثير من العرب يجعل أقل الجمع اثنين، والقرآن وافق العرب في أساليبها في هذا الموضع وفي غيره ، فعبر عن المثنى بالجمع، ومنه قول الله لآدم وحواء: ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ (البقرة: 36)، ووافق أسلوب غيرهم ممن يجعل أقل الجمع ثلاثة في سورة طه، فقال: ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ (طه: 123).
ومثله قول الله لموسى وهارون: ﴿قَالَ كَلاَّ فاذهبا بآياتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ﴾ (طه: 15 )، ووافق أسلوب الآخرين في سورة طه: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى﴾ (طه: 46).
وأمثلته في كلام العرب أكثر من أن تحصى، ومنه قول الأخفش:
لما أتتنا المرأتان بالخـبر فقلنَ إن الأمر فينا قد شهر
وقال أبو سعيد الزيدي:
يحيِّي بالسلام غنيَّ قوم ويَبخلُ بالسـلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواءً إذا ماتوا وصاروا في القبور ([418])
فقال: (ماتوا)، ولم يقل : (ماتا)، مع أن واو الجماعة تتعلق باثنين، وهما الغني والفقير.
المسألة الرابعة: تذكير المؤنث
قالــوا: أخطأ القرآن حين ذكَّر المؤنث في قوله تعالى: ﴿اللهُ الذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ بِالحَقِّ وَالمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى: 17)، فقال في سياق حديثه عن (الساعة)، وهي مؤنثة: ﴿ قَرِيبٌ ﴾ ولم يقل: (قريبة).
ومثله في قوله: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِين﴾ (الأعراف: 56)، ولم يقل: (قريبة)، مع أنه يتحدث عن رحمة الله، وهي مؤنثة.
والجـواب: أن المعترض يجهل أن العرب تجيز التسوية بين المذكر والمؤنث في مواضع، أهمها خمسة أوزان، وهي: (فعول) كرجل شكور وامرأة شكور، (مِفْعال) كرجل مِقدام وامرأة مِقدام، (مفِعيل) كرجل مسكين وامرأة مسكين، (مِفعَل) كرجل مغشم وامرأة مغشم، (فعيل) كرجل جريح وامرأة جريح ([419]).
وقوله تعالى: ﴿قريب﴾ على وزن (فعيل)، فيسوى فيها بين الذكر والأنثى.
ومنه قول امرئِ القيس
له الوَيْلُ إِنْ أَمْسَى ولا أُمُّ هاشمٍ قَريبٌ ولا البَسْباسةُ ابنةُ يَشْكُرا
ومنه قول قيس بن الخطيم:
فليت أهلي وأهل أثـلة في الـ دار قريب من حـيث نختـلف
ومثله قول وضاح:
حين تـــنبي أن هنــداً قريب يبلغ الحاجــات منها الرسـول
ومثله قول عبد الله بن الحجاج:
وأنى ترجي الوصل منها وقد نأت وتبخل بالموجود وهي قريب
وقد جمع بين الوجهين (بعيدة ، قريب) الشاعر بقوله:
عشيــة لا عـذراءُ منــك بعيــدة فتدنو ولا عذراءُ منك قريب ([420])
المسألة الخامسة: ضمير الجمع والإفراد
قالــوا: القرآن يخلط بين المفرد والجمع، وذلك في قوله: ﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ﴾ (البقرة: 17)، فصدر الآية يتحدث عن مفرد ﴿ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ﴾ ، لكنه في آخر الآية استخدم ضمير الجمع ﴿ بِنُورِهِمْ ﴾، والأَولى - حسب زعمهم - أن يقول: (بنوره)، كما استشكلوا أمراً آخر، وهو تشبيه الجماعة بالواحد.
والجـواب: أن الله لم يشبه الجماعة بالواحد، وإنما شبه قصتهم بقصة المستوقد، فالمعنى: مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه بلسانهم وهُم به مكذبون اعتقاداً؛ كمثَل استضاءة المُوقِد ناراً.
ولن يعترض معترض على قولنا: (كمثل استضاءة)، فالحذف في الكلام معروف عند العرب، إذا فهم المعنى من السياق، كما قال نابغةُ بني جَعْدَة:
وَكَيْفَ تُوَاصِل من أَصْبَحَتْ خِــلالَتُهُ كَأَبــِي مَرْحَـبِ ([421])
أي: كخِلالة أبي مَرْحب. فأسقط (خِلالة)، لأنها مفهومة من السياق.
وأما تمثيلَ الجماعةَ بالواحد فجائز، ومثاله كثير في القرآن ولغة العرب ، كقوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ ﴾ (الجمعة: 5).
ثم يصح أن يقال: إن الآية تتحدث عن مستوقد واحد أضاء للمجموع، فصار هذا الضوء لهم جميعاً، لأنهم جميعاً منتفعون به.
ووجه آخر لم يعرفه أعاجم العرب الطاعنون في القرآن، وهو أن العرب تأتي بـ (الذي) بمعنى (الذين)، كما قال الأشهب بن رميلة:
وإن الذي حانت بفَلْج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
ومثله قول الشاعر:
ربَّ عَبْس لا تُبارِكْ في أَحَدْ في قائـمٍ منهــم ولا فيمن قَعَدْ
إلاّ الذي قامُوا بأَطرْاف المَسَدْ([422])
وهكذا تبين جهل الطاعنين في بلاغة القرآن وأسلوبه، لقد جهلوا لغة العرب وبلاغة القرآن التي عرفها أعداؤه زمن بلاغة العرب وجزالة اللغة، فقال قائلهم (الوليد بن المغيرة): والله إنَّ لقولِه الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلا، وإنه ليَحطِم ما تحته"([423]).
***
التناسق الداخلي للنص شرط لا غنى عنه في الكتاب حين ينسب إلى كاتب حصيف، وهو من باب أولى شرط في الكتاب حين ينسب إلى الله عز وجل؛ لذا يستحيل أن يوجد التناقض في كلام الله ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ (النساء: 82).
وما ذكره البعض عن تناقضات مزعومة في القرآن لا يعدو أن يكون سوء فهم منهم لآياته أو جهلاً بلغة العرب ومساقات كلامها، وهذا بيِّن لمن تبصـر هذه المواضع التي استشكلوها:
الإشكال الأول: هل أقسم الله بمكة أم لم يقسم؟
قالــوا: تناقض القرآن في مسألة قسم الله بمكة، فهو أقسم بها في قوله: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ (التين: 3)، وفي موضع آخر ينكر هذا القسم بمكة، فيقول: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ (البلد: 1).
والجــواب: لقد أقسم الله بالبلد الأمين (مكة) كما في آية سورة التين.
وما فهمه المعترضون من آية سورة البلد خطأ قادهم إليه جهلهم بلغة العرب وطرائقها في البيان، ففي قوله: ﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾. (لا) ليست (لا) النافية التي تعني نفي القسم، بل هي (لا) الصلة، ويسميها بعض النحويين (لا) الزائدة، فهي زائدة نحوياً، وإن كانت غير زائدة بلاغياً، لأنها تفيد التأكيد([424]).
قال الزجاج : "لا اختلاف بين الناس أن معنى قوله تعالى : ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ وأشكاله في القرآن معناه: أقسم"([425]).
والعرب ما زالت تستخدمها في كلامها من القديم، فهي كقولنا: لا أوصيك بفلان، أي لا أحتاج إلى وصاتك به، فهي نوع من التأكيد على الوصاة، وليست طلباً للإهمال.
ومن طريف الأخبار أن رجلاً سأل أبا العباس بن سريج عن هاتين الآيتين، فقال ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك؟ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال الرجل: بل اقطعني ثم أجبني.
فقال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله ﷺ بحضـرة رجال ، وبين ظهراني قوم كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزاً وعليه مطعناً ، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ، ولكن القوم علموا وجَهِلْتَ، فلم ينكروا منه ما أنكرت ([426]).
إن العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها وتلغي معناها، وأنشد فيه أبياتاً([427]).
ومثله كثير في أشعار العرب([428])، ومنه قول النابغة:
فَلاَ وَحقِّ الَّذِي مَسَّحْت كَعْبَتَهُ وَمَا هُرِيق عَلَى الأنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
أي: فوحق الذي...
وقول الآخر:
تذكرت ليلى فاعـترتني صبابـة وكاد صميم القلب لا يتصدع
أي: يتصدع .
ومثله قول الشاعر:
فَلاَ وَاللهِ لاَ يُلْقَى لمَاِ بـي وَلاَ لِما ِبهــمْ أبَــداً دَواءُ
أي: فوالله .
ومثله قول طرفة:
فَلاَ وَأَبِيكِ ابنة العامري لا يدعـي القـوم أني أفر
أي : وأبيكِ .
وهذا الأسلوب في القسم يفيد تعظيم المقسم به ، كما في سورة البلد، وكما في قوله تعالى : ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ` وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ` إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ﴾ (الواقعة: 75-77)، وكقوله : ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ` وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ (القيامة: 1-2).
وقد وردت (لا ) الصلة في مواضع كثيرة في القرآن الذي نزل بلغة العرب، ومنه قوله: ﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ﴾ (آل عمران: 153)، أي (لتحزنوا)، وقوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ` أَلَّا تَتَّبِعَنِ ﴾ (طه:92-93)، أي (أن تتبعن)، وقوله: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ (النساء: 65)، أي: (فوربك)، وقوله: ﴿ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ (الحديد: 29)، أي : (ليعلم أهل الكتاب).
وقد ورد في سياق قصة آدم إثبات (لا) الصلة في موضع، وحذفها في آخر، لجواز الوجهين وتكامل معنييهما، فأما إثباتها ففي قوله تعالى: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ (الأعراف: 12)، وقد حذفت في قوله: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ (ص: 75 )، والمعنى فيهما واحد، وهو: ما الذي منعك أن تسجد لآدم؟.
الإشكال الثاني: كم عدد الملائكة الذين نزلوا يوم بدر؟
قالــوا: اختلفت الآيات في عدد الملائكة النازلين في غزوة بدر ، ففي سورة الأنفال أنهم ألف: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين﴾ (الأنفال: 9)، وفي سورة آل عمران أنهم ثلاثة آلاف ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ (آل عمران: 124)، وفي الآية التي بعدها أصبحوا خمسة آلاف ﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ (آل عمران: 125).
والجـواب: أما الخمسة الآلاف فجاء ذكرها في تعزية المسلمين في هزيمتهم في غزوة أُحد، فامتن الله على الصحابة بذكر مدد ملائكة بدر، وذكر لهم أن المشركين لو عادوا إليهم فإن الله سيمدهم بخمسة آلاف من الملائكة إذا صبروا على ما فيهم من الجراحات وثبتوا لقتالهم ﴿ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ (آل عمران: 124)، لكن الله منَّ على المسلمين بعد أن أظهروا الثبات وتجهزوا للقتال، فصرف عنهم المشركين، فلم يعودوا لقتالهم، ولم تتنزل الملائكة في أُحد لفوات الشـرط ﴿وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ ﴾.
وقال بعض أهل العلم: بل كان هذا الوعد في بدر حين بلغ المسلمين أن كرز بن جابر الفهري يمد المشركين، فشق عليهم، فأنزل الله: ﴿ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ` بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ (آل عمران: 125)، قال الشعبي: فبلغت كرز الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم يمد الله المسلمين بالخمسة آلاف([429])، فهذا خبر الخمسة آلاف.
والحق أن الله أنزل من الملائكة يوم بدر ثلاثة آلاف، كما قال النبي ﷺ لأصحابه قبل المعركة: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ (آل عمران: 124)، وقد نزل هؤلاء الملائكة بالترادف ألفاً بعد ألف، كما قال الله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين﴾ (الأنفال: 9)، فقوله: ﴿ مُرْدِفِين ﴾ تعني: ردفهم غيرُهم ويَتْبَعهم ألوف أُخر مثلهم، فالترادف هو التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف: المتقدم الذي أردف غيره([430]).
الإشكال الثالث: أيهما خلق أولاً، السماوات أم الأرض؟
قالــوا: تناقض القرآن حين تحدث عن ترتيب وجود المخلوقات، فتارة يجعل الأرض مخلوقة قبل السماء ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة: 29)، وأكد هذا في سورة فصلت: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ` وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ` ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ` فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (فصلت: 9-12)، فهذه الآيات تجعل خلق الأرض قبل خلق السماوات، بدليل قوله ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ﴾ في الموضعين.
وتارة يجعل القرآن خلق السماء قبل خلق الأرض ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ` رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ` وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ` وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ` أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ` وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ` مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ (النازعات: 27-33)([431]).
وفي الجـواب : عن هذه الشبهة وجوه ثلاثة:
الأول: وهو الذي مال إليه جمهور المفسرين في القديم، ويقوم على أن مادة الأرض خلقت في اليومين الأولين، ثم خلقت السماوات في اليومين الثالث والرابع، ثم دحيت الأرض وجهزت لتصلح لاستقرار حياة الإنسان في اليومين الأخيرين.
وهذا الوجه أخرجه البخاري معلقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه أن رجلاً استشكل مسألة ترتيب الخلق بين السماوات والأرض ، فسأله عنها ؛ فأجابه ابن عباس: (وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض ، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين).([432]) وشهرة هذا الوجه عند المفسرين تغني عن تفصيله.
الثاني: وهو الذي ذكره بعض المتأخرين من أهل العلم، وهو ما يترجح لي، وأجمله بالقول أن السماوات والأرض خلقتا معاً في اليومين الأولين، ثم تكامل خلق الأرض وإعدادها للإنسان في الأربعة الأخيرة من الأيام الستة.
وتفصيله : أن الله خلق السموات والأرض معاً مجتمعين ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ (الأنبياء: 30)، والرتق ضد الفتق ، أي كانتا منضمتين ، بعضهما إلى بعض، ثم فتقهما الله، فحدث ما يسمى عند علماء الجيولوجيا والفلك بالانفجار الكبير.
وقد وضحت هذا المعنى الآيات القرآنية كما في قوله تعالى عن يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الأنبياء: 104)، فالخلق يعود إلى حالته الأولى، فيطوى من جديد ﴿وَجُمِعَ الْشَمْسُ وَالقَمَرُ﴾ (القيامة: 9).
وأما كون الخلق للسماوات والأرض في يومين فهو لقول الله عن السماوات: ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾، وعن الأرض: ﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾، فهذان هما اليومان الأولان، ثم دحيت الأرض واكتمل إعدادها لصلاح معيشة الإنسان عليها في أربعة أيام أخرى ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ﴾.
وقد يشكل على البعض - ممن قلَّ علمه بلغة العرب ودلالات الألفاظ فيها- أن آيات سورة فصلت تحدثت عن خلق الأرض في يومين، ثم تحدثت عما خلق الله فيها في أربعة أيام ، ثم قال الله بعد ذكر هذا وذا: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ ﴾، فاعتقدوا أن ﴿ ثُمَّ ﴾ تفيد التأخر والتراخي، ومثله فهموه من قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾ (البقرة: 29).
وهكذا ينحصر الإشكال في دلالة كلمة (ثم) على التراخي والترتيب.
لكن أهل البلاغة يعرفون أن (ثم) لا تفيد بالضـرورة الترتيب الوجودي الذي نعرفه في المتبادر إلى الذهن، بل لـها دلالة أخرى، وهو ما تسميه العرب (الترتيب الذكري).
ولبيان هذا النوع من الدلالة لـ (ثم) نقرأ قول الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده([433])
والمعنى: اذكروا خبر من ساد، ثم اذكروا خبر من ساد أبوه، ثم اذكروا خبر من ساد جده. وليس المعنى أن المرء يسود ثم يسود أبوه ثم يسود جده، بل العكس هو الصحيح، فالمرء يسود بعد سؤدد جده وأبيه.
ويشهد لصحة هذا الفهم قول الشاعر: (ثم ساد قبل ذلك)، فـ (ثم) للترتيب الذكري ، لا الوجودي.
ومثله قول طرفة بن العبد وهو يصف راحلته :
جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّد
فإنه ذكر جملة من محاسنها، ثم نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها، وهو طول قامتها (ثم أُفرعت)، ولا يقصد أن قامتها طالت بعد اتصافها بهذه الصفات([434]).
وهذه الدلالة لـ (ثم) موجودة في القرآن الكريم في مواضع، منها قوله تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ` ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ` ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ (السجدة: 7-9)، ومن المعلوم أن التسوية تكون قبل إنجاب النسل، فهذا لا يخفى، ومع ذلك قال القرآن: ﴿ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ` ثُمَّ سَوَّاهُ ﴾ فـ (ثم) هنا للترتيب الذكري؛ لا الوجودي، والمعنى: ثم اذكر كيف سواه الله.
ونحو هذا ما جاء في سياق وصايا الله لنبيه محمد ﷺ: ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ﴾ وفي آخرها يقول: ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ` ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ (الأنعام: 153-154)، ومن المعلوم أن موسى كان قبل وصية الله لنبينا ﷺ، لكن الترتيب الوجودي غير مراد في قوله: ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ﴾.
ومثله أمره تبارك وتعالى للمؤمنين بالإفاضة من عرفات بعد حديثه عن المشعر الحرام ﴿ فَاذْكُرُواْ ٱللهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّالّينَ﴾ (البقرة: 198)، ثم عادت الآية التي بعدها للحديث عن مسألة الإفاضة من عرفات ووجوب مخالفة المـشركين فيها، وصدرت الآية بـ(ثم)، فقال الله: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللهَ إِنَّ ٱللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة: 199)، ومن المعلوم أن الوقوف بعرفات سابق على الوقوف بالمشعر الحرام (مزدلفة).
ومثله قول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ` ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ (التكاثر: 7-8)، والسؤال يكون يوم القيامة قبل رؤية الجحيم، وأمثال هذا الاستخدام لـ(ثم) كثير في القرآن ([435]).
وإذا تبين ما تفيده (ثم) عند العرب ، فلنقرأ الآيات مع أبي حيان الأندلسي وفق هذا المفهوم: "(ثم) لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة، كأنه قال: فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء ، فلا تعرض في الآية لترتيب .. فصار كقوله : ﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ (البلد: 17) بعد قوله : ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ (البلد: 11)، ومن ترتيب الإخبار ﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ (الأنعام: 154) بعد قوله : ﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ ﴾ (الأنعام: 151) .
ويدل على أنه المقصود ؛ الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد : ﴿ الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ (الرعد: 2) الآية، ثم قال بعد : ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً ﴾ (الرعد: 3) الآية . وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها ، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني" ([436]).
وهكذا يستبين معنى آيات سورة فصلت التي قد ورد فيها الإشكال، فقد بدأ القرآن بالحديث عن خلق الأرض، لأنها القريب المباشر للإنسان، ثم انتقل للحديث عن البعيد ، وهو السموات ، من غير أن يكون ذلك مقتضياً خلق الأرض قبل السماء.
وهكذا، فهذان الوجهان مذكوران عند العلماء في القديم والجديد، قد أشار ابن جزيء في تفسيره إلى صحتهما بقوله: " الجواب من وجهين: أحدهما: أن الأرض خلقت قبل السماء, ودحيت بعد ذلك, فلا تعارض, والآخر: تكون (ثم) لترتيب الأخبار" ([437]).
الوجه الثالث: أن الخلق على نوعين: خلق إيجاد، وخلق تقدير، فأما خلق الإيجاد فهو الخلق المعلوم، وأما خلق التقدير فكما في قول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
وضرب الرازي لهذه الخلقة مثلاً بقول الله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران: 59)، إذ "لا يقال للشـيء الذي وجد: كن ، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى ؛ حكمه أن سيوجد ، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين ، وقضاؤه بحدوث كذا ، أي مدة كذا ، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال ، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء"([438]).
فهذه أوجه ثلاثة من تدبرها استبان له المعنى، وعلم براءة القرآن من الاختلاف والتناقض، وعلم سعة لغة العرب وجهل أعاجم العرب المتحدثين بالسوء عن القرآن العظيم.
الإشكال الرابع: أحوال الناس في يوم القيامة
قالــوا: تناقض القرآن وهو يقص أحوال الناس في يوم القيامة، فتارة يقول: إنهم لا ينطقون: ﴿ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ` وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ (المرسلات: 35-36)، وتارة يذكر أنهم ينطقون ويعتذرون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 23)، وأنهم يقولون: ﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ﴾ (النحل: 28).
والجـواب: أن يوم القيامة يوم طويل ﴿كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (المعارج: 4)، وفيه مواقف متباينة، لكل منها ما يخصه من الأحكام والأحوال، ففيه حذر وترقب، وفرج وبشارة، وفيه حزن وهلاك، وأمن وأمان، والناس يتنقلون بين هذه المواقف، بل لربما تنقل المرء فيه من حال إلى حال، ففي حديث عائشة أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله ﷺ: «ما يبكيك؟»، قالت : ذكرتُ النار فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله ﷺ : «أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم: أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الكتاب حين يقال: ﴿ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ ﴾؛ حتى يعلم أين يقع كتابه، أفي يمينه أم في شماله؟ أم من وراء ظهره؟ وعند الصـراط: إذا وضع بين ظهري جهنم»([439])، فهذا لا يتعارض مع قوله: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس: 37)، فهذا الذهول لا يستغرق يوم القيامة، بل هو متعلق ببعض مواقفه، وهو لكل بحسب عمله وتقواه.
وهكذا فما يذكر من اختلاف الأحوال لاختلاف المواقف، ولطول ذلك اليوم وعظم شأنه عبَّر القرآن عن كل واحد منها بكلمة ﴿يوم﴾ أو ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، من غير أن تعني استغراق الفعل لكل ذلك اليوم الطويل.
ويدل لذلك قول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ` يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ` وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ` وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ` لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ` وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ` ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ` وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ` تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ` أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ (عبس: 33-42)، فذكرت الآيات في نفس السياق حالين للمؤمنين (الخوف ثم الفرح) وحالين للكافرين (الخوف والكآبة)، وكل هذه الأحوال في يوم القيامة، فالإشارة إلى حدوثها في يوم القيامة لا يعني دوام الحال الواحد واستغراقه لكل ذلك اليوم الطويل، فقوله: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ (عبس: 37)، لا يستوعب كل يوم القيامة؛ لوجود أوقات يأمن فيها المرء على نفسه، حين يعلم صلاح مآله ونجاته من النار، كما قال ﷺ في الحديث السالف: «أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً»، مما يعني أن في غيرها من المواطن يتذكر المرء أحبابه وخلانه، لأمنه فيها من العذاب.
وكذلك قوله: ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ` يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ (الفجر: 23-24)، ومن المعلوم أن مجيء النار وتذكر الإنسان لا يستغرق كل يوم القيامة، بل يكون في جزء منه.
الإشكال الخامس: هل يتساءل الناس يوم القيامة؟
قالــوا: يخبر القرآن عن أهل النار أنهم يوم القيامة يتساءلون: ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ﴾ (الصافات: 27)، بينما يخبر في سورة (المؤمنون) أنهم لا يتساءلون: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ (المؤمنون: 101)، وهذا - بحسب زعمهم - من التناقض الصـريح الذي يمنع نسبة القرآن إلى الله العليم.
وفي الجـواب ذكر العلماء وجهين صحيحين:
الأول: وهو ما ذكرناه في الإشكال السابق، ويتلخص في أنهم عند النفخة وقيام الأشهاد واضطراب الخلائق لا يتساءلون لهول المطلع﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ (المؤمنون: 101)، فهذا الوقت عصيب، وهو وقت فزع وخوف ﴿ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء الله وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ (النمل: 87)، مثله في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ` يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ ﴾ (الحج: 1-2)، ثم يفيق العباد من هول المطلع فيكون بعد ذلك التلاوم والتساؤل.
الثاني: أن القرآن نزل بلسان العرب، موافقاً لما عهدوه في أساليبهم وطرائقهم في البيان، والعرب تعتبر الفعل الذي لا فائدة منه كالعدم، ولأجل هذا سمى القرآن المنافقين: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ (البقرة: 18)، وهم في الحقيقة يسمعون وينطقون ويبصرون ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ﴾ (الأحقاف: 29)، لكنهم صم عن سماع الحق، وعمي عن رؤيته ، وبكم عن النطق به ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ (الأعراف: 179)، وبمثل هذا نقول: إن النظر مع عدم الإفادة منه هو كعدم النظر حكماً، فصاحبه أعمى ، وإن كان يرى ما يراه ذو العينين.
ولمثل هذا قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ (آل عمران: 77)، فليس المقصود منه نفي نظر الله إليهم، فالله لا يغيب عنه أحد، وليس المقصود أنه تبارك وتعالى لن يكلمهم ، فكلامه لهم ثابت في عشرات الآيات التي تحكي عن توبيخ الله للمشركين وتقريعه لهم، لكن المقصود أنه لا يكلمهم كلاماً ينفعهم، لا يكلمهم بما فيه رحمة لهم، ولا ينظر إليهم نظرة تفيدهم وتنجيهم من عذابهم وخوفهم، فلما لم يكن لها فائدة كانت بمنزلة العدم.
ومثله قول الله تعالى عن الكافر: ﴿ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ﴾ (طه: 74)، أي لا يحيى فيها حياة طيبة هانئة، وإلا فهو - على الحقيقة - حي فيها لا يموت أبداً.
ومثله كذلك قول النبي ﷺ لمن صلى على الحقيقة؛ غير أنه أساء في صلاته: «ارجع فصلِ؛ فإنك لم تصلِ»، فصلاته في حكم العدم لعدم إقامته ركوعها وسجودها ([440]).
ومثله قوله تعالى وهو يصف حال الناس في كربات يوم القيامة: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ (المؤمنون: 101)، فليس معناه أنهم تنقطع الأنساب بينهم، فلا يكون الابن ابناً لأبيه، فإن القرآن أثبت النسب بين الناس في يوم القيامة ونفى الانتفاع به ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ` وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ` وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ` لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس: 34-37)، فلما كان النسب لا ينفع يومئذ قال الله: ﴿ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ (المؤمنون: 101)، أي لا ينفعهم النسب حينذاك ، كما لا ينفعهم التساؤل([441]).
وإلا فإن التساؤل بينهم من غير منفعة واقع، وقد ذكره القرآن في غير آية ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ` قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ` قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ` وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ` فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ` فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ` فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ (الصافات: 27-33)، لكنه تساؤل التلاوم الذي لا فائدة فيه ولا نفع، فوجوده وعدمه بالنسبة لهم سواء، لذا قال الله: ﴿ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾.
قال الشنقيطي: "المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا؛ من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء، لا نفي حقيقتها" ([442]).
الإشكال السادس: هل يسأل الله عن الذنوب أم لا يسأل؟
قالــوا: تناقض القرآن في مسألة السؤال عن ذنوب المجرمين ، فنفاه في قوله: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ (القصص: 78) ، وقوله: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ﴾ (الرحمن: 39)، وأثبته في مواضع أخرى فذكر أنه يسألهم: ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ (الأعراف: 6) فهذه الآية تدل على سؤال الجميع يوم القيامة، ومثلها قوله تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ ` عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (الحجر: 92-93).
وفي الجـواب نقول: السؤال على أنواع، فبعضه للاستفسار والتعلم، وبعضه للتقريع والتوبيخ، وبين هذا وهذا بون شاسع، فالأول منتف في حق الله تعالى علام الغيوب ، فهو لن يسأل أحداً عن ذنبه سؤال تعرف واستخبار، بل يعاقب الله تعالى العبد بما عرف من ذنوبه ومعاصيه ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (المجادلة: 6)، كما صنع مع قارون والجبابرة من قبلهم؛ حين فجأهم ببأسه وإهلاكه ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ (القصص: 78)، فالله لا يسأل المجرمين ولا يستـفسر منهم عن ذنوبهم حين يريد عقوبتهم.
وكذلك فإن الملائكة حين تنزل بالعذاب فإنها لا تسأل المجرمين ولا تسأل عنهم، لأنها تعرفهم بسيماهم ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ ` فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ` يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ﴾ (الرحمن: 39-41).
قال الربيع بن أنس: " قوله: ﴿ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾: لا يسألون عن إحصائها، يقول : هاتوا فبينوها لنا ، ولكن أُعطوها في كتب فلم يشكوا الظلم يومئذ، ولكن شكوا الإحصاء"([443]).
وقال الحليمي: "لا يُسألون سؤال التعرف لتمييز المؤمن عن الكافر ، أي إن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحداً يوم القيامة، فتقول: ما كان ذنبك ، وما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين له بإخباره عن نفسه أنه كان مؤمناً أو كافراً، لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه مشروحي الصدور، والمشـركين يكونون سود الوجوه زرقاً مكروبين ، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار، وتمييزهم في الموقف عن المؤمنين كفتهم مناظرهم عن تعرف ذنوبهم" ([444]).
وأما سؤال الحساب والتوبيخ والتقريع فهذا نوع آخر من السؤال، يسأله الله تبارك وتعالى المجرمين، بل ويسأل الأنبياء ليقرع المجرمين ويقيم عليهم الشهود ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ (الأعراف: 6).
وقد ذكر القرآن في مواضع عديدة صوراً من هذه الأسئلة التقريعية التوبيخية التي سيسألها الله للمجرمين على سبيل التوبيخ، كما في قوله: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ` مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ﴾ (الصافات: 25), وكقوله: ﴿ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِـرُونَ ﴾ (الطور: 15)، وكقوله: ﴿ألم يأتكم رسلٌ منكم﴾ (الأنعام: 130)، وكقوله: ﴿ألم يأتكم نذيرٌ﴾ (الملك: 8)، فهذا كله مثبت معلوم.
الإشكال السابع: ألف سنة أم خمسون ألف سنة؟
قالــوا: تناقض القرآن في حديثه عن طول يوم القيامة، فذكر في موضع أنه ألف سنة ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة: 5)، وذكر في آخر أنه خمسون ألف سنة ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ (المعارج: 4).
والجـواب: إن القارئ للآيتين يدرك أن التباين بينهما مرده اختلاف موضوعهما، فالخمسون ألف سنة هي مقدار يوم القيامة، فقد نصت عليه الآيات بعدها ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ` وَنَرَاهُ قَرِيباً ` يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ ﴾ (المعارج: 7-8)، وقد أكد النبي ﷺ هذا الطول ليوم القيامة ، وهو يحكي عن عذاب تارك الزكاة: «كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ حتى يقضـى بين العباد, فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار» ([445]).
وأما الألف سنة فلا علاقة لها بيوم القيامة، وإنما وردت في سياق الحديث عن مدة نزول الأمر من الله ثم عروجه إليه([446])، وهو منطوق الآية وصريحها، لأن الله يقول: ﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة: 5).
ومصداقه في قول النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده إن ارتفاعها كما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمس مائة سنة»، فنزول الأمر ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ﴾ في خمسمائة عام ، ومثلها في صعوده ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾، فهذه الألف سنة.
قال ابن عباس : "المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سِيَر فيه السير المعروف من البشـر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، فالألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء" ([447]).
بقي لنا أن نهمس في آذان أصحاب هذه الشبهة، فنقول: الحديث في مسألة الزمن نسبي، فحين نتحدث عن أعمار البشر فإنا نتحدث عن أيام وسنين أرضية ؛ لأن البشر يعيشون على الأرض، ولكن لو فرضنا أن مخلوقاً يعيش على القمر فإن حساب سني عمره يكون بالسنين القمرية لا الأرضية، فيختلف عمره القمري عن الأرضي باختلاف السنين القمرية عن الأرضية.
وهكذا يكون الحال حين نبتعد أكثر، فنتحدث عن عروج الملائكة في السماوات أو نزولهم فيها، فأيامهم ليست أياماً أرضية، ولا قمرية، ولا شمسية، والألف منها باعتبار قد يعدل الألفين أو العشـرة باعتبارات أخرى ، فيكون الإخبار عن هذا كله صحيحاً رغم اختلاف الأرقام.
الإشكال الثامن: هل تتبدل كلمات الله؟
قالــوا: اختلف القرآن في مسألة تبديل كلام الله، فحين يكون المقصود فيه التوراة والإنجيل فإن المسلمين يقولون بوقوع التبديل والتحريف محتجين بقول القرآن: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ (البقرة: 79)، في حين أن آيات أخرى تذكر أن كلمات الله لا تتبدل ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ (يونس: 64)، وكذا قوله: ﴿ وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾ (الأنعام: 34)، وكذا قوله: ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (الأنعام: 115)؛ إذ لا يقوى البشر على ذلك ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ (الكهف: 27).
والجـواب: أن اللبس إنما وقع لاجتزاء النصوص وإخراجها من مساقها، وتحويرها وتحريف معناها لتدل على غير ما تحدثت عنه، فإن القرآن ذكر تحريف أهل الكتاب لكتاب الله، وتلاعبهم به زيادة ونقصاً، وليس هذا موضع بسطه.
وفي مقابله ذكر القرآن نوعين من كلمات الله لا تتبدل:
الأول : القرآن، وهو وإن كان من جنس ما نزل على أهل الكتاب؛ إلا أن الله خصه بالحفظ دون سائر كتبه ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ (الكهف: 27)، فالكلام الذي لا يبدل هو ﴿ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ﴾، أي القرآن الذي قال الله عنه: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ` لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: 41-42) ([448]).
وأما قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ` وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (الأنعام: 114-115)، فقد اختلف العلماء في المراد بـ ﴿لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ فقال بعضهم: هو القرآن، وقال بعضهم: المقصود نواميسه الكونية، والسياق محتمل للمعنيين، وكلا الأمرين لا يبدله أحد ، ولا يقدر على تبديله.
وقد جمع بين المعنيين أبو جعفر الطبري بقوله: "يقول تعالى ذكره: وكملت ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾، يعني القرآن .. ﴿ لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ﴾، يقول: لا مغير لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه ، وذلك نظير قوله جل ثناؤه: ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ﴾ (الفتح: 15)، فكانت إرادتُهم تبديلَ كلام الله، مسألتَهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه" ([449]).
الثانـي : موعود الله وقضاؤه، فالله لا يخلف الميعاد، ولا يقوى أحد على تغيير قضائه وموعوده تبارك وتعالى، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34)، فما لا يتبدل هو موعود الله لأنبيائه بالنصر، ومثله في موعود الله للمؤمنين بالجنة ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ` لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ (يونس : 63-64)، فالحديث في الآيات المانعة من تبديل كلام الله يتعلق بالقرآن أو بموعود الله لعباده، ولا يتحدث عن الكتاب المقدس الذي توعد الله محرفيه ومبدليه بالويل والثبور: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (البقرة: 79).
الإشكال التاسع: عروبة القرآن مع عُجمة بعض كلماته
قالــوا: تناقض القرآن في قوله بأنه نزل ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِيْنٍ﴾ (الشعراء: 195)، في حين أنا نجد فيه كلمات أعجمية كأسماء بعض الأعلام (إبراهيم ، إسماعيل، إسحاق)، أو أسماء بعض الأشياء مستعارة من لغات أخرى كالسـريانية والعبرية والنبطية، وأوصلوها إلى ما يقرب من أربعين كلمة، منها (القرآن - سكينة - زكاة- سرادق- الحور- مشكاة- إستبرق- السبت - زنجبيل - سجيل).
والجـواب: نزل القرآن بلسان عربي مبين، لذا لا يوجد في سطر من سطوره جملة واحدة غير عربية ، ولا يوجد جملة واحدة مركبة بما يخالف أساليب العرب وطرائقها في البيان.
إن وجود كلمات فرنسية متفرقة في كتاب مكتوب بالإنجليزية، لن تجعل الكتاب فرنسياً، ولن تشكك في إنجليزية الكتاب ولا الكاتب، وبخاصة حين تكون هذه الكلمات أسماء لأعاجم، فهذه الكلمات تنقل كما هي من لغة إلى أخرى من غير ترجمة معانيها.
ثم إن كثيراً من هذه الكلمات - التي استعجموها- عربية في جذورها واشتقاقاتها، وجهل البعض بها لقلة استخدامها أو غيره لا يعني أعجميتها، ومن ذلك كلمة (قرآن - سكينة - حور)، فكلمة (قرآن) ليست من الكلمة العبرية (קָרָא) كرا، ولا من السريانية (قرُا)، بل هي من الجذر العربي (قرأ)، وهذا التشابه في جذور كلمات اللغات السامية كبير ومعروف عند علماء اللغات، وصوره أكثر من أن تحصى في اللغات السامية، وبسببه أخطأ البعض في نسبة بعض الكلمات العربية الأصيلة إلى لغات أخرى ([450]).
ولو ضربنا لذلك مثلاً بكلمة (قرآن)، فإنا نقول بأنها مشتقة عربية على وزن (فعلان) من (قرأ ، قرآن)، ومثل هذا الاشتقاق كثير في لغة العرب (رحمن - فرقان – رضوان – حيوان – حيران - غضبان).
وكلمة (قرآن) مصدر آخر من الفعل (قرأ)، وهو يختلف في معناه عن المصدر (قراءة)، كما يفترق (رحمن عن رحيم، وفرقان عن فرق، ورضوان عن رضا، وحيوان عن حياة، وحيران عن حائر)، فالمصدر (فعلان) يفيد معنى زائداً ، فالقراءة في أي كتاب هي صورة للقراءة ، أما القرآن فهو حقيقة القراءة، وكذلك (الحياة) تدل على أي صورة من صور الحياة، بينما (الحيوان) تدل على الحياة الحقيقية، لذلك قال الله عن الآخرة: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (العنكبوت: 64)، وكذلك الفرق بين الرضى والرضوان، وبين الفرق والفرقان([451]).
لكن العرب أيضاً استخدمت كلمات وفدت إلى العربية من لغات أخرى، وهي في غالبها تتعلق بمسميات وافدة على العرب، فاستوردها العرب في رحلاتهم إلى الشام وفارس مع أسمائها كـ (سندس ، إستبرق ، زنجبيل)، فأصبحت عربية بالتعريب واستخدام العرب لها، ويشبه هذا استخدامنا اليوم لبعض الكلمات المتعلقة بمصنوعات وفدت إلينا من الغرب، كـ (التلفزيون، الفيديو ، الراديو).
واستعمال العرب ثم القرآن لأمثال هذه الكلمات لن يقلل من عروبة القرآن، فعروبة أساليبه وفصاحة كلماته لم ينكرهما حتى عرب الجاهلية، وهم من هم في الفصاحة والجزالة، وكذلك في الحرص على الوقوف على زلل في القرآن أو خطأ.
قالــوا: القرآن يستخدم كلمات لا تليق وتخدش الحياء، مثل كلمة (النكاح) أو (الغائط) أو (الفرج)، ومفهوم كلمة النكاح عندهم (الجماع)، وأما (الغائط) فرأوه اسماً صريحاً لما يخرج في الخلاء، وكذلك الحال في (الفرج) الذي اعتبروه لفظاً صريحاً في الدلالة على محل الجماع.
والجـواب: لعل من نافلة القول أن نقرر أن الباحث في كتب أهل الأديان اليوم لن يجد كتاباً مثل القرآن في عنايته بالآداب وانتقائه لأجود الكلمات والألفاظ، لأنه كتاب الرب الحكيم العليم، تعالى عن كل نقيصة ومثلبة.
لكن الجماع والتبول والتبرز عمليات حيوية لا يخلو عن التطرق إليها كتاب يتناول توجيه المناشط الإنسانية ، بيد أن عظمة القرآن عرضت ما يتعلق بهذه المعاني في قالب أدبي رصين لا مثيل له، فذكرها بطريق الاستعارة والكناية استعلاءً وترفعاً عن اللفظ الصريح المستقبح.
ومن ذلك أنه تبارك وتعالى عبر بالمماسة والملامسة عن الجماع، كما في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ` فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ﴾ (المجادلة: 3-4)، ومثله قوله: ﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ (البقرة: 237)، وقوله: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ (النساء: 43).
وفي مواضع أخرى استعاضت الآيات عن ذكر الجماع بألفاظ عامة كالرفث والإفضاء والمباشرة والاعتزال، ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ﴾ (البقرة: 187)، قال ابن عباس: "الرفث، الجماعُ، ولكن الله كريم يَكني" ([452])، وأصل الرفث كما قال أبو عبيدة هو: "اللغا من الكلام، وأنشد:
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم"([453])
وأما التكنية عن الجماع بالإفضاء، ففي قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ (النساء: 21)، وفي آية أخرى كنَّى الله تعالى عنه بالمباشرة؛ لما فيه من التقاء البشرتين ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنّ ﴾ (البقرة: 187).
وأما لفظة (النكاح) فهي في لغة العرب بمعنى الاختلاط والتضام، كما تستعمل العرب (النكاح) بمعنيين مجازيين: أولهما: للدلالة على عقد النكاح. والثاني: هو الجماع.
قال الفيومي: " تناكحَتِ الأشجار إذا انضم بعضها إلى بعض، أو من نكح المطر الأرض إذا اختلط بثراها، وعلى هذا فيكون ( النِّكَاحُ ) مجازاً في العقد والوطء جميعاً، لأنه مأخوذ من غيره، فلا يستقيم القول بأنه حقيقة، لا فيهما، ولا في أحدهما، ويؤيده أنه لا يفهم العقد إلا بقرينة نحو ( نَكَحَ ) في بني فلان ولا يفهم الوطء إلا بقرينة نحو ( نَكَحَ ) زوجته، وذلك من علامات المجاز"([454]).
وحين استخدم القرآن هذه اللفظة (النكاح) أراد المعنى المجازي الأول (عقد النكاح) ، ولم يرد (الجماع)، وهذا يتبين لمن تأمل الآيات القرآنية، كمثل قوله تعالى: ﴿ وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ﴾ (النور: 32)، فالمعنى: زوجوهم، ومثله في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ (الأحزاب: 49)، فالآية صريحة في طلاق الزوجة بعد العقد عليها وقبل الدخول فيها ، فقوله: ﴿ نَكَحْتُمُ ﴾ أي عقدتم.
ومثله قوله ﷺ: «تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»([455]) أي تخطب المرأة ويطلب الزواج منها لهذه الأمور.
وكذلك كنّى القرآن عن محل الجماع بالحرث والتغشــي، فأما الحرث ففي قوله تعالى: ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ (البقرة: 223) ، والتغشي في قوله: ﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ﴾ (الأعراف: 189).
وكذلك كنَّى القرآن عن مقدمات الجماع بالمراودة، كما في قوله تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾ (يوسف: 23)، فهو كناية عما تطلب المرأة من الرجل وما يطلبه الرجل من المرأة.
وبمثل هذا الأدب كنى القرآن عن محل الجماع بـ (الفرج)، في قوله: ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾ (الأنبياء: 91)، وهو لفظ كناية، وليس بلفظ صريح، كما توهم الجهلة من أعاجم العربية، فالفرج عند العرب يراد به أصلاً فرج القميص، أي شقه، ومنه قوله تعالى: ﴿ مَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ (ق: 26)، والتعبير به عن موضع العفة من ألطف الكنايات وأحسنها.
قال الجرجاني: "فرج بالسكون، والفرجة الشق بين الشيئين، والفرج ما بين الرجلين .. وقال بعضهم أصله الشق، وكني به عن السوأة، وكثر حتى صار كالصريح"([456]).
وحين تحدث القرآن عن التبول والتغوط لم يصرح بهما، بل ذكر لازمهما، وهو الطعام والشراب، فقال عن المسيح وأمه: ﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ (المائدة: 75).
وأما لفظة (الغائط) فهي أيضاً من ألفاظ الكناية، وهي صورة أخرى من صور الأدب القرآني، لأن الغائط في لغة العرب ليس اسماً للعذرة التي تخرج من الإنسان، بل هو المكان المنخفض من الأرض، ولما كانوا يقضون حوائجهم فيها؛ فقد استعملوه للدلالة على العذرة، لكراهية العرب للتصريح باسمها.
قال عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
فكم من غائط من دون سلمى قليل الأنس ليس به كتيع
ومراده كثرة الوديان التي تفصله عن سلمى.
وفي مقابل هذا الأدب القرآني الجمِّ؛ فإننا نذكر المرددين لهذه الشبهة ببعض ما في كتبهم مما تستقبح ذكره الطباع: فقد ورد ذكر (الخرء) في سفر حزقيال حين زعموا أن الله قال لنبيه حزقيال: "وتأكل كعكاً من الشعير، على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم" (حزقيال 4/12).
ووردت المضاجعة صريحة في كتبهم في مواضع لا تحصى لكثرتها، بل ورد ذكر تفاصيل فاضحة عن العلاقة الجنسية، ومنه قول التوراة: "وزنتا بمصـر في صباهما زنتا. هناك دغدغت ثديّهما ، وهناك تزغزغت ترائب عذرتهما" (حزقيال 23/3)، ومثله في قولها: "حبيبي لي، بين ثديي يبيت" (نشيد 1/15)، وأمثال هذا كثير، يطول المقام بتتبعه.
وهكذا فإن أدب العبارة القرآنية لا يبارى ولا يجارى، لأنه كتاب الله وكلامه، وما وقع فيه الآخرون من اتهام القرآن بذكر القبيح؛ إنما كان لعدم فهم هذه الألفاظ ، فقد فاتهم أنها ألفاظ كناية تستخدمها العرب لتوري بها عن الصريح المستقبح ، فلما غلب استعمالها على ما أطلقت عليه كناية؛ ظنها الجاهلون بلغة العرب من ألفاظ الفحش والقباحة ومما لا يليق.
***
قالــوا: القرآن يمتهن المرأة ، ويحط من منزلتها بالعديد من تشريعاته التي قدمت الرجل على المرأة، فالقرآن جعل القوامة في الأسرة للرجل: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (النساء: 34)، وأصر على تقديم الرجل عليها بقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228).
والجـواب: إن المتفوه بمثل هذا جاهل بالتكريم الذي خص الله به النساء في شريعته وسنة نبيه ﷺ.
ولعل من المناسب قبل الخوض في تفاصيله أن نلقي نظرة على وضع المرأة عند الأديان التي سبقت الإسلام، ففي سفر الجامعة، وهو من الأسفار المقدسة عند اليهود والنصارى نقرأ: "فوجدت أمرَّ من الموت : المرأة التي هي شباك ، وقلبها أشراك، ويداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها. أما الخاطئ فيؤخذ بها ... رجلاً واحداً بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد" (الجامعة: 7/26).
وفي سفر اللاويين حديث مسهب في غاية القسوة على المرأة حال حيضتها؛ حتى أن مجرد مسها ينجس الماس إلى المساء، كما ينجس كل من مس فراشها أو شيئاً من متاعها ( انظر اللاويين 15).
وأما سفر الخروج فيجيز للأب بيع ابنته "و إذا باع رجل ابنته أمةً لا تخرج كما يخرج العبيد" (الخروج 21/7) ، وطبق هذا الحكم بوعز في عهد القضاة؛ حين اشترى جميع أملاك أليمالك ومحلون، ومن ضمن ما اشتراه راعوث المؤابية امرأة محلون (انظر راعوث 4) ([457]).
وفي المسيحية كانت المرأة على موعد مع إساءة أكبر، فقد حمل بولس المرأة خطيئة آدم ، ولأجل ذلك يأمرها فيقول: "لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع، ولكن لست آذن للمرأة أن تعلّم، ولا تتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت، لأن المرأة أغويت ، فحصلت في التعدي " (تيموثاوس(1) 2/11-14)، فسبب هذه الإهانة وقوعها (حواء) في إغواء الشيطان.
وفي سفر حكمة يشوع بن سيراخ يؤكد على دور المرأة في خروج الجنس البشري من الجنة: "من المرأة نشأت الخطيئة، وبسببها نموت أجمعون" (ابن سيراخ 25/24).
وقد ترك هذا الاتهام للمرأة أثراً بالغاً في الحياة المسيحية، عبّر عنه الأب ترتليان في القرن الميلادي الثالث بقوله عن المرأة: "إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الله (الرجل) ".
ويقول أيضاً مخاطباً النساء بعد حديثه عن دور حواء في الخطيئة الأولى: "ألستن تعلمن أن كل واحدة منكن هي حواء ؟!... أنتن المدخل الذي يلجه الشيطان..لقد دمرتن الرجل صورةَ الله " .
ويقول الأب سوستام عن المرأة: "إنها شر لا بد منه، وآفة مرغوب فيها ، وخطر على الأسرة و البيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة".
وفي الغرب عقدت مؤتمرات غريبة لبحث أمر هذا الكائن ( المرأة ) ، فعقد مؤتمر في مدينة ماكون الفرنسية 586م للنظر هل للمرأة روح أم لا؟ وقرر المؤتمر أن المرأة إنسان, ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل، وأنها خِلو عن الروح الناجية، واستمرت هذه النظرة السلبية إلى المرأة حتى عهد قريب([458]).
لكن أبشع ما تعرضت له المرأة من الاضطهاد حدث في ظل سيطرة الكنيسة على أوربا في القرن السادس عشـر والسابع عشر؛ حيث انعكست الصورة السوداوية التي تنظر بها الكنيسة إلى المرأة بظهور فكرة اجتاحت أوربا، وهي وجود نساء متشيطنات ، أي تلبسهن روح شيطانية، فهن يعادين الله ، ويعادين المجتمع ، تقول كارن ارمسترنج في كتابها "إنجيل المرأة" : "لقد كان تعقب المتشيطنات بدعة مسيحية، وكان ينظر إليها على أنها واحدة من أخطر أنواع الهرطقات… ومن الصعب الآن معرفة عدد النساء اللائي قتلن خلال الجنون الذي استمر مائتي عام، وإن كان بعض العلماء يؤكد أنه مات في موجات تعقب المتشيطنات بقدر ما مات في جميع الحروب الأوربية حتى عام 1914م… يبدو أن الأعداد كانت كبيرة بدرجة مفزعة"([459]).
أما إذا عدنا إلى حال المرأة عند عرب الجاهلية؛ فإنا سنجد أن حالها لم يكن أفضل بكثير مما عند الأمم الأخرى ، فقد انتشـر في بعض قبائلهم وأد البنات ومنعهن من الميراث، ويصور لنا عمر بن الخطاب - بكلمات جامعة - حال المرأة عند العرب قبل الإسلام، فيقول: (والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً؛ حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) ([460]).
لقد قرر الإسلام تساوي الذكر بالأنثى في إنسانيتهما وكافة الأمور العبادية، ولم يميز بينهما في شيء إلا حال التعارض مع الطبيعة التكوينية والنفسية والوظيفية للذكر أو الأنثى.
فأما تساويهما في الإنسانية، فقد قرره النبي ﷺ بقوله: «إنما النساء شقائق الرجال» ([461])، كيف لا يتساويان وهما معاً أصل الجنس البشـري ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ﴾ (الحجرات: 13)، ويشملهما جميعاً تكريم الله للجنس البشري ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ (الإسراء: 70).
ويقرر القرآن أهلية المرأة للإيمان والتكليف والعبادة، ومن ثم المحاسبة والجزاء ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ (النحل: 97)، فهي كالرجل سواء بسواء، وهذا التساوي يسري في المسؤولية الشـرعية ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ (آل عمران: 195)، حيث إن الله يساوي بين الرجال والنساء في ثواب وعقاب أفعال الإنسان، بلا تمييز لجنس أو لون ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ (الأحزاب: 35 ).
ويبرأ الإسلام من تفضيل الذكر على الأنثى، ويعد النبي ﷺ بالجنة من أكرمها ولم يفضل الذكور عليها: «من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها؛ أدخله الله الجنة» ([462]).
وما زال ﷺ يوصي بحق المرأة ويحذر الرجل من الاغترار بقوته وظلمها، فيشهد الله على تأكيده على حقها: «اللهم إني أحرج (أي أشدد) حق الضعيفين: اليتيم والمرأة» ([463])، فمثل هذا يتناقض مع القول بظلم الإسلام للمرأة .
ولسوف نعرض تفصيلاً لأهم ما يثار حول المرأة في الإسلام وما زعمه المبطلون من انتقاص الإسلام كرامتها وأنه ظلمها.
أولاً: القوامة وظلم الزوجة
قالـوا: القرآن ظلم المرأة حين جعل القوامة في المجتمع للرجل دون المرأة: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ (النساء: 34).
والجـواب: إن نظرة سريعة إلى المنهج الإسلامي في التعامل مع المرأة ستكشف عن القدر العظيم للمرأة في الإسلام، فما زال النبي ﷺ يوصي بحسن عشرة النساء، ففي حجة الوداع وأمام جموع الصحابة وقف النبي ﷺ فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم [أي مثل الأسيرات عندكم] .. ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشَكُم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كِسوتهن وطعامهن» ([464]).
وأمر النبي ﷺ بحسن العشرة للنساء والصبر على ما يصدر منهن من أذى اللسان، فإن المرأة بحسب جِبِلَّتها تأخذ حقها بلسانها، فقد قال ﷺ: «واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً» ([465]).
ولما كانت الأسرة كسائر المؤسسات المجتمعية والاقتصادية تحتاج إلى قائد يقودها؛ فإن القرآن جعل القوامة في الأسرة للرجل دون المرأة ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ (النساء: 34)، فالآية تحدد صاحب المسؤولية الأولى في الأسرة، وهو الرجل، إذ أي مجتمع إنساني - صغر أم كبر - لا يخلو من قيِّم مسؤول يقود من تحت ولايته بما يمتاز به عن الآخرين، ككبر سنه أو امتلاكه حصة أكبر في الأسهم أو خبرة وأقدمية في العمل، لكن - على كل حال - لابد من وجود مدير أو مسؤول أول أو قائد لهذه المؤسسة.
وفي حالتنا هذه نحن أمام أحد خيارين: إما أن تكون المسئولية الأولى للمرأة، أو أن تكون للرجل.
إن نظرة بسيطة تتفحص عالمنا - الذي ما فتئ ينادي ويصـرخ بالمساواة العمياء بين الرجل والمرأة - لتكشف لنا عن حقيقة تميز الرجل عنها في مختلف بلدان الداعين إلى المساواة، لذلك أسأل القارئ الكريم: كم نسبة الوزيرات إلى الوزراء في دول العالم الذي ينادي بالمساواة بين الجنسين؟ وكم نسبة الملوك والرؤساء من النساء في تلك البلاد؟ وكم نسبة نساء الدولة والبرلمان وقادة الأحزاب إلى الرجال في هذه الدول؟!
لا ريب أننا جميعاً متفقون على تقدم الرجل - في كل هذا - على المرأة وبفارق كبير ، فكيف وقع هذا عند من يدعون المساواة؟.
إن الدول الإسكندنافية حققت أعلى الأرقام العالمية في تولية المرأة مناصب قيادية، لكنها لم تتجاوز نسبة الـ30 %، لماذا؟
القرآن يجيبنا: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ (النساء: 34)، نعم لقد خلق الله الرجال لغاية، وأعطاهم من المَلكات والإمكانات ما يعينهم عليها ، ومن ذلك مسؤولية القيادة في الأسرة والمجتمع، لأنه مسؤول عن رعاية البيت ونفقته، فالزوجة دُرة مصانة، ليس واجباً عليها ولا مطلوباً منها أن تكدح وتشقى بالعمل لتضمن مكاناً لها في بيت الزوجية، فهذا ليس من واجباتها، ولا هو متناسب مع أنوثتها وطبيعتها الحانية العاطفية التي فطرها الله عليها لتناسب مهمتها السامية في إدارة بيتها وتربية أبنائها وإعطائهم حقهم من الحنو والرعاية «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته .. والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها»([466]).
والمرأة مكفولة النفقة، أمّاً كانت أو زوجة، أختاً كانت أو ابنة «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك»([467])، فواجب الرجل الإنفاق على الأسرة عموماً ، وعلى الزوجة خصوصاً، ولو كانت ذات مال ووظيفة، فقد أمر النبي ﷺ بذلك: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»([468]).
والعلاقة الزوجية جملة متبادلة من الحقوق والواجبات، وهي قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228) ، وهذه الدرجة (القوامة) ليست لقعود جنس النساء عن جنس الرجال، بل تفضيل متناسب مع ما أودعه الله في الرجل من استعدادات فطرية تلائم مهمته وتتناسب مع إنفاقه على الأسرة.
وقوامة الرجل على المرأة والأسرة لا تعني تفرده بالقرار، فها هو ﷺ أكمل الرجال وسيدهم يستشير أم سلمة في مسألة تتعلق بالأمة، لا بالأسرة فحسب، فقد أمر أصحابه يوم الحديبية أن يحلقوا رؤوسهم ويحلوا من عمرتهم؛ ليعودوا إلى المدينة المنورة، فكرهوا ذلك ولم يقم منهم أحد، فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: (يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالِقَك فيحلِقَك، فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالِقه فحلَقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتل بعضاً غماً) ([469]).
بقي أن نهمس في آذان أصحاب هذه الأبطولة، فنسألهم: من القيم على الأسرة في كتابكم الرجال أم النساء؟ وما رأيكم في قول بولس: "الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل، ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل" (كورنثوس (1) 11/8-9)، وهذا النص وأمثاله يفيد قوامة الرجل، ويفيد أيضاً ما لا نقبله، ونراه إزراء بالمرأة التي لم تخلق للرجل، فهي ليست كسائر ما سخره الله لنا من متاع، بل هي كالرجل مخلوقة لعبادة الله وعمارة الأرض بمنهجه تبارك وتعالى.
ثانياً: الأمر بضرب الزوجة
قالــوا: القرآن ظلم المرأة حين أجاز لزوجها أن يضـربها: ﴿ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ (النساء: 34).
والجـواب: سبق لنا التعرف على منهج القرآن في التعامل مع المرأة، ورأينا ما فيه من التكريم والإجلال الذي عزَّ أن نجد مثيله في كتب الآخرين، فهذا هو الأصل في معاملة المرأة ، والنبي ﷺ كان نموذجاً لهذا الأصل «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([470])، وصفته أم المؤمنين عائشة: (ما ضرب رسول الله ﷺ شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً؛ إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل)([471]).
وهكذا، فالأصل تكريم المرأة، لكن للقاعدة شواذ، فالإنسان مكرم، لكن اللص والمجرم يهان، والأصل- في الإنسان- حفظ حياته، أما القاتل فيقتل، والأصل في المرأة تكريمها، لكن الناشز المستخفة برباط الزوجية تُضرب وتؤدب إذا لم تنفع معها وسائل الإصلاح ، ولو قَتلت تُقتل.
وقد أذن القرآن الكريم للزوج بتأديب زوجه، بل أوجب عليه ذلك، فلو كانت زوجة الواحد منا لا تصلي مثلاً أو امرأة ناشزاً؛ فإن الزوج يندب إلى وعظها، ثم هجرها إن أصرت على النشوز وتدمير الحياة الأسرية، فإن لم ترعوي فإن الله أذن له بضربها ضرباً خفيفاً غير مبرح.
وهذا التأديب- كما سبق - ليس أصلاً في معاملة المرأة، بل هو خاص بالزوجة الناشز سيئةِ الخلق والدين، وهو نوع من الرحمة بها والوقاية لها من حساب الله وعقابه، قال تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ (النساء: 34)، فالضـرب آخر وسائل الإصلاح، ويكون بعد الوعظ والهجر واستفراغ الجهد في التقويم والإصلاح.
وحين نتحدث عن الضرب تدور في مخيلة البعض النماذج السيئة التي يئن العالم في شرقه وغربه منها ، فقد أصبح العنف مع النساء والقسوة معهن مرضاً عالمياً مزرياً بالإنسان اليوم، وهو بالطبع مما يحرمه القرآن الذي لا يأذن بالضرب المبرح، فالجائز في ضرب الناشز ؛ الضـرب غير المبرح، وقد مثلوا لها بضربها بالسواك، وهو عود صغير لو ضرب به طفل لما تأذى، وقد قال النبي ﷺ منبهاً على قدر الضرب المسموح به: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ([472]).
أما الضرب المبرح الذي يترك أثراً على الجسد فهو حرام، وبخاصة إذا كان على الوجه، فقد لعن النبي ﷺ من ضرب الحيوان على وجهه، فما بالنا بالزوجة : «أما بلغكم أني قد لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها» ([473]).
ولما دخل معاوية القشيريُ على النبي ﷺ سمعه يؤكد على حقوقها ويقول: «لا تضربِ الوجه، ولا تقبِّحْ، وأطعمْ إذا أُطعمت، واكسُ إذا اكتسيت، ولا تهجُر إلا في البيت، كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض؛ إلا بما حل عليهن» ([474]).
وذماً من النبي ﷺ لأولئك الذين يضـربون زوجاتهم وقف ﷺ على المنبر يوصي بالنساء، فيقول: «يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها من آخر يومه» ([475]).
وذات مرة جاء إلى النبي ﷺ رجل يشكو زوجته، فقال: يا رسول الله، إن لي امرأة فذكر من طول لسانها وإيذائها؟ فقال ﷺ: «طلقها». فقال: يا رسول الله، إنها ذات صحبة وولد؟ قال: «فأمسكها وأْمُرها، فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربَك أَمتَك» ([476])، فنهاه ﷺ عن ضربها رغم سوء معاملتها وخلقها.
وخشية من وقوع بعض الأزواج في الظلم والتعدي والتعسف في التأديب قال ﷺ: «لا تضربوا إماء الله»، لكن بعض الزوجات أسأن إلى أزواجهن، إذ لا يصلح حالهن إلا التأديب، فجاء عمر إلى رسول الله ﷺ فقال: ذئِرنَ النساءُ على أزواجهن (أي نفرن واجترأن)، فرخص ﷺ في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله ﷺ نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي ﷺ: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم» ([477]).
وهكذا نرى وصاة النبي ﷺ لكل حر شريف أن يتقي الله تعالى في زوجه، وأن يعف لسانه ويكف يده بالأذى عنها، كما كان يفعل رسول الله ﷺ الذي ما ضرب زوجاً ولا قبحها، وأما أولئك المسيئون الذين يضربون زوجاتهم فحسبهم حكم النبي ﷺ عليهم أنهم ليسوا من خيار المؤمنين، فخيرهم خيرهم لأهله، ورسول الله ﷺ خيرنا لأهله.
لقد أوجب القرآن العشرة بالمعروف حال الحب والكراهية ﴿ َعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ (النساء: 19)، فإن وقع طلاق ثم انتهت عدتها؛ فإما أن يمسكها بمعروف أو يسـرحها بإحسان ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْـرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ (البقرة: 229).
وهذه العشرة بالمعروف للزوجة تصبح ميزاناً للخيرية عند الله يستبق فيه المسلمون إلى محبة الله ورضاه، فقد قال ﷺ: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»([478])، وفي رواية: «إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خلقاً وألطفُهم بأهله»([479]).
ثالثاً: تعدد الزوجات
قالــوا: القرآن ظلم المرأة حين أباح للرجل أن يتزوج عليها، وفي هذا إضرار بمصلحتها.
والجـواب: قبل التعرف على حكم الإسلام في المسألة نقرر أن الإسلام لم يكن أول من شرع هذه الشرعة التي شرعتها الأمم والملل قبل الإسلام، فقد عرفت الأمم جميعاً التعدد، لكنها ترددت بين نوعيه: تعدد الزوجات وتعدد الخليلات، فقد أجاز الإسلام الأول منهما، وحرم الثاني لما فيه من إزراء بالمرأة وظلم فادح لها ، فهو يجردها من جميع الحقوق الزوجية، فالعشيق لا يلتزم للخليلة بما يلتزم به الزوج لزوجاته من نفقة وسكن ورعاية للزوجات ولأبنائهن من غير تفريق بينهم.
والرسالات السماوية قبل الإسلام أباحت تعدد الزوجات، ويكفي في إثبات ذلك أن نذكر أن العهد القديم الذي يؤمن به اليهود والنصارى يقر بأن إبراهيم كان متزوجاً من ثلاث زوجات (سارة وهاجر وقطورة)، وأما يعقوب فكان متزوجاً من الأختين (ليئة وراحيل)، والأَمتين (زلفة وبلهة)، (انظر التكوين 29)، ويذكر الكتاب المقدس أن داود كان له سبع زوجات، وأن ابنه سليمان النبي: "كانت له سبع مائة من النساء السيدات، وثلاث مائة من السراري" (سفر الملوك (1) 11/3)، فالتعدد مشروع في شرائع التوراة ومن غير ضوابط ولا شروط.
وأما المسيحية فهي تحرم تعدد الزوجات رغم أنه لم يرد عن المسيح ما يبطل هذه الشريعة التوراتية، فالمسيح يقول: "ما جئت لنقض الناموس أو الأنبياء، بل لأكمل" ( متى 5/17).
بل إن العهد الجديد يشير إلى مشـروعية التعدد، حيث يقول بولس في (تيموثاوس (1) 3/12): " فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم بعلَ امرأة واحدة ... ليكن الشمامسة كل بعل امرأة واحدة" ، ويفهم منه منع تعدد الزوجات للشماس، وجوازه لغيره.
و قد بقيت قضية تعدد الزوجات صيحة تنادي بها فرق مسيحية شتى مثل اللا ممعدانيين "الأنانا بابتيست" في ألمانيا في أواسط القرن السادس عشر للميلاد ، وكان القس فونستير (1531م) يقول: من يريد أن يكون مسيحياً حقيقياً فعليه أن يتزوج عدة زوجات.
وبمثله نادت فرقة المورمون في مطلع القرن التاسع عشر، ولم يتخلوا عنه إلا بضغط السلطات المدنية في أواخر القرن التاسع عشر.
وقد بلغت الدعوة إلى إباحة تعدد الزوجات مبلغاً عظيماً عند مفكري الغرب وعلمائهم؛ وبخاصة بعد أن عانت أوروبا من نقص شديد في عدد الرجال نتيجة للحربين العالميتين التي قتل فيهما أكثر من 48 مليون رجل، وكذلك لانتشار الفواحش والزنا وزيادة عدد اللقطاء([480]).
ولو عدنا للحديث عن عرب الجاهلية لرأينا أن التعدد شائع عندهم من غير ضوابط، فكان لبعضهم عشر زوجات، فقد أسلم غيلان بن سلمة الثقفي، وتحته عشر نسوة، فقال له النبي ﷺ: «اختر منهن أربعاً» ([481])، وأما عميرة الأسدي فيقول: أسلمت وعندي ثماني نسوة , فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال: «اختر منهن أربعاً» ([482]).
وهكذا فالتعدد موجود قبل الإسلام، ومن غير ضوابط، وذلك لواقعية هذه الشرعة، وحاجة بعض الأزواج إلى الزواج بغير زوجته لمرضها أو لعدم قدرتها على الإنجاب أو توقفها، أو لغير ذلك من الأسباب، ولولا تعدد الزوجات لما تزوجت الكثير من العوانس والمطلقات وذوات الأمراض.
لقد كان الإسلام واقعياً حين أقر شريعة التعدد، فتزوج الزوج بأخرى أولى من طلاق الأولى، وأولى من العلاقة المحرمة، فالتعدد المشروع يغلق الباب أمام تعدد العشيقات غير المشروع الذي يجتاح المجتمعات الإنسانية التي ترفض التعدد.
جاء في إحصائية عن الخيانة الزوجية منشورة في مايو 1980م أن 75% من الأزواج في أوروبا يخونون زوجاتهم، وأفادت إحصائية أخرى أن مليون امرأة تقريباً عملن في البغاء بأمريكا خلال الفترة من (1980م إلى 1990م)، والإحصائيات الأحدث أسوأ وأفظع، فما هو السبب في كل هذا البلاء؟.
ولنسمع إلى المصلح الشهير مارتن لوثر مؤسس فرقة البرتستانت وهو يجيب: "إن نبضة الجنس قوية لدرجة أنه لا يقدر على العفة إلا القليل .. من أجل ذلك الرجل المتزوج أكثر عفة من الراهب ... بل إن الزواج بامرأتين قد يسمح به أيضاً، كعلاج لاقتراف الإثم، كبديل عن الاتصال الجنسي غير المشروع"([483]).
إن البشرية لا غناء لها عن تعدد الزوجات إذا شاءت أن تحيا حياة العفة والطهر، وهذا ما ستقودنا إليه دراسة بسيطة للإحصاءات العالمية التي تشير إلى زيادة مطردة لنسبة النساء، فإذا كان عدد الإناث في الولايات المتحدة الأمريكية يزيد على عدد الذكور بأربعة ملايين امرأة، فإن المجتمع الأمريكي مخير بين القبول بأربعة ملايين بغي أو بأربعة ملايين أسرة شرعية تتعدد فيها الزوجات.
وهكذا فإن إباحة القرآن لتعدد الزوجات صورة من حكمة الله الحكيم ، إذ واقع الأرض لا يصلح إلا بمثل هذا التشريع، فعدد نساء البشر اليوم يربو على رجالها بأربعمائة مليون امرأة، مما يجعل تعدد الزوجات ضرورة ملحة لكل مجتمع يخشى الفساد ويحذر الانحلال، لذلك تقول الكاتبة الإيطالية " لورافيشيا فاغليري": "إنه لم يَقُم الدليل حتى الآن بأي طريقـة مُطْلَقَـة على أن تعـدد الزوجـات هو بالضـرورة شرّ اجتماعي وعقبـة في طريق التّقـدّم .. وفي استطاعتنا أيضا أن نُصـرّ على أنـه في بعض مراحـل التّطـور الاجتماعي عندما تنشأ أحوال خاصة بعينها ، كأن يُقتل عـدد من الذكور ضخم إلى حـدّ استثنائي في الحـرب مثلاً ؛ يُصبح تعـدد الزوجات ضرورة اجتماعية"([484]).
لكن واقعية الإسلام في إباحة التعدد لم تخلَّ بمثاليته في التشريع، فقد حدده بأربع زوجات فقط؛ حتى يقدر الرجل على الوفاء بحقوقهن، كما سيَّج الإسلام هذه الشرعة وزانها بجملة من الآداب والضوابط، التي تلزم المنصف بتبرئة القرآن من مسؤولية الممارسات الخاطئة التي يقع بها بعض المعددين الذين لم يتأدبوا بآدابه، ولم يفقهوا أن تعدد الزوجات ليس شهوة عابرة، بل هو مزيد من المسئوليات التي يجب على الزوج القيام بها والوفاء بكل متطلباتها المالية والاجتماعية والإنسانية.
ومن آداب الإسلام في هذا الخصوص أنه كتب على الزوج العدل بين نسائه أو الامتناع عن التعدد: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ (النساء: 3) ، والعدل يشمل السكن والنفقة وغيرها من مستحقات الزوجية.
وحذر النبي ﷺ من صورة كثيراً ما نراها عند المعددين، وهي الميل إلى إحدى الزوجتين ، فهذا النوع من الظلم توعد الله فاعله بعقوبة خاصة يوم القيامة: «من كان لـه امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى؛ جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ([485]).
ولو عدنا إلى قول القائلين أن تعدد الزوجات فيه ظلم للزوجة الأولى وإهانة لكرامتها، فجوابه: فإن التعدد فيه مصلحة للزوجة الأخرى وإكرام لها، فكيف تفوت هذه المصلحة؟
ثم إن الزوجة الثانية ستغدو شريكة الأولى بمباركة أسرتها من الرجال والنساء الذين رأوا أن تزوجها من متزوج بغيرها خير لها من أن تكون بلا زوج، وهو صيانة لها ، ويؤهلها لتكون زوجة فاضلة بدلاً من أن تكون خليلة أو عشيقة بلا حقوق ولا كرامة، ثم لا تلبث أن تصير إلى الشارع.
ولذلك يرى الكاتب الإيرلندي "برناردشو" أن إباحة تعدد الزوجات هو العلاج لمشاكل الغرب ، فيقول: "إن أوروبا لو أخذت بهذا النظام لوفرت على شعوبها كثيراً من أسباب الانحلال والسقوط الخلقي والتفكك العائلي".
ويقول المستشرق الشهير "هك فارلين" : "إذا نظرنا إلى تعدد الزوجات في الإسلام من الناحية الاجتماعية أو الأخلاقية أو المذهبية، فهو لا يعد مخالفاً -بحال من الأحوال - لأرقى أسلوب من أساليب الحضارة والمدنية، بل هو علاج عملي لمشاكل النساء البائسات والبغاء، واتخاذ المحظيات، ونمو عدد العوانس المطرد في المدنية الغربية بأوروبا وأمريكا" ([486]).
رابعاً: حقوق المرأة والميراث
قالــوا: القرآن يغبن المرأة حين يجعل لها من الميراث نصف ما للرجل، وفي ذلك انتقاص من أهلية المرأة، ومعاملتها على أنها نصف إنسان!!..
والجواب: سبق بيان صور التساوي بين الجنسين في الإنسانية، ورأينا تساويهما في المنزلة عند الله وجزائه وعقابه، واستقر لدينا أن التفاضل بينهما إنما هو لدواع مادية بحتة، فالأصل في المسألة قوله ﷺ: «إنما النساء شقائق الرجال»([487]).
وقبل أن نقف على سبب اختلاف الذكور عن الإناث في المواريث أود تذكير الطاعنين على القرآن بأن كتبهم المقدسة تحرم المرأة من الميراث كلية حال وجود أشقاء لها "فكلم الرب موسى قائلاً ... أيما رجل مات وليس له ابن؛ تنقلون ملكه إلى ابنته" (العدد 27/8) ، و يفهم من السياق التوراتي – الذي يؤمن به اليهود والنصارى - أن وجود الابن يمنع توريث الابنة (وانظر يشوع 17/1-3).
وحين جاء الإسلام كان عرب الجاهلية يحرمون المرأة من الميراث، يقول عمر: (والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً؛ حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم) ([488])، فألغى الإسلام شرعة الجاهلية، وأحل بدلاً عنه نظام الإرث الإسلامي المبني وفق قواعد ثلاثة:
أولاً: مراعاة درجة القرابة بين الميت والوارث ، فكلما اقتربت الصلة بالميت زاد النصيب في الميراث، وكلما ضعفت الصلة قلَّ النصيب في الميراث، دونما اعتبار لجنس الوارثين، فابنة المتوفى تأخذ أكثر من والد المتوفى أو جده أو أخيه ، وهي تنال نصف التركة لو ورثت مع الأب والأم.
ثانيـاً: مراعاة موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال، فالأجيال الناشئة تقدم على الأجيال الكبيرة، لأنها تستقبل الأعباء والنفقات من دراسة وزواج وإنفاق على الأبناء، بعكس الكبار الذين غالباً ما تخف نفقاتهم، ومرة أخرى لا أثر للذكورة والأنوثة، فبنت المتوفى ترث (النصف) أي أكثر من أم المتوفى وأبيه، وحتى لو كان الأب هو مصدر الثروة التي للابن .
ثالثاً: مراعاة العبء المالي الذي سيتحمله الوارث، وفق قاعدة الغُنم بالغُرم، فكلما كانت الأعباء عليه أكثر فإنه يرث أكثر، وبسبب هذا يتفاوت الذكر والأنثى، لأن الأعباء المالية على الذكر أكثر، فالذكر مكلف بإعالة الأنثى؛ زوجة كانت أم أختاً أم بنتاً، فهي ترث من أبيها، ويرعاها أخوها وزوجها وابنها([489]).
ولو شئنا أن نضرب مثلاً بأخ وأخت ورثا عن أبيهما، فلو ورث الذكر عن أبيه 100 ألف والأنثى 50 ألفاً، فالأخ مطلوب منه أن ينفق على عائلته كساء وغذاء وسكناً، بينما أخته مكفولة النفقة في بيت زوجها، وإذا كان الأخ يدفع مهراً، فإن الأخت تأخذ مهراً، علاوة على النفقات الأخرى التي يختص بها الرجال دون النساء، كتحمل دفع دية قتل الخطأ مع العصبة والأقارب، فهذا وأمثاله واجب على الأخ دون أخته الوارثة لنصف ما ورث.
وهكذا، حين جعل الله للذكر مثل حظ أنثيين من الميراث لم يقض بذلك لهوان النساء أو ظلمهن، بل قسم المال ووزعه تقسيماً مادياً بحتاً يتناسب والمسئوليات المنوطة بكل منهما في المجتمع والأسرة.
ثم إن الحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجل لا تعدو ثلاث حالات([490]):
أ) أولاد المتوفى ، فالذكور يرثون ضعف الإناث، لقوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾ (النساء: 11).
ب) التوارث بين الزوجين ، حيث يرث الزوج من زوجته ضعف ما ترثه هي منه، لقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ (النساء: 12).
ج) يأخذ أبو المتوفى ضعف زوجته (أم المتوفى) إذا لم يكن لابنهما وارث، فيأخذ الأب الثلثين وزوجته الثلث.
وفي مقابل هذه الحالات الثلاث فإن الأنثى ترث مثل الذكر في حالات، كما في مسألة الكلالة ﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ ﴾ (النساء: 12).
كما قد قضى عمر بالتساوي بين الأخوة لأم ذكوراً وإناثاً، قال الزهري: "ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم ذلك من رسول الله ﷺ، ولهذه الآية التي قال الله تعالى: ﴿ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ ﴾ (النساء: 12)"([491]).
ومرة أخرى ساوى القرآن بين الوالدين في إرثهما من ولدهما؛ إذا كان له ولد ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ (النساء: 12).
وهناك أحوال كثيرة ترث الأنثى فيها أكثر من الرجل، فتقدم الابنة مثلاً على الأب والأخ والعم والخال، بل قد ترث هي، ولا يرثون.
وهكذا فالتفاوت في قسم الميراث بين الذكور والإناث ليس مطرداً، وهو متعلق بمنظومة الإسلام الاجتماعية ومقتضياتها في توزيع المسؤوليات والنفقات، ووفق هذه الالتزامات يتوزع الإرث بين الذكور والإناث.
ونختم الرد على هذه الأُبطولة بشهادة المستـشرق غوستاف لوبون، حيث يقول: "والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعاً عظيماً بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية".
ويقول: "وتعد مبادئ الميراث التي نص عليها القرآن بالغة العدل والإنصاف.. ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنجليزية أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات - اللائي يُزعم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف - حقوقاً في الميراث لا نجد مثلها في قوانيننا"([492]).
خامساً: شهادة المرأة
قالــوا: جعل القرآن شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل في قوله: ﴿وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ (البقرة: 282)، فزعموا أن في ذلك انتقاصاً للمرأة، واستهانة بها.
والجـواب: الأمر الوارد في الآية ليس موجهاً إلى القاضي والحاكم، كما يظن الكثيرون، إنما هو لصاحب المال الذي يداين آخر، فأمره الله بكتابة الدَيْن لحفظه ؛ فإن عجز عن ذلك، فليستشهد عليه شهيدين من الرجال، أو رجلاً وامرأتين، حتى لا يضيع حقه بنسيان المرأة الواحدة لمثل هذا الأمر، الذي لا تضبطه النساء عادة.
وقد عللت الآية السبب الذي لأجله طلب الله من صاحب الدين الاستيثاق لماله بشهادة امرأتين أو رجل واحد ﴿ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ (البقرة: 282)، أي خوف نسيانها فحسب، لأن المسائل المالية مما لا تضبطه النساء ولا تعنى به عادة. وضلالها وخطؤها ينشأ من أسباب مادية بحتة، لعل أهمها قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما قد يجعلها غير حافظة لكل دقائقه وملابساته.
لكن هذا لا يعني أن شهادة المرأة في المحاكم والقضاء بنصف شهادة الرجل، فالقاضي يقضي بما يتيـسر له من الأدلة، عملاً بقوله ﷺ: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ([493])، وقد يقضي القاضي بشهادة رجل واحد أو بشهادة امرأة واحدة، أو بأقل من ذلك، كما يوضحه ابن القيم بقوله: "إن البينة في الشرع اسم لما يبين الحق ويظهره، وهي تارة تكون أربعة شهود، وتارة ثلاثة، بالنص في بينة المفلس، وتارة شاهدين، وشاهد واحد، وامرأة واحدة، وتكون نُكولاً [امتناعاً عن اليمين] .. فقوله ﷺ: «البينة على المدعي» ، أي عليه أن يظهر ما يبين صحة دعواه، فإذا ظهر صدقه بطريق من الطرق حُكم له"([494]).
ويقول وهو يرد هذه الشبهة: "فإن قيل: فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين، قيل: القرآن لا يدل على ذلك، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها.. وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم، وإنما أرشدنا إلى ما يُحفظ به الحق، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تُحفظ بها الحقوق"([495]).
ويقول مبيناً علة التمييز بين شهادة الرجل والمرأة: "والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة إلا أنها لما خيف عليها السهو والنسيان قويت بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله، ولا ريب أن الظن المستفاد من شهادة مثل أم الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من رجل واحد دونهما ودون أمثالهما"([496]).
ومما يشهد لصحة هذا الفهم أن مجمل الشهادات تتساوى فيها شهادة الذكر والأنثى ، ففي شهادات اللعان بين الأزواج تتساوى شهادة الرجل وزوجته، فشهاداتها الأربع في اللعان تعدل شهادات زوجها الأربع، وذلك مقرر في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ` وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ` وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ` وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ (النور: 6-9).
ولن يفوتنا التنبيه إلى أمر مهم، وهو تساوي شهادة المرأة بالرجل في أهم الشهادات التي لا مدخل فيها للعاطفة الغالبة على المرأة أو قلة الخبرة، أي حين يكون الاعتماد على مجرد الذكاء والحفظ، وذلك في الأمور الدينية، فتقبل رواية المرأة للحديث كالرجل تماماً، ومثله في سائر العلوم.
وقد جعل الشارع شهادة المرأة معتبرة في بعض المسائل التي قد لا يقبل فيها شهادة الرجال، كالأمور النسائية التي لا يطلع عليها الرجال عادة، كإثبات الولادة وحيضة المطلقة وطهرها في قوله: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ (البقرة: 228).
وفي الصحيح أن النبي ﷺ قبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع، ففي حديث عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكر ذلك للنبي ﷺ ، ففرق بينهما([497]).
إن التشريع القرآني الذي جعل شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل في مسائل الدَيْن وأمثالها لم يصنعه إجحافاً بحقها أو استهانة بمقامها وإنسانيتها، وإنما هو مراعاة لقدراتها ومواهبها، وإلا فإن أهليتها كأهلية الرجل تماماً في كثير من المعاملات كالبيع والشفعة والإجارة والوكالة والشركة والوقف والعتق...
سادساً: طلاق المرأة
قالــوا: القرآن ظلم المرأة حين أذن بالطلاق بين الزوجين، والمفروض أن تكون الحياة الزوجية على التأبيد، وقالوا بأنه ظلم المرأة حين جعل الطلاق بيد الرجل، دون المرأة.
والجـواب: أن الطلاق شرعة موجودة عند كل الأمم بلا استثناء، وما من أمة ولا شرعة إلا وأباحت الطلاق ولجأت إليه كحل لا مفر منه في إنهاء الخلافات المستعصية بين الأزواج، فالعهد القديم يبيح الطلاق، والعهد الجديد كذلك يبيح الطلاق بعلة الزنا، وإن حرمه فيما عدا ذلك، لكن هذا التحريم أدى إلى مفسدة عظمى، فكان سبباً في انتشار الزنا والعلاقات المحرمة بدون زواج، حيث يعيش الرجل مع المرأة سنين طويلة قبل أن يتزوجا، ولا يمنعهما عن الزواج إلا خشية وقوع الفراق، فلا يتزوجان إلا بعد أن ينجبا عدداً من الأبناء، ويتأكدا من ديمومة زواجهما واستغنائهما عن الانفصال.
إن الطلاق ضرورة اجتماعية معروفة في الشرائع قبل الإسلام، وهي مقررة اليوم في كافة القوانين المدنية، فكيف يطالب المرء بإمساك زوجة لا يطيقها ، وقد قيل: "إن من أعظم البلايا مصاحبة من لا يوافقك ولا يفارقك".
ويقرر الإسلام أن الأصل في الحياة الزوجية الديمومة التي تحرسها المودة والرحمة التي يجعلها الله بين الزوجين ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21)، فقد رغب القرآن في ديمومة النكاح، وحثَّ الزوج في الإبقاء على العلاقة الزوجية حتى حال الكراهية بين الزوجين ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ (النساء: 19).
كما أوصى النبي ﷺ الزوج بحسن تبعل المرأة، وجعل ذلك ميزاناً لخيريته بين المؤمنين: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي» ([498])، وأوصاه بالمحافظة على رباط الزوجية وإن وجد في زوجته ما يكره، فليأنس بغيره مما يحب: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» ([499]).
وكره الإسلام الطلاق ففي المروي عن النبي ﷺ أنه قال: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق» ([500])، ورغم ضعف إسناده فمعناه صحيح، وهو أمر لا يخفى على من تدبر الآية التي جعلت التفريق بين الزوجين بعض كيد السحرة والشياطين: ﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ (البقرة: 102)، فلا يليق بالمسلم أن يوافق مراده مراد الشياطين بلا حاجة ماسة لذلك.
ولحماية الأسرة من الوصول إلى الفراق بالطلاق أوجب الإسلام حسن العشـرة بين الزوجين حتى في حال الكراهية ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ (النساء: 19)، وخيَّر الزوج بعد طلقتين بين المعروف والإحسان ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ (البقرة: 229).
وشرع القرآن للزوجين إصلاح ما يفسد بينهما من علاقة، وحثهما على وأد الشقاق والنفور بكل طريق يؤدي إلى الصلح ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَـافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء: 128)، فإذا لم يستطع الزوجان أن يصلحا ما بينهما بنفسيهما ولم يحققا الوفاق بوسائلهما الخاصة؛ فإن الله يأمرهما بعرض الأمر على مجلس عائلي يتكون من حكمين، أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، ليبحثا أسباب الشقاق، ويسعيا لإحلال الصفاء والوئام محل النفور والخصام: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا﴾ (النساء: 35).
فإن استحالت الحياة بين الزوجين فإن الإسلام أذن للزوج بطلاق المرأة مرتين من غير أن يخرجها من بيتها قبل انتهاء عدتها، وأن يكون طلاقه لها في طهر لم يجامعها فيه ، فهذا الشرط يمنع الطلاق حال الحيض وامتناع العشـرة الزوجية، وهو شرط لا يتحقق في الحياة الزوجية إلا مع النُفْرة الشديدة المانعة لديمومة الحياة الأسرية.
ويضع القرآن للمطلقة حقاً على زوجها، وهو المتعة ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ (البقرة: 241)، وهو مبلغ من المال يجبر فيه خاطرها ولم يحدد القرآن مقداره، بل قال: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ (البقرة: 263).
وقد وضع الإسلام – كما الشرائع السابقة – الطلاق بيد الرجل لحكم لا تخفى:
أولاً: عاطفية المرأة تؤدي إلى تسرعها في الأمور، بينما الرجل بعقليته الغالبة أقدر على تحمل مثل هذا القرار والتروي في اتخاذه.
ثانياً: الطلاق يحمل الزوج تبعات مالية كخسارة ما دفعه من مهر مقدم، وما يلزمه من مهر مؤجل ونفقة العدة وأجرة الرضاعة والحضانة إن كان له طفل أو أطفال من زوجته المطلقة، وهذا كله مما يحمل الزوج على التأني وعدم العجلة في تطليق زوجته، وربما تزول أسباب طلاقها في حالة تأنيه وعدم عجلته، إضافة إلى أن الخسائر المالية ستلحق به بسبب قراره، لا بسبب قرار يتخذه غيره.
ويحفظ الإسلام للمرأة حقوقها المالية حين الطلاق، فلا يجيز للزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطاها إياه؛ ولو كان كثيراً ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء: 20).
وإذا كان القرآن يعطي الزوج قرار الطلاق فإنه يجيز للمرأة أن تطلب من القاضي أن يطلقها من زوجها بعد أن تبدي الأسباب الموجبة لذلك ، كما يجيز فقهاء الإسلام لها أن تشترط في عقدها حقها في طلاق نفسها إن شاءت، فإذا رضي الزوج بهذا الشرط وانعقد العقد بهذا الشرط؛ صار لها حق تطليق نفسها؛ بإرادتها.
كما يعطيها القرآن فرصة معادلة للطلاق للتخلص من رباط الزوجية، وهي الخلع الذي تردُّ فيه بعضاً مما دفعه الزوج، وتحصل على طلاقها ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ (البقرة: 229)، فهذا يحفظ للزوج حقه المالي، ويحفظ لها حقها في فسخ النكاح الذي ترى أنها تتضرر به.
لذا لما جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي ﷺ ترغب في طلاق زوجها قالت: إني لا أعتب عليه في خلق ولا في دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال لها ﷺ: «أتردين عليه حديقته؟» [كان مهراً أعطاها إياه] قالت: نعم، فقال ﷺ لثابت: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة»([501]).
وفي كل ما سبق ما يبرئ ساحة شريعة القرآن من غبن النساء الذي ألحقه الزاعمون به، ويؤكد واقعية هذه الشريعة ومثاليتها في آن واحد.
***
قالــوا: شرَّع القرآن الرق واستعباد البشر للبشر، وأجاز هذه الشرعة رغم ما يكتنفها من ظلم للإنسان وامتهان له وحجر على حريته.
وفي الجواب نؤكد أن الرق قديم في المجتمعات الإنسانية، وتقره جميع الشرائع السابقة على الإسلام، ففي أسفار العهد القديم والجديد - التي يؤمن بقدسيتها اليهود والنصارى - أوامر صريحة تبيح الاسترقاق وتأمر به، ومن ذلك ما جاء في سفر اللاويين: " وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم، منهم تقتنون عبيداً وإماء، وأيضاً من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون، ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكاً لكم، وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك، تستعبدونهم إلى الدهر" (اللاويين 25/44-46).
وطوال تاريخ الإنسانية - وحتى منتصف القرن الميلادي العشـرين - امتلأ العالم بالعبيد، الذين كانوا يستعبدون لأتفه الأسباب، كالعجز عن سداد دين أو خسارة مال في قمار.
وفي بعض المجتمعات كان عدد العبيد أكثر من عدد الأحرار، ففي حين كان عدد سكان أثينا 20 ألفاً من الأحرار؛ فإنه كان فيها 400 ألف رقيق، وحين قررت بريطانيا في العصر الحديث إلغاء الرق عام 1823م تم تحرير ما يربو على 800 ألف من رقيقها([502])، ولعل القارئ يكتفي بهاتين الصورتين ليدرك حجم الاسترقاق في التاريخ الإنساني قبل الإسلام وبعده.
إن الحديث عن الرقيق يذكر العالم دائماً بواقع مرير مليء بالاضطهاد والظلم، لكن الإسلام غير مسؤول عن هذا الواقع، لأنه بريء منه، فلم يقتل المسلمون العبيد في حلبات المصارعة الرومانية حتى يتسلى السادة بموتهم بين أنياب الوحوش، ولا منعوهم من دخول كنائس السادة البيض، فحال العبيد عند المسلمين كما سنرى تفصيله يختلف عن الواقع الإنساني القائم قبل وبعد الإسلام.
ونسوق قبل هذا التفصيل شهادة غوستاف لوبون: "إن الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند العرب [أي المسلمين] خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربا، وأنهم يكونون جزءاً من الأسرة"([503])، فهيهات بين من يعتبر العبد جزءاً من الأسرة وبين من يستمتع برؤيته بين أنياب الأسود.
إن الباحث في نصوص القرآن والسنة لن يجد فيهما نصاً واحداً يحث على الاسترقاق أو يأمر به، بل على العكس من ذلك جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تأمر وتحث على إعتاق الرقاب، وتجعله من فاضل العبادات، وتقرنه بالإيمان بالله وصالح الأعمال ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ (البقرة: 177)، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشـْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ (النساء: 36)، وقوله: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ` وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ` فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ (البلد: 11-13).
ومن رحمة الإسلام بالعبيد وحرصه على فكاكهم أن القرآن جعل عتاق الرقيق مصرفاً من مصارف الزكاة المفروضة على المسلمين ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ (التوبة: 60)، فقوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ ﴾ أي في إعتاقهم.
كما حث النبي ﷺ على العتاق حين جعله سبباً في فكاك المعتِق من النار: «من أعتق رقبة؛ أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار؛ حتى فرجه بفرجه»([504]).
ولحرص الإسلام على تجفيف منابع الرق جعل فكاك الرقاب وسيلة في التطهير والتكفير عن خطايا معينة، كقتل الخطأ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ (النساء: 92)، والحنث في اليمين ﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ (المائدة: 89)، وظهار الزوجة ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (المجادلة: 3).
والإسلام حين أبقى على الرق، فإنه جفف ينابيعه بمنع وسائل الاسترقاق المتعددة، وقصرها على وسيلة واحدة ، وهي الأسر في الحرب، واعتبر ما سواها من الظلم المتوعد عليه بخصومة النبي ﷺ يوم القيامة القائل: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمتُه يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يوفه أجره »([505]).
ومسألة جواز الاسترقاق بالحرب ليست أمراً لازماً بالضرورة؛ إذ لم يأمر بها القرآن الكريم، لكنها حالة أذن الإسلام فيها للإمام أن يسترق أو يعفو أو يأخذ الفداء، وهذا الخيار يتيح للإمام المسلم أن يواجه معاملة الأمم الأخرى لأسرى المسلمين بمثله، فالأمم التي تسترق المسلمين في حروبها يسترق المسلمون أسراها.
لكن النبي ﷺ كان أحرص الناس على فكاك أسرى المشركين وعدم استرقاقهم، وشواهد ذلك في سيرته ﷺ كثيرة ، منها قول ابن عباس: (أعتق رسول الله ﷺ يوم الطائف من خرج من رقيق المشركين)([506]).
لقد أبقى الإسلام على الرق؛ لأن إلغاءه المفاجئ إضرار بالسادة والعبيد على السواء، فأما العبيد فسيخسرون موارد رزقهم وكفالة مواليهم لهم ، وهذا يذكرنا بثورة العبيد على الرئيس الأمريكي إبراهام لنكون حين أصدر أمره بتحرير العبيد، فثاروا عليه لما فقدوا الرعاية والغذاء والسكن، فالمجتمع لم يكن مؤهلاً لمثل هذا التغير الاجتماعي الكبير.
وأما السادة فتحرير العبيد يفقدهم أموالهم، إذ العبيد - يومذاك- مال قد لا يملك السيد غيره، كما في حديث عمران بن حصين عن الرجل الذي (أعتق ستة أعبد عند موته؛ ولم يكن له مال غيرهم)؛ فبلغ ذلك النبي ﷺ فلام فعله([507]) ؛ لما فيه من إضرار بورثته.
وقد تنبأ الإسلام بنهاية الرق حين جعل لعتق الرقيق بديلاً في العقوبات التي شرع فيها العتاق، كما في قوله: ﴿ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ﴾ (النساء: 92)، ومثله في قوله: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾ (المائدة: 89)، فقد تنبأ القرآن بنهاية الاسترقاق والرقيق بفضل شرائعه التي لا نجد لها مثيلاً عند الأمم الأخرى.
ومن هذه الشرائع أن الأمَة إذا ولدت لسيدها عتقت بعده، وأن أولادها منه أحرار كأبيهم، ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن خلفاء بني العباس كانوا جميعاً من أبناء الإماء إلا أبا العباس السفاح والمهدي والأمين([508]).
يقول غوستاف لوبون: "لا يكاد المسلمون ينظرون إلى الرق بعين الاحتقار، فأمهات سلاطين آل عثمان -وهم زعماء الإسلام المحترمون- من الإماء، ولا يرون في ذلك ما يحط من قدرهم"([509]).
وحين أبقى الإسلام الرق فإنه ضمن للرقيق ما لا تجده في حضارة أخرى أو دين آخر، ومن ذلك أن أمر السيد بمساواة رقيقه بنفسه في مطعمه ومشـربه ، وأن يؤمن له حاجاته الضرورية، فامتلاكه للرقيق مسؤولية وغُرم قبل أن يكون غُنماً، وإذا شئنا أن ندلل على هذه المسألة فلنقف على بعض مظاهر هذه المأثرة الحضارية الفريدة عند المسلمين.
رأى المعرور بن سويد أبا ذر الغفاري t وعليه حُلة، وعلى غلامه حُلة، فسأله عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً، فشكاني إلى النبي ﷺ ، فقال لي ﷺ : «أعيرته بأمه .. إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم»([510])، وفي حديث آخر قال ﷺ: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق»([511]).
إن عظمة النبي ﷺ في معاملة رقيقه زيد بن ثابت جعلت زيداً يختار البقاء على العبودية عند النبي ﷺ على المضـي حراً مع والديه؛ فكافأه النبي ﷺ بتبنيه، فكان يسمى زيد بن محمد إلى أن ألغى القرآن الكريم التبني، فصار ينسب لأبيه حارثة([512]).
ونعود للقول: إن الإسلام صان الرقيق عن كثير مما يتلبس الرق - عند الأمم الأخرى- من الظلم والمهانة، فالعبد إنسان له من الحقوق على سيده ما يسأل عنه الله يوم القيامة.
فالعبد لا يجوز قتله ولا تعذيبه «من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه، ومن أخصاه أخصيناه»([513])، كما لا يجوز اتهامه والطعن في حقوقه الذاتية كسائر الأحرار «من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جُلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال»([514]).
وضرب الرقيق - ولو لطمة واحدة - كاف لضمان عتاقه من سيده عند من يخاف الله ويرجو ثوابه، فقد أعتق ابن عمر مملوكاً له، ثم أخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: ما فيه [أي إعتاقي للعبد] من الأجر ما يسوى هذا [أي العود] إلا أني سمعت رسول الله ﷺ: «يقول من لطم مملوكه أو ضربه؛ فكفارته أن يعتقه»([515]).
وهذا المعنى النبيل أكده النبي ﷺ في قصة أبي مسعود البدري حين طلع عليه رسول الله ، وهو يضرب غلامه بالسوط فقال: «اعلم أبا مسعود، للهُ أقدر عليك منك عليه» فقال أبو مسعود: يا رسول الله، هو حر لوجه الله. فقال ﷺ: «أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار»([516]).
ويحكي مثل هذا سويد بن مقرن المزني: ( لقد رأيتنا سبعة إخوة؛ ما لنا خادم إلا واحدة، فلطمها أحدنا، فأمرنا النبي ﷺ أن نعتقها)([517]).
ونهى ﷺ عن تعذيب العبيد وتكليفهم ما لا يطيقونه: «من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله»([518]).
وأوصى النبي ﷺ بحسن معاملة الرقيق حتى حال إساءتهم، فقد قعد بين يديه ﷺ رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يَكذبونَني ويخونونَني ويعصونَني؛ وأشتمُهم وأضربُهم، فكيف أنا منهم؟ فقال ﷺ: «يحسب ما خانوك وعصوك وكَذّبوك، وعقابُك إياهم، فإن كان عقابُك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابُك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل».
فتنحى الرجل، فجعل يبكي ويهتف لما يعلم من حاله مع مملوكيه، فقال رسول الله ﷺ : «أما تقرأ كتاب الله ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ (الأنبياء: 47) ».
فقال الرجل: والله يا رسول الله، ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهُم([519]).
كما حذر النبي ﷺ وتوعد الذين يسيئون معاملة الرقيق بالحرمان من الجنة، وهي أغلى مطلوب ومرغوب، فقال: «لا يدخل الجنة بخيل ولا خِب ولا خائن ولا سيئ الملكة، وأول من يقرع باب الجنة المملوكون إذا أحسنوا فيما بينهم وبين الله عز وجل، وفيما بينهم وبين مواليهم»([520]).
ولإنسانية الرقيق وحرصاً على مشاعرهم تهدد ﷺ من يفرق شمل الأسرة المملوكة بقوله: «من فرق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة»([521]).
وما زال النبي ﷺ يوصي بالعبيد لضعفهم، ولم ينس الوصاة بهم حتى وهو على فراش الموت، في اللحظات الأخيرة من حياته ﷺ، يقول أنس بن مالك: كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضـره الموت: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله ﷺ يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه([522]).
ولئن كانت الأديان الأخرى تغلظ للعبد في عقوبته على الذنب ما لا تغلظه على السيد ؛ فإن الإسلام يخفف عقوبة العبد ويجعلها دون عقوبة الحر ؛ مراعاة لحاله وضعفه الذي قد يوقعه بالمعصية، ومن ذلك تخفيف عقوبة الزنا إلى النصف من عقوبة الحر ﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ (النساء: 25).
وفي حديث ابن عباس أن عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع ذلك إلى النبي ﷺ فلم يقطعه، وقال: «مال الله عز وجل سرق بعضه بعضاً»([523]).
وحين أساء حاطب بن أبي بلتعة إلى رقيقه، وقصر في إطعامهم؛ سرقوا ناقة رجل من مزينة، فرفع الأمر إلى عمر، فعفا عنهم، وقال لحاطب: (أراك تجيعهم، والله لأغرمنّك غُرماً يشق عليك)، فأمره أن يدفع للمزني ضعف ثمن الناقة التي سرقها رقيقه، وعفا عنهم ، ولم يطبق عليهم حد السرقة([524]).
وأخيراً فإن الحضارة الإسلامية قدمت نموذجاً فريداً في معاملة العبيد، فكان منهم العلماء، كـسالم t مولى أبي حذيفة ، والأمراء كسلمان الفارسي أمير المدائن، وزيد بن حارثة قائد جيش المسلمين في مؤتة، وبلال خازن بيت المال الذي يقول عنه الخليفة عمر بن الخطاب: (أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا)([525]) أي بلالاً.
ولعل القارئ يأذن لي في خاتمة هذا الفصل باستطراد طريف يحكي منزلة العبيد وعطاءهم الحضاري الكبير في أمة الإسلام ، فقد دخل الزُّهري على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة.
قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ فقلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قلت: نعم.
قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس.
قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال كما قال في الأولين معه.
قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول الدمشقي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال.
ثم قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي فقال: كما قال.
ثم قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضحاك بن مزاحم قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي فقال: كما قال.
ثم قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي. قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب.
قال: ويلك يا زهري فرجت عني، فوالله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر، وإن العرب تحتها.
قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط([526]).
وهكذا يتبين لكل باحث عن الحق تميز الإسلام وسموه في التعامل مع الرقيق وحرصه على تجفيف منابعه، وتبين براءة الإسلام والقرآن مما تعهده الأمم من ظلم وطغيان وإضرار بحقوق العبيد.
***
وهكذا وبعد هذه الجولة يتبين للقارئ المنصف جملة أمور:
* أن القرآن كلام الله تعالى المحفوظ بحفظ الله والمنقول إلينا بتواتر الحفاظ جيلاً بعد جيل.
* أن الهجوم على القرآن يهدف إلى تشكيك المسلم بقرآنه وإبعاده عن هديه وتأثيره الذي جعل من المسلم مشعل هداية ونبراس حق ودليل إيمان وقوة لا تقهر.
* أن الأباطيل المثارة عن القرآن تشهد -بضعفها - لهذا القرآن أنه كتاب الله الذي أعجز الطاعنين مع حرصهم على الكيد وتصيد النقائص فيه.
* أن هذه الأباطيل تكشف عن جهل فاضح لقائليها بلغة العرب ومعاني النصوص القرآنية، ولعلها تكشف أيضاً عن تدليس وتلبيس ومجانبة للموضوعية العلمية.
* أن الطاعنين في القرآن لو أنصفوا لعلموا براءة القرآن من أباطيلهم ، ولو أعادوا النظر في كتبهم لوجدوها تطفح برزايا ثابتة واضحة من جنس ما ادعوه زوراً على القرآن الكريم، وكان الأولى بهم أن يعتذروا للقرآن بما اعتذروا فيه لكتبهم .
* أن الأباطيل المطعون بها عن القرآن قديمة ما فتئ المستشرقون يرددونها بجهل أو خبث، وأن الهجمة الجديدة ما هي إلا صدى لهذه الهجمة الاستشراقية.
* أن جهل المسلمين بلغة العرب اليوم ، وجهلهم بعلوم القرآن وتفسيره سبب رئيس لتحول هذه الأباطيل إلى شبهات تشتبه على عوام المسلمين، فالواجب على المسلم أن يتحصن من هذه الشبهات بمعرفة دينه والإلمام بعلومه إذا لم يقدر على التمكن منها.
* أن قوة الإيمان سبب في دفع الشبهة ، وأن مرض القلب وضعف الإيمان سبب في استحكامها، وقد قال ابن القيم: "القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوته وصحته، وبالجملة فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وضعفت قوته وترامى إلى التلف؛ ما لم يتدارك ذلك بأن يحصل له ما يقوى قوته ويزيل مرضه"([527]).
* أن الواجب على المسلم إذا لم ينل من العلم ما يحصنه من الشبهات أن يفارق مجالسها وأن لا يصغي إلى قائليها، فالاستماع إليهم مع قلة البضاعة وضعف اليقين سبب في استحكام الشبهة واضطراب الجنان لها، والوقوع في براثن الشيطان وموارد الهلاك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) أخرجه الترمذي ح (2914)، وأحمد ح (6760).
([2]) انظر : مجلة البيان ، العدد (159).
([3]) قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله ، جلال العالم ، ص (31).
([4]) رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم، محمد جمعة عبد الله، ص (278).
([5]) الخنجر المسموم الذي طُعن به المسلمون ، أنور الجندي ، ص (29).
([6]) رد افتراءات المبشرين على آيات القرآن الكريم ، محمد جمعة ، ص (263).
([7]) خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس ، أحمد ديدات ، ص (20).
([8]) استحالة تحريف الكتاب المقدس، وهيب خليل، ص (133).
([9]) تعليقات على القرآن ، ص (29).
([10]) انظر تراجم الأربعة في الإصابة في معرفة الصحابة، ابن حجر (4/747، 6/136، 2/592، 3/68).
([11]) مناظرة: القرآن الكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش ، ص (115-116).
([12]) حقيقة التجسد، ثروت سعيد رزق الله، ص (192-193).
([13]) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/123)
([14]) أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/130).
([15]) أخرجه أحمد في المسند ح (14560)، والحاكم في المستدرك (4/630)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ح (4761).
([16]) بين القرآن والمسيحية ، البابا شنودة، ص (4)، وسيأتي دفع هذه الأبطولة.
([17]) تعليقات على القرآن، ص (20).
([18]) جامع البيان (11/345).
([19]) وأمثال هذا العموم - الذي يراد به خصوص يفهمه العقلاء - كثير في القرآن وفي كلام العرب وحديث العقلاء، كقوله تعالى عن ملكة سبأ: ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 23)، فلم يفهم منه سليمان عليه السلام - ولا العقلاء من بعده – أن ملكة سبأ أوتيت الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية، بل معناه عند جميع العقلاء أنها أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك عادة، ومثله أيضاً في كلام الناس - اليوم - كثير، كقول الأستاذ: لم ينجح أحد من الطلاب، ومقصوده - ولا ريب – الحديث عن طلاب مادته أو فصله أو مدرسته فحسب، فهو عموم يراد به معنى مخصوص.
([20]) القرآن والكريم والكتاب المقدس. أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات ، ص (45).
([21]) انظر الحلقة التاسعة والثلاثون من برنامجه "أسئلة عن الإيمان"، ويأتي جواب هذه الأبطولة.
([22]) أنوار التنزيل، البيضاوي (1/70).
([23]) المصدر السابق (1/217).
([24]) انظر : حقيقة التجسد، ثروت سعيد ، ص (325)، وقد صنعه القس أسعد وهبة في مناظرته لي حول مسألة "صلب المسيح في العهد الجديد"، وهي منشورة على الشبكة العنكبوتية.
([25]) انظر : حقيقة التجسد، ثروت سعيد ، ص (324-326).
([26]) التفسير الكبير ، الرازي ( 8/225).
([27]) الشفا (2/125)، وسيأتي بيان هذه الأبطولة.
([28]) انظر: جامع البيان، الطبري (21/184).
([29]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/282).
([30]) انظر: الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي (15/200).
([31]) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسـي (7/381)، والحديث مروي في الصحيحين، أخرجه البخاري ح (3424)، ومسلم ح (1654).
([32]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/577).
([33]) أخرجه البخاري ح (6)، ومسلم ح (2308).
([34]) أخرجه البخاري ح (5000)، ومسلم ح (2462).
([35]) أخرجه أحمد ح (22260).
([36]) أخرجه البخاري ح (89)، ومسلم ح (1479).
([37]) أخرجه البخاري ح (5052).
([38]) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (130)، وابن أبي شيبة في مصنفه ح (3710).
([39]) انظر: فضائل القرآن، ابن كثير (1/165).
([40]) انظر: مصنف ابن أبي شيبة ح (3711).
([41]) أخرجه البخاري ح (4332)، ومسلم ح (2499).
([42]) أخرجه ابن مجاهد في كتابه "السبعة في القراءات" ، ص (69).
([43]) أخرجه البخاري ح (4961)، ومسلم ح (799).
([44]) أخرجه البخاري ح (5048)، ومسلم ح (793).
([45]) أخرجه البخاري ح (4582)، ومسلم ح (800).
([46]) معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/41).
([47]) معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/42).
([48])أخرجه البخاري ح (5027).
([49]) أخرجه ابن ماجه ح (3780)، وأحمد ح (10967).
([50]) أخرجه البخاري ح (4937)، ومسلم ح (798)، واللفظ له.
([51])أخرجه البخاري ح (5003)، ومسلم ح (2465).
([52])أخرجه أبو داود ح (591)، وأحمد ح (26739).
([53])أخرجه البخاري ح (4986).
([54]) انظر هذه النماذج من العناية بالقرآن وغيرها في كتاب معرفة القراء الكبار، الذهبي (1/30، 53، 67، 138).
([55]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/399).
([56]) تحفة الأحوذي، المباركفوري (8/219) .
([57])أخرجه مسلم ح (2865).
([58])النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/6)، والحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (9903)، والبيهقي في دلائل النبوة ح (343).
([59])أخرجه أبو داود ح (786)، والترمذي ح (3086)، واللفظ لأبي داود.
([60])ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/1)، والقاسمي في محاسن التأويل (6/446).
([61]) أخرجه البزار ح (279).
([62]) أخرجه الطبراني في الأوسط ح (1985)، قال الهيثمي: "أخرجه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات". مجمع الزوائد (8/257).
([63]) أخرجه مسلم ح (3004).
([64])أخرجه الدير عاقولي بإسناده إلى زيد بن حارثة في فوائده، كما نقل السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (1/164).
([65]) أخرجه البخاري ح (4679).
([66])أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (33).
([67])انظر: الإتقان في علوم القرآن، السيوطي (1/167)، وفتح الباري، ابن حجر (9/15).
([68]) أخرجه البخاري ح (4679).
([69]) وسمته بعض الروايات (أبو خزيمة).
([70]) أخرجه البخاري ح (2807).
([71]) مناهل العرفان، الزرقاني (1/98).
([72]) أخرجه البخاري ح (4049).
([73]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1919)، وابن أبي داود في المصاحف ح (97)، وابن ضريس في فضائل القرآن ح (26).
([74]) أخرجه أحمد ح (1717)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس.
([75]) أخرجه ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (33).
([76]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/262).
([77]) أخرجه الحاكم في مستدركه (2/368).
([78]) أخرجه البخاري ح (4988).
([79]) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ح (77)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (9/18).
([80])أخرجه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف ح (88).
([81]) أخرجه البخاري ح (3506).
([82])أخرجه الترمذي ح (3104) .
([83])أخرجه البخاري ح (4988).
([84]) أخرجه أبو بكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (77)، وابن شبة في تاريخ المدينة المنورة (3/996).
([85]) هذه الملاحظة دفعت أستاذ الرياضيات في جامعة الظهران الدكتور الكندي غاري مِلر لاعتناق الإسلام في عام 1977م.
([86]) انظر: جامع البيان، الطبري (14/272).
([87]) أخرجه البخاري ح (7420)، ومسلم ح (177).
([88]) أخرجه الترمذي ح (3331).
([89]) قالوا عن الإسلام ، عماد الدين خليل، ص (134).
([90]) أخرجه البخاري ح (4670)، ومسلم ح (2400).
([91]) أخرجه البخاري ح (1360)، ومسلم ح (24).
([92]) أخرجه البخاري ح (4070).
([93]) أخرجه الطبري في جامع البيان (17/593).
([94]) أخرجه البخاري ح (2661)، ومسلم ح (2770).
([95]) انظر: الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين ، عبد المحسن زبن المطيري ، ص (311).
([96]) أخرجه البخاري ح (1)، ومسلم ح (1907).
([97]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/60).
([98]) ذكره الطبري في تاريخه (2/506)، وابن بطة في الإبانة الكبرى ح (2423)، وابن حبان في الثقات (2/176).
([99]) ذكره الطبري في تاريخه (2/499).
([100]) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (1/275).
([101]) انظر المصدر السابق (1/275).
([102]) القرآن والكريم والكتاب المقدس، أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش ، ص (101-102).
([103]) (الفرقان الحق)، منشور على شبكة الإنترنت.
([104]) انظر: لماذا أسلم صديقي؟ إبراهيم خليل ، ص (67-111).
([105]) السيرة النبوية، ابن كثير (1/499).
([106]) أخرجه البيهقي في الدلائل (2/202)، وابن إسحاق في السيرة (1/187).
([107]) أخرجه البخاري ح (4854) و(4023).
([108])انظر: سيرة ابن هشام، ص (382).
([109]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، ابن عبد البر (3/1335).
([110]) انظر هذه الشهادات وغيرها: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل (52، 58-59، 75، 145).
([111]) أخرجه البيهقي في الدلائل (3/6-7)، والحاكم في المستدرك (2/434).
([112]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/266)، والخبر يرويه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3321).
([113]) أخرجه البخاري ح (2915).
([114]) أخرجه البخاري ح (3184)، ويأتي نصه.
([115]) أخرجه البخاري ح (114)، ومسلم ح (1637).
([116]) أخرجه البخاري ح (3184).
([117]) أخرجه مسلم ح (1783).
([118]) أخرجه البخاري ح (4251).
([119]) أخرجه أحمد ح (18174).
([120]) أخرجه أحمد ح (18204).
([121]) انظر: قاموس الكتاب المقدس، ص (771).
([122]) انظر: مختصر تاريخ الكنيسة، أندرو ملر، ص (608).
([123]) للأسف هذه الإحالة القرآنية إلى أسفار موسى نفتقدها في الأسفار المنسوبة إلى موسى في الكتاب المقدس بسبب ما تعرضت له الكتب السابقة من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.
([124]) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، ص (108، 133).
([125]) قصة لقيا النبي ﷺ بحيرا أخرجها الحاكم في مستدركه (2/672)، قال: صحيح على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي في التلخيص بقوله: " أظنه موضوعاً، فبعضه باطل"، وأخرجه الترمذي ح (3620)، وقال: "حسن غريب"، وأبو نعيم الأصفهاني في معرفة الصحابة ح (1202)، والطبري في تاريخه (2/287)، ونقلها ابن هشام في تهذيبه للسيرة (1/180).
([126]) فقد اختلفت الروايات في ذلك على الرأيين.
([127]) الأبطال، توماس كارلايل، ص (68).
([128]) أخرجه الترمذي ح (3620)، وقال: "حسن غريب".
([129]) انظر: تهذيب سيرة ابن هشام (1/180).
([130]) انظر: تاريخ دمشق، ابن عساكر (66/311).
([131]) أخرجه البخاري ح (4)، ومسلم ح (160).
([132]) انظر الحديث السابق.
([133])المزهر في علوم اللغة، السيوطي (2/348)، وانظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (14/66).
([134]) طبقات فحول الشعراء، ابن سلام (1/48).
([135]) الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (6/102).
([136]) المصدر السابق (6/102).
([137]) انظر: ديوان امرئ القيس، ضبط وتصحيح مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1 ، بيروت، 1403هـ .
([138]) البداية والنهاية، ابن كثير (2/285).
([139]) أخرجه مسلم ح (2255).
([140]) البداية والنهاية، ابن كثير (2/285).
([141]) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (12/68).
([142]) أخرجه أبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني ح (3479).
([143])انظر: أُسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير (3/596)، والإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (5/405)، والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (12/68).
([144])انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (2/461).
([145])انظر: الإكمال ، ابن ماكولا (6/302).
([146])انظر: أُسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير (5/456)، والإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر (6/622).
([147]) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي (12/68)، وانظر: خزانة الأدب، عبد القادر البغدادي (1/249).
([148]) أخرجه الترمذي ح (3049)، والنسائي ح (5540)، وأبو داود ح (3670).
([149]) أخرجه مسلم ح (2653)، ويجدر هنا التنبيه إلى أن قصة إبراهيم مع ابنه الذبيح ونسخ الله أمره بالذبح مذكورة في سفر التكوين (انظر الإصحاح 22).
([150]) أخرجه البخاري ح (2814)، ومسلم ح (677).
([151])أخرجه البخاري ح (4481).
([152]) انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي (1/237).
([153]) انظر المصدر السابق (1/237).
([154]) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ص (33).
([155]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/42)، وصححه، ووافقه الذهبي.
([156]) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (7/155)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/204).
([157]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (13/395).
([158]) شرح السنّة ، البغوي (4/525-526).
([159]) أخرجه البخاري ح (6830)، ومسلم ح (1691)، وهذه الآية المنسوخة هي قوله تعالى: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عليم حكيم) أخرجه أحمد في المسند من حديث أُبي بن كعب ح (20702).
([160]) أخرجه أبو داود ح (4418).
([161]) أخرجه البيهقي في السنن (8/211) ، والنسائي في السنن الكبرى ح (7148).
([162]) أخرجه مسلم ح (1452).
([163]) البرهان في علوم القرآن، الزركشي (2/39) .
([164]) شرح النووي على صحيح مسلم (10/29).
([165]) أخرجه ابن ماجه ح (1944).
([166]) دفاع عن الحديث النبوي، ناصر الدين الألباني، ص (82).
([167]) تهذيب الكمال، المزي (24/422)، وتاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (1/320).
([168]) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (1/230).
([169]) العلو، الذهبي، ص (39).
([170]) ميزان الاعتدال، الذهبي (3/475).
([171]) تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة ، ص (314).
([172]) أصول السرخسي (2/80).
([173]) أخرجه البخاري ح (4481).
([174]) انظر: الإقناع في القراءات السبع، ابن الباذش الأنصاري، ، (1/76، 91، 124)، والنشـر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/112، 120، 133، 155).
([175]) نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (81).
([176])أخرجه البخاري ح (4988).
([177]) أخرجه أبو بكر ابن أبي داود في كتابه المصاحف ح (77)، وابن شبة في تاريخ المدينة المنورة (3/996).
([178])أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد ح (161)، والقاسم بن سلام في فضائل القرآن ح (460).
([179])أخرجه الترمذي ح (3104) .
([180]) أخرجه البخاري ح (4988).
([181]) أخرجه مسلم ح (821).
([182]) أخرجه الترمذي ح (2944).
([183]) أخرجه أحمد ح (19992).
([184]) أخرجه البخاري ح (4992)، ومسلم ح (818).
([185]) أخرجه مسلم ح (820).
([186]) أخرجه البخاري ح (4481).
([187]) أخرجه البخاري ح (4988).
([188]) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف ح (77)، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (9/18).
([189]) أخرجه البخاري ح (3506).
([190]) النشر في القراءات العشر (1/31-32)، وانظر: تفسير الطبري (1/58-59).
([191])انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/190).
([192]) انظر: الثقات، ابن حبان (8/136)، تهذيب التهذيب، ابن حجر (1/175).
([193]) انظر: الضعفاء، العقيلي (1/ 255)، وتهذيب التهذيب، ابن حجر (2/214-215).
([194]) المحلى، ابن حزم (1/13).
([195]) نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (75).
([196]) المصدر السابق، ص (90).
([197]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح (9151) من طريق أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي.
([198]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح (9152).
([199]) أخرجه أحمد ح (20648).
([200]) اعتبر أُبي بن كعب ما كان يقرأه النبي ﷺ في قنوته في الصلاة من القرآن، ثم رجع عنه كما يأتي جوابه.
([201]) انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (43).
([202]) مسند البزار ح (1586)، مجمع الزوائد، الهيثمي (7/60).
([203]) أخرجه أبو داود في سننه ح (1463).
([204]) أخرجه مسلم ح (814).
([205]) أخرجه ابن حبان ح (1842).
([206]) أخرجه الترمذي ح (2058)، والنسائي ح (5494)، وابن ماجه ح (3511).
([207])أخرجه أحمد ح (20677).
([208])النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/155)، وانظر: الإقناع في القراءات السبع، ابن الباذش الأنصاري (1/124).
([209])النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/165)، وانظر: الإقناع في القراءات السبع، ابن الباذش الأنصاري (1/135).
([210])انظر: النشر في القراءات العشر، ابن الجزري (1/190).
([211]) المجموع شرح المهذب، النووي (3/350).
([212]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (4/741).
([213]) عزاه السيوطي في الدر المنثور (1/10) إلى عبد بن حميد، ولم أجده في مسنده، ولعله في تفسيره المفقود، كما عزاه إلى المروزي في تعظيم قدر الصلاة، ولم أجده فيه، ولكن الأثر أخرجه ابن سلام في فضائل القرآن ح (575).
([214]) أخرجه البخاري ح (4704).
([215]) أخرجه الترمذي ح (3125)، والنسائي ح (914)، وأحمد ح (20591).
([216]) انظر: المطالب العالية في زوائد الكتب الثمانية، ابن حجر ح (3610).
([217]) مناهل العرفان، الزرقاني (1/192).
([218])عزاه السيوطي أيضاً في الدر المنثور (1/10) إلى عبد بن حميد، ولم أجده في مسنده، ولعله أيضاً في تفسيره المفقود، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/103)، وكلام أبي بكر الأنباري ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (1/115).
([219]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (1/115).
([220]) خزانة الأدب وغاية الإرب ، ابن حجة الحموي (2/252)، وانظر: الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني ، ص (327).
([221]) التحرير والتنوير ، ابن عاشور (5/329).
([222]) انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني ، ص (327)، وخزانة الأدب ، ابن حجة الحموي (2/252)، وموجز البلاغة، محمد الطاهر بن عاشور ، ص (41)، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص، العباسي، ص (187)، والبلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن حبنكة ، ص (797).
([223]) أخرجه أبو داود ح (4302)، والنسائي ح (3176).
([224]) التحرير والتنوير ، ابن عاشور (5/329)، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن ، الراغب الأصفهاني (1/289).
([225]) القاموس المحيط، الفيروزبادي (3/16-17).
([226]) التعريفات، الجرجاني، ص (189).
([227]) أخرجه مسلم ح (2865).
([228]) وقد ورد مثل هذا في آيات كثيرة ذكرت أن الله لا يهدي الظالمين والكافرين والخائنين وغيرهم ممن تنكب طريق الحق واختار العماية على الهداية.
([229]) وقد تكرر هذا في نصوص كثيرة نكتفي بالإشارة إلى بعضها: انظر: (الخروج 7/3)، (الأيام (2) 18/22)، (تسالونيكي (2) 2/11).
([230]) لسان العرب، ابن منظور (10/308).
([231]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (6/574).
([232]) المصدر السابق (6/574).
([233]) جامع البيان، الطبري (23/302).
([234]) لسان العرب، ابن منظور (5/125).
([235]) تاج العروس، الزبيدي (3/514).
([236]) أخرجه مسلم ح (2653).
([237])أخرجه البخاري ح (3192).
([238]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (19/31).
([239]) زاد المسير، ابن الجوزي (7/411).
([240]) درء تعارض العقل مع النقل، ابن تيمية (5/179).
([241]) انظر: مختار الصحاح ، الرازي (1/20)، والجنى الداني في حروف المعاني، ابن أُمّ قَاسِم المرادي، ص (227-230)، وشرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب، محمد الجوجري (2/808).
([242]) انظر المزيد من الشواهد في شرح الأشموني على ألفية ابن مالك (1/216-217).
([243]) أخرجه الترمذي ح (3229)، والطبري في تفسيره (21/115)، وفيه رجل مبهم، فالحديث ضعيف.
([244]) مختار الصحاح ، الرازي (1/20).
([245]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ح (18675).
([246]) أخرجه ابن ماجه ح (3992)، والطبراني في الكبير ح (129).
([247]) تفسير القرآن العظيم (4/316).
([248]) أخرجه البزار في مسنده ح (2351)، وقال الهيثمي: "رواه البزار، ورجاله ثقات". مجمع الزوائد، الهيثمي (8/142).
([249]) أخرجه أحمد ح (2294)، وأبو يعلى ح (2544)، والطبراني في معجمه الكبير ح (12933)، والحاكم في مستدركه (2/647)، وقد ضعفه العلماء لأجل علي بن زيد، وهو ضعيف عند الجمهور. مجمع الزوائد، الهيثمي (8/142).
([250]) شرح ابن بطال (10/439)، وقد خالف الخوارج والمعتزلةُ أهلَ السنة والحق، فقالوا بعصمة الأنبياء عن الصغائر، كما شذَّ الرافضة حين ادعوا عصمة الأنبياء قبل النبوة.
([251]) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي (11/255).
([252]) أخرجه الطبري في تفسيره (13/309)، والترمذي ح (3077).
([253]) البحر المحيط ، أبو حيان الأندلسي (4/437-438).
([254]) ميزان الاعتدال، الذهبي (1/527).
([255]) السنن الكبرى ، البيهقي (5/288).
([256]) انظر: السلسة الضعيفة، الألباني ح (342).
([257]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (2/363).
([258]) جامع البيان، الطبري (13/312).
([259]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (7/339)، وانظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (259)، وزاد المسير، ابن الجوزي (3/303).
([260]) انظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (4/436)، والكشاف، الزمخشري (2/180-181).
([261]) البحر المديد، ابن عجيبة (2/347).
([262]) ذكره سعيد بن منصور في سننه (5/174).
([263]) جامع البيان، الطبري (13/315).
([264]) معالم التنزيل، البغوي (3/314)، وانظر: زاد المسير ، ابن الجوزي (3/304)، والبحر المحيط، ابن حيان (4/436-438)، والكشاف، الزمخشـري (2/180-181)، ومفاتيح الغيب، الرازي (15/87).
([265]) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم (5/1634-1635)، والإتقان في علوم القرآن، السيوطي (1/240).
([266]) انظر: تفسير مفاتيح الغيب، الرازي (15/86)، ويجوز أن تستخدم (ما) للعاقل، لكن ما سقته هو الأغلب عند العرب.
([267]) أخرجه البخاري ح (3340).
([268]) أخرجه البخاري ح (3272)، ومسلم ح (151).
([269]) التفسير الكبير، الرازي (13/40 -41).
([270]) دقائق التفسير، ابن تيمية (2/112).
([271]) مدارج السالكين، ابن القيم (3/61).
([272]) انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (408).
([273]) أخرجه البخاري ح (3396).
([274]) أخرجه البخاري ح (4604).
([275]) فتح القدير، الشوكاني (3/26).
([276]) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسـي (5/294-295)، وانظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبد الخالق عضيمة (2/685).
([277]) الفعل على ست مراتب (الخاطر ثم الهاجس ثم حديث النفس ثم الهم ثم العزم ثم الفعل)، فأما الخاطر والهاجس وحديث النفس فلا يكتبون على العبد؛ لا في الخير، ولا في الشر، كما قال ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» أخرجه مسلم ح (127)، وأما الهمُّ فلا يكتب في الشر بمجرد الهمِّ، ويكتب خيراً إن همَّ العبد بأمر الخير أو ترك همَّ السوء، وأما العزم فيكتب بالخير والشر؛ ولو لم يقع الفعل لعزم القلب عليه، ومنه قول النبي ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار»؛ فقلت [أي أبو بكرة t راوي الحديث]: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» أخرجه البخاري ح (37).
([278]) أخرجه البخاري ح (7501)، ومسلم ح (129)، واللفظ للبخاري.
([279]) البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي (5/294-295).
([280]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (10/297).
([281]) انظر: جامع البيان، الطبري (18/664-670).
([282]) تاريخ الأمم والملوك، الطبري (1/2).
([283]) فيض القدير، الشوكاني (1/17).
([284]) البحر المحيط، أبو حيان (6/352).
([285]) وفيه هشام الكلبي ، وهو كذاب مردود الرواية، قال البخاري: "أبو النضر الكلبي، تركه يحيى وابن مهدي"، ثم قال: "قال علي: حدثنا يحيى، عن سفيان، قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب".
وقال ابن عدي: "وقد حدث عن الكلبي سفيان وشعبة وجماعة، ورضوه في التفسير، وأما في الحديث فعنده مناكير، وخاصة إذا روى عن أبي صالح، عن ابن عباس". انظر ميزان الاعتدال، الذهبي (3/557-558)، وهذا الأثر مما أخرجه الكلبي عن أبي صالح، فهو بعض ما اعترف الكلبي بكذبه فيه.
([286]) نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، الألباني ، ص (56).
([287]) في البخاري من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس . أخرجه البخاري ح (1071).
([288]) انظر: سنن أبي داود ح (1406)، ومسند أحمد ح (26701).
([289]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (12/84)، تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (3/318)، والإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، محمد أبو شهبة (314)، ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق، محمد ناصر الدين الألباني، ص (44-47)، والبحر المحيط، أبو حيان (6/352).
([290]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (2/125)، وقد حسَّن ابن حجر روايات قصة الغرانيق رغم اعترافه بأن أسانيدها مرسلة، واحتج لتحسينه بتعدد مخارجها ، لكنه مع ذلك لا يقول بما يقول به المرجفون بهذه القصة من نطق النبي ﷺ بهذه الكلمات ، بل يتأولها على أن الشيطان كان يتكلم بين سكتات النبي ﷺ ، واستدل لذلك بما جاء في رواية ابن أبي حاتم من سماع المشركين لهذه الكلمات وعدم سماع المسلمين لها "فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي ألقى الشيطان في مسامع المشركين". انظر : فتح الباري، ابن حجر (8/439)، وتفسير ابن أبي حاتم (8/2501).
وقد رد العلامة الألباني تحسين ابن حجر لهذه الروايات واعتبرها من أوهامه رحمه الله. انظر: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، الألباني، ص (37).
وقد فهم ابن حجر من قوله تعالى: ﴿ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ أنه بمعنى: عند تلاوته، أي ألقى الشيطان في مسامع الكفار تلك الكلمات عند تلاوة النبي ﷺ وفي سكتاته، وهذا تحتمله لغة العرب، لأن (في) تأتي بمعنى : (عند) ، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ (الشعراء : 18) ، أي لبثت عندنا.
وإلى هذا أشار القرطبي ورتبه: "على تسليم الحديث لو صح ، وقد أعاذنا الله من صحته .. الذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه [أي إذا سلمنا بصحة الرواية، وليست بصحيحة] أن النبي ﷺ كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصل الآي تفصيلاً في قراءته، كما أخرجه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبي ﷺ؛ بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي ﷺ وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي ﷺ في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه، فيكون ما روي من حزن النبي ﷺ لهذه الإشاعة والشبهة وبسبب هذه الفتنة ". الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (12/83).
([291]) التفسير الكبير، الرازي (23/50).
([292]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (2/125).
([293]) نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (308).
([294]) المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده الأندلسي (6/72-73).
([295]) تهذيب اللغة ، أبو منصور الأزهري (8/224).
([296]) لسان العرب، ابن منظور (10/286)، وتاج العروس، الزبيدي (7/35)، وانظر: السيرة النبوية، أبو شهبة (1/367).
([297]) تاج العروس، الزبيدي (7/35).
([298]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (3/444).
([299]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (2/125).
([300]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (3/444).
([301]) انظر: فتح القدير، الشوكاني (3/660).
([302]) التفسير الكبير، الرازي (23/52).
([303]) أخرجه أبو داود ح (3646).
([304]) أخرجه البخاري ح (3268).
([305]) فتح الباري، ابن حجر (10/227)، وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (2/176).
([306]) انظر: فتح الباري ، ابن حجر (10/226).
([307]) أخرجه البخاري ح (3268).
([308]) انظر: فتح الباري ، ابن حجر (10/227-228).
([309]) انظر: ابن سعد في الطبقات (2/198)، والبيهقي في الدلائل (6/248) وأضواء البيان، الشنقيطي (4/130).
([310]) انظر: فتح الباري، ابن حجر (10/227)، ولأجل ذلك أورد البيهقي قصة سحر النبي ﷺ في كتابه "دلائل النبوة".
([311]) أخرجه ابن سعد في الطبقات ح (2/198)، وهو مرسل.
([312]) انظر: المستشرقون والقرآن، عمر لطفي العالم، ص (50)، نقلاً عن رسالة دكتوراه "القرآن الكريم في مواقع الإنترنت العربية دراسة تحليلية نقدية"، عبد الرحيم الشريف [كتاب إلكتروني].
([313]) انظر: الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب، أحمد بوطامي، ص (62).
([314]) أخرجه البخاري ح (2).
([315]) أخرجه الترمذي ح (3173)، وأحمد ح (224).
([316]) أخرجه البخاري ح (2).
([317]) أخرجه أحمد ح (21165).
([318]) أخرجه البخاري ح (4929)، ومسلم ح (448).
([319]) أخرجه مسلم ح (2335).
([320]) أخرجه مسلم ح (2334).
([321]) أخرجه أحمد ح (17488).
([322]) أخرجه أحمد ح (24645).
([323]) أخرجه البخاري ح (1789)، ومسلم ح (1180).
([324]) أخرجه البخاري ح (2832).
([325]) أخرجه أحمد ح (6605).
([326]) أخرجه أحمد ح (24347).
([327]) أخرجه أحمد ح (27028).
([328]) النبوة والأنبياء، الأب متى المسكين، ص (15-17).
([329]) أخرجه أحمد ح (4386).
([330]) أخرجه الطبري في تفسيره (3/177).
([331]) انظر: الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، أبو حامد الغزالي، ص (166)، والداعي إلى الإسلام، ابن الأنباري، ص (376).
([332]) (logos) مصطلح لاهوتي مسيحي، يطلق على المسيح كلمة الله، بمعنى أنه عقل الله الناطق.
([333]) يمتلئ تاريخ المسيحية بما تسميه الكنيسة اليوم بفرق الهراطقة، كالأريوسية والنسطورية والأبيونية، وهي فرق تنكر ألوهية المسيح وتندد بالتثليث، وكانت تمثل السواد الأعظم من النصارى حتى القرن الرابع الميلادي.
([334]) أخرجه مسلم ح (2865).
([335]) أخرجه الطبري في تفسيره بإسناد منقطع (2/154).
([336]) أخرجه البخاري ح (3443)، والإخوة لعَلات هم الإخوة من أب واحد، وأمهاتهم مختلفات.
([337]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ح (10210).
([338]) جامع البيان، الطبري (15/200).
([339]) انظر: تأويل مشكل القرآن ، ابن قتيبة، ص (270).
([340]) التفسير الكبير ، الرازي (17/172).
([341]) أحكام أهل الذمة، ابن القيم (1/97).
([342]) أخرجه أبو داود ح (4449).
([343]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/95)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2694).
([344]) أفردت لهما كتابين، الأول: "هل العهد القديم كلمة الله؟" ، والثاني: "هل العهد الجديد كلمة الله؟".
([345]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (3/67).
([346]) ليس بالضرورة أن تكون العندية دليلاً على أن المخاطبين بالسياق القرآني المعاصرون للنبي ﷺ، فإن القرآن حين يخاطب بني إسرائيل يخاطبهم كأمة واحدة ، ويتجاوز في خطابه معهم حدود الزمان، فيقول لهم: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ (البقرة: 87)، مع أن قتل الأنبياء لم يقم به جيل واحد منهم، ومثله قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ (البقرة: 55)، والقائل حقيقة أجدادهم، ومثل هذا كثير في القرآن يطول المقام بتتبعه.
([347]) الفصل في الملل والنحل، ابن حزم (1/158).
([348]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/225).
([349]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (6/241).
([350]) الفصل في الملل والنحل، ابن حزم (1/158).
([351]) أخرجه البخاري ح (7042)، ومسلم ح (2110).
([352]) أخرجه أبو داود ح (4449).
([353]) انظر: صحيح البخاري ح (3635)، (4556)، (6819)، (6841)، (7543)، وصحيح مسلم ح (1699)، (1700)، والموطأ ح (1551)، وسنن الدارمي ح (2321).
([354]) انظر: سنن أبي داود ح (4446)، (4450).
([355]) الفصل في الملل والنحل، ابن حزم (1/157-158).
([356]) انظر: المجروحين، لابن حبان (3/89)، والموضوعات، ابن الجوزي (1/366)، والكامل، ابن عدي (7/108)، وتهذيب الكمال ، المزي (11/37)، وتهذيب التهذيب، ابن حجر (30/206)، والضعفاء والمتروكين، النسائي (1/245).
([357]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (11/50).
([358]) التفسير الكبير، الرازي (21/166).
([359]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (3/191) .
([360]) في ظلال القرآن، سيد قطب (3/2291).
([361]) أخرجه البزار ح (4010).
([362]) تاريخ بغداد، الخطيب (9/149).
([363]) تهذيب الكمال، المزي (11/141).
([364]) المصدر السابق (11/139).
([365]) تهذيب التهذيب (4/190).
([366]) أخرجه مسلم ح (2135).
([367]) أخرجه الترمذي ح (2140)، وأحمد ح (11697).
([368]) التقرير والتحبير، ابن أمير الحاج (3/378).
([369]) أخرجه أحمد ح (17540).
([370]) جامع البيان، الطبري (22/532).
([371]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/934)، والقضاعي في مسند الشهاب ح (853).
([372]) أخرجه البخاري ح (6478)، ومسلم ح (2988).
([373]) أخرجه أحمد ح (22301).
([374])أخرجه ابن ماجه ح (4243)، وأحمد ح (23894).
([375]) أخرجه الترمذي ح (1865)، والنسائي ح (5607)، وأبو داود ح (3681)، وابن ماجه ح (3393).
([376]) أخرجه الترمذي ح (1295)، وابن ماجه ح (3381)، وأحمد ح (4772).
([377]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/66).
([378]) جامع البيان، الطبري (21/37).
([379]) جامع البيان، الطبري (21/40).
([380]) شرح شذور الذهب ، ابن هشام ، ص (229)، وفقه اللغة، الثعالبي (2/569) .
([381]) شرح الرضي على الكافية، الأستراباذي (3/20).
([382]) شرح ابن عقيل (1/144)، ومعجم القواعد العربية، الدقر (24/28).
([383]) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، ابن هشام الأنصاري ، ص (535).
([384]) انظر: بشار بن برد – شخصيته وفنه، إبراهيم عوض، ص (392).
([385]) سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/704)، وانظر: نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (130).
([386]) انظر : الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (11/217)، وانظر: سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/705).
([387]) انظر : المصدر السابق (11/217)، وسر صناعة الإعراب، ابن جني (2/704).
([388]) شرح ابن عقيل (1/73)، وانظر: سر صناعة الإعراب، ابن جني (2/705).
([389]) شرح شافية ابن الحاجب ، الأستراباذي (4/356).
([390])انظر: الكشاف، الزمخشري (1/296).
([391]) معجم القواعد العربية، الدقر (25/104).
([392]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (6/246).
([393]) انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (50-52)، والمدخل لدراسة القرآن العظيم، محمد محمد أبو شهبة، ص (336).
([394]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ح (469).
([395]) تهذيب الكمال، المزي (25/124).
([396]) ميزان الاعتدال، الذهبي (4/575).
([397]) سؤالات الآجري (1/147).
([398]) ميزان الاعتدال، الذهبي (4/575).
([399]) تاريخ المدينة المنورة، ابن شبة (3/1013).
([400]) تقريب التهذيب، ابن حجر، ص (405).
([401]) المقنع في رسم مصاحف الأمصار، أبو عمر الداني، ص (45).
([402]) الكشاف، الزمخشري (1/296).
([403]) انظر الشواهد الشعرية الآتية وغيرها في شرح ابن عقيل (1/199).
([404]) أخرجه البخاري ح (555)، ومسلم ح (632).
([405]) تاج العروس، الزبيدي (1/537).
([406]) عبد الودود الشنقيطي في تعليقه على كتاب "الجامع بين التسهيل والخلاصة" للمختار بن بونا.
([407]) انظر: دراسات لأسلوب القرآن، محمد عبد الخالق عضيمة (2/143).
([408]) للاطلاع على المزيد من الردود على الشبهات المتعلقة بالنحو وغيره أدعو القارئ لمراجعة الموسوعة القيمة التي أعدتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مصـر بإشراف الدكتور محمود حمدي زقزوق.
([409]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (1/153)، وتاريخ المدينة المنورة، ابن شبة (2/679).
([410]) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل، ص (52).
([411]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (16/267).
([412]) أخرجه مسلم ح (55).
([413]) أخرجه مسلم ح (870).
([414]) إعراب القرآن، ابن سيده (5/290).
([415]) مجاز القرآن، أبو عبيدة (1/257-258).
([416]) انظر المصدر السابق، وزاد المسير، ابن الجوزي (3/430)، والمدخل لدراسة القرآن ، محمد أبو شهبة ، ص (336).
([417]) انظر: فقه اللغة، الثعالبي (2/569-570).
([418]) انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (5/73)، وفقه اللغة ، الثعالبي (2/570).
([419]) وانظر بيانه في صبح الأعشى، القلقشندي (1/61).
([420])انظر: لسان العرب، ابن منظور (1/663).
([421]) انظر: جامع البيان، الطبري (1/174).
([422]) انظر المصدر السابق (1/174)، والبحر المحيط، أبو حيان الأندلسـي (1/84)، وسر صناعة الإعراب، ابن جني (2/537).
([423]) السيرة النبوية، ابن كثير (1/449).
([424]) انظر: كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (8/349)، والأصول في النحو، ابن السـراج البغدادي (2/259).
([425]) تاج العروس، المرتضى الزبيدي (40/470)، وانظر: لسان العرب ، ابن منظور (15/364).
([426]) وهذا الكلام النفيس ينطبق على الكثير مما يخطه أصحاب الأباطيل – اليوم - عن القرآن الكريم.
([427]) البرهان في علوم القرآن، الزركشي (2/54)، وانظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، ص (329).
([428]) انظر: تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ص (244-246)، والجامع لأحكام القرآن، القرطبي (20/59)، ودفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، الشنقيطي، ص (269-271).
([429]) جامع البيان، الطبري (3/422).
([430]) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/532)، والبحر المحيط، ابن حيان (8/307- 308)، ومفردات غريب القرآن ، الراغب الأصفهاني ، ص (193).
([431]) قبل المضي في جواب هذه الشبهة أود الهمس في آذان مثيري هذه الأُبطولة وأضرابهم، وأقول بأن لغة العرب أوسع بكثير من فهومهم الكليلة، فقول العرب (بعد هذا) أو (بعد ذلك) لا يفيد بالضرورة التراخي والترتيب الزماني، بل قد تأتي بمعنى (إضافة إلى ذلك)، وهو تأويل ذكره بعض المفسرين لقوله تعالى: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعات: 30)، أي إضافة إلى خلقه السماوات فإنه دحى الأرض.
وهذا المعنى لـ (بعد) مشهور عند العرب، وقد تكرر في القرآن في مواضع ، منها قوله : ﴿ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ` مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ` عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ (القلم: 13)، أي هو ملحق في قومه وليس منهم؛ إضافة إلى اتصافه بتلك الصفات الذميمة، ومن المعلوم أن كونه دعياً في قومه متقدم في التاريخ على اتصافه بهذه الصفات، فهو كذلك من قبل.
ومثله قوله: ﴿ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ (التحريم: 4)، أي أن الله يتولى النبي ﷺ وجبريل والمؤمنون، وينضاف إليهم تأييد الملائكة.
([432]) انظر: باب تفسير القرآن في صحيح البخاري.
([433]) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (1/102)، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، ص (159)، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (1/211).
([434]) انظر: التحرير والتنوير ، ابن عاشور (1/376-377).
([435]) انظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم، محمد عبد الخالق عضيمة (2/116-118).
([436]) البحر المحيط، أبو حيان (5/354).
([437]) التسهيل في علوم التنزيل، ابن جزيء (1/43)، وانظر الجواهر الحسان، الثعالبي (1/42)، والمحرر الوجيز، ابن عطية (1/223).
([438]) التفسير الكبير، الرازي (28/107).
([439]) أخرجه أبو داود ح (4755)، وأحمد ح (24175)، واللفظ لأبي داود.
([440]) أخرجه البخاري ح (751)، ومسلم ح (397).
([441]) نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (201).
([442]) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، الشنقيطي، ص (168).
([443]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (9/3012).
([444]) شعب الإيمان، البيهقي (2/50).
([445]) أخرجه مسلم ح (987).
([446]) نكت الانتصار لنقل القرآن، الباقلاني، ص (164).
([447]) التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزيء (3/129).
([448]) كثيراً ما يستنكر أهل الكتاب معتقد المسلمين بسلامة القرآن من التحريف، ونسبته ذلك إلى كتبهم، فيتساءلون : أما كان الله قادراً على حفظ هذه الكتب من التبديل والضياع، فكيف قدر البشـر على تحريفها؟!
والحق أن الله على كل شيء قدير، ولو تعلقت مشيئته بحفظ كتبه لحفظها؛ ولما استطاع تحريفها إنس ولا جان، وأيضاً لو أراد عز وجل حفظ أنبيائه من القتل والاضطهاد؛ لفعل، لكنه لم يشأ ذلك، فتعرض لهم السفهاء بالقتل والتنكيل.
ومسألة تحريف كتب الله لا تختلف عن مسألة قتل الأنبياء، فكما أقدر الله عتاة بني إسرائيل على قتل أنبيائه؛ فإنه أقدرهم على تحريف كتبه، من غير ضعف منه تبارك وتعالى، فهو فعال لما يريد.
([449]) جامع البيان، الطبري (12/62).
([450]) القرآن ولغة السريان، أحمد محمد علي الجمل، (كتاب إلكتروني)، وقد بين الدكتور الجمل أمثلة لهذا المتشابه، ومنه لفظة (الحور)، فتدور معانيها في العربية والعبرية والسـريانية على البياض والصفاء، لكنها كلمة عربية أصيلة استخدمها العرب، ووردت في أشعارهم ، ومن ذلك قول عمرو بن قُميئة:
لَهـا عَـينُ حَـوراءَ في رَوضَــةٍ وَتَقرو مَـعَ النَبتِ أَرطى طِــوالا
وقول خليفة بن بشير:
حتى أضاءَ سِراجٌ دونه حَجَلٌ حُورُ العيونِ مِلاحٌ طرفُها ساجي
([451])انظر : صيغ النسب في اللغتين العربية والسريانية، د.أحمد الجمل، مجلة كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، العدد 32 لسنة 2001م، ص (242 ـ 244) ، نقلاً عن كتاب القرآن ولغة السريان، أحمد محمد علي الجمل .
([452]) جامع البيان، الطبري (3/487).
([453]) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (2/407).
([454]) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/624).
([455]) أخرجه البخاري ح (5090)، ومسلم ح (1466).
([456]) التعريفات ، الجرجاني، ص (553).
([457]) وتبعاً لذلك فإن القانون الإنجليزي حتى عام 1805م أباح للرجل أن يبيع امرأته بست بنسات، في حين أن قانون الثورة الفرنسية اعتبر المرأة قاصراً كالصبي والمجنون ، واستمر العمل به حتى عام 1938م.
([458]) انظر: تعدد نساء الأنبياء ، ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام ، أحمد عبد الوهاب ، ص (330-339 )، ومختصر تاريخ الكنيسة، ملر، ص (277).
([459]) انظر: تعدد نساء الأنبياء ، ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام ، أحمد عبد الوهاب ، ص (233-247).
([460]) أخرجه البخاري ح (4913).
([461]) أخرجه أحمد ح (25663)، وأبو داود ح (236)، والترمذي ح (113)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود ح (234).
([462]) أخرجه أبو داود ح (5146)، وأحمد ح (1958).
([463]) أخرجه ابن ماجه ح (3678)، وأحمد ح (9374).
([464]) أخرجه الترمذي ح (1163)، وابن ماجه ح (1851).
([465]) أخرجه البخاري ح (3331)، ومسلم ح (1468).
([466]) أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
([467]) أخرجه النسائي ح (2532)، وأحمد ح (7065).
([468]) أخرجه مسلم ح (1218).
([469]) أخرجه البخاري ح (2734).
([470])أخرجه الترمذي ح (3795).
([471]) أخرجه مسلم ح (2328).
([472])أخرجه مسلم ح (1218).
([473]) أخرجه أبو داود ح (2564).
([474]) أخرجه أحمد ح (19541).
([475])أخرجه البخاري ح (4942)، ونحوه في مسلم ح (2855).
([476]) أخرجه أبو داود ح (142)، وأحمد ح (15949).
([477]) أخرجه أبو داود ح (2146)، وابن ماجه ح (1985).
([478])أخرجه الترمذي ح (3795).
([479])أخرجه الترمذي ح (2612)، وأحمد ح (23684).
([480]) انظر: حوار صريح بين عبد الله وعبد المسيح، عبد الودود شلبي ، ص (240-241)، والتبشير والاستشراق، محمد عزت الطهطاوي ، ص (204).
([481]) أخرجه الترمذي ح (128)، وابن ماجه ح (1953)، وأحمد ح (4595).
([482]) أخرجه أبو داود ح (2241) .
([483]) انظر: تعدد نساء الأنبياء، ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام، أحمد عبد الوهاب ، ص (156-165 ، 185).
([484]) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل ، ص (426).
([485]) أخرجه ابن ماجه ح (1969)، وأحمد ح (8362).
([486]) الإسلام وحقوق المرأة ، بإشراف د. جعفر عبد السلام ، ص (149).
([487]) أخرجه الترمذي ح (113)، وأبو داود ح (236)، وأحمد ح (25663).
([488]) أخرجه البخاري ح (4913).
([489]) انظر: المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام ، [كتاب إلكتروني].
([490]) ندوات علمية حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام ، رابطة العالم الإسلامي، ص (140-141).
([491]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/888).
([492]) حضارة العرب ، غوستاف لوبون، ص (389، 401).
([493]) أخرجه الترمذي ح (1341).
([494]) الطرق الحكمية، ابن القيم، ص (34).
([495]) الطرق الحكمية، ابن القيم ، ص (219).
([496]) المصدر السابق، ص (219).
([497]) أخرجه البخاري ح (2659).
([498]) أخرجه الترمذي ح (3895)، وابن ماجه ح (1977).
([499]) أخرجه مسلم ح (1469).
([500]) أخرجه أبو داود ح (2178)، وابن ماجه ح (2018)، وفي إسناده ضعف.
([501]) أخرجه البخاري ح (5272).
([502]) أسرى الحرب في التاريخ ، عبد الكريم فرحان، ص (41).
([503]) حضارة العرب، غوستاف لوبون ، ص (289).
([504]) أخرجه مسلم ح (1509).
([505]) أخرجه البخاري ح (2227).
([506]) أخرجه أحمد ح (3405).
([507]) أخرجه مسلم ح (1668).
([508]) انظر: تاريخ الخلفاء، السيوطي ، ص (24).
([509]) حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص (376).
([510]) أخرجه البخاري ح (2545)، ومسلم ح (1661).
([511]) أخرجه مسلم ح (1662).
([512]) انظر: زاد المعاد ، ابن القيم (3/17).
([513]) أخرجه النسائي ح (4736)، والترمذي ح (1414).
([514]) أخرجه البخاري ح (6858)، ومسلم ح (1660).
([515]) أخرجه مسلم ح (1657).
([516]) أخرجه مسلم ح (1659).
([517]) أخرجه مسلم ح (1658).
([518]) أخرجه أبو داود ح (5161)، وأحمد ح (20972).
([519]) أخرجه أحمد ح (25865)، والترمذي ح (3165).
([520]) أخرجه أحمد ح (14)، ونحوه عند الترمذي ح (1946)، وابن ماجه ح (3691).
([521]) أخرجه أحمد ح (22988) والترمذي ح (1566).
([522]) أخرجه ابن ماجه ح (2697)، وأحمد ح (11759)، واللفظ له.
([523]) أخرجه ابن ماجه ح (2590).
([524]) أخرجه مالك في الموطأ ح (1468).
([525]) أخرجه البخاري ح (3754).
([526]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (40/349).
([527]) إغاثة اللهفان (1/18).